إسلام ويب

مقدمة في أصول التفسير [4]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • استخدم الشارع التأويل في معنيين: أحدهما: ما تئول إليه حقيقة الشيء وهو الغالب في الاستعمال. والمعنى الثاني: التفسير، فعلى المعنى الثاني لا فرق بين التأويل والتفسير، أما على الأول فيكون التفسير شرح وبيان، والتأويل حدوث المخبر عنه في الواقع. وإلى هذين المعنيين تحاكم المصطلحات الكثيرة الحادثة في التأويل.

    1.   

    تابع الكتب المؤلفة في أصول التفسير

    الكتاب الثاني: مقدمة أصول التفسير لشيخ الإسلام

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

    الكتاب الثاني: مقدمة في أصول التفسير لـشيخ الإسلام، وكل من جاء بعد ابن تيمية رحمه الله تعالى وكتب في هذا العلم؛ فهو عالة عليه في هذه الرسالة, هذه الرسالة أول موضوع ناقشه فيها هو قضية بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاني القرآن وألفاظه للصحابة.

    ثم ذكر اختلاف التنوع والتضاد, الذي هو أنواع الاختلاف, ثم سببي الاختلاف من جهة المنقول ومن جهة الاستدلال, يعني: أسباب الوقع في الخطأ في التفسير من جهة المنقول ومن جهة الاستدلال.

    ثم أحسن طرق التفسير، ثم التفسير بالرأي, وقد عرج على بعض القضايا الكثيرة المذكورة في ثنايا الكتاب مثل قضية نقد بعض التفاسير؛ فالذي يقرأ الرسالة يعرف الأفكار العامة, هذه هي مطروحة في كتاب شيخ الإسلام .

    الكتاب الثالث: التيسير في قواعد علم التفسير للكافيجي

    الكتاب الثالث معنون بـ(التيسير في قواعد علم التفسير) لـمحمد بن سليمان الكافيجي المتوفى سنة 879هـ، يقول في مقدمته وعباراته. أنتم تذكرون عبارات الزمخشري عبارات أدبيه راقية، وهذا عباراته أقل منه وفيها نوع من التكلف، يقول:

    (ثم إن علم التفسير من بين العلوم لما كان بمنزلة الإنسان من العين والعين للإنسان, وقد دل على أفضليته البرهان, وكان غير منتظم على حدة في سلك النظم والبيان, وأردت تدوينه بقدر الوسع والإمكان..) وهنا محاولة السجع.

    (رتبت هذه الرسالة على بابين وخاتمة تحفة مني إلى الإخوان), والباب الأول جعله في الاصطلاحات, ذكر فيه تعريف التفسير والتأويل والقرآن والسورة والآية, وكذلك ذكر التفسير بالرأي والعلوم التي يحتاجها المفسر وكيف يكون متعلم التفسير وتدوين التفسير, مباحث تفصيلية في الباب الأول.

    الباب الثاني في القواعد والمسائل؛ ذكر فيه المحكم والمتشابه, والنسخ والتعارض, والتعارض والترجيح, والتعارض والترجيح إذا تعارضت آية وآية, أو آية وحديث كيف يمكن أن يرجح بينهما, وليس التعارض والترجيح بين أقوال المفسرين, طبقات المفسرين, شروط راوي التفسير, طرق تحمل التفسير, يعني: جملة مباحث في هذا.

    ثم ذكر في الخاتمة فضل العلم وشرفه, وآداب الشيخ وطالب العلم.

    وهذا الكتاب على صغر حجمه فيه معلومات كثيرة في أصول التفسير, لكن نلاحظ أن كثيراً من المباحث خارجة عن أصول التفسير, وهذا يعرف من خلال قراءة العناوين.

    الكتاب الرابع: الفوز الكبير في أصول التفسير للدهلوي

    الكتاب الرابع وهو كتاب مهم: (الفوز الكبير في أصول التفسير) لـأحمد بن عبد الرحيم الدهلوي ، المتوفى سنة (1176هـ), وهذا الكتاب مهم, فهو وكتاب شيخ الإسلام بالذات يعتبران من الكتب التي يصلح أن تقرأ وأن تتدارس.

    يقول في مقدمة كتابه:

    (أما بعد: فيقول الفقير إلى الله ولي الله ابن عبد الرحيم عامله الله تعالى بلطفه العظيم: إنه لما فتح الله تعالى علي باباً من كتابه الحكيم؛ خطر لي أن أقيد الفوائد النافعة التي تنفع إخواني في تدبر كلام الله عز وجل, وأرجو أن مجرد فهم هذه القواعد يفتح للطلاب طريقاً واسعاً إلى فهم معاني كتاب الله تعالى, وأنهم لو قضوا أعمارهم في مطالعة كتب التفسير أو قرائتها على المفسرين على أنهم أقل قليل في هذا الزمان)، هذا زمانه هو, الذي كان يسأل عن سبب قلة دروس التفسير, وهي مشهورة منذ القدم.

    قال: (لا يظفرون بهذه القواعد والأصول بهذا الضبط والتناسق, وسميتها بــ(الفوز الكبير في أصول التفسير)، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل, وقد جمعت مقاصد هذه الرسالة في خمسة أبواب وهي كما يلي), ثم ذكر الأبواب التي سيناقشها الكتاب.

    أول باب قال: (في العلوم الخمسة التي يدل عليها القرآن الكريم نصاً حتى وكأن القرآن نزل بالأصالة لهذه العلوم الخمسة, التي هي: علم الأحكام, وعلم الجدل, وعلم التذكير بآلاء الله, وعلم التذكير بأيام الله, وعلم التذكير بالموت وما بعد الموت).

    يقول: (الباب الثاني: في وجوه خفاء نظم القرآن بالنسبة إلى أفهام أهل هذا العصر وتجليتها بأوضح بيان.

    الباب الثالث: في بيان لطائف نظم القرآن والأسلوب القرآني البديع.

    والباب الرابع: في مناهج التفسير، وبيان أسباب الاختلاف، ووجوه في تفسير الصحابة والتابعين.

    والباب الخامس: في بيان غريب القرآن, وأسباب النزول التي لا بد من حفظها للمفسرين, ويحظر بدونها الخوض في التفسير).

    ولو نذكر بعض المباحث التفصيلية فهي كثيرة جداً, لكنه ذكر المباحث التفصيلية ضمن هذه الأبواب وهي مهمة جداً لمن أراد أن يقرأ في أصول التفسير، وإن كان لم تخل هذه الرسالة أيضاً من بعض المباحث التي هي ليست من أصول التفسير.

    فهذه بعض الكتب وإلا فالكتب كثيرة جداً, وأردت أن نأخذ نبذة سريعة عنها، ولعل فيها كفاية وغنية وهي من أشهر ما ألف في هذا العلم.

    بين يدي الآن مصطلح التأويل، وسبب ذكره أنه قل من يناقش مصطلح التفسير إلا ويناقش مصطلح التأويل, وسأذكر لكم مصطلح التأويل ونناقشه مناقشة مفصلة ولكن قبل ممكن أن نناقش قضية المحكم والمتشابه؛ لأنها مرتبطة بقضية التأويل ارتباطاً شديداً جداً خاصة آية آل عمران، التي منها ينطلق الكلام عن المحكم والمتشابه, وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن ييسر لي ما بدأت به, إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    أما مصطلح التفسير فإن قلت: بيان القرآن فهذا أفضل، وإن قلت: بيان معاني القرآن، وهو تعريف الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى؛ فهذا صحيح، وأيضاً تعريف بعض الذين سبقوه صحيح، لا إشكال فيه.

    1.   

    فائدة معرفة مفهوم التفسير ومصادر أصوله

    نراجع سريعًا الدرس السابق، وهو بقية ما يتعلق بمفهوم التفسير، ثم تعريف أصول التفسير، والفرق بين أصول التفسير وعلوم القرآن، وكذلك الفرق بين أصول التفسير وأصول الفقه، ثم إشارة إلى كتب أصول التفسير. ‏

    فوائد معرفة مفهوم التفسير

    أولاً: فائدة معرفة مفهوم التفسير، ذكرت في ذلك أربع فوائد:

    الفائدة الأولى: معرفة الأوليات المتعلقة بالقرآن وما هو الذي يجب أن يعلمه المسلم؟ فإذا قرأ في كتب التفسير فما هو الشيء الذي يحرص عليه ويتعرف عليه أولاً؟

    الفائدة الثانية: معرفة علاقة المعلومات التي في كتب التفسير بمفهوم التفسير بناءً على الضابط الذي ذكرته في حد التفسير.

    الفائدة الثالثة: العلوم التي يجب على المفسر معرفتها، إذا عرفنا المراد بالتفسير فلا شك أننا نستطيع أن نحدد ما هي العلوم التي يحتاجها المفسر.

    الفائدة الرابعة: معرفة الأصول التي يعتمدها من يريد دراسة التفسير وتدريسه.

    وذكرت أيضاً أن المراد بكل هذا النقاش هو مجرد تحديد مصطلح التفسير, وأنه لا يعاب على من ألف كتاباً في التفسير أن يذكر معلومات أخرى غير التفسير؛ لأنه لو كان كذلك لتقاربت مناهج الكتب، ولصار الاختلاف فيما بينهم في قضية أي الأقوال أولى.

    ولما جئنا إلى تعريف أصول التفسير ذكرنا تعريفاً فيه إشارة إلى مسائل هذا العلم؛ لتكون تنبيهاً في التعريف على المراد به, والتعريف كما سبق جملة من المعارف الأساسية التأصيلية المتعلقة بالتفسير من حيث تعريفه وأنواعه ومصادره وطريقة تعاونهم على الاختلاف فيه.

    ونأخذ سريعاً الفرق بين أصول التفسير وعلوم القرآن, وما هو الضابط في المعلومات التي نقرؤها سواءً قرأنا في كتب التفسير أو قرأنا في علوم القرآن.

    وذكرنا كيف نستطيع بيان معلومة في المكي والمدني, وهل علم المكي والمدني من علوم القرآن أو من علوم أصول التفسير.

    وعموماً فعلم المكي والمدني نعتبره من علوم القرآن, لكن عندنا مبحث جزئي في هذا العلم نستفيده في أصول التفسير، وهو معرفة تاريخ النزول وهل يكون له أثر في معرفة القول الصحيح أو تضعيف بعض الأقوال؟ وذكرت لكم مثالاً على ذلك, وكذلك فإن أصول التفسير ليست أصول الفقه؛ فلا يطبق في أصول التفسير ما يطبق في أصول الفقه, ثم أشرت إلى بعض كتب أصول التفسير, وذكرت ما فيها من المعلومات.

    مصادر أصول التفسير

    فإذا أراد إنسان أن يجمع أشتات هذه الموضوعات, فما هي المصادر التي يمكن أن نستقي منها هذه المعلومات؟

    أول مصدر: الكتب المرتبطة بأصول التفسير مباشرة، سواءً سميت بأصول التفسير أو بقواعد التفسير أو بمبادئ التفسير.. أياً كانت التسمية؛ فإنها من أول الكتب التي تعتبر مصدراً لهذا العلم.

    المصدر الثاني: كتب علوم القرآن؛ لأنها بلا شك تسوق جملة كبيرة جداً مما يتعلق بأصول التفسير.

    المصدر الثالث: مقدمات المفسرين لكتبهم, وبعض المقدمات فيها منثور من مسائل أصول التفسير.

    ثم بعد ذلك ثنايا كتب التفسير عموماً بلا حد، خاصة الكتب التي يعتني أصحابها بذكر أقوال المفسرين والترجيح بينها أو الاعتراض على بعض الأقوال فإنه يخرج في بعض الأحيان منها بعض المباحث التأصيلية المرتبطة بأصول التفسير.

    فهذه جملة المصادر التي يمكن أن نستقي منها مسائل أصول التفسير.

    1.   

    مفهوم التأويل

    أما مصطلح التأويل فسأذكره استطراداً وإلا فلا يلزم أن نناقش مصطلح التأويل في أصول التفسير, لكن الحقيقة أن مصطلح التأويل دخله اضطراب كبير جداً, وهو يحتاج إلى تفكيك لنعرف عندما نقرأ ما هو هذا المصطلح وما الصواب في تعريفاته.. وما إلى ذلك؛ ولأنه أيضاً يرتبط بقضية كبيرة جداً في علوم القرآن وهي علم المحكم والمتشابه.

    تعريف التأويل

    فالتأويل عندما نرجع إلى اللغة نجد أن أصل الكلمة يرجع إلى مادة (أول) التي هي الهمزة والواو واللام, وهذه المادة في لغة العرب تدل على معنى الرجوع، يعني: شيئاً يرجع إليه, مثلاً في الأعداد: الأول هو أول شيء كأن كل الأعداد التي بعده ترجع إليه.

    وتأويل الكلام المراد به: الرجوع إلى مراد المتكلم, وهو على قسمين:

    الأول: بيان معنى كلام المتكلم, وهذا يكون مرادفاً أو مقارباً لمصطلح التفسير.

    المعنى الثاني: الموجود الذي يؤول إليه الكلام, وهو الذي يسمونه ما تؤول إليه حقيقة الشيء، والمراد هنا: ظهور المتكلم به إلى الواقع المحسوس, والمراد: أنه يتكلم بشيء فيظهر هذا المتكلم به في الواقع, مثال: عندما أقول: أشرقت الشمس, فتأويل هذا الكلام هو نفس ظهور الشمس يعتبر تأويلاً.

    التأويل بالمعنى الثاني هذا، الذي هو ما تؤول إليه حقيقة الشيء: إذا كان خبراً فتأويله وقوعه، فعندما أقول: جاء محمد, تأويل هذا الكلام هو مجيء محمد بذاته.

    وإذا كان أمراً فتأويله تحقيقه, فعندما يقال: أقم الصلاة, فإقامة الصلاة هي تأويل لهذا الأمر، يعني: فعل الأمر تأويل, وإن كان نهياً؛ فتأويله تركه.

    إذاً يلاحظ في هذه القضايا الثلاثة: الخبر والأمر والنهي أن التأويل هو نفس الموجود الذي يؤول إليه الكلام, فإن كان خبراً فتأويله وقوعه, وإن كان أمراً فتأويله فعله, وإن كان تركاً فتأويله تركه بألا يفعل.

    الآن عندنا التأويل بمعنى التفسير, والتأويل بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء, هل بينهما فرق أم لا؟

    الفرق بين التأويل والتفسير

    الجواب: بينهما فرق ظاهر, فتفسير الكلام ليس هو نفس ما يوجد في الخارج؛ لأن تفسير الكلام هو: بيان وشرح، فعندما أقول: أشرقت الشمس, وأردت أن تفسر كلامي تقول: هو يقول: إنها ظهرت الشمس, فتفسير كلامي هذا هو نفس حقيقة ظهور الشمس أو غيره؟ لا شك أنه غيره.

    فتفسير الكلام: شرحه وبيانه وليس هو نفس ما يقع في الواقع؛ فالذي يقع في الواقع أنت تعبر عنه, فالتعبير غير المعبر عنه. فالتأويل الذي هو النوع الثاني: أنه الفعل نفسه: فعل المأمور أو أن المخبر به يقع، هذا هو التأويل، فهذا المعنى الثاني, بخلاف كوني أعبر عنه, فالتعبير عنه هذا تفسير وشرح, وقوع المعبر عنه سواء كان أمراً أو خبراً أو نهياً؛ فهذا نعتبره تأويلاً, بمعنى: حقيقة الشيء.

    ولنأخذ مثالاً يتضح فيه هذا: في قول سبحانه: جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ[ص:11], في سورة ص, وسورة ص نزلت في مكة, يقول الطبري رحمه الله تعالى: (حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة : جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ[ص:11], قال: وعده الله وهو بمكة يومئذ أنه سيهزم جنداً من المشركين), فهذا الآن نعتبره تفسيراً، ثم قال بعد ذلك: فجاء تأويلها يوم بدر؛ فإذاً تفسيرها بيوم بدر, وأن الأحزاب المراد بهم أهل بدر وواقعة بدر, هذا يعتبر تأويلاً, يعني: حقيقة هذا الخبر؛ لأن الله سبحانه وتعالى في مكة أخبره أنه سيهزم جنداً؛ فأنا عندما أريد أن أفسر أقول: إن الله سبحانه وتعالى كما يقول قتادة : وعد نبيه أنه سيهزم جنداً من الأحزاب؛ فوقع ذلك يوم بدر, فوقوعه يوم بدر هو تأويل لهذا الخبر؛ لأن الخبر هذا ظهرت حقيقته يوم بدر.

    إذاً كلام قتادة تفسير جامع لمعنيي التأويل.

    مثال آخر: في قول سبحانه وتعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:45], هذه أيضاً في سورة القمر وهي مكية أيضاً, يقول الطبري : حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن ثور عن معمر عن أيوب قال: لا أعلمه إلا عن عكرمة : أن عمر قال: (لما نزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ[القمر:45], جعلت أقول: أي جمع يهزم؟!) فالكلام هذا يدل على أن عمر رضي الله عنه يفهم المعنى ويفسرها، لأن قوله سبحانه وتعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ), يفيد أن جمعاً سيقع عليهم هزيمة؛ فهذا معنى الكلام, وهذا التأويل بمعنى التفسير.

    يقول: ( فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[القمر:45] ), ففعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا تأويل بمعنى: حقيقة الشيء, فوقعت الهزيمة لهم يوم بدر.

    فهذان المثالان مبينان لمصطلح التأويل بمعنيين, وهما يعتبران من الأمثلة العزيزة.

    إذاً التأويل بمعنى: التفسير، أو التأويل بمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الشيء, هذا هو معنى التأويل.

    إطلاق مصطلحي التأويل والتفسير في الشرع واللغة

    هذان الإطلاقان هما الواردان في الكتاب وفي السنة وفي إطلاق السلف وفي إطلاق اللغة.

    ومن باب التأكيد, فهذان الإطلاقان اللغويان صحيحان ثابتان عن العرب, وهما موجودان في الكتاب وفي السنة وفي أقوال الصحابة والتابعين وأتباع التابعين, وكذلك في أقوال اللغويين.

    لنأخذ أمثلة من الآثار في هذه الإطلاقات, نأخذ إطلاق التأويل على معنى التفسير:

    أول مثال يمر بنا وقد تكرر, وهو مشهور، دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لـابن عباس: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل), فالتأويل هنا بمعنى تفسير القرآن.

    يقول الطبري شارحاً لهذا الخبر: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وعلمه التأويل), فإنه عنى بالتأويل: ما يؤول إليه معنى ما أنزل الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم من التنزيل وآي الفرقان, وهو مصدر من قول القائل: أولت هذا القول تأويلاً، وأصله من آل الأمر إلى كذا؛ إذا رجع إليه.

    ثم قيل: أول فلان له كذا على كذا؛ إذا حملها على وجه جعل مرجعها إليه تأويلاً, ومن قولهم: أول فلان له كذا على كذا قول الأعشى بن قيس بن ثعلبة لـعلقمة بن علاثة العامري :

    وأول الحكم على وجهه ليس قضائي بالهوى الجائر

    يعني بقوله: أول الحكم على وجهه: وجهه إلى وجهه الذي هو وجهه الصواب. انتهى كلامه.

    مثال آخر: في قوله سبحانه وتعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[البقرة:195], والخبر المشهور عن أبي أيوب الأنصاري لما كانوا في غزوة في مدينة الروم يقول أبو عمران التجيبي : كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم, فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر.. إلى آخر الكلام وفيه أن رجلاً دخل واقتحم في وسط جيش الروم فقال الذين عندهم: ألقى بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل, يعني: تفسرونها هذا التفسير, وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام.. إلى آخر الخبر المشهور في هذا.

    و الشافعي رحمه الله تعالى في أكثر من موطن من كتاب (الأم) تجده يقول: وذلك والله أعلم بين في التنزيل، مستغنى به عن التأويل، يعني: عن التفسير، يعني أن النص ظاهر، ما يحتاج إلى تفسير.

    ومن أهل العربية الأخفش يقول في قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة:130], فزعم أهل التأويل أنه في معنى: سفَّه نفسه يقول: أهل التأويل يعني: أهل التفسير.

    أيضاً من اللغويين ابن الأعرابي يقول: التفسير والتأويل والمعنى واحد, يعني: تقول: معنى الكلام, تأويل الكلام, تفسير الكلام، كل هذه معناها واحد.

    وعندنا أيضاً الأثر المشهور عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لما قال: بمصر كتاب التأويل, يريد التفسير, عن معاوية بن صالح : لو جاء رجل إلى مصر فكتبه ثم انصرف به ما كانت رحلته عندي ذهبت باطلاً.

    وأمثلة أخرى في هذا الإطلاق ما يحتاج أن نذكرها؛ لأنها كثيرة جداً, لكن المقصود من تكثير ذكر هذا أن ينتبه إلى أن هذا مصطلح معروف بلا إشكال؛ لأنه سيأتي بعد قليل نقل يخالف هذا المصطلح.

    إطلاق التأويل بالمعنى الثاني، الذي هو: ما تؤول إليه حقيقة الشيء, هذا هو الغالب في مصطلح القرآن, مثل: ما ورد في سورة الكهف قال: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا[الكهف:78], ينبئه بتأويل يعني: بحقيقة ما خفي عليك من الأشياء التي رأيتها؛ ثم بدأ يفسر له ذلك.

    وكذلك قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ[الأعراف:53], بنفس المعنى.

    وأيضاً قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ[يونس:39]، يعني: حقيقة أمره.

    وهناك آيات أخرى يكون فيها بمعنى العاقبة، يعني: ما يؤول إليه مثل قوله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء:59], يعني: أحسن عاقبة.

    وعندنا الموضع المشهور في سورة آل عمران, ولعل الحديث يأتي عنه مفصلاً بإذن الله.

    من الأمثلة الواردة في آثار الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم حديث عن عائشة رضي الله عنها في البخاري في قول سبحانه وتعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:3], يورد البخاري عن عائشة قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك, اللهم اغفر لي, يتأول القرآن ), يتأول القرآن بمعنى: يطبق الأمر؛ لأنه قال: (فسبح) أي: فأكثر من التسبيح والتحميد.

    و سعيد بن جبير يقول عن ابن عمر : ( أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته, ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك, ويتأول - الذي هو ابن عمر - هذه الآية: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ[البقرة:115] ).

    وفي موطأ مالك عن كعب الأحبار قال: إن رجلاً نزع نعليه؛ فقال - الذي هو كعب - : لم خلعت نعليك؟ لعلك تأولت هذه الآية: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى[طه:12], يعني: طبقت هذا الأمر, ونلاحظ أنه كله بمعنى التطبيق.

    قال: ثم قال كعب للرجل: أتدري ما كانت نعلا موسى ؟ قال مالك : لا أدري ما أجابه الرجل, قال كعب : كانتا من جلد حمار ميت, والشاهد أنه أطلق (التأويل) بمعنى: تطبيق الأمر, الذي هو ما تؤول إليه حقيقة الشيء.

    مثال عن الثوري أيضاً يقول: إنه بلغه أن أم الربيع بن خثيم قالت: كان إذا جاءه السائل, يعني: جاء الربيع يقول لي: يا فلانه، أعطي السائل سكراً؛ فإن الربيع يحب السكر, فهو يقول لها: أعطي السائل سكراً؛ فإن الربيع - يقصد نفسه - يحب السكر, قال سفيان : يتأول قول الله عز وجل: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[آل عمران:92].

    وأيضاً مثال: عن قتادة قال: عن أبي مازن الأزدي قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة فإذا قوم من المسلمين جلوس فقرأ أحدهم هذه الآية: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ[المائدة:105], فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم, وكذا فسرها ابن مسعود قال: إن تأويل هذه الآية لم يجئ بعد, إذاً تأويلها معناه: ما تؤول إليه.

    وهنا مثال أيضاً طويل, ممكن الرجوع إليه وهو عند الطبري في تحقيق شاكر الجزء الحادي عشر صفحة مائة وثلاث وأربعين إلى مائة وأربعة وأربعين, عند قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ[المائدة:105], عن ابن مسعود, وهو مثال عزيز؛ لأنه قال: فسمعه ابن مسعود فقال: مه! لم يجيء تأويل هذه بعد, إن القرآن حيث أنزل, ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزل, ومنه آي وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم, ومنه آي وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير, ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم, ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة, ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار.. إلى آخر كلامه, وهذا نص أيضاً يوضح مفهوم التأويل وأنه كان واضحاً ومعروفاً عند السلف وعند اللغويين، وهو إطلاق القرآن, وإطلاق السنة كذلك.

    الخلاصة في تعريف مصطلح التأويل

    فالخلاصة أن التأويل له معنيان: إما التأويل بمعنى التفسير, أو التأويل بمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الشيء؛ فإن كان خبراً فتأويله وقوعه, وإن كان أمراً فتأويله فعله, وإن كان نهياً فتأويله تركه, فهذا باختصار مفهوم التأويل.

    المصطلح الحادث في مفهوم التأويل

    وجاء في التأويل مصطلح متأخر, وهذا المصطلح هو الذي أحدث إرباكاً في مفهوم التأويل, ولو بقينا نحن على هذا المفهوم لما كان فيه أي إشكال, لكن جاء مصطلح متأخر للتأويل عند بعض العلماء, وحاولت أن أتتبع من أول من ذكره كمصطلح؟ لكن إلى الآن ما وجدت متقدماً، وأقدم من وجدت إلى الآن ابن حزم المتوفى سنة 456هـ، لكن التطبيقات موجودة قبل, أما من نص عليه كنص إلى الآن فلم أجد من يسبق ابن حزم .

    ونلاحظ أن هذا المعنى معنى حادث, ومصطلح حادث, وتعريفه, يقولون: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى مرجوح لقرينة تدل عليه, بمعنى أن نأتي إلى لفظ يحتمل معنى معيناً, وهذا المعنى هو المقدم, لكن تأتي قرينة تجعلنا ننصرف عن هذا المعنى المقدم إلى معنى أقل منه وهو المرجوح، وتكاد تطبق عليه كتب أصول الفقه بعد جيل السلف, بعد كتاب الرسالة وغيره بدأت تطبق على هذا المصطلح في التأويل.

    فـابن حزم يقول: التأويل نقل اللفظ عن ما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر, فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق, وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه, وحكم لذلك النقل بأنه باطل.

    و الباجي وهو معاصر له حيث توفي سنة 474هـ، يقول: التأويل صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله.

    و الزاغوني المتوفى سنة 527هـ أيضاً له كلام في هذا قال: نقل الكلام عن وضعه وأصله السابق إلى الفهم من ظاهره في تعاريف اللغة والشرع أو العادة إلى ما يحتاج في فهمه، والعلم بالمراد به إلى قرينة تدل عليه لعائق منع من استمراره على مقتضى لفظه وهو مأخوذ من المآل، وبدأ يشرح بمثال لذلك.

    وأيضاً ابن الجوزي وهو تلميذ لـلزاغوني توفي 597هـ يقول: التأويل: العدول عن ظاهر اللفظ إلى معنى لا يقتضيه دليل عليه, والمقصود من هذه النقول تتابعهم على نفس الفكرة, وأن فيه معنى ظاهراً ترك هذا المعنى الظاهر بسبب قرينة تصرف عنه.

    سبب ظهور المصطلح الحادث للتأويل

    ويبدو والله أعلم أن هذا المصطلح الحادث كان سببه القول بالمجاز الذي يقابل الحقيقة, ولو تأملت القول بالمجاز والتأويل فستجد بينهما علاقة وقد بينها ابن حزم كما سأذكر.

    فيقولون حقيقة اللفظ: ما وضع له أصلاً, فعندما يقال: الحمار؛ فإن الذهن ينصرف إلى الدابة المعروفة, فإذا أطلق على الرجل فإنه إشارة إلى بلادته, فيسمون إطلاقه على الحمار المعروف حقيقة, وإطلاقه على الرجل بسبب بلادته هذا مجاز, يعني: نقلنا مسماه من الحمار المعروف إلى الرجل، فهذا تعريف الحقيقة والمجاز عندهم.

    والتأويل هو: ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة.

    فنلاحظ أن كل استعمال للمجاز يعتبر تأويلاً, فحين تأخذ المجاز وتبدأ تطبقه فمعنى ذلك أنك تؤول, فإذاً آلة المؤول هي المجاز, فالمجاز صار آلة للمؤول يصرف بها ألفاظ الكتاب والسنة أو غيرها.

    و ابن حزم يبين لنا العلاقة بينهما فيقول: فقد بان بما ذكرنا أن نقل الأمر عن الوجوب والفور إلى الندب والتراخي هو باب واحد من نقل اللفظ عن ما يقتضيه ظاهره إلى معنى آخر, وهذا الباب يسمى في الكلام وفي الشعر (الاستعارة والمجاز) ومنه قول الله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ[الدخان:49], ومثل هذا كثير.

    فنلاحظ أن هناك علاقة شديدة بين معنى المجاز ومعنى التأويل.

    تأثير مصطلح التأويل الحادث

    وهذا المصطلح لما ظهر كان له أثر كبير جداً كما قلت، ولنأخذ مثالاً من أثره, أخذنا سابقاً كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاءه لـابن عباس ، وأخذنا شرح الطبري , ولنأخذ الآن شرحاً متأخراً عن الطبري لهذا الحديث, فـالطبري توفي سنة 310هـ نأخذ شرح ابن الجوزي في كتابه غريب الحديث، وكذلك شرح ابن الأثير في كتابه النهاية في غريب الحديث لهذا الأثر, ماذا يقول ابن الجوزي ؟ لكي نعلم أن هذا المصطلح صار تحمل عليه ألفاظ الكتاب والسنة كما هو معلوم.

    يقول ابن الجوزي في الشرح: قوله: (وعلمه التأويل) فيه قولان:

    أحدهما: أنه التفسير.

    والثاني: أن التأويل: نقل الظاهر عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ؛ فهو من آل الشيء إلى كذا أي: صار إليه؛ إذاً هو يرى أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم يحتمل هذا الذي هو بمعنى التفسير, أو هذا المعنى الذي هو المصطلح الحادث؛ فإذاً مفهوم التأويل الحادث أثر قطعاً.

    ونأخذ كلام ابن الأثير المتوفى سنة 606هـ وكتابه مشهور يقول: وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل), قال: هو من آل الشيء يؤول إلى كذا أي: رجع وصار إليه, ثم قال: والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ, ومنه: حديث عائشة رضي الله عنها: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك يتأول القرآن), تعني: أنه مأخوذ من قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ[الحجر:98].

    ثم قال: ومنه حديث الزهري قال: قلت لـعروة : ما بال عائشة تتم في السفر؟! يعني: الصلاة, قال: تأولت كما تأول عثمان ، أراد بتأويل عثمان ما روي عنه أنه أتم الصلاة بمكة في الحج, وذلك أنه نوى الإقامة بها.

    فنلاحظ أن ابن الأثير أيضاً تأثر بالمصطلح الحادث، وأيضاً لم يكن عنده فهم فيما يبدو والله أعلم لما ذكر قولها: (يتأول القرآن) أنها ليست من باب نقل اللفظ عن ظاهره إلى غيره، فكأن عنده اضطراباً رحمه الله تعالى في هذا.

    سبب وجود المصطلح الحادث في التأويل في معاجم اللغة

    وأوسع معجم في ألفاظ اللغة هو تاج العروس، فإذا رجعت إلى كتب اللغة لكي أعرف (كنود) فهو الطريق الصحيح، والمنهج العلمي لنفترض أنك رجعت لبحث مادة (أول) الهمزة والواو واللام في لسان العرب أو في تاج العروس فوجدت ذكراً للتأويل بنفس المصطلح المتأخر, فهل تعتبره من اللغة أو لا؟ فهذا المعنى الذي هو: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، فهذا المصطلح موجود في لسان العرب, وموجود أيضاً في تاج العروس، وفي تاج العروس نقول أخرى غير هذه, كلها تدور حول هذا المعنى, فهل نعتبر هذا من كلام العرب أو لا؟

    نقول: الأصل في هذا الكتاب ألا ينقل اصطلاحيات, لكن لو كان المعجم الوسيط فقد ينقل اصطلاحيات ومولداً.. إلخ, أما لسان العرب فمختص بنقل لغة العرب؛ ولذا قد ننبه أحياناً فنقول: هذا مولد أو هذا كذا أو هذا فيه كذا.

    فما هو السبب في وجود هذا المصطلح في هذه الكتب؟ ابن منظور رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه الذي هو لسان العرب لم يكن له مهمة إلا النقل, فهو جمع خمسة كتب ورتبها فقط، وأحد الكتب هذه النهاية في غريب الحديث لـابن الأثير , فنقل كلام ابن الأثير هنا ولم ينبه عليه, فدخل هذا المصطلح في هذا الكتاب؛ لأنه أحد مصادره التي نقل منها كتابه، فلا يحتج علي ولا عليك بأن التأويل هو: صرف اللفظ.. إلخ, فهو معنى لا تعرفه العرب.. فلو قال لك شخص العرب تعرفه فهو موجود في لسان العرب، وموجود في تاج العروس, فنقول موجود فيهما؛ لأن من مرجعهما كتاب النهاية غريب الحديث فدخل.

    إذاً لا حجة في وجود هذا المصطلح في بعض كتب اللغة المتأخرة, لكن لو قرأنا في تذهيب اللغة للأزهري، أو في كتاب العين، فإننا لا نجد هذا المعنى, وهي كتب متقدمة.

    الفرق بين التأويل والتفسير

    هل هناك فرق بين التفسير والتأويل؟

    إذا قصدنا بالتأويل المعنى الأول فهما مترادفان فالتأويل والتفسير شيء واحد, فإذا قلنا مثلاً: أول مجاهد هذه الآية بكذا، أو فسر مجاهد فالمعنى واحد.

    وأحد العلماء المتقدمين قريباً من عام ألف ومائة وكسر تقريباً ألف رسالة في الفرق بين التفسير والتأويل, جمع فيها ثلاثين فرقاً بين التفسير والتأويل.

    سأذكر هذا النقل وإن كان طويلاً لكي نعرف أن فيه إشكالية, وبعد أن تكون فيه إشكالية نبدأ نحاول أن نحلل هذه الإشكالية.

    يقول الشريف الجرجاني في شرح مقدمة الكشاف لما جاء إلى لفظ التفسير وهو يشرح كلام الكشاف فجاء إلى لفظ التفسير فأراد أن يشرحها يقول:

    التفسير علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد من حيث دلالته على مراده، وينقسم إلى تفسير؛ وهو ما لا يدرك إلا بالنقل؛ كأسباب النزول والقصص؛ فهو ما يتعلق بالرواية، وإلى تأويل: وهو ما يمكن إدراكه بالقواعد العربية؛ وهو ما يتعلق بالدراية؛ ففرق بين التفسير والتأويل.

    ثم قال: فالقول في الأول بلا نقل خطأ، وكذا القول في الثاني بمجرد التشهي وإن أصاب فيهما، يعني: كلاهما، القول بهذا خطأ, والقول بهذا بمجرد التشهي خطأ.

    ثم قال: وأما استنباط المعاني على قانون اللغة فمما يعد فضلاً وكمالاً، يعني: ليس داخلاً في علم التفسير ولا في التأويل.

    إذاً نفهم من هذا أن الجرجاني فرق بين التفسير والتأويل بأن التفسير ما يتعلق بالنقل, والتأويل يمكن إدراكه بالقواعد العربية, وهو ما يتعلق بالدراية, فهذا تفريق الجرجاني .

    أما صديق حسن خان والنقل الطويل؛ لأنه جمع مجموعة من الفروقات بين العلماء في كتابه أبجد العلوم فذكر الفرق بين التفسير والتأويل، فيقول:

    (واختلف في التفسير والتأويل فقال أبو عبيدة وطائفة: هما بمعنى -يعني: التفسير والتأويل بمعنى- قال: وقد أنكر ذلك قوم), وإنكار هؤلاء أن التفسير والتأويل بمعنى يصح من جهة ولا يصح من أخرى. لكن هم ما عندهم الوجه الذي تريده, فهم لا يصح عندهم, يعني: أنكروه, وأنكروا أن يكون التفسير مع التأويل؛ فالإنكار دلالة على عدم الإدراك بالذي تريده أنت, فإنكارهم غير صحيح, فهم أنكروه؛ لأن التأويل عندهم إنما هو بالمصطلح الحادث فقط, استشكلوا هذا فأنكروه, وإنكارهم لا يصح؛ فنلاحظ أنه يوجد في إطلاق القرآن ويوجد في كلام السلف ويوجد في اللغة فهو معنىً صحيح, أن التفسير بمعنى التأويل.

    (يقول: وقال الراغب : التفسير أعم من التأويل, وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها, وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل, وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية) إذاً فرق بين التفسير والتأويل.

    (وقال غيره: التفسير: بيان لفظ لا يحتمل إلا وجها واحداً، والتأويل: توجيه لفظ متوجه إلى معان مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلة)، وهذا قريب من المصطلح الحادث.

    وأما الماتريدي فيقول: التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله سبحانه وتعالى أنه عنى باللفظ هذا، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة.

    وأما أبو طالب الثعلبي فيقول: التفسير: بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازاً, والتأويل: تفسير باطن اللفظ مأخوذ من الأول وهو: الرجوع لعاقبة الأمر, قال: فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد, والتفسير: إخبار عن دليل المراد، مثاله: قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ[الفجر:14], وتفسيره: أنه من الرصد مفعال منه، وتأويله: التحذير من التهاون بأمر الله سبحانه وتعالى.

    وقال الأصبهاني - وهو غير الراغب الأصفهاني - : التفسير: كشف معاني القرآن، وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ أو بحسب المعنى, والتأويل: أكثره باعتبار المعنى، والتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ أو في وجيز يتبين بشرحه، وإما في كلام متضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها، وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عاماً ومرة خاصاً نحو الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري خاصة، وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة.

    وقيل: يتعلق التفسير بالرواية، والتأويل بالدراية، مثل النقل عن الجرجاني .

    وقال أبو نصر القشيري : التفسير مقصور على السماع والاتباع والاستنباط فيما يتعلق بالتأويل.

    وبعد هذا نقول: واضح أن فيه إشكالاً، والذي أردته من هذه النقول وإن كانت طويلة أن هناك إشكالاً.

    فكيف نتعامل مع هذه الخلافات المذكورة في الفرق بين التفسير والتأويل؟ وهل بالفعل هذه الفروق المذكورة صحيحة أو غير صحيحة؟ فالفروق المذكورة قرابة عشرة نقول في الفرق بين التفسير والتأويل.

    أما من حيث الجملة ففيها إشكال؛ لأنه لم يرد تخصيص الفرق بين التفسير والتأويل لا في لغة العرب ولا في لغة القرآن ولا في لغة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا قال به الصحابة ولا قال به التابعون ولا قال به أوائل أهل اللغة, فهذا التفريق بين المصطلحات افتعلوه بسبب المصطلح الحادث.

    المرجع للخلاف في مصطلحات التأويل

    فإذا حاولنا أن نناقش هذه المصطلحات فنحن عندنا قاعدة وهي: التأويل عندما يكون بمعنى التفسير أو بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء, فننظر في أي مثال من هذه الأمثلة هل يتحقق فيه هذا أو لا يتحقق؛ لنأخذ كلام الماتريدي كمثال:

    حيث قال: التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا.

    نضرب مثالاً: قوله سبحانه وتعالى: وَالْيَوْمِ المَوْعُودِ[البروج:2], أجمع المفسرون على أن اليوم الموعود هو يوم القيامة, فهذا القطع بأن المراد باليوم الموعود يوم القيامة بناءً على مذهب الماتريدي هو التفسير.

    وكذلك نسميه تأويلاً بناءً على أنه مشابه للمصطلح، فعندما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى في نفس السورة: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ[البروج:1], هو قال بعد ذلك: والتأويل: ترجيح أحد المحتملات, فعندما أقول: (البروج): النجوم؛ فهذا قول, وقيل البروج هي: قصور في السماء؛ فهذا قول آخر, وقيل البروج هو: بروج الشمس والقمر؛ وهذا قول أيضاً, فلو اخترت أن البروج: هي النجوم، فهذا على كلامه هو التأويل.

    لكن الحقيقة أنه يعتبر مفسراً أيضاً.

    إذاً الفرق هذا ليس بصحيح.

    فالملاحظ أننا رجعنا في كلام الماتريدي في النهاية إلى معنى التفسير؛ فهو تفريق لا داعي له ولا موجب.

    فالمتأثرون بالمصطلح الحادث, كل فرق ذكروه ننظر فيه إلى القاعدة التي عندنا، وهي أن التأويل: إما بمعنى التفسير, وإما بمعنى ما تؤول إليه حقائق الشيء, فهذا عندنا قاعدة ثابتة, فأيما شيء ذكروه فنرجع إلى هذا, فإن كان من الأول فما يحتاج إلى هذا التفريق, فنقول: التأويل بمعنى التفسير وانتهى, وإن كان جزءاً منه من الأول وجزءاً منه من الثاني فنفس التفريق.. وهكذا.

    فالميزان في معرفة صحة هذه الفروق من عدمها هو الذي ذكرناه أولاً, الذي هو مصطلح القرآن والسنة واللغة.

    وهؤلاء العلماء الذين أرادوا أن يفرقوا لا دليل على تفريقهم لا دلالة لغوية ولا شرعية ولا حتى عقلية, فهي تخصيصات لا دليل عليها, فإذا اتضح لنا هذا فإنه يسهل علينا جداً، بعد ذلك قضية التأويل كلها ما نحتاج فيها إلى هذه الإشكالات التي ترد فيها؛ لأنه كل الإشكالات واردة بسبب هذا المصطلح الحادث.

    ثم ننظر في المصطلح الحادث ونحلله: هل له حظ من الصحة في التطبيقات، وهل يوجد أمثلة بالفعل صرفناها عن المعنى الظاهر إلى المعنى المرجوح لقرينه؟

    أذكر مثالاً نطبق عليه, وسيرد عندنا هذا المثال مرة أخرى إن شاء الله, في قوله سبحانه وتعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ[الأحقاف:10], فالشاهد عند السلف فيه قولان:

    القول الأول: قول مسروق وهو يرى أن الشاهد موسى عليه السلام؛ لأن الآية مكية و عبد الله بن سلام ما كان شأنه إلا في المدينة, فهو يحتج بأنها مكية فكيف تكون في عبد الله بن سلام .

    القول الثاني: قول الجمهور ومنهم عبد الله بن سلام و سعد و ابن عباس قالوا: بأن الشاهد عبد الله بن سلام ، وظاهر الآية والسياق مع مسروق ؛ لكن الذي جعلنا نترك الظاهر إلى القول الآخر, وهو قول الجمهور، القرينة الأخرى, وهذا المثال، ولا يلزم فيكون المثال صحيحاً مائة بالمائة لكن هو يبين لنا الفكرة.

    فأنا حين أفسر بهذا: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ[الأحقاف:10], وأنه عبد الله بن سلام يعني: شهد عبد الله بن سلام , ثم أكملت التفسير بناءً على هذا المصطلح، فالذي فعلته تأويل. ومع ذلك فعملي كله تفسير.

    فنلاحظ أن هذا المصطلح الحادث إذا كان المثال المذكور فيه صحيحاً فهو في حقيقته رجع إلى أحد المعاني الصحيحة المذكور قبلاً.

    وإذا كان المثال المذكور استعمل خطأ فهذا تحريف, وهو الذي غلب استعمال التأويل فيه.

    فنلاحظ أن هذا المصطلح في الحقيقة خصص من دون دليل, فنحن ننظر في المثال الذي يطبق فإن كان يرجع في النهاية إلى ما ذكرته فصار ما يذكرونه هو في حقيقته نفس التفسير؛ وإنما فقط غيروا العبارة والألفاظ, وإلا ففي الحقيقة هو راجع إلى نفس القضية وأن التأويل بمعنى التفسير، وإلا كان التأويل بمعنى التحريف مثل قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ[المائدة:64], فيقولون: يداه: نعمتاه, فهذا نعتبره تحريفاً، وهم يأتون بنفس المثال، وهذا صرف للفظ عن معناه الظاهر إلى معناه المرجوح لقرينة.

    ونلاحظ أن جل القرائن التي يذكرونها عقلية, والخلاصة أن هذا الذي ذكروه يتحرر بما ذكرت سابقاً, وهذا هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لما تكلم عن هذا الموضوع, أذكر كلامه وأختم به وفي درس قادم إن شاء الله نكمل بقية الموضوع.

    يقول عن هذا المصطلح: (وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه؛ فهذا لم يكن هو المراد بلفظ التأويل في كلام السلف، اللهم إلا أنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال: إنه خلاف الظاهر جعلوه من التأويل الذي هو التفسير)، الذين هم السلف.

    قال: (لكونه تفسيراً للكلام، وبياناً لمراد المتكلم به، أو جعلوه من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس الأمر التي استأثر الله بعلمها؛ لكونه مندرجاً في ذلك، لا لكونه مخالفاً للظاهر.

    وكان السلف ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله التي هي من نوع تحريف الكلم عن مواضعه، فكانوا ينكرون التأويل الباطل الذي هو التفسير الباطل، كما ننكر قول من فسر كلام المتكلم بخلاف مراده). انتهى كلامه.

    فصار عندنا قاعدة نرجع إليها في أي شيء يذكر في الفرق بين التأويل والتفسير أو تعريف مصطلح التأويل غير المعروف عند السلف, لكن ليعلم قطعاً أن هذا المصطلح كان له أثر كبير جداً في الانحراف.

    1.   

    الأسئلة

    صحة ما يقال بأن التأويل ينقسم إلى ثلاثة أقسام

    السؤال: هل يقال: بأن التأويل ينقسم إلى ثلاث؟

    الجواب: هذا التقسيم الثلاثي ليس له داع, فالقسم الثالث يدخل, أو يكون معنى جديداً باطلاً, الذي هو: صرف اللفظ، إما أن يكون صحيحاً في تطبيقات الأمثلة فيرجع إلى أحد المعنيين وإما أن يكون بمعنى التحريف فيخرج، فإن وجد له قرينة فهو في النهاية راجع إلى معنى التفسير، سواءً وجدت قرينة أو لم توجد.

    وقضية القرينة قضية أخرى ما لها علاقة, لكن هو في النهاية راجع إلى أحد المعنيين؛ فلا داعي لذكره, خاصة أن الذين ذكروه استخدموه استخداماً سيئاً, فصار فيه انحراف في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي تفسير كلامهم, خاصة فيما يتعلق بالصفات.. وسنأتي إلى أمثلة عند ذلك في ما هو أوسع من الصفة؛ فلذا ليس هناك داعٍ لذكره أصلاً, ونبقى على ما هو مشهور عند السلف وفي عرف اللغة وفي عرف القرآن والسنة.

    الخلاصة في الفرق بين التفسير والتأويل

    السؤال: ما هي الخلاصة في الفرق بين التفسير والتأويل؟

    الجواب: ليس هناك شيء اسمه فرق بين التفسير والتأويل أكثر مما ذكره السلف, وإن وجدت رسائل في التفريق بين التفسير والتأويل إلا أنك عندما تقرأ في هذا تجد في النهاية أنه لا يوجد دليل، ما أحد عنده شيء يمكن أن يقطع به, لكن أن تجعل الميزان الذي ذكرته سابقاً وترد إليه؛ تجد أن كل هذه الأقوال مندرجة تحته.

    سبحانك اللهم وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755898561