إسلام ويب

التوبة وآثارها [1]للشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جدير بالمسلم أن يقرأ كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ويتعظ بما فيهما من أخبار من أهلكتهم الذنوب والمعاصي، فإن لها آثاراً عظيمة مدمرة، وهي سم القلوب والأديان، ومن آثارها: فساد القلب ونزع الطمأنينة منه، وسوء الخاتمة، والحرمان من الرزق، وعدم قبول الدعاء.

    1.   

    ركن التوبة الأعظم

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    تقوى الله هي وصية الله جل شأنه إلى الأولين والآخرين من عباده: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] .

    فمن اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].

    نزلت هذه الآية كما ذكر علماء التفسير في رجل من المسلمين أسره المشركون في مكة, ففرج الله عز وجل أسره، وقدم المدينة وهو يسوق قطعاناً من الإبل والغنم. ففك الله الأسر, وساق إليه الرزق، وذلك حقيق وجدير بكل من اتقى الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].

    خير الكلام كلام الله، وخير الحديث حديث عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! وفي سلسلة التهيؤ لاستقبال هذا الشهر الكريم شهر رمضان، أردت أن أتحدث في هذه الخطبة عن التوبة وآثارها قبل قدوم هذا الشهر المبارك، لكنني وجدت العلماء الربانيين يذكرون في كلامهم عن التوبة أن التوبة مكونة من علم وحال؛ علم يقوم في القلب يسبق التوبة، وحال وصفة تقوم في البدن ترافق التوبة.

    لا يمكن أن تصدر هذه التوبة إلا إذا سبقها ذلك العلم، ولا يمكن أن يساق الإنسان إلى التوبة ويرغب فيها ويحرص عليها إلا إذا قام في قلبه ذلك العلم، العلم الذي يسبق التوبة ما هو؟ الباعث على التوبة ما هو؟

    يقولون: التوبة ركنها الأعظم الندم، والندم نار تشتعل في القلب, يسببها علم الإنسان بعاقبة ما فعل، علم الإنسان بعاقبة ما صنع، حين يدرك الإنسان ويستيقن أن للذنب الذي فعله آثاراً، حين يستيقن العبد أن للمعصية عواقب، وأن ربه بالمرصاد، حين يعلم الإنسان أن الذنوب وراءها من يطلب بها, ومن يحاسب عليها، وأن لها عواقب، حينها يستشعر في قلبه خوفاً، حينها يشتعل في قلبه الندم على هذه المعصية فيدفعه ذلك إلى التوبة منها.

    أما إذا لم يقم في القلب هذا العلم، إذا لم تحصل النفس على هذه الحقيقة فإنها ستبقى سادرة, ستبقى لاهية، ستبقى ذاهبة في غيها، ولهذا كان من الحكمة أن نذكر أنفسنا اليوم بشيء من عواقب الذنوب، بشيء من عواقب السيئات، بشيء من آثار المعصية على هذا الإنسان، لعل الله عز وجل يوقظ في قلوبنا الرغبة إلى التوبة قبل قدوم شهر رمضان.

    1.   

    آثار السيئات والذنوب

    المعاصي والسيئات آثارها مدمرة, فهي سم القلوب والأديان، كما أن السم يضر بالأجساد والأبدان فإن المعصية سم قاتل، إنما يدرك ذلك من في قلبه شيء من الحياة.

    الله عز وجل يذكرنا في كتابه العزيز في غير موضع وهو يقص علينا آثار الأمم السابقة، منذ عهد نوح عليه الصلاة والسلام، إلى قوم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول لنا بعد أن قص قصصهم في سورة العنكبوت: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، (فكلاً أخذنا بذنبه) أي: كل إنسان أصيب بمصيبة إنما أصيب بها بسبب ذنبه, وما يعفو عنه سبحانه وتعالى أكثر: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر:45].

    هناك عقوبات عاجلة في هذه الدنيا، وهناك عقوبات آجلة مؤخرة إلى لقاء الله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر:45].

    جدير بالمسلم أن يقرأ كتاب الله، ويعتبر من خلاله بآثار الذنب والمعصية على أصحابه، جدير به أن يقرأ أحاديث رسول الله، ويقرأ من خلالها آثار السيئات على أصحابها ليتعظ في نفسه ويعتبر، فالسعيد من وعظ بغيره، وسعيد هذا الذي يتحدث عن الناس ولا يتحدث عنه الناس، من تاب إلى الله عز وجل وأقلع وأصلح وقاه الله عز وجل أن يكون أحدوثة بين الخلق.

    نزع السكينة والسعادة والطمأنينة من القلب

    للذنوب آثار عظيمة عديدة يضيق الحال والمقام عن ذكرها، إنما نتذكر هنا شيئاً من آثارها، فمن آثارها الماحقة: نزع الطمأنينة، نزع السعادة، نزع السكينة من حياة هذا الإنسان، عندما يمرغ نفسه بمعصية الله، قال سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

    وكل واحد منا له من هذا الضنك بقدر ذنوبه وسيئاته، إذا عظمت عظم الضيق والهم، وإذا قلت أصيب من الضيق والهم والحزن بقدر ذنبه: (حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه )، إنما يشاك وإنما يهم وإنما يحزن بسبب ذنبه السابق، فله من الهم والحزن بقدر ذنوبه وسيئاته: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

    رأينا أنواعاً من الأثرياء من الناس عشرات منهم حصلوا كل شيء إلا السعادة، وجمعوا كل شيء إلا الطمأنينة، ووفروا كل شيء إلا الراحة، كما قال فيهم الشاعر:

    رزقوا وما رزقوا سماح يد فكأنما رزقوا وما رزقوا

    يراهم الإنسان كأنما رزقوا، لكن في بواطن أمورهم وفي حقائق أحوالهم وفي دواخل سرائرهم ما رزقوا، لم يرزقوا، لا يعيشون منعمين، لا يعيشون مطمئنين، لا يعرفون للسعادة ولا للسكينة طعماً ولا لذة، وما ذاك إلا بسبب الذنوب والسيئات, وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، فمن أراد سبيل السعادة فليصلح ما بينه وبين الله.

    كان الصالحون يأتي الواحد منهم في آخر نهاره بعد أن قضاه صائماً صابراً، يأتي ويبل كسرة الخبز اليابسة في ماء دجلة ليفطر عليها، ويقول: إننا نعيش لذة لو يعلم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، هذه هي حقيقة الحياة التي نبحث عنها، أن يعيش الإنسان سعيداً، أن يعيش الإنسان فرحاً، أن يعيش الإنسان مسروراً، وهذا والله لا سبيل إليه ولا طريق للوصول إليه إلا بطاعة الله سبحانه وتعالى، من يعمل صالحاً يجز من جنس عمله, مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] ، هذا وعد الله: الحياة الطيبة لمن آمن وعمل صالحاً.

    أما الذين خالفوا هذا الطريق، أما الذين تجاوزوا هذا السبيل فإنما جنوا على أنفسهم أنواع الهموم وألوان الحسرات وأنواع الندامات، وإن بسطت الدنيا في أيديهم, لكنها لا تغني عنهم شيئاً؛ كما قال الله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [التوبة:55]، هي بنفسها عذاب عليهم، هم بالليل وهم بالنهار، أرق دائم لا يفارق صاحبه, إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].

    هذه أول الثمار التي يجنيها العاصي لله: أنواع الهم وألوان الحسرات.

    البغض في قلوب الناس

    وهناك ثمرة أخرى وهي البغض والشنآن له في قلوب الناس.. في قلوب الخلق، فلا تجد أحداً من الصالحين ولا تجد أحداً من أولياء الله العارفين إلا ويجد له في قلبه نكارة، يضحك له في وجهه، لكنه يجد في نفسه له من البغض ما الله به عليم, وهذه ثمرة لعمله، كما في الحديث: ( إن الله عز وجل إذا أحب عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه, قال: فيحبه جبريل وينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبونه ويوضع له القبول في الأرض. وإن الله إذا أبغض عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل وينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضونه، وتوضع له البغضاء في الأرض )، توضع له البغضاء، فيجد أثر ذلك فيمن حوله، لكنه قد يستشعر هذا إذا كان في قلبه حياة وقد لا يستشعر.

    كان بعض الصالحين يقول: إذا عصيت الله عرفت ذلك في خلق دابتي وامرأتي. الدابة التي يركبها تتغير عليه، فتعامله غير ما تعامله كل يوم، والمرأة في البيت يتغير طبعها معه، لكنه قد يشعر وقد لا يشعر، قد يدري أن هذا من آثار ذنبه، وقد لا يدري:

    إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

    قال بعض الصالحين من التابعين والصحابة: لو أن عبداً أطاع الله تعالى من وراء سبعة جدر أخرج الله عز وجل طاعته إلى الناس، ولو أن عبداً عصى الله من وراء سبعة جدر أخرج الله عز وجل معصيته إلى الناس. والمعنى: أن يضع له في قلوب الخلق قبولاً بسبب الطاعة، وأن يضع له بغضاء بسبب المعصية.

    فساد القلب

    من آثار المعصية: أنها تفسد القلب، فإن هذا القلب هو روح هذا الإنسان، هو جوهر هذا الإنسان، هو القوة الدافعة نحو الخيرات، إذا صلح قلبه صلحت أموره كلها، صلحت دنياه وأخراه، وإذا فسد هذا القلب ارتبكت عليه أعماله، فلم يدر أين مصلحته.

    هذا القلب سر دوائه الصالحات، وسر فساده وبلائه السيئات، إذا أفسد الإنسان أعماله عاد ذلك بالفساد على قلبه، وهذا ما يخبرنا عنه الله في كتابه، فيقول: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، إنهم لا ينتفعون بالموعظة إذا وعظوا, لا ينتفعون بالذكرى إذا ذكروا؛ لأن القلوب قد غلفت, كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المطففين:14]، والران يعني: الغطاء، الذنب يليه الذنب يليه الذنب حتى يتكون على القلب غطاء فلا تصل إليه الموعظة، كما قال سبحانه وتعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13]، حتى لو جاءهم الكلم حرفوه وبدلوه عن مواضعه، أساءوا فهمه وأساءوا نقله، وما ذلك إلا بسبب عقوبة الله عز وجل لهم، بسبب الطبع على القلب، هذا القلب إذا فسد كيف يرجى بعد ذلك صلاح لهذا الإنسان، ولذلك قال العلماء الربانيون:

    رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها

    وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها

    إذا أردت أن تحيي قلبك وأن يجعل الله عز وجل لك فيه بصيرة تفرق فيه بين الضار والنافع، بين الحق والباطل، بين ما ينبغي أن تفعله وما ينبغي أن تجتنبه، فحاول أن تحافظ على هذا القلب نقياً، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا أذنب العبد ذنباً نكتت في قلبه نكتة، فإذا هو نزع وتاب واستغفر صقل قلبه ). الذنوب هي التي تفسد هذه القلوب.

    الحيلولة بين العبد والدعاء

    من آثار الذنوب: أن يحال بينك وبين قبول الدعاء، أن يحال بينك وبين رحمات الله في وقت الشدة والضيق، عندما تنزل بك المهمات، عندما تحيط بك الملمات فتلجأ إلى السماء لكنك غارق في ذنوبك، غارق في معاصيك، فيسد الله عز وجل عنك موارد التوفيق، ويغلق سبحانه وتعالى في وجهك أبواب الرزق، وما ذاك إلا بسبب الذنوب؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم : ( وذكر الرجل أشعث أغبر يطيل السفر )، انظر إلى هذه الصفات كلها صفات تستجلب الرحمة، كلها صفات تستدعي الشفقة، إنه رجل غريب طويل السفر فقير, ( يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام, فأنى يستجاب لذلك! )، كيف يستجاب لذلك.

    فيحرم الإنسان رحمات الله، وتغلق في وجهه موارد التوفيق بسبب الذنب والمعصية، فتتنكس الحياة، ويعيش ألواناً من التعسات وهو لا يدري من أين أتي؟

    دخول العاصي في لعنة الله

    من أعظم أسباب الذنوب والمعاصي: أنها تدخل صاحبها في لعنة الله والعياذ بالله، واللعنة: الطرد من رحمة الله، والله ورسوله قد لعنا ألواناً من المعاصي وأصحابها.

    ذكر في النصوص القرآنية أو النبوية أنواعاً من الذنوب التي لعن أصحابها، قال العلماء: وما لم يذكر في النصوص وكان مثلما ذكر يلحق به ويقاس عليه فإنه مثل شاكلته.

    ( لعن الله في الخمر عشرة: شاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها وآكل ثمنها ), كل من شارك في الخمر ملعون، فمن شارك في هذا الذنب أدخل نفسه في لعنة الله.

    ( ولعن رسول الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء)، (ولعن من غير منار الأرض)، يعني: من اعتدى على حقوق الناس وأموالهم وغير العلامات والحدود في الأرض، (ولعن من لعن والديه)، (ولعن الراشي والمرتشي)، (ولعن السارق)، ولعن أصنافاً من الذنوب كثيرة تجدها في الأحاديث.

    فشر ما يكسبه الإنسان بسبب الذنب أن يدخل تحت هذه اللعنة والعياذ بالله، فإذا شملته لعنة الله فماذا يرجو من الحياة بعد ذلك؟

    الوحشة في القلب

    أيها الإخوة! إن للذنوب آثاراً مدمرة أعظمها وأكبرها: الوحشة التي يجدها الإنسان بينه وبين الله، فإنه أيسر عليه أن يسحب بالحديد وأن يكبل بالسلاسل من أن يذهب إلى مجلس ذكر أو يدخل صلاة جماعة، إنها وحشة قامت بالقلب، إنها نفرة من الحق، نفرة من الدين، نفرة من كل ما يقربه إلى الخير، ويصاب الإنسان بهذه النفرة بقدر ذنوبه وسيئاته، بغض وشنآن وكراهية لكل ما يقربه إلى الله، وما ذاك إلا بسبب ذنوبه وسيئاته.

    ويلحق ذلك ذل كتبه الله عز وجل على كل من عصاه، ذليل خائف وإن تبوأ أعلى الرتب، ذليل وإن حكم الملايين من الناس، ذليل وإن مشى وحوله من حوله من الحرس.

    كما قال الحسن البصري : إنهم وإن طقطقت بهم الخيول, أو هملجت بهم البراذين، أبى الله إلا أن يكتب ذل المعصية في قلوبهم. ذل المعصية قائم في القلب، ولذلك إذا ذكر الموت طار النوم من عينيه، إذا ذكر الموت يوماً ما، أو ليلة ما أحاطت به أنواع الهموم وألوان الحسرات، وما ذاك إلا بسبب الذل والخوف الذي وضعه الله عز وجل في قلبه بسبب ذنبه وسيئته.

    من أراد الخلاص من كل هذه الآفات فالطريق إلى ذلك هو التوبة.

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.

    الحرمان من الرزق

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! ومن آثار الذنب والمعصية: الحرمان من الرزق، وهذه حقيقة وضحتها نصوص القرآن وبينتها نصوص السنة، قال عليه الصلاة والسلام: ( إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )، الرزق من أرزاق الدين أو الرزق من أرزاق الدنيا، وكم هي الأرزاق التي لا نعلمها، حرمناها بسبب ذنوبنا وسيئاتنا.

    الأرزاق والحرمان منها أثر من آثار الذنب والسيئة، لكن ينبغي للإنسان أن يدرك حقيقة مهمة، وهي: أن حرمان الرزق ليس بالضرورة معناه ألا يعطى الإنسان رزقاً، قد يعطى الإنسان الرزق، ولكن يحرم ما هو أهم من هذا الرزق والعطاء، وهو بركة هذا الرزق، أن يشعر مع هذا الرزق بما يترتب عليه من سكينة وطمأنينة وسعادة. الرزق يبارك للإنسان فيه بقدر عمله الصالح، ويحرم بركته بقدر ذنوبه وسيئاته.

    الحرمان من الرزق في كتب التاريخ نقرأ أصنافاً من الناس من عملوا صالحاً ومن عملوا سيئاً وكيف كانت عواقب أرزاقهم.

    هذا عمر بن عبد العزيز لما جاءه الموت وخلف ثمانية عشر ولداً لم يخلف لهم شيئاً، يعني: لم يسرق شيئاً من أموال الدولة، لم يسط على شيء من أموال المسلمين لينتزعه لأولاده، إنما تركهم على ما رزقهم الله, قالوا له: تموت ولم تخلف شيئاً لأولادك؟ قال: إن كانوا صالحين فالله ولي الصالحين، وإن كانوا فجاراً فلا حاجة لي أن أعينهم بمالي على الفجور.

    ورجل آخر من أبناء عمومته هو هشام بن عبد الملك رحمه الله كان قد خلف للواحد من أولاده مائة ألف دينار ذهبية، ولكن انظر بعد ذلك إلى التاريخ كيف يقص عليك العواقب؟

    جاءت دولة بني العباس فيقول المؤرخون: رأينا أولاد عمر بن عبد العزيز وهم يجهزون الخيل في سبيل الله، يعني: ينفقون الخيول ويجهزون الزاد للمجاهدين في سبيل الله، فقد أغناهم الله عز وجل من فضله، وأعطاهم سبحانه وتعالى من خزائن ملكه.

    ورأينا بعض أولاد هشام بن عبد الملك وهو واقف على دار مسجد دار السلام في بغداد، يقول: يا عباد الله! من مال الله، يعني: يسألون الناس ويتكففونهم. لقد ذهبت تلك الأموال، وذهبت تلك الخيرات.

    وهذا أثر من آثار معصية الله تعالى.

    فكل من عاند الله، وكل من حاد الله؛ عليه أن يرتقب وأن ينتظر آثار معصيته في رزقه بألوان المؤاخذات، وأنواع العقوبات، لكنه قد يحس وقد لا يحس.

    سوء الخاتمة

    من آثار المعصية والذنوب: أن الإنسان إذا استمرأها واستسهلها واستصغرها واعتادت عليها نفسه يخشى عليه أن يموت وهو مرتكب لمعصية من هذه الذنوب والسيئات، وهذه حال الإنسان حين يستصغر الذنب ويرتكب مع الذنب ذنباً آخر، حينما يستسهل المعصية تقوده نفسه إلى معصية أخرى، بينما إذا خاف من ذنبه, إذا فرق من معصيته، إذا خشي ربه فإن ذلك يدعوه إلى الإقلاع والندم والمسارعة إلى الإصلاح.

    وقد حذرنا عليه الصلاة والسلام، كما حذرنا الله قبل ذلك، حذرنا من استصغار الذنوب، ليس هناك ذنب صغير في جنب عظمة الله، لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، انظر إلى من قال لك: افعل ولم تفعل، انظر إلى من قال لك: لا تفعل ثم فعلت، تذكر عظمة هذا الآمر، عظمة هذا الناهي، وتذكر بعد ذلك حقارة نفسك وحقارة قدرك وأنت تخالف هذه الأوامر وتلك النواهي.

    لا تستصغر الذنب، فإذا استصغرته دعاك الذنب إلى فعل أخيه، ودعتك السيئة إلى ارتكاب أختها، ويخشى على الإنسان أن يأتيه الموت وهو على تلك الحال، وإذا ختم للإنسان بتلك الخاتمة فإنه يؤمل له بعد ذلك أن يجازى من جنس عمله، فـ ( إنما الأعمال بالخواتيم ).

    وكم قرأنا في كتب التاريخ، كم قرأنا في قصص الناس، من الناس من تعلق بذنب واحد لكنه استمرأه وداوم عليه، ثم ختم له به.

    ذكر أن رجلاً من الناس تعلق قلبه بامرأة، وفي إحدى المرات كانت تسأل عن الطريق إلى الحمام، أي: مكان الاغتسال للتداوي، فدلها على بيته حيلة عليها, لكنها احتالت وخرجت من البيت، طلبت منه أن يذهب إلى السوق ليأتي بالطعام فخرجت أثناء خروجه، هذا الرجل ظل بعد ذلك يطوف في شوارع المدينة يقول:

    يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب

    يقول ابن القيم : لما جاءته سكرات الموت، قيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال:

    يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب

    واقرأ كتاب الجواب الشافي لـابن القيم ستجد أنواعاً من الناس ختم لهم بهذه السيئات وبهذه الذنوب، وما ذاك إلا لأنهم داوموا عليها في حياتهم، وهذا من أعظم محق السيئة لعمر هذا الإنسان، أن يختزل عمره الطويل وأن تختزل كل هذه السنوات، وأن تختزل كل هذه الأيام والليالي في تلك اللحظة التي يموت عليها، ( إنما الأعمال بالخواتيم ).

    ومن لقي الله عز وجل بوجه جازاه سبحانه وتعالى بمقتضى ذلك الوجه، كم من إنسان كما أخبر عليه الصلاة والسلام يعمل السنوات الطويلة بعمل أهل الجنة ( حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها )، فنسأل الله أن يرزقنا خاتمة حسنة، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها.

    إذا تذكرنا هذه الحقائق أيها الإخوة! تشوفت أنفسنا لتغيير الحال، وتطلعت أنفسنا لتبديل المقام، وهنا يأتينا الحديث عن التوبة وآثارها على هذا الإنسان، وكيف تصنع التوبة شخصاً آخر، هذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله لاحقاً.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى أن ترحمنا رحمة من عندك نسعد بها في الدارين، وأنت خير الراحمين.

    يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وامكر لهم ولا تمكر عليهم، اللهم عليك بأعداء الإسلام فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756215566