إسلام ويب

شرح سنن النسائي - كتاب الجهاد - وجوب الجهادللشيخ : عبد المحسن العباد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • فرض الجهاد بعد الهجرة والغرض منه حماية الدين ونشره، ولذلك يقاتل من فرق بين الصلاة والزكاة، كما أنه قد يكون في حالات فرض عين كما إذا داهم العدو أرض المسلمين، وقد يكون في حالات أخرى فرض كفاية.

    1.   

    كتاب الجهاد، وجوب الجهاد

    شرح حديث ابن عباس في الإذن بالقتال

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجهاد. باب وجوب الجهاد.

    أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام حدثنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان عن الأعمش عن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة قال أبو بكر رضي الله عنه: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن: فنزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، فعرفت أنه سيكون قتال، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فهي أول آية نزلت في القتال].

    يقول النسائي رحمه الله: [كتاب الجهاد]. بعد ما ذكر الكتب المتعلقة بأركان الإسلام التي هي الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما يلزم للصلاة مما يسبقها من طهارة وغير ذلك من الشروط، أتى بكتاب الجهاد؛ وذكر الجهاد بعد الحج ذكرٌ مناسب، وموضع مناسب؛ لأنه عبادة من العبادات، ولأن الحج ذكر أنه جهاد، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور)، فأخبر أن الحج جهاد، أي: جهاد للنفس، والجهاد يأتي ذكره وإطلاقه كثيراً في القرآن وفي السنة والمراد به القتال في سبيل الله، وهو قتال الأعداء، وقتال الكفار ليدخلوا في دين الله عز وجل، وليخرجوا من الظلمات إلى النور، فهذا هو الجهاد، ويطلق على الجهاد أنه في سبيل الله، وهو أحد المصارف الثمانية للزكاة، التي قال الله عز وجل فيها: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]، أي: الجهاد في سبيل الله، وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، والجهاد في سبيل الله يكون بأربعة أشياء؛ يكون بالنفس، والمال، واللسان، والنية أو القلب، جهاد الكفار بالمال والنفس جاء كثيراً في القرآن، وكثيراً ما يقدم المال على النفس، عندما تأتي الآيات التي فيها الجهاد بالنفس، والمال، يقدم المال على النفس بالذكر؛ وذلك لعظم شأن المال في تحقيق المقصود من الجهاد؛ لأنه يترتب عليه تحصيل السلاح، ويترتب عليه تحصيل المركوب، ويترتب عليه تحصيل الأطعمة والأرزاق، ويترتب عليه تحصيل الأثاث والمتاع الذي يلزم للجهاد، فمن أجل ذلك قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وقد ذكر بعض أهل العلم: أن جميع ما جاء في القرآن فيه ذكر المال والنفس، فإن المال مقدم على النفس، إلا في موضع واحد، ولعل هذا الموضع هو آية الشراء: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]، فقدم النفس على المال، وإلا فإن المواضع الكثيرة التي فيها الجمع بين المال والنفس في القرآن، قدم المال على النفس أو الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس؛ لما يترتب عليه من الأمور التي أشرت إليها، ولأن الإنسان قد يستطيع الجهاد بالنفس، ولكن ما عنده القدرة المالية، ولا يحصل مركوباً، ولا يحصل سلاحاً، فيتأخر عن الجهاد بسبب ذلك.

    والجهاد بالمال يترتب عليه الأمور الكثيرة، حتى الذي يستطيع أن يجاهد بنفسه، ولا يستطيع أن يحصل مركوباً، عن طريق المال يمكن هذا الذي يستطيع أن يقاتل بنفسه أن يحصل المركوب، وأن يجاهد في سبيل الله عز وجل، فالجهاد بالمال بذل الأموال للمجاهدين، إما لشراء الأسلحة، أو لتحصيل المركوبات، أو لتوفير الزاد والمتاع، وما إلى ذلك، هذا هو الجهاد بالمال، والجهاد بالنفس: كون الإنسان يخرج بنفسه في سبيل الله ليقاتل الأعداء.

    وأما الجهاد باللسان: فيتعلق ببيان الحجج، والإيضاح، والبيان، وكذلك ذم الكفار، وهجوهم بالشعر وغير ذلك، فإن هذا من الجهاد باللسان، وفيه ما جاء في بعض الأحاديث فيما يتعلق بـحسان وهجوه للكفار، وبيان أن ذلك شديد على الكفار، فذلك من الجهاد باللسان، وأما الجهاد بالقلب، أو الجهاد بالنية، فهو كون الإنسان يرغب في القتال، ويحرص عليه، وليس عنده مال يستطيع أن يجاهد به، أو يحصل به المركوب، وعنده القوة البدنية، ولكن ليس هناك ما يمكنه من الخروج في الجهاد في سبيل الله؛ لعدم وجود الراحلة، وما يحتاج إليه في سفره للجهاد، ويدل على ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بالمدينة لرجالاً ما سلكتم وادياً، ما قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم حبسهم العذر)، فهؤلاء يعتبرون مجاهدين بقلوبهم وبنياتهم؛ لأنهم كانوا مع المجاهدين بقلوبهم وبنياتهم، وإن لم يستطيعوا أن يذهبوا معهم بأنفسهم، لعدم القدرة المالية التي تمكنهم من الخروج، فهذه أنواع الجهاد الأربعة التي هي: جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وجهاد باللسان، وجهاد بالنية أو القلب.

    ثم أورد النسائي رحمه الله [باب وجوب الجهاد]، يعني: أنه من الأمور الواجبة، وأن هذا أمرٌ لازم، ويكون الجهاد فرض عين، ويكون فرض كفاية، وهذا الوجوب يكون على الأعيان، ويكون على الكفاية، فيكون على الأعيان إذا داهم الناس العدو في بلدهم، فإنه حينئذ يتعين على الكل أن يجاهد لصد الأعداء، ولا يعذر أحد في التخلف عنه؛ لأن العدو دهم الناس، فلابد للجميع من الوقوف صفاً واحداً في وجهه لصده، حتى لا يفتك بهم، وحتى لا يقضي عليهم، فهو عند ذلك يكون فرض عين، وكذلك إذا استنفر الإمام الناس للجهاد، فإنه ليس لأحد التخلف، بل عليه النفير، ويكون فرض كفاية في غير ذلك؛ فيما إذا اختير أناس ليذهبوا للجهاد في سبيل الله، فإن من وقع عليه الاختيار، أو من قدم نفسه لهذه المهمة، وحصل المقصود بذلك، فإنه يكون فرض كفاية، معناه: أنه يكفي البعض عن البعض، ولا يلزم الجميع؛ لأن فرض كافية هو الذي يقوم به البعض ويغني عن البعض الآخر، وفرض العين لا يغني أحدٌ عن أحد، بل يتعين على كل أحد أن يقوم بهذه المهمة، وأن يعمل الشيء الذي يلزمه في ذلك، ثم أورد النسائي عدة أحاديث، أولها: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه، الذي يرويه عن أبي بكر رضي الله عنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، لما أخرجه قومه، واضطروه إلى الخروج، كانوا يؤذونه في مكة، ولم يفرض عليه الجهاد بمكة لحكمة من الله عز وجل، منها: أن عدد المسلمين قليل والكفار كثيرون، فناسب أن يكون فرض الجهاد بعد ذلك، عندما يكون للمسلمين دولة، ويكون لهم إمام، ويكون لهم موطن، ويكون لهم منطلق ينطلقون منه، ويكون لهم موئل يجتمعون فيه، ويهاجرون إليه، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه قومه، فرض الجهاد على الناس في سبيل الله عز وجل، فـأبو بكر رضي الله عنه، لما اضطر الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج من مكة إلى المدينة، قال: [أخرجوا نبيهم؟ إنا لله وإنا إليه راجعون]، أخرجوا نبيهم الذي أرسله الله تعالى لهدايتهم، ولإخراجهم من الظلمات إلى النور، إنا لله وإنا إليه راجعون [ليهلكن]، أي: ليحلن بهم العذاب؛ لأنهم ارتكبوا جرماً كبيراً، وذنباً عظيماً، وهو إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أخرج من مكة قال في حقها: (إنك أحب بلاد الله إلى الله، ولولا أنني أخرجت لما خرجت)، هذا هو الحديث الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على فضل مكة، وأنها أفضل البقاع، وأحب البقاع إلى الله عز وجل، وهي أفضل من المدن، وما روي من أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لما أخرج من مكة: (اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي، فأسكني في أحب البلاد إليك)، يعني المدينة، فهذا حديث موضوع غير ثابت، ومن حيث المعنى أيضاً يعتبر غير مستقيم؛ لأنه يتضمن أن الأحب إلى رسول الله غير الأحب إلى الله، وهذا غير صحيح؛ لأن الأحب إلى رسول الله هو الأحب إلى الله، فما كان أحب إلى الله فهو أحب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا يكون الأحب إلى الله شيئاً والأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً آخر، بل الحديث الصحيح الثابت هو الحديث السابق.

    وقوله: [(فنزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39])]، أذن لهم في القتال؛ لأنهم ظلموا بإخراجهم من بلادهم، والعزم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، لما علموا أنه يريد الخروج من مكة هموا بقتله، وأرسلوا الرسل للبحث عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، قال أبو بكر : [فعرفت أنه سيكون قتال]، قال ابن عباس : فهذه أول ما نزل بشأن القتال، فقوله: فعرفت أنه سيكون قتال، هذا كلام أبي بكر، وليس كلام ابن عباس ؛ لأن ابن عباس رضي الله عنه كان في ذلك الوقت صغيراً، يمكن كان عمره في ذلك الوقت خمس سنوات، ثم بقي في مكة لم يهاجر في ذلك الوقت فهو صغير، وإنما هذا كلام أبي بكر ، وتقديره: قال ابن عباس : قال أبو بكر ، وقد جاء في بعض الطرق لهذا الحديث إضافة هذا القول إلى أبي بكر رضي الله عنه، وهذا هو الذي يناسب المقام.

    تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس: في الإذن بالقتال

    قوله: [أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام].

    عبد الرحمن بن محمد بن سلام ، وهو لا بأس به، وهي بمعنى صدوق، وحديثه أخرجه أبو داود، والنسائي.

    [حدثنا إسحاق الأزرق].

    وهو ابن يوسف الأزرق ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [حدثنا سفيان].

    وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، وهو ثقة، فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    [عن الأعمش].

    وهو سليمان بن مهران الكاهلي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن مسلم].

    هو مسلم بن عمران البطين ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن سعيد بن جبير].

    وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن ابن عباس].

    هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحابه الكرام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    [ عن أبي بكر ].

    هو عبد الله بن عثمان خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضل هذه الأمة على الإطلاق، وهو الذي جاء في حقه الفضائل الكثيرة في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء التنويه بشأنه في القرآن، في قول الله عز وجل في الهجرة: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فصاحبه هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    شرح حديث: (فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق حدثنا أبي حدثنا الحسين بن واقد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا، فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال، فكفوا، فأنزل الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:77])].

    أورد النسائي حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له، يعني: في أول الإسلام، وهذا مما يرويه ابن عباس عن الصحابة؛ لأنه كان صغيراً في ذلك الوقت، فيروي عن عبد الرحمن بن عوف، أو غيره من الصحابة، فمراسيل الصحابة حجة؛ لأنهم لا يأخذون إلا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فـعبد الرحمن بن عوف وأصحاب له -وكان من أوائل من أسلم- جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا لما كنا مشركين كنا أعزة، يعني: كنا أقوياء وفي عز، فلما آمنا صرنا في ذل؛ لأنهم قليلون والكفار كثيرون، وكانوا يريدون القتال، لكن وضعهم في ذاك الوقت لا يناسب فرض القتال لقلتهم، ولأنهم قليل جداً، والكفار كثيرون أضعاف مضاعفة، والعدد محصور في أول الإسلام، فشاء الله عز وجل أن يكون فرضه عندما توجد القوة التي بها يتمكن المسلمون دحر الأعداء، ومن الجهاد في سبيل الله عز وجل، وكان ذلك في المدينة عندما وجد للمسلمين موطن يعز فيه الإسلام، ويقوى فيه المسلمون، وتقوى شوكتهم، عند ذلك فرض الله الجهاد، ولهذا وجد النفاق في المدينة؛ لأن النفاق جاء مع القوة والعزة، ولم يكن هناك حاجة لظهوره في مكة؛ لأن من لا يريد الإسلام عنده الكفار، والكفار هم الكثيرون، فلا حاجة لأحد أن يكون منافقاً في مكة، والنفاق إنما وجد في المدينة لما قوي الإسلام وظهر، فكان الذي في قلبه شيء يخفيه، ويظهر الإسلام خوفاً على نفسه ولكنه يبطن الكفر، أما في مكة فلا حاجة إلى هذا الأمر، ولهذا قالوا: لما كنا مشركين كنا في عز، فلما آمنا صرنا في ذلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إني أمرت بالعفو، ولم أؤمر بالقتال)، وهو عليه الصلاة والسلام منفذ لما يأمره الله عز وجل به، لا يفعل شيئاً من تلقاء نفسه، إنما هو قائم أو يقوم بما يأمره الله عز وجل به؛ لأن ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم هو وحي من الله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، فلما حصل التحول والانتقال من مكة إلى المدينة، وظهر الإسلام، وقوي الإسلام، أمروا بالجهاد، فكان من الذين يريدون فريق عندما فرض الجهاد أصبحوا لا يريدونه، ولا يقدمون عليه؛ لأنه يترتب عليه الهلاك، ويترتب عليه ذهاب النفوس، ولا شك أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، ويحصل إما الشهادة في سبيل الله، وإما أن يرجع بنصر وغنيمة من الكفار.

    فهم في مكة كفوا عن القتال؛ لأنهم لما طلبوه ولم يوافقوا كفوا اتباعاً لنبيهم عليه الصلاة والسلام، ولما هاجروا إلى المدينة وأمروا بالقتال، وجد منهم فريق لا يريدون القتال؛ لما يترتب عليه من ذهاب النفوس، فأول ما نزل في الجهاد: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج:39]، وبعد ذلك نزل الأمر بالقتال مطلقاً، وقوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]، يعني: سبب الإذن، وهو أنهم ظلموا، وأن أعداءهم حالوا بينهم وبين دعوة الناس إلى الدخول في هذا الدين الحنيف، فهي أول ما نزل في الجهاد.

    فقوله: [(أمرنا بالقتال)]، هو محل الشاهد، وفي الآية ما يدل على وجوب الجهاد، ففيها ذكر أنهم طلبوا، ثم فيها أنه كتب القتال، فلما كتب جاء فريق منهم... إلى آخره.

    قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77]. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77] فآخرها يدل على ذلك، أي: لما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال)

    قوله: [أخبرنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق].

    وهو ثقة، أخرج له الترمذي، والنسائي .

    [حدثنا أبي].

    وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [حدثنا الحسين بن واقد].

    وهو ثقة له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.

    [عن عمرو بن دينار].

    هو عمرو بن دينار المكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن عكرمة].

    عكرمة مولى ابن عباس ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن ابن عباس].

    وقد مر ذكره.

    شرح حديث: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا معتمر سمعت معمراً عن الزهري ، قال: قلت: عن سعيد نعم، عن أبي هريرة، ح وأخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ لـأحمد، قالا: حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي، قال أبو هريرة : فذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم تنتثلونها)].

    أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب)، بعثت بجوامع الكلم، وهو كتاب الله عز وجل وسنته المطهرة، فالمقصود بجوامع الكلم: أنها كلمات جامعة، يعني: قليلة الألفاظ، فالكلام البليغ الوجيز، القليل المبنى، الواسع المعنى، هو الجوامع، يعني: كل كلمه جوامع، مثل قوله: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد)، (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، و(الدين النصيحة)، وغير ذلك، فهي كلمات جوامع، فكلامه لفظه قليل، ومعانيه تكون واسعة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكذلك كتاب الله عز وجل.

    قوله: [(ونصرت بالرعب)]، وهذا فيه الإشارة إلى القتال، وأنه أمر بالقتال، ولكنه نصر بالرعب، وهو يقذفه الله في قلوب الأعداء قبل أن يصل إليهم بمسافة طويلة، يلقي الله في قلوبهم الرعب، وهذا من تثبيت الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، ومن إضعاف أعدائهم، وإنزال الهزيمة بهم؛ أن الله تعالى يقذف الرعب في القلوب، وإذا حصل الرعب في القلوب، حصل بعده الوهن والضعف، وعدم تحقيق ما يريدون لما في قلوبهم من الرعب، ونصرت بالرعب، جاء في بعض الأحاديث مسيرة شهر، يعني: أنه يكون المسافة بينه وبين عدوه مسافة شهر، ومع ذلك يكون الرعب في قلوبهم، ولو بعدت المسافة بينه وبينهم.

    قوله: [(وبينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض)].

    وهذه رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان تأويلها وتفسيرها ما قاله أبو هريرة : فتوفي رسول الله؟

    قوله: [(فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم تنتثلونها)]، معنى هذا أن تأويل هذه الرؤيا: أن المسلمين يتغلبون على الأعداء، وأن ولايتهم تمتد، وأن رقعة البلاد الإسلامية تتسع، وأن الناس يدخلون في دين الله، ومن لم يدخل في دين الله، فإنه يجاهد وتؤخذ منه الجزية، أو تؤخذ منهم الخزائن التي يسلبونها منهم، ويأخذونها منهم، ولهذا قال أبو هريرة : [فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم تنتثلونها]، أي: تستخرجونها، يعني: فهذه المفاتيح هي خزائن الأرض، وقد جاء في الحديث: (أن كنوز كسرى وقيصر ستنفق في سبيل الله)، وقد حصل ذلك في زمن الفاروق ، فتلك الكنوز التي كانت عند تلك الأمتين العظيمتين فارس، والروم، أنفقت في سبيل الله على يد الفاروق من الغنائم التي غنموها في سبيل الله عز وجل، ووجه هذه الرؤيا وتفسيرها في غلبة المسلمين، وتمكنهم من أعدائهم، واستيلائهم على بلادهم، وكونهم يغنمون أموالهم، ويسبون نساءهم وصبيانهم، وكون من بيده مفاتيح الشيء يتمكن من الوصول إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى أنها وضعت بيده، فمعنى هذا أن ذلك المغلق الذي هذا مفتاحه، سيصل إليه من بيده المفتاح، وقد حصل ذلك عند اتساع البلاد بُعيد وفاته صلى الله عليه وسلم، في زمن الفاروق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم في زمن عثمان ، ثم بعد ذلك اتسعت قطعة بلاد الإسلام، حتى وصل المسلمون إلى المحيط الأطلسي، ووصلوا إلى بلاد السند، والهند، والصين، ودخل الناس في دين الله عز وجل، وصارت القوة للمسلمين والغلبة لهم، والله عز وجل قادر على نصر المسلمين بدون قتال، ولكن الله عز وجل يبتلي المؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، والله تعالى يقول: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]؛ لأن الله عز وجل لو شاء أن يظهر دينه لأظهره بدون قتال، ولكنه شاء أن يكون ذلك عن طريق الصراع بين الحق والباطل، وعن طريق الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال واللسان، وأن ذلك فيه الابتلاء والامتحان، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].

    تراجم رجال إسناد حديث: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب...)

    قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الأعلى].

    وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود في القدر، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

    [حدثنا معتمر].

    هو المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [سمعت معمر].

    هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن الزهري].

    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله ، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    [عن سعيد].

    وهو ابن المسيب ، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    [عن أبي هريرة].

    وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثر الصحابة أو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    [ح وأخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح].

    ثم قال: ح، وهي تدل على التحول من إسناد إلى إسناد، وأحمد بن عمرو بن السرح أبو الطاهر المصري ، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، والنسائي، وابن ماجه.

    الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع].

    والحارث بن مسكين ، هو المصري ، وهو ثقة، أخرج له أبو داود، والنسائي .

    [واللفظ لـأحمد].

    أي: أحمد بن أبي السرح الذي هو الشيخ الأول، وهذا على خلاف عادة النسائي فيما إذا ذكر الحارث بن مسكين وغيره، أنه يجعل اللفظ له غالباً، ولكنه أحياناً يجعل اللفظ لغيره كما هنا، فإنه نص على أن النص لـأحمد، فاللفظ لفظ شيخه الأول، وليس لفظ الثاني، وهو كما ذكرت، خلاف الغالب على عادة النسائي عندما يذكر الحارث بن مسكين وغيره، فإنه يجعل الحارث بن مسكين هو الثاني، ويجعل اللفظ له، وهنا جعله هو الثاني كعادته، ولكنه لم يجعل اللفظ له، بل جعله للشيخ الأول.

    [حدثنا ابن وهب ].

    وهو عبد الله بن وهب المصري ، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    [عن يونس].

    هو يونس بن يزيد الأيلي ثم المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة].

    وقد مر ذكرهم.

    شرح حديث: (أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب ...) من طريق ثانية

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا هارون بن سعيد عن خالد بن نزار أخبرني القاسم بن مبرور عن يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه].

    أورد النسائي طريقاً أخرى لحديث أبي هريرة، ولم يذكر لفظ هذه الطريق، بل أحال على الطريق السابقة، ولكن بنحو اللفظ المتقدم، وليس بمثله، معناه: أنه متفق معه في المعنى، ويختلف معه في الألفاظ، فهذا هو معنى نحوه، وإذا كانت الطريق الثانية مطابقة للطريق السابقة، فإنه يقال: مثله، يعني: أن اللفظ الذي لم يذكر، وهو متن هذه الطريق، مثل متن الطريق السابقة، أما إذا كان الذي لم يذكر متنه يتفق مع المتن السابق في المعنى، ولكنه يخالفه في الألفاظ، فيعبر عنه بمثل هذه العبارة التي هي: نحوه، أي: نحو هذا اللفظ، أو نحو اللفظ المتقدم قريب منه، يعني: نحوه قريب منه وليس مطابقاً.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب ...) من طريق ثانية

    قوله: [أخبرنا هارون بن سعيد].

    هارون بن سعيد ، وهو ثقة، أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

    [عن خالد بن نزار].

    خالد بن نزار ، وهو صدوق، يخطئ، أخرج له أبو داود ، والنسائي .

    [أخبرني القاسم بن مبرور].

    القاسم بن مبرور ، وهو صدوق، أخرج له أبو داود، والنسائي ، يعني: مثل الذي قبله.

    [عن يونس عن ابن شهاب].

    وقد مر ذكرهما.

    [عن أبي سلمة].

    وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم.

    [عن أبي هريرة].

    وقد مر ذكره.

    شرح حديث: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب ...) من طريق ثالثة

    تراجم رجال إسناد حديث: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب ...) من طريق ثالثة

    قوله: [أخبرنا كثير بن عبيد].

    وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه .

    [حدثنا محمد بن حرب].

    وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن الزبيدي].

    وهو محمد بن الوليد الزبيدي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .

    [عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة].

    وقد مر ذكر هؤلاء الأربعة.

    شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله، ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله)].

    أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [أمرت]، الآمر له هو الله عز وجل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا قال: أمرت، فالآمر له هو الله، وإذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، فالآمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله عليه الصلاة والسلام: [أمرت أن أقاتل الناس]، فيه: بيان الأمر بالقتال وفرضه، حتى يدخلوا في هذا الدين الحنيف، ويلتزموا بما فيه، فذكر المفتاح والمدخل الذي يكون به الدخول في الإسلام، والمقصود من ذلك الشهادتان.

    ذكر هنا: [حتى يقولوا: لا إله إلا الله]، أي: وأن محمداً رسول الله، يقولون: لا إله إلا الله، ويقولون: محمد رسول الله، لابد من الشهادتين، ولكن ذكرت شهادة أن لا إله إلا الله وحدها؛ لأن الثانية ملازمة لها، ولا تنفك إحداهما عن الأخرى، ولهذا جاء في حديث معاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفع الإنسان أن يشهد أن لا إله إلا الله دون أن يشهد أن محمداً رسول الله، وهما شهادتان متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله، فإن ذلك لا ينفعه، ولهذا اليهود والنصارى بعد بعثته عليه الصلاة والسلام لا ينفعهم أن يكونوا أتباع الأنبياء، بل لابد من دخولهم في الدين الحنيف الذي جاء به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين الجن والإنس، وقد ختمت بشريعته الشرائع، فلا عمل في شريعة من الشرائع السابقة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم؛ لأنها ناسخة للشرائع قبلها، فكتابه خاتم الكتب، وهو خاتم الرسل عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

    والحديث هنا جاء مختصراً؛ لأنه جاء عن أبي هريرة وغيره، وفيه ذكر الشهادتين، وذكر الصلاة والزكاة؛ (بأنهم إذا فعلوا ذلك عصموا دماءهم وأنفسهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل).

    قوله: [(فمن قال: لا إله إلا الله، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)].

    يعني: ما هو مطلوب في الإسلام، مثل الزكاة والصلاة، فإن الإنسان إذا أنكر هذه الأشياء، فإن إيمانه وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، التي حصلت منه، ناقضها بتكذيبه؛ لأن مقتضى أشهد أن محمداً رسول الله أن يصدق فيما يخبر به، وأن يمتثل ما يأمر به، وأن ينتهى عما ينهى عنه، فإذا كذب وأنكر، ولم يقبل ذلك الشيء الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يكون بذلك مكذباً لشهادته؛ أن لا إله إلا الله، وشهادته أن محمداً رسول الله، [(عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)]، يعني: أنهم إذا حصل منهم ذلك، فإنهم يأخذون بالظاهر، وإذا كان الباطن الذي لا يعلمه إلا الله يخالف الظاهر، وكان القلب منطوٍ على نفاق، واللسان أظهر الإيمان، والقلب مبطن الكفر، فإن الله تعالى هو الذي يعلم ما في القلوب، وهو مطلع على ما في السرائر، ومن علم ذلك منه فإن مآله إلى النار، وهو من أهل الدرك الأسفل من النار؛ لأن الله تعالى في الآخرة يحاسبهم على ما يعلمه منهم، والمؤمنون يأخذون بالظاهر، والباطن لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولهذا قد يظهر الإنسان بالأعمال الصالحة، ولكنه يبطن الكفر والعياذ بالله، فيكون ذلك نفاقاً، فالله عز وجل هو الذي يعلم ما في القلوب وما في السرائر، وهو الذي يكون الحساب عليه يوم القيامة، وأن من كان مبطناً للكفر ومظهراً الإيمان، فإنه في الدرك الأسفل من النار، ويكون فيها أبد الآباد لا يخرج منها؛ لأنه كافر، وإنما أظهر الإسلام والمسلمون أخذوا به؛ لأن لهم الظاهر، وعلم البواطن على الله سبحانه وتعالى.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ...)

    قوله: [أخبرنا يونس بن عبد الأعلى].

    هو يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري ، وهو ثقة، أخرج له مسلم، والنسائي، وابن ماجه .

    الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة].

    وهؤلاء مر ذكرهم جميعاً.

    شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ...) وفقه أبي بكر له

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا كثير بن عبيد عن محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله؟! قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعها، فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال، وعرفت أنه الحق)].

    أورد النسائي حديث أبي هريرة ، وهو ما تقدم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي، واستخلف أبو بكر ، وكفر من كفر من العرب، وارتد عن الإسلام، ومنع الزكاة، عزم أبو بكر رضي الله عنه على قتال مانع الزكاة، فجاء عمر رضي الله عنه وناظره في ذلك، وذكر الحديث الذي فيه: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)، يعني: أنه يستدل بقوله: إلا بحق الإسلام، ومن حق الإسلام أن يؤدوا الزكاة، فعند ذلك فهم عمر ورأى أن هذا الذي صار إليه أبو بكر هو الحق، وأن الله شرح صدر أبي بكر إلى الحق، وعرف هو أن ما صار إليه أبو بكر هو الحق، وأن من يمنع الزكاة يقاتلون، ومانع الزكاة إما أن يكون جاحداً لوجوبهاً، وهذا كافر بلا شك، أما إذا كان غير جاحد لوجوبها مقراً بوجوبها، ولكنه امتنع بخلاً أو تأولاً، فإنه إن تُمكن من أخذها منه قهراً، وأخذت منه، وإن كانوا ذوي منعة، وامتنعوا وقاتلوا على منعها، فإنهم يقاتلون حتى يؤدوها، ولهذا أبو بكر رضي الله عنه، لما قال: أن الزكاة حق المال، والرسول صلى الله عليه وسلم، قال: إلا بحقها، والزكاة هي حق المال، الحق الذي أوجبه الله تعالى في المال، قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، الذي يصلي ولا يزكي، ويمتنع من أداء الزكاة، ويكون له شوكة، وله منعة، يقاتل، فإنه يقاتَل، وإذا حصل التمكن من كونها تؤخذ بدون قتال، فإنها تؤخذ بدون قتال؛ لأن المقصود هو خروجها، فإذا أخذت ممن هي عليه حصل المقصود، وإن امتنع أو صار الذين امتنعوا ذوي قوة ومنعة، فإنهم يقاتلون حتى يقوموا بهذا الركن من أركان الإسلام، الذي هو أداء الزكاة التي هي حق المال، أو الحق الذي فرضه الله عز وجل في الأموال، ثم قال أبو بكر رضي الله عنه: [(والله لو معنوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها)]، قوله: [(عناقاً)]، المقصود من ذلك: المعز الصغيرة، ومن المعلوم: أنها دون سن الزكاة؛ لأن الزكاة من المعز، والعناق تكون من المعز، إنما تكون لما بلغ سنة فأكثر، وما دون السنة فإنه لا يخرج زكاة، ولكن هذا فيه بيان مبالغة، وأنهم لو منعوا شيئاً هو قليل كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه.

    قال عمر رضي الله عنه: فما إن رأيت أبا بكر فعل ذلك حتى عرفت أنه الحق، وأن الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أمرت أن أقاتل الناس) وفقه أبي بكر له

    قوله: [أخبرنا كثير بن عبيد عن محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله].

    مر ذكر أولئك إلا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو ثقة، فقيه، من فقهاء التابعين، من الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    [عن أبي هريرة].

    وقد مر ذكره.

    حديث: (أمرت أن أقاتل الناس) وفقه أبي بكر له من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أحمد بن محمد بن المغيرة حدثنا عثمان بن سعيد عن شعيب عن الزهري حدثنا عبيد الله ح وأخبرنا كثير بن عبيد حدثنا بقية عن شعيب حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر ، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله؟! قال أبو بكر رضي الله عنه: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله عز وجل شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق)، واللفظ لـأحمد].

    ثم أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثلما تقدم في الطريق السابقة.

    قوله: [أخبرنا أحمد بن محمد بن المغيرة].

    وهو صدوق، أخرج له النسائي وحده.

    [حدثنا عثمان بن سعيد].

    هو عثمان بن سعيد بن كثير الحمصي ، وهو ثقة، أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه .

    [عن شعيب].

    هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن الزهري حدثنا عبيد الله].

    وقد مر ذكرهما.

    [ح وأخبرنا كثير بن عبيد].

    مر ذكره.

    [عن بقية].

    وهو ابن الوليد ، وهو صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.

    [عن شعيب حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أن أبا هريرة].

    وقد مر ذكر هؤلاء.

    حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ...) وفقه أبي بكر له من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا الوليد حدثني شعيب بن أبي حمزة وسفيان بن عيينة وذكر آخر، عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لما جمع أبو بكر لقتالهم فقال عمر: يا أبا بكر ، كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟! قال أبو بكر رضي الله عنه: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله تعالى قد شرح صدر أبي بكر لقتالهم فعرفت أنه الحق)].

    أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثلما تقدم.

    قوله: [أخبرنا أحمد بن سليمان].

    هو أحمد بن سليمان الرهاوي ، وهو ثقة، أخرج له النسائي وحده.

    [حدثنا مؤمل بن الفضل].

    مؤمل بن الفضل ، وهو صدوق، أخرج له أبو داود، والنسائي .

    [حدثنا الوليد].

    هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة ،كثير التدليس والتسوية، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    [حدثني شعيب بن أبي حمزة].

    وقد مر ذكره.

    سفيان بن عيينة وذكر آخر].

    هو سفيان بن عيينة المكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة].

    وقد مر ذكرهم.

    حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ...) وفقه أبي بكر له من طريق رابعة وتراجم رجال إسناده

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن بشار حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا عمران أبو العوام القطان حدثنا معمر عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ارتدت العرب، قال عمر: يا أبا بكر، كيف تقاتل العرب؟، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، والله لو منعوني عناقاً مما كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه، قال عمر رضي الله عنه: فلما رأيت رأي أبي بكر قد شرح علمت أنه الحق). قال أبو عبد الرحمن: عمران القطان ليس بالقوي في الحديث، وهذا الحديث خطأ، والذي قبله الصواب، حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة].

    أورد النسائي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو بمعنى حديث أبي هريرة ، إلا أن فيه ذكر الصلاة والزكاة، وأيضاً حديث ذكر الصلاة والزكاة جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل)، فهو في الصحيحين من حديث: ابن عمر ، وفيه ذكر الصلاة والزكاة، وحديث أنس هنا فيه ذكر الصلاة والزكاة.

    وقال النسائي: إنه خطأ، والصواب هو ما تقدم عن أبي هريرة ، لكن هذا الذي جاء في حديث أنس هو ثابت من حديث غيره، وهو في الصحيحين، وحديث ابن عمر أورده النووي في الأربعين النووية، وهو الحديث الثامن من أحاديث الأربعين.

    قوله: [أخبرنا محمد بن بشار].

    محمد بن بشار الملقب: بندار المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.

    [عن عمرو بن عاصم].

    عمرو بن عاصم ، وهو صدوق في حفظه شيء، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن عمران أبو العوام القطان].

    وهو عمران بن داور أبو العوام القطان ، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.

    [عن معمر عن الزهري عن أنس].

    وقد مر ذكرهم.

    [عن أنس ].

    وهو أنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767502468