إسلام ويب

أشرف أفكار العقلاءللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التفكر في الآخرة وما أعده الله لعباده فيها هو الذي أصلح الله به حياة القرن الأول من أبناء هذه الأمة، ومفتاح التفكر في الآخرة يكون بالتقليل من الرغبة في الدنيا والزهد فيها.

    1.   

    أقسام أفكار الناس

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! حديثنا اليوم إن شاء الله عن أشرف أفكار الإنسان، فأفكار العقلاء كما يقول العلماء تدور حول ثمانية أقسام لا تاسع لها، فهي أنواع ثمانية يفكر فيها الناس، نحن نتحدث عن أشرفها قدراً، وأجلها أثراً.

    أفكار الناس كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله ثمانية:

    الفكر الأول: التفكر في مصالح الآخرة، يعني: التفكر فيما فيها من الخيرات والمسرات، وما فيها من اللذات والأعطيات.

    والفكر الثاني: التفكر في كيفية الوصول إلى تلك الخيرات.

    والفكر الثالث: التفكر فيما في الآخرة من الحسرات والندامات، فيتفكر الإنسان فيما في الآخرة من أنواع المشاق والآلام والعذاب.

    والفكر الرابع: التفكر في كيفية النجاة والخلاص من تلك الحسرات.

    والفكر الخامس: التفكر في مصالح الدنيا وما فيها من الخيرات، وما فيها من الشهوات واللذات.

    والفكر السادس: التفكر في كيفية الوصول إلى هذه اللذات، وقضاء تلك الشهوات.

    والفكر السابع: التفكر فيما في هذه الدنيا من أنواع الآلام وأنواع الخسارات.

    والفكر الثامن: في كيفية النجاة والخلاص من أنواع المنغصات في هذه الدنيا.

    فالناس كلهم أفكارهم تدور حول هذه الثمانية، إلا أنهم يتفاوتون عند الله قدراً وسعادة بحسب ما تتفاوت أفكارهم، فمنهم من يتفكر في الأعلى، ومنهم من انغمس في الأدنى.

    1.   

    تفكير الإنسان في مصالح الآخرة وعواقبها

    إن أشرف الأفكار أن يتفكر الإنسان في مصالح الآخرة، كيف يحصل تلك المصالح؟ أن يتفكر الإنسان فيما أعده الله عز وجل من عقوبات في الآخرة، وكيف ينجو من تلك العقوبات؟ هذه أعظم الأفكار التي ينبغي أن تشتغل بها النفس، وتسعى بعد ذلك في تحقيقها.

    وقد جرت سنة الله تعالى في خلقه، أن لكل خير مفتاحاً، ومفتاح هذا الخير، مفتاح التفكر في الآخرة، مفتاح الاستعداد للآخرة، مفتاح إجراء النفس والعقل فيما يستقبله الإنسان بعد موته في الآخرة، مفتاح هذا كله الزهد في هذه الدنيا، وتقليل الرغبة في هذه الدنيا، متى قلت رغبة الإنسان في الدنيا اشتغل بالآخرة، وكلما عظم اهتمامه وكلما عظم تعلقه، وكلما اشتد التصاقه بالدنيا شغل فكره فيها، وأمضى ليله ونهاره في تحصيلها، وهو في الأخير كما قيل: لا ينفك صاحب الدنيا من هم.

    هذا التفكر في الآخرة، وما أعده الله، هو الذي أصلح الله عز وجل به حياة القرن الأول من هذه الأمة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلحت دنياهم كما صلح دينهم لما تعلقت هممهم بالآخرة، لما رفعوا رءوسهم إلى السماء، لما عظمت هممهم فطلبوا ما عند الله فأصلحوا بذلك الدين والدنيا.

    مفتاح التفكير في الآخرة

    ومفتاح التفكير في الآخرة التقليل من الرغبة في الدنيا، وقد ذم الله عز وجل بعض الناس لما دعاهم إلى الجهاد فتباطئوا وتكاسلوا، وأخبر بأن تباطؤهم عن الطاعة وتكاسلهم عن المضي في مرضاة الله إنما سببه التثاقل إلى هذه الدنيا، والرضا بهذه الدنيا، والوقوف عند هذه الدنيا فقال لهم: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38].

    هذا الفكر الذي هو أن الدنيا قليلة هذا هو الدواء، إذا أردت أن تفتح على نفسك باب الفكر فيما ينفعك، إذا أردت أن تصلح دينك ودنياك وآخرتك فسبيل ذلك أن تفتح على نفسك التفكر في الآخرة، لكن هذا التفكر لن يفتح أمامك هذا الباب إلا إذا عرفت الدنيا على حقيقتها؛ ولذلك يقول الله: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38].

    ركائز الرغبة في الآخرة

    الرغبة في الآخرة تقوم على ركيزتين لا بد من أن تتفكر فيهما:

    الركيزة الأولى: أن تعرف قدر الآخرة وما فيها من الشرف وما فيها من الكرامات وما فيها من النعيم، وأنها مع هذا كله قادمة لا محالة, إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6-7]، ومع هذا المجيء هي إذا جاءت باقية لا زوال لها، دائمة لا انقطاع لها, وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48]، هذا حال الآخرة، وفي المقابل انظر إلى حال الدنيا، هي على ما فيها من اللذات مشوبة بأنواع المكدرات، مشوبة بأنواع المنغصات، لا تخلو لذتها من غصة، ولا يخلو صاحبها من هم, فهو ملازم للهم على الدوام، كما قيل:

    فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق

    فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق

    فتسخن عينه عند التلاقي وتسخن عينه عند الفراق

    هذا هو شأن المتعلق بالدنيا، عينه دائماً ساخنة، وقلبه دائماً مكلوم مهموم، فهو قبل أن يحصلها مهموم منغص عيشه بتحصيلها وكيفية الوصول إليها، وإذا حصلها جاءه هم آخر، وهو هم فراقها وزوالها، وإذا لم تزل هي فكر بعد ذلك بزواله هو، فتسخن عينه عند التلاقي، وتسخن عينه عند الفراق.

    إذا تفكر الإنسان في الدنيا، وتفكر في الآخرة بفكرة صحيحة فتحت أمامه أبواب الخيرات، وفتحت أمامه باب الفكر في الآخرة.

    خطبة عتبة بن غزوان في الزهد من الدنيا

    ولذلك روى لنا الإمام مسلم رحمه الله خطبة صغيرة من خطب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كتاب الزهد من صحيح مسلم، وهو ليس واحداً من السوقة، إنما أمير يقلب الدنيا بين يديه، وأمير في زمن الفتوح الزمن الذي كانت تجنى فيه كنوز الذهب والفضة.

    وهو عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه أمير البصرة خطب الناس، وتناقل المحدثون بعد ذلك خطبته، فلا تزال تروى إلى اليوم، فيها بيان كيف أصلح الله عز وجل قلوب صحابة رسول الله، وكيف أصلح الله بهم الدنيا، وكيف قام هذا الملك العظيم، وكيف فتحت أمامهم الأمصار، وكيف دخل الناس في دين الله أفواجاً على يد أولئك الرجال.

    وقف أمير البصرة وخطب الناس بكلمات، وهو يحاول إصلاح قلوب من سيأتي بعدهم. قال: (أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء) آذنت يعني: أعلمت، بصرم يعني: بانقطاع، آذنت الدنيا وصاحت بأعلى صوتها: يا ناس! إنني منتهية وإنني إلى زوال، وإنني إلى فناء وانقطاع، وأنتم ترون الناس بين أعينكم كل يوم، وهأنتم ترون إن الدنيا آذنت بصرم وولت حذاء، ذاهبة ومع هذا الذهاب هي أيضاً مسرعة لا تقف عند أحد من الناس، ولو دامت لغيرك يا عبد الله ما وصلت إليك.

    ثم قال لهم وهو يصف ما سيأتون إليه بعد هذه الحذاء: (ولم يبق منها)، يعني من الدنيا، (إلا صبابة كصبابة الماء يتصابها صاحبها)، الدنيا هذه التي قال الله عنها قليلة، الدنيا التي قال عنها رسول الله: ( بأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة )، الدنيا التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما مثلها إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع )، هذا القليل قد ذهب أكثره، لم يبق بيننا وبين الآخرة إلا مراحل يسيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( بعثت بين يدي الساعة، أنا والساعة كهاتين )، قريبين، هذا قبل ألف وأربعمائة سنة، اليوم كم بقي من هذا القليل؟

    يقول لهم عتبة: لم يبق من هذا القليل إلا صبابة، والصبابة هي: ما يبقى في أسفل الإناء أو الحوض، وهو لا يبقى إلا لأنه معزوف عنه، قد اختلطت به الرواسب والرواكد فهو مستقذر، وهذا هو حال الباقي من هذه الدنيا.

    يقول ابن القيم رحمه الله: مثل عتبة الدنيا بالحوض من الماء، والحوض لا شك أن أعلاه هو الصفو، وانظر إلى براعته رضي الله عنه وحسن تدبره وتفكره، الدنيا كالحوض أمام الدواب، ترده السباع، وترده البهائم، وترده الطاهرات والنجسات من الحيوانات، ويرده الجميع، وهذا حال الدنيا يتنافس فيها الناس جميعاً على اختلاف أقدارهم ومراتبهم، وهم إذا ولغوا فيها قذروها ووسخوها، فكيف إذا جئت أنت في آخر الأزمان ولم يبق من ذلك إلا الصبابة؟ (صبابة يتصابها أحدهم)، يعني: يحاول أن يشربها.

    ثم قال: (وأنتم راحلون عنها إلى دار لا زوال لها)، ستنتقلون عنها إلى دار باقية لا زوال لها.

    أيها الأحباب! يكفي لإيقاظ القلب الغافل، هذا التفكر في حقيقة الدنيا، والتفكر في حقيقة الآخرة.

    لكنه زادهم بعد ذلك موعظة أخرى، فذكرهم بما في الآخرة من مسرات ولذات، ينبغي أن يشتغل الإنسان في التسابق إليها، وما فيها من عذاب وشقاوات ينبغي أن يحرص الإنسان على النجاة منها.

    قال لهم: (ولقد ذكر لنا)، يعني: كان رسولنا يخبرنا (أن الحجر يلقى من شفة جهنم) الحجر يلقى من طرف جهنم (فيهوي فيها سبعين خريفاً) سبعين سنة (لا يدرك لها قعراً) لا يصل إلى قعرها، (والله) هكذا يحلف اليمين، (والله لتملأن) هذه النار على سعتها وعلى كبر حجمها يلقى الحجر من طرفها فيظل ينزل فيها سبعين سنة، ولا يصل إلى دركها وقعرها.

    يقول: (والله لتملأن)، بمن ستملأ يا ترى؟ اعمل لنفسك أيها الإنسان! واعلم بأنك قادم على هذه المواقف لا محالة. ثم يقول لهم: (أفعجبتم!) هل تعجبون من هذا؟ ألم يخبرنا الله عن النار في القرآن، ألم يحدثنا رسوله عن أهوال القيامة في أحاديثه الصحيحة, أفعجبتم؟!

    ثم ذكرهم بما يدعو إلى الأمل، وما يبعث على السعي والعمل، قال لهم: (ولقد ذكر لنا أن المصراعين من مصاريع الجنة)، طرفي الباب من أبواب الجنة، ولها ثمانية أبواب، (إن المصراعين من مصاريع الجنة بينهما أربعون سنة)، المسافة بينهما تقضى في أربعين سنة، (وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام).

    هذه المسافة تملأ بالبشر يوم القيامة، يدخلونها مزدحمين في أبوابها الثمانية، وهذا فضل الله ينتظر المحسنين، ينتظر المتقين, جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].

    ثم قال لهم بعد أن ذكرهم بما يبعثهم على الخوف من النار، وما يبعثهم على الطمع في الجنة، ذكرهم بحالهم هم أصحاب رسول الله كيف كانوا وإلى ما صاروا؟ كيف كانت بداياتهم، وكيف كانت نهاياتهم؟

    قال لهم: (ولقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع رسول الله ليس لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا)، لا نجد ما نأكله إلا ورق الشجر نخبطه فنأكله حتى تجرحت شفاهنا وأفواهنا بسبب مرارة أوراق الشجر التي نأكلها، (ولقد التقطت بردة)، وجد في الطريق قطعة من القماش، ولم تلق في الطريق إلا لزهادة أصحابها فيها، وهذا الذي فهمه عتبة , قال: (التقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك ).

    لم يعرف هذه اللقطة سنة. قال العلماء: لأنها لا تستحق التعريف، لقطة علم من قرائن الحال بأن أصحابها رموها لا يريدونها لبلاها وقدمها، لكن هو رضي الله عنه وهو من أشراف الناس وسادة المجتمع وخير خلق الله، ومثله وأجل منه سعد بن أبي وقاص هو و سعد أحوج ما يكونون إلى هذه القطعة البالية من القماش، (ولقد التقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بن مالك بنصفها الآخر) هذه البدايات.

    ثم قال: (وما أصبح اليوم منا أحد إلا وأصبح أميراً على مصر من الأمصار)، اليوم أولئك الصحابة الفقراء الذين كانوا يمشون في الغزوات حفاة، الذين آثروا ما عند الله، الذين تعلقت هممهم بالجنة والدار الآخرة، الذين تركوا أموالهم وديارهم وزروعهم وتجاراتهم في مكة، وتقلدوا سيفوهم خارجين كما وصفهم الله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29]، أصبحوا أمراء الأقاليم وسادات الدنيا يخضع لهم العرب والعجم.

    يقول: (فما أصبح اليوم منا أحد إلا وأصبح أميراً على مصر من الأمصار)، لكن هذه الدنيا لم تنسهم الحقيقة، لم تغرهم عن الهدف الأسمى والغاية النبيلة أبداً.

    قال وهو على المنبر: (وأعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً)، أعوذ بالله أن يخيل إلي أني عظيم وأني أمير وأني كبير؛ لأن الدنيا فتحت أمام أعيننا، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( يؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فيوضع في الميزان فلا يزن عند الله جناح بعوضة ) .

    الرجال لا تقوم بهيئتها وأموالها وممتلكاتها، يؤتى بالرجل كبير الجثة عظيم القدر في أعين أصحابه فيوزن يوم القيامة بالميزان، والناس يوم القيامة يوزنون بذواتهم كما توزن أعمالهم وتوزن صحائفهم، فيوزن الرجل السمين العظيم الكبير فلا يزن عند الله جناح بعوضة.

    يتعوذ هذا الصحابي ويطلب من الله الحماية أن يتسرب العجب بهذه الدنيا، والافتخار بها والاغترار بها إلى قلبه فيرى نفسه كبيراً بسببها، وهو عند الله حقير.

    ثم ذكرهم بعد ذلك بحقيقة الأمر، وكيف تدور الولاية في الناس قال: (وإنه لم تكن نبوة قط إلا تناسخت)، يعني: تغيرت، (حتى يكون آخر أمرها ملكاً)، وهكذا كان الأمر في حال هذه النبوة، بدأ الحكم في عهد رسول الله بأمر رسول الله النبي الرسول، ثم خلفه الخلفاء الراشدون، ثم انتقل بعد ذلك إلى ملك، ثم تحول الملك بعد ذلك إلى ملك عضوض، ملك ظالم، ملك قسري، ملك يستبد بالثروة والإنسان ويهتك كل حرمة، وهذا ما نراه في غالب أحوال الناس اليوم وقبل اليوم، (حتى يكون آخر أمرها ملكاً).

    ثم قال لهم في آخر الخطبة: (وستخبرون الأمراء بعدنا وستجربون)، جربتمونا نحن أصحاب رسول الله الذين أدبتهم النبوة وعلمهم القرآن، وستجربون وستخبرون الأمراء الذين يأتون بعدنا الذين نشئوا في الدنيا، فنموا على حبها، وتعلقت قلوبهم بها، فهؤلاء لهم شأن وأولئك لهم شأن.

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    وقفة مع معاناة أهل اليمن من الظلم والطغيان

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! أشار عتبة رضي الله تعالى عنه في آخر الخطبة إلى حال الأمراء بعدهم، وأنهم إنما يؤتون من تعلقهم بالدنيا، وليسوا وحدهم، بل الناس كل الناس إنما تفسد أحوالهم وأديانهم لما يؤثرون الدنيا على الآخرة، والله يدعوهم إلى إيثار الآخرة, وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17]، وللدار الآخرة خير عند الله ثواباً وأدوم.

    يدعو الناس إلى إيثار الآخرة على الدنيا، فإذا عكسوا الحال فتعلقت القلوب بهذه الدنيا أعمت البصائر كما أعمت الأبصار، وهكذا قال رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: ( حبك الشيء يعمي ويصم )، لما تحب شيئاً لا سيما الدنيا تعمى البصيرة ويعمى البصر عن النظر في عيوب المحبوب، من أحب الدنيا لا يراها إلا جميلة، لا يراها إلا دائمة، لا يراها إلا باقية، لا يراها إلا سليمة من المنغصات والأكدار، لكنه غافل عن الحقيقة.

    وهذا ما نراه حقيقة, وقد لفت انتباهي أن سكرتير رئيس اليمن يتهم دول الخليج ولا سيما قطر، التي نطقت بالمبادرة لإصلاح ذات البين، وإخراج هذا الشعب المسكين من الأزمة التي يعيشها، اليمن التي حدثتكم سابقاً عنها وعن فضائلها، اليمن التي جعلها الله عز وجل مدداً لهذه الأمة كما ذكرت، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول هكذا في الحديث: ( استقبل بي بيت المقدس فقيل لي: إني جعلت ما تجاهك غنيمة ورزقاً، وجعلت لك ما وراء ظهرك مدداً )، يعني: اليمن، ولا زالت اليمن مدداً لهذه الأمة.

    اليمن اليوم غيبت عن كل هذه الفضائل، محيت اليمن عن آثارها وفضائلها بسبب الحكم الرشيد والرأي السديد، لما تولاها من قال الله فيهم: إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، لما تنعكس الحقائق بسبب التعلق بالدنيا، ويظن الإنسان أنها باقية لن تزول يتشبث بها، ويعض عليها بنواجذه، يمسكها بيديه ورجليه، ويأبى الله إلا أن ينزع الملك ممن يشاء، ويهب الملك لمن يشاء.

    اليمن بسبب هذا الرأي الرشيد اليوم أصبح يخيم عليها الجهل في زمن تعلم الناس في مشارق الأرض ومغاربها، يفت في عضدها الفقر، فأكثر من نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر، أفقر الدول العربية على ما فيها من الخيرات.

    اليمن اليوم يشق المرض صفوفها فيدخل إلى الصغير والكبير، لا أحتاج والله إلى أن أحدثكم كثيراً عن اليمن، أحيلكم إلى أقرب مرجع ومصدر يمكن أن تتعرفوا منه على حال اليمن، جمعية الميرة لو دخلتموها لوجدتم على حفاظات الأطفال عرض السعر: اشتر علبتين لتتصدق بلقاح لطفل في اليمن، هذا هو حال اليمن الذي وصلت إليه.

    لما جاءت المبادرة على لسان رئيس الوزراء القطري يقول: تعالوا نصلح بينكم على أساس أن يتنحى الرئيس، ونقدم له الضمانات في عدم ملاحقته، رأوا بأن هذا جور وظلم، والأغرب أن هذا إهانة للشعب اليمني الذي يريد أن يتخلص من الظلم الواقع عليه من الجهل الذي يعيش فيه، من المأساة التي يتقلب فيها، (هذا ظلم)، هكذا تتقلب الحقائق لما تعمى الأبصار وتعمى القلوب، (حبك الشيء يعمي وصم).

    نحن أيها الإخوة! كما نحن بحاجة اليوم إلى القرار من أولي القرار بأن يتدخلوا لرفع هذه المأساة عن اليمن، نحن أيضاً بحاجة إلى دعوات المساكين، نحن بحاجة إلى دعوات المصلين، نحن بحاجة إلى دعوات القائمين الراكعين الساجدين بأن يصون الله دماء اليمنيين، وأن يزيح عنهم هذا الظلم المسيطر عليهم، أبوا إلا أن يغيروا حالهم ووضعهم بالسلم لا بالحرب.

    اليمن كما تقول التقارير: فيها ما يزيد على ستين مليون قطعة سلاح، يعني لو قسمت قطع السلاح على المواطنين لكان كل مواطن يمتلك ثلاث قطع من السلاح الناري، هذا المواطن المسكين اليوم ترك أسلحته في بيته وتنازل عن قبليته, تنازل عن شم أنفه, ترك سلاحه في بيته وجاء إلى المدن ومراكز المدن بدون سلاح بصدر عار مجرد يريد أن يقول للظالم: لا للظلم, لكن بغير قتال، لا للظلم لكن بغير مفاسد، لا للظلم لكن بغير إزهاق للأرواح، ويأبى الظالمون كما هي سيرتهم وسنتهم إلا الانتقام ممن ركنوا لهم فترة من الزمن، أو سكتوا عليهم فترة من الزمن وهي سنة الله.

    الناس بحاجة اليوم إلى دعوات الصالحين أيها الإخوة! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( أبغوني ضعفاءكم )، يعني: التمسوا الضعفاء والمساكين, ( فإنما تنصرون بضعفائكم، بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم )، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين اصرف عن اليمن واليمنيين شر طوارق الليل والنهار يا رب العالمين.

    اللهم أذهب ظلم الظالمين، اللهم أذهب ظلم الظالمين، اللهم اجعلها وبلاد المسلمين كافة أماناً رخاء سخاءً يا رب العالمين.

    اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعز الإسلام والمسلمين، واخذل الكفرة والمشركين أعداءك أعداء الدين.

    اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره, وأشغله في نفسه، واجعل تدميره في تدبيره يا قوي يا عزيز.

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح لسماع الموعظة قلبه وأذنيه, أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756346338