إسلام ويب

قراءة موضوعية في كتاب الاعتصام [6]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا بد لكل قول من دليل وحجة، والدليل عند أهل السنة الكتاب والسنة والإجماع والقياس.. إلخ. ووقوع أهل البدع في المخالفات عند الاستدلال يكون لسببين: الجهل بلسان العرب، والجهل بقواعد ومقاصد الشريعة، فالمستدل إما عالم راسخ، وإما جاهل زائغ متبع للمتشابهات، وقد ذم الله عز وجل الزائغين في سورة آل عمران ووصفهم بعدم الرسوخ. والسبب الرئيسي في رد المبتدع للمحكمات والأحاديث الصحيحات هو عدم موافقتها لهواه. وإن مما يعرف به الزائغ أيضاً ترك المقيد والخاص والأخذ بالعام والمطلق، وتحريف الأدلة، وتقديم المحتمل على البين الواضح.

    1.   

    مناهج الاستدلال

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فقد انتهينا إلى الباب الرابع من الأبواب العشرة التي ذكرها الشاطبي في كتابه، وسبق معنا التعليق على الأبواب الأولى من كتابه، وهذا الباب الرابع تضمن جملة من المسائل:

    المسألة الأولى: تكلم فيها الشاطبي عن منهج الاستدلال، وكأن هذا الباب بعامة مسائله هو كلام عن منهج الاستدلال وتطبيقاته عند المخالفين للسنة، فالأقوال والأحكام هي نتائج لمقدمات سابقة، والمقدمات هي ما نقصده بالأدلة وبطريقة الاستدلال ونحو ذلك، فإذا تحصل قول عند أهل السنة والجماعة فلا بد أن هذا القول إنما جاء عن استدلال، وإذا تحصل قول عند أي طائفة من طوائف المسلمين أو عند أي معين من الناس فلا بد أن هذا القول جاء عن وجه من الاستدلال، أو تقليد لمن استدل، فالأقوال من حيث هي لا بد لها من استدلال سابق.

    وفرق بين الدليل من حيث هو وبين الاستدلال وهي الطريقة والسلوك الذي يستعمله المعين، قد يكون الدليل من حيث هو مما يصح اعتباره، ولكن الاستدلال لا يكون معتبراً، وقد لا يكون الدليل من حيث هو معتبراً، بل يكون الدليل مخترعاً محدثاً لا يصح أن يكون دليلاً في هذا الباب، وربما صح أن يكون دليلاً في مسائل دون مسائل وهلم جرا.

    الأصل المعتمد عند أهل السنة في الاستدلال

    والأصل الذي بنى عليه أهل السنة والجماعة ما يتعلق بمسائل أصول الدين وأصول السنن هو أنهم يبنون قولهم على الكتاب والسنة والإجماع، فهذه الأصول الثلاثة هي الأصول المحكمة في الاستدلال؛ ولهذا إذا تكلموا في الأصول من العلم فإنهم يعتبرونه بالكتاب والسنة والإجماع، وأما إذا تكلموا عما يتعلق بفروع الشريعة فإنهم يأخذون بهذه الأصول الثلاثة، ولكنهم يوسعون في مدلولها إلى درجة أوسع، ويستدلون بطريقة الإلحاق التي تسمى "القياس"، والقياس حقيقته إذا صح استدلال إما بالكتاب وإما بالسنة، فهو جاء من طرد الدليل، وليس معنى أنهم يوجدون دليلاً مستقلاً عن الكتاب والسنة، فإن الذي درج عليه أئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين أن الاستدلال في الشريعة مقصور على الكتاب والسنة، هذه كلمة ممكنة، وهو أن الاستدلال في سائر مسائل الدين هو بالكتاب والسنة، فإن قال قائل: فالإجماع؟ قيل: الإجماع دليل ولكنه يكون مأخوذاً من دليل الكتاب والسنة، بمعنى لا يتصور في العلم أن يوجد الإجماع إلا وعليه دليل، وكذلك إذا تكلمت عما دونه مما سمي بالأدلة المختلف فيها في مسائل الفروع كالقياس ونحوه، فإن هذه عند من يستعملها تكون من تحقيق وطرد دلالة الكتاب أو السنة، وأن القياس هو الإلحاق، وكما يقولون في قياس التمثيل: إنه إلحاق الفرع بالأصل لعلة جامعة بينهما، ثم علم أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات، فإن المسكوت عنه يلحق فقهه بالمنطوق فيه، وهلم جرا.

    أهمية معرفة منهج الاستدلال

    إذاً: البحث في منهج الاستدلال من أهم موارد العلم، وقبل أن ندخل في كلام الشاطبي رحمه الله أنبه إلى أن هذا باب شريف الفقه، دقيق المسالك؛ لأنك إذا اعتبرت الأمور من جهة أخرى وجدت أن جميع الطوائف في الجملة -أعني: الطوائف التي تدين بدين الإسلام- تعتمد على الكتاب والسنة كأصل عام، وإن كانوا يقيدون بعد ذلك، فدلالة الكتاب عندهم لها منهج، وربما لا يقبلون من السنة إلا نوعاً من الأحاديث دون نوع، إلى آخره، لكن أقصد أنه لا توجد طائفة كذّبت القرآن؛ لأن من كذّب القرآن لا يعد من أهل القبلة، ولا توجد طائفة كذبت السنة أجمع، فإن من كذب السنة أجمع لا يعد من المسلمين.

    أقسام الخارجين عن السنة

    فإذاً: الإشكال هو في منهج الاستدلال، وكيف يقال: إن هذا من دلالة الكتاب والسنة أو ليس منها؟ فهذا الباب يقول الشاطبي رحمه الله في مقدمه: [كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها لا بد له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصومات مسائلهم].

    قوله: (كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها) هل الشاطبي أراد بذلك الكلام عن قوم من أهل البدع الذين ينتسبون إلى السنة ولكنهم مخالفون لها؟ فهناك تنبيه علمي وهو أن الذين خرجوا عن أصول أهل السنة والجماعة التي كان عليها الصحابة وأئمة السلف، هم في الجملة على قسمين: منهم من لا ينتحل السنة والجماعة، أي: لا ينتسب إلى السنة والجماعة، وهؤلاء كما يسميهم الإمام ابن تيمية رحمه الله بأنهم أهل البدع المغلظة، الذين شطوا واشتدوا في المخالفة لمنهج الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهؤلاء لا ينتسبون أصلاً للسنة والجماعة، وإنما ينتسبون لطائفة مختصة بأصول معروفة أو باسم معروف، والقسم الثاني وهم القوم الذين ينتسبون للسنة والجماعة، ولكنهم مخالفون لأصول من أصول الأئمة التي مضى فيها الإجماع عند الصحابة والقرون الفاضلة التي فضلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه عمران بن الحصين ، وهو حديث مخرج في الصحيحين.

    إذاً: أهل البدع ينقسمون في الجملة إلى قسمين: منهم من لا ينتسب للسنة والجماعة، ومنهم من ينتسب للسنة والجماعة ويذم البدع المغلظة وأهلها، ولكنه يقع في جملة من هذه المخالفات أو ما هو من الأصول أيضاً، ولا شك أن الدرجة الثانية أكثر قرباً إلى السنة والجماعة من الدرجة الأولى؛ ولهذا ليس كل ما قيل في الدرجة الأولى وأصحابها يصح أن يقال في الدرجة الثانية، بل حتى الدرجة الأولى أهلها على مراتب، وكذلك الدرجة الثانية أصحابها على مراتب، وإن كان طالب العلم ليس مكلفاً - خاصة في ابتداء نظره - أن يتتبع هذه المسالك بالتفصيل، وإنما المقصود أن يعرف أصول الأحكام الشرعية في هذا الباب القائمة على العلم والعدل واتباع المنهج الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

    لكن ما مقصود الشاطبي رحمه الله بقوله: [ كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها ] هل أراد رحمه الله أن يتكلم عن الدرجة الثانية أم أنه أراد أن يتكلم عن الدرجتين معاً؟ هو في معرض كلامه هنا تكلم عن الدرجتين كحقيقة علمية، فما معنى قوله: (من يدعي ذلك)؟ أحياناً الناظر أو الباحث يستصحب في ذهنه جملاً من الأحوال، فربما جاءت حروفه على هذا الاستصحاب، فإذا دخل في التقرير العلمي تجرد به التقرير العلمي إلى درجة من ذكر الحقائق العلمية المجردة، دون الالتزام بما أشارت إليه الحروف الأولى، وهكذا ما يظهر من كلام الشاطبي ؛ لأنه بعد ذلك سيذكر تأويلات باطنية، مع أن الباطنية -كما تعرفون- ليسوا من الدرجة الثانية، فهذا مما ينبه إليه؛ لأن الشاطبي ما استحكم في الإيرادات هنا على المصطلحات المعروفة، إنما قدم هذه المقدمة باعتبار استصحاب حال في ذهنه، وهذا أمر يعرض في تفكير الإنسان -وهو شيء طبيعي- أنه يستصحب أحوالاً ثم تجره الحروف إلى هذا الاستصحاب، فإذا دخل في التقارير العلمية تجرد به التقرير العلمي على الحرف الأول.

    وعلى كل حال نقول: وهؤلاء المستدلين لم يبلغوا مبلغ الناظرين فيها بإطلاقها.

    سبب الخطأ في منهجية أهل البدع في الاستدلال

    ثم نبه الشاطبي إلى أن ثمة غلطاً من ثلاثة أوجه في منهج هؤلاء الذين وصفهم الشاطبي بأنهم يدعون الانتساب للسنة وليسوا من أهلها، قال: إنهم يغلطون من ثلاثة وجوه، فبين سبب الغلط، وهذا بيان للسبب قبل المسبب، يقول:

    السبب الأول: [ إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها ] أي: مقاصد اللغة.

    السبب الثاني قال: [ وإما لعدم الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية ]

    السبب الثالث: قال: [ وإما للأمرين معاً ].

    يقول: إن الغلط الذي يقع فيه من ينتسب للسنة وليس من أهلها عند التحقيق يكون سبب غلطه إما عدم الرسوخ في كلام العرب، أو عدم الرسوخ في فقه القواعد الشرعية والمقاصد الشرعية، وإما للأمرين معاً.

    وقد يقول قائل: لماذا لم يذكر عدم الأخذ بالنص والدليل؟ لأنه الآن يتكلم عن قوم عندهم استجابة إلى قصد الأخذ بالدليل، ولكن إذا استدلوا دخل عليهم السقط والغلط، فهم ليسوا مخطئين من جهة قصدهم للدليل، هم يقولون: إنهم يقصدون الدليل من كتاب أو سنة، ولكن منهج الاستدلال عندهم يوجب نتائج فيها غلط، وهذا ليس من ذات الدليل الذي استدلوا به، وإنما من طريقة الاستدلال، وسبب ذلك يقول: إما لأنهم ليسوا فقهاء في كلام العرب، وليسوا عارفين بحقيقة السياق العربي والمقاصد في لغة العرب، وإما أنهم ليسوا فقهاء في قواعد ومقاصد الشريعة، وإما للأمرين معاً.

    الأوجه التي ينظر إليها فيما يتعلق باللسان العربي

    وأرى أن هذه الجملة من العلم التي ذكرها الشاطبي حقيقتها من أشرف التقريرات في هذا الكتاب، وهي حقيقة قائمة ومؤثرة في كثير من المتأخرين الذين كتبوا في مسائل من النظر، أو مسائل من الأصول، أو حتى مسائل من الفقه، فإن هذا السبب العلمي هو سبب مؤثر كثير الاطراد، ولا سيما في الطوائف الكلامية المنتسبة للسنة والجماعة، وكأن من سبب هذا أن ما يتعلق بلغة العرب أصلها يقوم على السماع، وعلى أشبه ما يكون بالذوق من اللسان، فلما دخلت العجم وفتحت البلاد وتداخلت الألسنة، بقي ما يتعلق بلسان العرب ينظر فيه من وجهين:

    الوجه الأول: أن الإدراك البسيط للمعنى العربي في أكثر السياقات من كلام الله ورسوله لا يزال قائماً.

    ويبقى الإدراك للمعاني التي تتضمنها اللغة من حيث السياق المعين، وكيف يقيد هذا السياق المطلق بما يقيده، وهذا العام بالمخصص، والمجمل متى يفصل بهذا المفصل، وأن هذا مفصل له؟ أم أن الأصل بقاؤه على الإجمال؟ وما أشبه ذلك.

    إذاً: لغة العرب من حيث ما يتعلق بكلماتها وسياقها يمكن أن نقول: إنها على وجهين:

    الوجه الأول: لم يزل ولله الحمد باقياً، والله جل وعلا لما جعل كتابه، وهو الكتاب الخاتم، وجعل نبيه الخاتم نزل عليه الوحي بلسان العرب، فإن هذه اللغة لا بد أن تبقى محفوظة حفظاً مجملاً؛ لأن بعض أهل العلم الذين كتبوا في هذه المسائل يقررون الآن أن اللغة فسدت، والحقيقة أن وصف اللغة بأنها فسدت فيه تكلف، والدليل على ذلك أن العرب ومن ينطقون بكلمات العرب ممن ليست أصولهم عربية، مع أن العامية دخلت كثيراً على لغتهم، وصار اللحن فاشياً فيهم، وهذا لا جدل فيه، لكن إذا تكلمنا عن الإدراك العام فنجد أن من يقرأ القرآن الآن من عوام المسلمين الذين هم عرب من حيث الأصل، لم يتكلفوا اللغة بالتعلم أو ما إلى ذلك، وتجدهم يفهمون المعنى الإجمالي في سياق القرآن، فعندما يقول الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133] المعنى العام مفهوم، عندما يقول الله جل وعلا: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2] المعنى العام مفهوم أيضاً والكتاب بمعنى هذا القرآن لا شك فيه، وعندما يقول الله جل وعلا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] المعنى العام مدرك، وعندما يقول النبي عليه الصلاة والسلام مثلاً: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) المعنى هنا مفهوم، ما وصلت الأمور إلى حد أن يقال: فسدت اللغة، بحيث أصبح لا يفسر للعوام كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام إلا بمنظّر من أهل اللغة وبما إلى ذلك، فأنا أرى أن هذه الدرجة ينبغي ألا نشكك فيها، وألا نبالغ في فرض الخطأ فيها، بل إن من أصل دين المسلمين، ومن صميم قيام دينهم وحفظ كتابهم أن اللغة في الجملة محفوظة، ولا تزال باقية على ألسنة العامة، والقصد بالحفظ أن اللغة كلها محفوظة عند التحقيق، لكن المحفوظ هنا بمعنى أنه شائع في نطق الناطقين به، وخاصة في الأقاليم والبلاد التي أهلها عرب من حيث الأصل، فهذا ما يتعلق بهذا الوجه.

    تداخل اللغات واختلال التركيب وبيان تأثيره على فهم الدليل

    الوجه الثاني من اللغة: هو ما يتعلق بفقه اللغة، وقانون السياقات والتراكيب في اللغة وما إلى ذلك، فلا شك أن هذا هو الذي تأثر كثيراً بالأمور التي دخلت بعد فتح البلاد، ودخول العجم، وتداخل الألسنة، تأثرت هذه الأمور إلى درجة كبيرة جداً، ومن هذا السبب حصل كثير من الاختلاف في فهم بعض دلالات النصوص التفصيلية، سواء في مسائل الإيمان والعقائد أو في مسائل الفروع، حصل كثير من الاختلاف بين الطوائف أو بين الفقهاء، ومن سبب هذا الاختلاف اختلاف الفقه والإدراك للسان العرب؛ ولهذا فإن مما يوصى به طالب العلم أن يكثر من القراءة في كلام العرب، وأقول: إن أخص ما يفصح باللسان وينطق به هو الإكثار من قراءة القرآن؛ لأن هذا القرآن نزل كما وصفه الله جل وعلا: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195] ، فالإكثار من قراءة القرآن، والتأمل في سياقاته وأوجه ذكره هذا فيه هذه المعاني، فمثلاً: الله جل وعلا يقول: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] في الأول يقول: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا [البقرة:271] ولم يقل: فنعما هو؛ لأن الكمال هنا ألا تكون الصدقة مبداة من حيث الأصل، قد تكون مصلحة شرعية تقتضي الإظهار للصدقة هذه مسألة أخرى، لكن من حيث أصل التقرير فإن الالتفاف في السياق العربي يقول: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة:271] قال: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ [البقرة:271] أي: الفعل الذي يكون من الفاعلين، فالأول تزكية للماهية القائمة وهي الصدقة، وإن كان فعلهم ليس مذموماً، لكنه لم يقل: فنعما هو، وإنما قال: فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة:271] ، قال: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ [البقرة:271] أي: فعلكم، خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] ، فمثل هذه الأنماط من اللغة وفقهها هو الذي حصل فيه اختلاط، وحصل فيه تأخر، وحصل فيه قلة فقه، هذا أمر لا إشكال فيه.

    فإذاً: ما يتعلق بفساد اللغة لا بد أن طالب العلم يكون مدركاً له، ولا ينفي ذلك مطلقاً، وكأن هذا الأمر لم يؤثر في الحقائق العلمية وحتى الفقهية، ولكن لا يبالغ في فرضه وإثباته ودعواه إلى درجة تقول بفساد اللغة عند الخاصة والعامة في أكثر سياقاتها أو في جميع سياقاتها.

    كيفية الوصول إلى فهم اللغة العربية

    فإذاً: لا شك أن الرسوخ في فقه كلام العرب يعد من الرسوخ في العلم؛ ولهذا من كان فقيهاً في الشريعة وقواعدها لا بد له أن يقرأ لسان العرب قراءة مفصلة، فينظر في كتب اللغة وفي كتب فقه اللغة، كما أسلفت ينظر في السياقات العربية الصافية من التكلف، وخاصة ما يتعلق بالكتاب الذي هو كلام الله والذي نزل بلسان عربي، وكلمات الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه نطق بلغة العرب، بل بجوامع اللغة التي لا ينطق بها آحاد العرب من الذين كانوا ينطقون بهذا اللسان؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم، فهذه كأساليب هي أجود الأساليب العربية بلا جدل، وبعد ذلك ينظر في شعر العرب وفي كلامهم، ويقرأ لمن عني من الأئمة بتطبيق اللغة على نص الشريعة، وأخص من تكلم في هذا الإمام الشافعي رحمه الله؛ ولهذا أنا أوصي طلبة العلم أن يعنوا بقراءة كتاب "الأم" و "الرسالة"، للشافعي رحمه الله، خاصة كتاب "الأم" ينبغي لطالب العلم أن يكثر من قراءته، ليس ليأخذ فقط النتائج الفقهية التي وصل إليها الشافعي ، فهذه إشكالية في القراءة العلمية، بعضهم يقرأ مثلاً عشر صفحات، ويقول: نتيجة هذه الصفحات العشر أن الشافعي اختار هذا القول في مسألة كذا، كالقول مثلاً بأن هذا الطلاق لا يقع، أو أن هذا الطلاق يقع، أو يجوز كذا، أو لا يجوز كذا، هذه النتيجة المختصرة، ليست هي المقصودة وحدها، أو هي المقصود الأكبر في قراءة كتاب "الأم"، أرى أن كتاب "الأم" يُقرأ لا لتعرف منه النتائج الفقهية عند الشافعي ؛ لأنه ما أتى بأكثر النتائج الفقهية في مذهب الشافعي ، وإذا أردت النتائج الفقهية عند الشافعي فانظر في كتب الشافعية التي درست فقه الشافعي دراسة شمولية، وتتبعت النقل عنه وما إلى ذلك، لكن أرى أن الأصل في قراءة كتاب (الأم) أنه يقرأ لمعرفة منهج الاستدلال، ومنهج الجواب عن الدليل الذي ليس كذلك، ومن أخص معاقد هذا المعنى في منهج الاستدلال أن الشافعي عني بتطبيق فقه اللغة على النصوص من حيث طريقة الاستدلال بهذه النصوص من الكتاب أو السنة، بحسب البيان والسياق العربي، فكتاب (الأم) للشافعي يعتبر كتاب منهج تطبيقي؛ ولهذا يقال: إن كثيراً من المستشرقين الذين كتبوا فيما يتعلق بهذا العلم كانوا يقرءون هذا الكتاب، بل يوجد بعض غير المسلمين من العرب الذين لهم اهتمام بالعلم والثقافة كبعض النصارى العرب مثلاً، لهم عناية بقراءة كتاب (الأم) للشافعي ؛ للمعنى العربي الذي فيه؛ لأنه يعطي فقهاً دقيقاً في طريقة التطبيق؛ ولأننا إذا تكلمنا عن اللغة كنظرية فكتب اللغة كما هو معروف كثيرة، لكن إذا احتجنا إلى مثال متميز في تطبيق اللغة مع النص الشرعي فتعتبر كتب الشافعي هي أجود الكتب في هذا الباب.

    الحث على قراءة كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام

    ومن التطبيقات العقدية المتميزة وإن كان تطبيقاً مختصراً كتاب (الإيمان) لـأبي عبيد القاسم بن سلام ، وهو كتاب مختصر ليس بالمطول، ولكن فيه جمال من حيث تطبيق اللغة على النصوص، ومعلوم أن أبا عبيد القاسم بن سلام يعد من كبار الفقهاء وأهل الحديث، وهو إمام متمكن في اللغة؛ ولهذا أرى أنه ينبغي لطالب العلم أن يقرأ كتابه لا ليعرف جملة النتائج ماذا يقول أهل السنة، وماذا يقول المرجئة الغلاة وغير الغلاة؟ أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: قول واعتقاد ولا عمل، والغلاة يقولون: تصديق أو علم محض. هذه نتائج سهلة التلخيص، لكن نريد أن نقرأ هذا الكتاب لمعرفة المنطق اللغوي الذي يطبقه أبو عبيد في كتابه هذا؛ كيف يستدل بالآيات على زيادة الإيمان ونقصانه، وكيف يستدل على أن الفسق هنا يكون مطلقاً، والفسق هنا لا يكون مطلقاً، وكيف يستدل على أن الوصف العارض لا يستلزم الوصف المطلق، وهلم جراً، فله تطبيقات في فقه اللغة على هذه النصوص، وأرى أن رسالته هذه من أجود ما يوصل إلى ذلك.

    أهمية اختيار الكتب التي تبني الملكة العلمية لدى طالب العلم

    والكتب العلمية عموماً منها كتب يقرؤها طالب العلم لمعرفة النتائج ليس إلا دون أن يكون معنياً بمسألة الأسلوب عند المصنف، مثل المختصرات، فإن كثيراً من المختصرات في الفقه أو في المعاني العلمية الأخرى تُقرأ أو تُحفظ لمعرفة جمل النتائج العلمية أكثر من كون هذا المختصر يتمتع بجمال في فقه اللغة، أو بجمال في تطبيقات الاستدلال، وربما يكون ليس فيه أدلة أصلاً، وبعض الكتب تقرأ لأنها كتب جامعة لكنها لا تعنى بالتحقيق، لكن إذا أردت جمعاً في هذه المسألة فتقصد إلى مثل هذه الكتب التي غلب عليها مادة الجمع للعلم، وهذا في كل العلوم أو ما تسمى بالفنون كتب موجودة وليست محققة، ولكن غلب عليها مادة الجمع، فهي حسنة من هذا الوجه.

    وثمة كتب أخرى تقرأ لجملة من المعاني، ومن أخص المعاني التي يقرأ فيها أنها كتب تبني الملكة العلمية لطالب العلم، فإن ملكة اللغة كما أشرنا في كتاب الشافعي ، وكما يوجد في كلام الشافعي أو في كلام غيره من كبار الفقهاء ما يبني ملكة العقل والتفكير والقياس الذي يمكن ويصح، والذي لا يمكن ولا يصح، مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فإنها تجعل ما يتعلق بالقياس والعقل ومراتب التفكير أمام تطبيق متميز من عالم محقق، لا يتجافى عن دلالة العقل والقياس مطلقاً ويتكلف في إبطالها وهجرها، ولكنه أيضاً لا ينجر مع دلالة العقل والقياس إلى درجة من التأويل للنصوص وما إلى ذلك، بل تجد أن منهجه رحمه الله يكون وسطاً، مثلاً من يقرأ في (درء تعارض العقل والنقل) فهو يقرأ الكتاب من أجل أن يحصل على نتائج علمية مجردة فقط، أهم ما في قراءة الكتاب أن يُقرأ مع معرفة النتائج، لكن لا بد أن يُقرأ لمعرفة منهج التطبيق، يعني: العلاقة بين النقل والعقل، مثلما يُقرأ كتاب الشافعي ؛ لفهم العلاقة بين اللغة وبين الشريعة، فتقرأ (درء تعارض العقل والنقل) لتعرف العلاقة بين العقل والشريعة، ومثل هذه القراءات إذا كان القارئ أعطاه الله ذكاءً ابتداء فهي التي تبني الملكة العلمية عند طالب العلم، وهو فقه العلاقات بين العلوم، وكما أسلفت أن من أفضل التطبيقات للعلاقة بين العقل والشريعة كتاب (درء تعارض العقل والنقل) لشيخ الإسلام ابن تيمية ، والعلاقة بين اللغة والشريعة كتاب (الأم) للإمام الشافعي رحمه الله، وهلم جرا.

    أنا أنبه إلى هذا لأني أرى أنه يغلب على طلبة العلم أنهم يهتمون بمعرفة النتائج دون أن يبنوا الملكة العلمية؛ ولهذا نجد أن بعض العلماء حتى من علمائنا المعاصرين الذين منهم من ذهب وتوفي، إذا نظرت إلى مكتبته التي في بيته أحياناً لا تجد أنها تلك المكتبة الممتلئة بآلاف الكتب، بل تجد أن تركيزه على كثير من الكتب التي عنيت ببناء الملكة العلمية؛ ولهذا إذا جرى به الزمن على مثل هذا المنهج الأصيل والقوي تجد أنه يصبح في درجة من الفقه في المسائل إذا استوى عمره، وتجد أن فقهه هذا ليس رجوعاً إلى نتيجة نص عليها فلان أو فلان من أهل العلم كنتيجة معينة، وإنما هي فقه استوعبه، ويحكى أن ابن قتيبة صاحب اللغة سئل عما كتبه من هذا الجمال اللغوي، هل أخذه من السابقين أم أنه شيء اخترعه؟ فقال: هو كلام السابقين -يعني: من أهل اللغة- غاض ثم فاض. يعني: دخل في نفسه واستوعبه في عقله وفي مكونات تفكيره، أي: كأنه دخل ذهنه وتفكيره، قال: ثم فاض. أي ظهر بتنظير ابن قتيبة وسياقه، قال: فليس هو إياه وليس هو غير الكلام الذي كان عليه من سبق من أهل اللغة، فكذلك طالب العلم أهم ما يكون له اليوم العناية ببناء الملكة العلمية.

    الحث على العناية بمقاصد وقواعد الشريعة

    قال: [ لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب ]، وهذا لاشك أنه سبب وجيه. قال: [ وإما لعدم الرسوخ في معرفة المقاصد الشرعية وقواعد الشريعة ] وهذا أيضاً من العلم الذي يفوت كثيراً، ليس فقط من خالف السنة من أهل البدع، بل ومن أصحاب العلم والعناية بالسنة، وهو أن فقههم وعنايتهم بمعرفة قواعد ومقاصد الشريعة فيه كثير من النقص، ولعل من سبب ذلك أننا إذا سألنا الآن عن كتب القواعد والمقاصد نجد أنها تدور ربما على عدد ليس بالكثير من الكتب التي كتبها بعض الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة والتي نظَموا بها القواعد الفقهية المقولة عندهم، ولا شك أن هذه الكتب لها قدرها ووقارها، لكنها ليست هي التي تعبر وحدها عن الفقه لهذا الأصل العظيم، بل فقه هذا الأصل لا يكون إلا بتتبع كلام الله سبحانه وكلام رسوله، والعناية بالمقارنة بين أوجه العلم في القرآن، وأوجه العلم في الحديث، فهذه هي التي تبني الفقه -أعني: فقه المقاصد- القراءة في كتب العلماء المحققين إلى غير ذلك، فهذا سبب لا شك أنه وجيه.

    قال: [ وإما للأمرين معاً ] أي: أن هذا يؤثر وهذا يؤثر.

    إذاً هو ذكر من حيث السبب إما نقص في فقه كلام العرب، أو نقص في فقه مقاصد الشريعة، أو للأمرين معاً.

    1.   

    المحكم والمتشابه في القرآن

    ثم بعد ذلك انتقل كلامه إلى آية من كتاب الله في صدر سورة آل عمران، وهي قول الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] إلى آخر السياق، هنا وصف للكتاب بأن منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، وترى أن في كتاب الله آيات أخرى وصفت القرآن بأن جميعه محكم، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1] ووصف القرآن بأنه متشابه.

    معنى الإحكام العام والتشابه

    فالإحكام العام معناه كما قال أهل العلم وهو معنى مدرك بالفطرة الإسلامية: أنه لا اختلاف فيه، ولا تضاد فيه، بل يصدق بعضه بعضاً، وكذلك يصفه بأنه متشابه، أي: أن أحكامه متوافقة يشبه بعضها بعضاً، ويقارب بعضها بعضاً، فلست تجد أن هذا الكتاب تكون أحكامه متباينة، بل هو متقارب في الحكم، متشابه الدلالة، متشابه السياق؛ ولهذا قلنا: إن الشريعة لا تفرق بين المتماثلاث، بل لك أن تقول: إن هذا الإحكام العام يتضمن التشابه العام، والتشابه العام يتضمن الإحكام العام، فهما معنيان متفقان، وإن كان هذا السياق أخص بدلالة. فهذا لا إشكال فيه.

    المحكم والمتشابه الوارد في سورة آل عمران

    بقينا في هذه الآية من سورة آل عمران، ولا سيما أنه تبعها حكم، وهو قول الله جل وعلا: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] فهذا سياق مؤثر حيث أعطت الآية حكماً، ومن المعلوم أن المفسرين وأهل النظر تكلموا كثيراً في هذه الآية، وتكلموا في المحكم ما هو، والمتشابه ما هو، وأنه عرضت أقوال يعرف أنها باطلة، كوصف نصوص الصفات بأنها من المتشابه الذي يُترك ولا ينظر فيه، وما إلى ذلك.

    فهذه الآية على كل تقدير وهذا السياق من سورة آل عمران حصل كثير من النقص في فقهه، وكان ينبغي أن أول سؤال يفرض ويجاب عنه جواباً علمياً صحيحاً، وأرى أن هذا السؤال قل من يفرضه ويجيب عليه الجواب؛ هل هذا الكتاب منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، وهل يمكن أن يكون أحد هذين الوصفين من حيث هو الوصف مذموماً؟ وهل الوصف في القرآن (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)؟ إذاً: ثمة آيات محكمات، قال: (وَأُخَرُ) أي: وآيات أخرى (مُتَشَابِهَاتٌ) هل يمكن أن يقول قائل: إن أحد هذين الوصفين من حيث هو يعد من أوصاف الذم؟

    الجواب: لا، هذا أمر بدهي، ولا يجوز الجدل فيه، إذاً: وصفه بأن منه محكماً، يقال: هذا وصف من حيث هو مدح، وأن منه متشابهاً، هذا الوصف من حيث هو أيضاً يعد مدحاً؛ لأن هذا هو القرآن، ولا يمكن شرعاً ولا عقلاً أن الله جل وعلا يصف ولو آية من كتابه بوصف هو ذم من حيث هو، فهذا لا يمكن أن يكون، لكن يبقى أن الله من حكمته وابتلائه لعباده أن جعل هذا الكتاب منه محكم ومنه متشابه؛ ليتبين الذي صدق الله جل وعلا في حسن الاتباع، ومن المعلوم أن من أخص مقاصد الشريعة أن يبتلي الله جل وعلا العباد الذين خلقهم على قدر من الإدراك والعقل، وإن كان الفعل والترك أراد سبحانه أن يبتليهم بهما؛ ولهذا قال الله لنبيه كما في الحديث القدسي: ( وإنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ) ، فمن أخص مقاصد التشريع ابتلاء العباد في طاعة الله، من الذي يجيب ومن الذي لا يجيب؟ وقد نزل عليهم الهدى، والابتلاء هنا بمعنى: التحقيق لعبودية الله جل وعلا على معنى قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ؛ ولهذا نقول: الغاية الكبرى التي خلق الله جل وعلا من أجلها الثقلين هي عبادته سبحانه وتعالى، بمعنى: إفراد الباري في توحيده وربوبيته وأسمائه وصفاته.

    إذا كان الأمر كذلك فإذاً هذا الوصف من حيث هو لا يجوز أن يقال: إنه ذم؛ لأنه بهذا يقال: إن من آيات القرآن ما لحقها وصف من أوصاف الذم، وهذا لا يجوز على كلام الله سبحانه وتعالى.

    ما يفهم من ذم أهل الزيغ الوارد في سورة آل عمران والواجب حيال المتشابه

    وقد يقول قائل: وهذه هي التي تجعل بعضهم يتحرك إلى فهم الذم أو ما إلى ذلك، كيف قال الله جل وعلا: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] فيقول: إن الله ذمهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة في الصحيحين قال: ( فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم )، فهذا ذم من النبي صلى الله عليه وسلم، نقول: هذا وهذا من كلام الله ورسوله ليس ذماً لهذه الآيات، هذا يستحيل عقلاً وشرعاً، وإنما هو ذم لمنهج في أخذ بعض القرآن دون بعض، فأنت تعرف أن من تكلم بحقيقة كاملة تضمنت فصولاً من الحق وفصولاً من العلم، فجاء أحد وأخذ ببعضها، وترك البعض الآخر أو كذبه، أو لم يلتفت له، أن هذا الفاعل يكون مذموماً، فإذاً: لماذا ذم الله هؤلاء؟ لأنهم كما وصفهم القرآن يتبعون ما تشابه منه، بمعنى: أنهم لا يتبعون المحكم، وإنما يفرقون بين العلم ويقصدون إلى المتشابه وحده.

    والقاعدة الشرعية هنا ليست كما أشار إليها بعض أهل العلم إلى أن المنهج الصحيح هو الأخذ بالمحكم وحده، هذا ليس مقصوداً لأحد من العلماء فيما يظهر والله تعالى أعلم، لكن أحياناً الحروف تعبر بظواهر من الكلام يعلم أن صاحبها لا يقصده، ولسنا الآن أمام أحد فرضين: إما أن نأخذ بالمحكم وحده، أو بالمتشابه وحده، لا هذا ولا هذا، وصحيح أن الأخذ بالمتشابه وحده أشد ضلالاً، لكن لم يرد الله منا أن نأخذ بالمحكم وحده، وهو يقول: (مِنْهُ آيَاتٌ)، ثم يقول: (وَأُخَرُ).

    فإذاً: هناك آيات تسمى قرآناً وفيها الحق، وفيها العلم، ولكن وصفت بأنها متشابهات، ومعلوم شرعاً أنه يجب التصديق والعمل بجميع القرآن.

    إذاً: ما المنهج الذي أريد من المؤمنين في مثل هذا السياق؟ الذي أريد منهم أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، فهذا هو الفقه الذي أراده الله، والإيمان الذي أراده الله جل وعلا لعباده؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في دعائه لـابن عباس : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) ، وأصدق التأويل للقرآن أن يكون صاحبه فقيهاً في رد المتشابه إلى المحكم، فليس الغرض هنا أن المنهج الحق هو في أخذ المحكم وترك المتشابه؛ لأن هذا لا يترك لأنه قرآن، والله يقول: (وَأُخَرُ)، فإذاً: هي آيات أخرى من القرآن، وإنما الصواب أنه يرد المتشابه إلى المحكم، فإذا أدخل على المحكم أحكمه وضبطه وفسره التفسير الصحيح المناسب.

    وأرى أن هذه القاعدة في كلام الله جل وعلا تعد من أخص ما ينبغي لطالب العلم أن يقصده، والقرآن تضمن جملاً من القواعد العلمية التي يجب على طالب العلم أن يكون فقيهاً فيها ومن أخصها أنه سبحانه حرم القول بلا علم عموماً، وحرم القول عليه بلا علم خصوصاً، ومنها: أن الله سبحانه وتعالى نهى عن كتمان العلم.

    ومن أخص هذه القواعد فقهاً هو ما تضمنه سياق هذه الآيات من سورة آل عمران، منه محكم ومنه متشابه، فدائماً القاعدة العقلية والشرعية الصحيحة أن طالب العلم يرد المتشابه من العلم إلى المحكم، ومن الخطأ والسقط أن يقف مع المتشابه وحده وينغلق فيه، فربما جعله يشذ بقول من الأقوال أو يتحير.

    المراد من قوله صلى الله عليه وسلم في قاتل نفسه: (خالداً مخلداً فيها أبداً)

    وسوف أضرب لذلك مثلاً وهو ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سماً فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل ) إلى آخره. هذا حديث أبي هريرة ، وهو متفق على صحته، لكن في آخر الجملة يقول: ( فهو يتردى في نار جهنم ) ( فهو يتحساه في نار جهنم ) ثم قال: ( خالداً مخلداً فيها أبداً ) هنا التأبيد، وهذا يرجع بنا إلى مسألة فقه سياق كلام العرب، وتبادر إلى من فقه اللغة فقهاً نظرياً أو جمع اللغة جمعاً نظرياً أن العرب إذا أبدت فإنها تعني السرمدية والدوام، مع أن كلام العرب يفقه بحسب السياقات، لأن الكلام هو اللفظ المفيد وهو السياق المركب، وليس الكلمة المجردة المفردة، وإن كانت الكلمة يفقه دلالتها من حيث أنها مشتركة أو ليست مشتركة في اللغة هذه إشارات ثانية، لكن لا يصح لأحد أن يقول: هذا حديث فيه التأبيد لمن قتل نفسه، فربما شذ فقال قولاً يخالف الإجماع: أن المسلم لو قتل نفسه يكون مثل الكافر، هذا قول مخالف لإجماع الصحابة، ومخالف لإجماع السلف، وهذا فيه مادة من أقوال الخوارج؛ لأن الذي يؤبد في النار بمعنى السرمدية هم الكفار الذين كفروا بالله ورسله، وأما المسلمون المؤمنون فإنه مهما حصل منهم من المعاصي والإثم فإنهم لا يؤبدون في النار.

    فإذاً: لو قال قائل في هذا الحديث: إن هذا الحرف فيه متشابه؟

    فنقول: هذا الحرف المتشابه يرد إلى المحكم، ما دام أن عندنا نصوصاً متواترة، وإجماعاً قائماً منعقداً أنه لا يخلد في النار أبداً إلا من كفر بالله ورسوله، فلو قال: هذا الحرف من الحديث تشابه لفظه فيرد إلى الأصول المحكمة، وعند التحقيق ربما ترى أن هذا الحرف إما أن يكون من حيث الرواية شاذاً، وإذا تتبعت الرواية وجدت أن هذا الحرف غريب، وإن كان متفقاً عليه من حيث الرواية، لكنه غريب؛ ولهذا أشار بعض كبار أهل العلم إلى شذوذه كما أشار إلى ذلك الترمذي رحمه الله، مع أن ثمة قاعدة في الأحاديث التي اتفق الشيخان عليها بأنها صحيحة.

    وهنا فإن الكلام ليس على الحديث بجميع سياقه، وإنما الإشارة إلى حرف منه، فإن هذا الحرف من الغريب في الرواية عند أهل الاصطلاح من أهل الحديث، وإذا قلت: إنه محفوظ فإنه يرد إلى فقه كلام العرب، وأن المقصود بذلك الإشارة إلى طول المكث، وأن هذا من الوعيد الذي لو شاء الله سبحانه وتعالى أن يعذبه به لعذبه به، ولكنه يبقى تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى. فإذاً: العناية بتفسير هذا العلم مهم.

    ما اشتملت عليه آية آل عمران في المحكم والمتشابه من الأصناف

    إذاً: هذا المنهج الذي أشار إليه المصنف يؤخذ على ذلك؛ ولهذا يقول المصنف: [ الآية شملت قسمين هما أصل المشي على طريق الصواب أو طريق الخطأ: أحدهما: الراسخون في العلم ] يقول: [وحين خص] أي: القرآن [أهل الزيغ باتباع المتشابه دل التخصيص على أن الراسخين] في العلم [لا يتبعونه، فإذاً لا يتبعون إلا المحكم] حقيقة هذا التركيب من السياق ما أراه مهماً، فيقال: إذاً: لا يتبعون إلا المحكم؛ ولا نقول: إن الأخذ بالمحكم فقط هو مقصود الشاطبي ، لكن كأن الألفاظ توحي بأنه إما أن نأخذ بالمحكم ونترك المتشابه، أو نأخذ بالمتشابه ونترك المحكم، وكلا الفرضين ليس هو المقصود شرعاً، بل المقصود شرعاً أن يرد المتشابه إلى المحكم.

    إذاً: أهم ما في هذا الكلام أن وصف آيات من القرآن بأنها متشابهة، هل هذا الوصف في هذا السياق من حيث هو يعد ذماً؟ لا؛ ولذلك لا يجوز لأحد أن يقول: هذا ذم، إلا لإنسان جاهل أو لم يستصحب التفكير المناسب في كلامه، كيف يقال: إنه ذم وهو وصف لآيات من القرآن؟!

    إذاً: هو وصف مدح لكن يبقى أن التطبيق هو الذم، مثلما أشار النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في السنن من غير وجه: ( أن أقواماً يأتون في آخر الزمان، فيقولون: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدناه في كتاب الله أخذنا به، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ) هل أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يذمهم؛ لأنهم أخذوا بالقرآن؟ لا، إنما الذم هنا جاء من جهة أنهم تركوا أو جعلوا أخذهم بالقرآن تركاً للسنة، مع أن التحقيق أن من يأخذ بالقرآن يأخذ بالسنة؛ لأن الله أمر في آيات كثيرة من كتابه باتباع نبيه، بل جعل ذلك هو من تحقيق الإيمان به سبحانه وتعالى؛ ولهذا لا أرى أن التعبير الذي عبر به الشاطبي يكون هو الأولى.

    صفات أهل الزيغ الواردة في آية آل عمران

    قال: [القسم الثاني: من ليس براسخ في العلم، وهو الزائغ، فحصل له من الآية وصفان: أحدهما بالنص وهو الزيغ] لأن من تتبع المتشابه من العلم فإنه يوصف بالزيغ، كما وصفهم القرآن بذلك، [ والثاني: عدم الرسوخ في العلم ]، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعنى بالمحكمات، ومما ينقص في كثير من طلبة العلم أنهم يبدءون بالمتشابه من العلم، ومسألة الإحكام والتشابه في العلم مسألة نسبية، إذا تكلمت في الفقه، فمن الفقه ما هو متشابه ومنه ما هو محكم، وإذا تكلمت في العقائد فالأمور التي يدخلها التشابه والأمور التي يدخلها الإحكام هي من المسائل الإضافية، بمعنى: أنك إذا تكلمت عن الاعتقاد تقول: الأصول التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة جميعها أصول محكمة، لكن لا ينبغي لطالب العلم أن يأتي ويتكلف أسئلة على هذه الأصول، ويتطلب جواباً عليها، مثلما عرض في بعض مراحل التاريخ لما تكلم أهل السنة في الاستواء على العرش وعلو الله، قالوا: وإذا نزل إلى السماء الدنيا هل يخلو من العرش أو لا يخلو من العرش؟

    هذا السؤال من حيث الأصل يعد من التكلف، ومن فرض المتشابه، وادعاء المتشابه على هذه الأصول؛ لأنه بهذا يزل العامة، وربما زل بعض الخاصة في الإجابة عن هذا السؤال، وإلا فإنه يُعلم عند التحقيق أنه ما من سؤال يسأله أحد إلا وفي الشريعة جواب عليه، ولكن بعض الأسئلة تكون مزلة أقدام من حيث الجواب عليها، فلا يتتبع فيها، ومثله في الفقه، فعلى الطالب أن يتتبع المحكم من المسائل؛ ولهذا أرى أنه يعنى بمعرفة المسائل التي عليها إجماع، والمسائل التي عليها أقوال الأئمة الأربعة، والمسائل التي عليها أقوال الجماهير، والمسائل التي شاع فيها الخلاف، ثم بعد ذلك تأتي الرتبة الثانية في معرفة الدقائق من هذا العلم.

    1.   

    أوجه المخالفات عند متبعي المتشابه

    ثم بعد ذلك ينتقل الشاطبي رحمه الله إلى مسألة أخرى، فيقول: إن وجوه المخالفات عند الذين يتبعون المتشابه، أو عند الذين يدعون السنة، وليسوا من أهلها، يقول: وجوه المخالفات عندهم تصل إلى تسعة وجوه، سينبه المصنف هنا إلى المبررات التي يتكئ عليها من يخرج عن السنة إلى البدعة، يقول: من يخرج عن السنة إلى البدعة عنده مبرر لهذا الخروج، واحد من هذه الأوجه التي يشير إليها.

    الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والمكذوبة

    قال: [ الوجه الأول: اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، ولا شك أن الأحاديث الموضوعة -وهي تختلف- أفسد كثيراً من أحوال العوام من المسلمين، والإشكال أن هذه الموضوعات دخلت في كثير من كتب السلوك، وكتب التصوف، وكتب التربية العلمية والسلوكية، فلما شاعت جملة من هذه الموضوعات صار يتعلق بها كثير من الأحوال والتطبيقات البدعية المخترعة في الإسلام؛ ولهذا ينبغي لطلبة العلم أن يعنوا بتنبيه المسلمين على هذه الموضوعات، وأنها مكذوبة على رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو الضعيفة -والمعروف أن الضعيف ليس هو الموضوع- التي لا يكون فيها الإسناد حسناً أو صحيحاً، وإنما فيه وجه من الضعف؛ لأسباب من أسباب الضعف وهي أسباب كثيرة جداً، إما لانقطاع فيه، أو علة في أحد رواته، أو لأسباب أخرى، فالضعيف درجته ليست كالموضوع أبداً، وإنما شأنه دون ذلك بكثير.

    الرد على الاستدلال بقول الإمام أحمد: (ضعيف الحديث خير من القياس)

    يقول المصنف: إن من يأخذ بالضعيف خاصة أحياناً عند من يشتبه عليهم، أو يبررون أخذهم بالضعيف بكلمة رويت عن الإمام أحمد أنه قال: ضعيف الحديث خير من القياس. فيقول: إن بعض من يأخذ بالضعيف ويبني عليه بدعاً إذا روجع في ذلك قال: إن أحمد ، وهو من أئمة الحديث المتقدمين، يقول: إن الأخذ بالضعيف خير من القياس.

    وقد أجاب الشاطبي رحمه الله عن هذه الجملة المنسوبة للإمام أحمد بثلاثة أجوبة، قال: الجواب الأول: أن يقال: هو كلام مجتهد من أهل العلم، ولا يلزم بالضرورة أن يكون صواباً، ويقول الشاطبي رحمه الله في الجواب عن كلمة أحمد : الثاني: أن يكون مراده الحسن، أو ما سماه بعض أهل الاصطلاح بالحسن لغيره، وهو الضعيف إذا تعددت طرقه، وضعفه منجبر، وليس الضعيف الذي قد تُرك، قال: الثالث أنه من باب الفرض، فكأن الإمام أحمد من ذمه للقياس يقول: لو أخذ بضعيف مع أنه لا يرى الأخذ بالضعيف كان أحب إلي من الأخذ بالقياس، هذا توجيه ثالث عند المصنف لكلام أحمد ، ولست أراه مناسباً لكلامه، وإنما الذي أراد الإمام أحمد رحمه الله بالضعيف هنا هو الذي لم تنضبط صحته، ففي نفس أحمد وأمثاله من كبار المحدثين منه شيء، وهو الذي سماه كثير من المصطلحين ممن انتظموا الاصطلاح بالحسن لغيره، وأما الضعيف الذي هو بين الضعف فإن أحمد وأمثاله من المحدثين ما كانوا يقصدون إلى الأخذ به؛ ولهذا أرى أن من حكى عن المتقدمين من المحدثين كـأحمد و ابن معين و ابن المديني وأمثال هؤلاء أن بينهم خلافاً في الأخذ بالضعيف والعمل به، أرى أن هذا الفرض من الخلاف فيه تكلف، وإنما الذي رخصوا فيه منه هو ما كان ضعفه منجبراً، ولا يكون أصلاً في الاستدلال، أو يكون مقارناً في الاستدلال، ومعنى لا يكون أصلاً هو أن يكون من شواهد دليل المسألة، ولا يبنون حكماً علمياً مميزاً على حديث ضعيف، وإنما يكون هذا من شواهد الحكم، فليس في كلام أحمد رحمه الله ما يشكل.

    بيان قاعدة الأخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال

    قال: الثاني من يأخذ بالضعيف من الحديث ربما برر أخذه به. الأول قال بكلمة أحمد ، قال: والثاني أن جملة من العلماء نصوا على جواز الأخذ بالضعيف في فضائل الأعمال، وهذه جملة عرضت في كثير من كتب المصطلح وكتب الأصول، أنه يجوز الأخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، وقد أجاب الشاطبي رحمه الله عن هذه الجملة التي عرضت في كلام طائفة من أهل العلم، فقال: [ الجواب: أن العمل المتكلم فيه ] يعني: العمل الذي يفعله آحاد الناس، يقول: [ إما أن يكون منصوصاً على أصله جملة وتفصيلاً ] أي: أن يكون له أصل ثابت [وإما ألا يكون]، يقول: العمل الذي نتكلم عنه الآن والذي منه سنة ومنه بدعة، إذا كان العمل له أصل في الشريعة على سبيل الإجمال والتفصيل، فجاء حديث فيه شيء من الضعف، فلحق بشواهد هذا الأصل الذي ثبت كونه عملاً شرعياً بدلالة مجملة ومفصلة، فيقول: لا إشكال هنا، وأما الصورة الثانية ألا يكون منصوصاً على هذا العمل لا جملة ولا تفصيلاً، يقول: فهذا هو البدعة. قال: الثالث أن يكون منصوصاً عليه جملة وتفصيلاً، فالأصل إذا ثبت في الجملة لا يجزم إثباته من حيث التفصيل.

    فإذاً يقول في جواب مختصر: هل يجوز الاستدلال على فضائل الأعمال بالأحاديث الضعيفة؟ يقول: ما المقصود بهذا الاستدلال؟ إن كان المراد أنه يثبت شرعية العمل بحديث ضعيف، فهذا هو البدعة، ولا يثبت شرعية عمل ابتداء بحديث ضعيف، قال: [وأما إن كان العمل مشروعاً بنص أو بدليل ثابت إجمالاً وتفصيلاً، وإنما جاء حديث فيه ضعف]، يشير إلى درجة من فضيلته أو ما إلى ذلك، فيقول: [ هذا لا يؤثر في إسقاط العمل ].

    صلاة ركعتين بعد الجلوس من الفجر وارتفاع الشمس لمن يرى تضعيف الحديث الوارد في فضل ذلك

    وأضرب لذلك مثلاً يشيع اليوم بين كثير من طلاب العلم وخاصة في ابتداء الطلب، وهو ما يتعلق بالركعتين بعد ارتفاع الشمس، فإنه جاء في الحديث الذي رواه الترمذي : ( من صلى الصبح في جماعة، ثم جلس في مصلاه يذكر الله، ثم صلى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كان له كأجر حجة تامة تامة تامة، أو قال: كعمرة تامة تامة ) هذا الحديث كما هو معلوم من جهة ثبوته فيه كلام، وضعفه كثير من أهل العلم، النتيجة هنا ليس أن يقال: إنه حسن أو ضعيف، إذا فرضنا أن الراجح هو القول بتضعيفه، هل يلزم من ذلك أن يقال: الجلوس بعد صلاة الصبح لذكر الله ومن الذكر القراءة للقرآن إلى أن تطلع الشمس، ثم صلاة الركعتين لا يكون مشروعاً، بمعنى: من كان يفعل ذلك يندب إلى تركه، أو يقال: هذا ليس من السنة التي تقصد أو ما إلى ذلك؟

    إذا رددت المتشابه من العلم إلى المحكم، وإذا رجعت إلى فقه المعاني الشرعية وجدت أن البقاء في المسجد عموماً وعمارة بيوت الله بذكره هذا مشروع: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، فهذا من رفع بيوت الله ورفع ذكرها.

    ثانياً: أنك إذا رجعت إلى هدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجدت أنه كان إذا صلى الصبح جلس في مصلاه يذكر الله، كما جاء في حديث جابر بن سمرة الذي رواه مسلم وغيره: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه، وكان الصحابة يجلسون، وربما أخذوا في بعض أيامهم أو بعض أوقاتهم في شيء من حديث الجاهلية، حتى قال جابر بن سمرة : فيضحكون ويتبسم ) فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس بعد صلاة الفجر، ويذكر الله جل وعلا في جلوسه إلى ارتفاع الشمس، هذا هو ابتداء وقت صلاة الضحى، وصلاة الضحى مشروعة في أصح قولي العلماء، بل هذا هو القول الذي عليه الجماهير أنها ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل صلاة مندوبة مشروعة، بل حكى بعض أهل العلم الإجماع على ذلك.

    فإذاً: هذا هو ابتداء وقتها، فمن صلى الصبح في جماعة وذكر الله، ثم صلى حيث شرعت الصلاة بعد ارتفاع الشمس فلا شك أن عمله هذا لا يستطيع أحد أن يأتي ويقول: هذا العمل ليس له أصل، أو ليس من السنة، أو مخالف للسنة، أو ما إلى ذلك.

    لكن يبقى: هل هذا الفضل المعين له من الأجر -كذا وكذا من القدر والصفة- ثابت فيقال به، أم ليس ثابتاً فيوكل الأمر إلى الله سبحانه وتعالى؟ وحتى لو كان الأجر ثابتاً، فيبقى أن الأمر موكل إلى الله من جهة تحقق هذا الأجر في هذا الشخص المعين، حتى من تحقق له هذا الأجر عند الله، فإن من فضل الله أنه يزيد كثيراً من العباد فوق ما يقدر لهم ابتداء في أصل العلم، أي: يقدر ابتداء في حكم العمل نفسه.

    إذاً هذا الحديث -أعني: حديث الترمذي - تعلق به ذكر صفة الأجر وقدره، وهذا أمره إلى الله؛ لأنه يُعلم بالقطع والإجماع أن العمل المشروع له عند الله ثواب، وكل عمل مشروع فله ثواب عند الله، سواء علمنا صفة هذا الثواب أو لم نعلمه، والله جل وعلا في الصيام قال كما في الحديث القدسي: ( الصوم لي وأنا أجزي به ) فالعلم بتفاصيل الأجر هذا من العلم المجمل، حتى إذا ثبت لا يقطع به على الأعيان، بل تطبيقه في الأعيان أمر يتعلق بعلم الله وحده سبحانه وتعالى.

    فإذاً: هذا مما يصلح مثالاً للذي نشير إليه في هذا الكلام.

    أيضاً: الحديث في فضائل الأعمال لا شك أن بابها أخص، والذي قصده المحدثون من المتقدمين ما يتعلق بصفات الأجر وما إلى ذلك، أما أن آحاد المحدثين القدامى كانوا يرخصون في الضعيف الذي بمعنى المتروك، يرخصون فيه في سنن أعمال شرعية في باب الفضائل. وليس هذا منهجاً، وهذه نتيجة علمية نعرفها، وهي أن المتقدمين من أهل الحديث كـأحمد وأمثالهم إما أن يكون ما رخصوا فيه هو من باب الحسن، أو يكون مما لم يثبت عندهم ولكنهم يروونه ولا يعتمدونه، بل ينصون على إنكاره بأنه لا يتعلق به عمل خاص، ويكون العمل من حيث الثبوت قد ثبت بأدلة شرعية صحيحة.

    إذاً: لا أحد من قدماء المحدثين يجوز العمل بالضعيف الذي هو بمعنى المتروك أو المردود بحيث يبتدئ به عمل، لأن هذا كما قال الشاطبي : حقيقته هو البدعة في الدين.

    رد المبتدعة الأحاديث الصحيحة بدعوى مخالفتها للعقل

    قال: السبب الثاني [وهو ردهم الأحاديث التي جاءت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم] يعني: أن من أهل البدع من رد الأحاديث التي جرت على غير الموافقة لأغراضهم ومذاهبهم [ويدعون أنها مخالفة للعقول]، يقول: الأوجه في ردها، قال: [ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين]، وهذا منهج كما هو معروف بين الضلال، قدح الصحابة رضي الله عنهم. قال: وذهبت طائفة منهم إلى تركها بحجة أنها من أخبار الآحاد، وقد شاع عند كثير من النظار وأهل الأصول وأهل مصطلح الحديث من المتأخرين أن السنة تنقسم إلى متواتر وآحاد، فنقول: هذا المصطلح نطق به بعض المتقدمين كـالشافعي

    رحمه الله، ولكن الإشكال هنا ليس في المصطلح نفسه؛ لأن الأصل أنه لا مشاحة في الاصطلاح، لكن الإشكال في المعاني، فإن الشاطبي وأمثاله لما قالوا: المتواتر، يقصدون به ما استفاض، فالأحاديث التي استفاضت وتلقاها أهل العلم بالقبول سموها متواترة، وأما الحديث الفرد الذي اختص بروايته قوم من أهل الحجاز، أو هو من رواية المدنيين وحدهم، فلا تجد أن الحديث مستفيض وما إلى ذلك، هذا سموه الآحاد، وعلى هذا المعنى لا جدل ولا إشكال، فهذا من التراتيب العلمية الممكنة، لكن لما جاء الاصطلاح عند المتكلمين، وأرى أن المتكلمين هم أول من بدأ هذا الحد، أي: التعريف للآحاد والمتواتر، لما قالوا: المتواتر ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس، كقال وفعل ونحو ذلك. والآحاد ما عدا المتواتر، فيكون المتواتر ما رواه جماعة، منهم من قال: يكونون عشرة، أو ربما زادوا، أو نقصوا شيئاً، إذا افترضنا أنهم اثنا عشر أو أنهم عشرة كما هو الأغلب عند من حد هذا الحد، فإذا قلت: إنهم عشرة، فمعناه أن الحديث لا يكون متواتراً إلا إذا رواه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام عشرة من صحابته، ويرويه عن كل صحابي عشرة، فتكون الطبقة الثانية مائة، ويرويه عن كل واحد من المائة عشرة فتكون الطبقة الثالثة ألفاً، فلا شك أن هذا التكلف في النظام مخترع، والذي تكلم بهذا الحد ليس عليماً برواية السنة؛ لأنك لو أردت أن تطبق هذا الحد بهذا النظام لما تحصل لك إلا على قدر من التكلف أحاديث يسيرة يصدق عليها أن تكون متواترة بهذا الاصطلاح وهذا الحد، بل بعض أهل العلم من أهل الحديث المتأخرين قالوا: إن المتواتر بهذا التعريف وبهذا الحد لا مثال له، وهذه مشكلة ليست هي قضية علمية وليس لها مثال. إذا قلت: ما له مثال معناه أن السنة كلها آحاد، والنتيجة الأسوأ عندما يقولون: الآحاد لا يحتج به في الاعتقاد، معناه السنة لا يعتد بها في الاعتقاد.

    إذاً: هذا حد بدأه قوم من المتكلمين، ولما كان فيه مادة من الاشتراك مع ما نطق به بعض المتقدمين كـالشافعي و أبي عبيد وأمثالهم دخل على المتأخرين من أهل الأصول والفقه والرواية من الحفاظ المتأخرين فعبروا به في كتبهم، ونقلوا كلام المتكلمين في هذا، ثم احتار الحفاظ خاصة كـابن الصلاح وأمثاله في ذكر مثال له، مع أن الحق لو كان صحيحاً لوجد له مثال، وكان يجب أن يكون ذكر قسماً من السنة كذلك، يعني: حتى لو ذكرت مثالاً أو مثالين أو عشرة أمثلة، هل يكفي هذا؟ لا. لأن معناه أن السنة القطعية والتي تفيد العلم ويحتج بها كما يعبر المتكلمون في كتبهم، ومع الأسف أنها نقلت في كتب أصول الفقه، وفي بعض الكتب المتأخرة من كتب المصطلح معناه أنه ما ثبت من السنة على هذا الوجه إلا مثال أو مثالان أو ثلاثة أو ما إلى ذلك، والأسوأ كما قلت: إن من الحفاظ من يقول: إنه لم ينضبط له مثال؛ ولهذا فإن بعض الحفاظ إذا أورده ولم يستطع التمثيل له ذهب يخفف في شروطه، فيقول: لا يلزم التواتر في كل الطبقات، فنقول: أصلاً لماذا تبني معنى ليس صحيحاً ثم تحاول أن تعدل فيه، كان ينبغي ألا يكون هذا الحد سائغاً؛ ولهذا نقول: إن هذا حد مبتدع في الإسلام وليس له أصل، بل نقول: السنة يمكن أن تكون متواترة وآحاداً، والسنة روايتها ليست درجة واحدة بإجماع المحدثين، هذه أمور معروفة، والحديث منه ما هو متفق على صحته، ومنه ما هو دون ذلك، وأوجه الرواية مختلفة، منها ما استفاضت رواية الرجال من الصحابة والرواة له، ومنها ما يكون غريباً، ومنها ما سمي بالمصطلح عزيزاً، وما إلى ذلك، بمعنى: أن من السنة ما رواه واحد، ومنه ما رواه اثنان، ومنه ما رواه ثلاثة وعشرة وأكثر، وما إلى ذلك، فإذاً: هذا لا إشكال فيه، وأيضاً فإن درجات الدلالة مختلفة، هذه كلها من المعاني العلمية التي تقبل، وهي معانٍ صحيحة، لكن محل المؤاخذة هو أن يقال: المتواتر ما يرويه عشرة أو ما رواه جماعة عن جماعة، بمعنى: يرويه عشرة من الصحابة، وعن كل واحد من العشرة حتى يكون متواتراً يرويه عشرة فتكون الطبقة الثالثة بألف، وإذا توالت تصل إلى طبقة رابعة فلا بد أن تكون الطبقة الرابعة عشرة آلاف، ثم يأتي من يأتي من أهل الحديث أنفسهم الذين اشتغلوا، فيقولون: هذا لا مثال له.

    والإشكال الثاني أنهم يقولون: المتواتر نتائجه كالتالي: أنه يفيد القطع، والآحاد يفيد الظن، فالمتواتر يعمل به في العقائد، والآحاد لا يعمل به في العقائد.

    إذاً: سنكون أمام نتائج أخيرة أن السنة في أغلب مواردها لا يحتج بها في العقائد، وهذا مشكل، ومعناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما وصلت رسالته التي أوحيت إليه غير القرآن إلى عقائد الناس من المسلمين.

    إذاً: هذا حد لست أرى إلا أنه دخل مثل قانون تعارض العقل والنقل، فهو حد دخل على هذا العلم -أعني: علم الحديث- من قبل علماء الجدل والكلام، فينبغي أن يقيد عليه هذا المأخذ العلمي.

    جنوح المبتدعة إلى التحريف والتأويل في التعاطي مع الأدلة والظواهر الشرعية

    قال: ثالثاً: [ تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة ]، أشار إلى مسألة عدم الفقه في لسان العرب.

    الرابع قال: [ انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات ]، وأشار المصنف هنا إلى التأويل وذمة، والتأويل كلفظ أو كحرف جاء في القرآن، فالتأويل في كتاب الله سبحانه وتعالى تارة يراد به التفسير، وتارة يراد به الحقيقة، لكن التأويل الاصطلاحي: هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى تأويله، أو عن الحقيقة إلى المجاز، هذا دخل في مدارس المتكلمين، وقابله منهج آخر وهو ما يسمى بالتفويض، والمصنف هنا كلامه في هذا الموضع ليس بذلك الكلام المنضبط؛ لأنه تداخل عليه الكلام في التأويل، خاصة أنه سبق الإشارة إلى أن المصنف مال إلى التفويض في بعض كلام له كجواب عن هذه الإشكالات، مع أن التفويض عند التحقيق ليس منهجاً لأهل السنة من الصحابة والتابعين والأئمة القدماء، وإنما التفويض هو منهج عارض أضيف أو نسب إلى السنة، وليس هو كذلك عند التحقيق، فهذا من المآخذ في كلام المصنف، الإشارة إلى مسألة التفويض، وما إلى ذلك.

    خامساً قال: [ من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، أو في العمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا؟ ] وهلم جرا، هذا أيضاً معنى بين.

    قال: سادساً: [ تحريف الأدلة عن موضوعها؛ بأن يرد الدليل على مناط فيُصرَف عن ذلك المناط إلى أمر آخر ]، ومسألة التحريف كلمة تامة في المعنى، ولهذا لست أرى أن طالب العلم يعبر عن الأخطاء بأنها من التحريف، إلا إذا وصلت الأمور لمعانٍ علمية شديدة، كالتأويلات الغالية التي ابتدعت في الإسلام وما إلى ذلك، وأما الأخطاء التي تعرض لبعض الصالحين أو لبعض المجتهدين في العبادة، أو بعضهم ينتسبون إلى السنة، فهذه وصفها بالتحريفات كلمة شديدة في الحكم، ولكن هذا الوصف يكون مناسباً لمن استحكم بأصول البدع، وغلا فيها، فربما يكون هذا في التفصيل مناسباً.

    السابع قال: [ بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات ]. إلى آخره. أشار إلى تأويلات الباطنية وذمها.

    غلو المبتدعة في الشيوخ

    الثامن قال: [ الغلو في الشيوخ ]. قال: إن هذا من أسباب الضلال أن قوماً غلوا في شيوخ لهم، وفي اتباعهم، وفي تقليدهم، ولا شك أن مادة التعصب تعد من أكثر المواد التي أثرت في الاهتداء والاقتداء؛ لأن الله جل وعلا أراد من عباده المؤمنين أن يكونوا مقتدين مهتدين، وما ندب الله إلى اتباع أحد بعينه من الخلق إلا الأنبياء فيمن تعلق بهم من قومهم، ولما جاء النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام ما ندب الله أحداً ولا أمر أحداً أن يقتدي بمعين إلا بمحمد عليه الصلاة والسلام، وأما غيره عليه الصلاة والسلام فإن الله ندب إلى الاقتداء بمجموعهم، كقول الله سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100] فقال: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ [التوبة:100]، فإذاً: يندب إلى الأخذ بالاقتداء الذي هو الاجتماع أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، وأما آحاد الأعيان فالشريعة لا تندب إلى الاقتداء بمعين دون غيره إلا برسول الله عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا لا يجوز لطالب العلم ولا للمسلم ولا للعابد أن يغلو في أحد من الأعيان، أو يتعصب له؛ فإن التعصب لا يصح إلا لرسول الله عليه الصلاة والسلام، والتعصب هنا بمعنى الاستمساك بهديه؛ ولهذا لا بد أن نعنى بإشاعة السنة والدعوة إلى الاتباع، وترك التعصب والغلو في ذلك؛ لأن بعض طلبة العلم الآن ربما سموا ما هو سائغ في الشريعة، أو مما سماه الله في القرآن بسؤال أهل الذكر ربما سموه تعصباً، وهو ليس كذلك بل من سؤال أهل العلم، وما إلى ذلك؛ فهذا أمر فيه فقه، ومعلوم أن بعض الصحابة كانوا يقتدون بـأبي بكر في بعض آرائه، خاصة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، والذي ندب إلى سنة الخلفاء، فهذا أمر لا بد فيه من الاعتدال، المذموم منه إذا كان تعصباً غالياً يستدعي شخصاً دون غيره، أو يستدعي شخصاً مع ترك غيره، وهلم جرا.

    استناد المبتدعة إلى المنامات

    التاسع يقول: [ وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات ]، وهذا مع الأسف عرض في أحوال بعض السالكين والعابدين من الذين بنوا ما يتعلق بتعبدهم على ما هو من مسائل المنامات، وهذه المنامات دخلت على الباطنية كثيراً، والباطنية يميلون إلى التقليد والتمسك والتصوف، فتجد أنهم يبررون بعض الفعل بأن فلاناً من الشيوخ أو من الصالحين أو ما إلى ذلك قد رأى مناماً، فيقول: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كذا، أو رأى رجلاً صالحاً فقال له: كذا، ولا شك أن من يدعي ذلك فإنه على درجة من الخطأ، الرؤى منها ما هو مبشر، ( الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ) ؛ فهذه أمور ثابتة في السنة، لكن أن المنام يندب إلى عمل ليس له أصل شرعاً، فلا شك أن هذا مخالف لقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، وهذه حقيقة علمية إيمانية بينة عند المسلمين، فلا يمكن أن تبتدع بدعة، أو يُنشأ عمل بحجة منام من المنامات مهما كان الذي رأى المنام، ومهما كان الذي يرونه في المنام؛ ولهذا يقول بعضهم: إنه رأى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى مكان كذا وكذا، وافعل فيه كذا وكذا، يقال: هذا من تلبيس الشيطان؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام إما أن يكون هذا العمل موجوداً في سنته، فهو في سنته قبل هذا المنام، وإما ألا يكون هذا موجوداً في سنته كالذهاب إلى أمكنة معينة؛ لتعظيمه أو نحو هذا من البدع، فلا شك أن هذا يخالف قول الله جل وعلا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، والدين كمل الواجب منه وحتى المستحب، فكل ما سمي ديناً من واجب العمل والقول أو من مستحبه فإن الله قد أكمله بما بعث به رسوله في هذا الكتاب، وبما جاء في وحي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتوفي رسول الله والأمة على المحجة البيضاء لا نقص فيها ولا شوب.

    بعد ذلك انتقل المصنف إلى مسألة أخرى تتعلق بتقسيم البدعة إلى بدعة حقيقية وبدعة إضافية، وسنتكلم عن هذا التعريف وعن هذا المصطلح، وهل هو مناسب أو ليس مناسباً، في المجلس القادم إن شاء الله تعالى.

    هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا، وآله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755790930