إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب قتال أهل البغي [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الناظر بنظرة فاحصة في أسباب الخروج على جماعة المسلمين وإمامهم يجد أن أعظم أسباب ذلك الخروج مرده إلى الهوى ومجانبة الكتاب والسنة، الأمر الذي يؤدي إلى احتقار المخالف، فيظهر ذلك أولاً بالشتم والنقد ثم بالخروج بالسلاح. وقد ذكر الفقهاء الأحكام المتعلقة بذلك، واستنبطوها، وبينوا الأحوال المختلفة لهؤلاء الخارجين، وكيف يتعامل الإمام مع كل حالة.

    1.   

    الخروج عن جماعة المسلمين فتنة عظيمة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

    يقول المصنف -رحمه الله تعالى-: [ إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ فهم بغاة].

    فقد ذكر المصنف رحمه الله في هذه الجملة الضوابط التي يمكن أن يتوصل من خلالها إلى معرفة البغاة، وقد اختلفت تعاريف العلماء رحمهم الله، ولكن هذه الصفات التي ذكرها هي من أجمع الصفات في معرفة أهل البغي، وقد قسم

    صفات الطائفة الباغية

    العلماء رحمهم الله الطوائف في هذا الباب إلى طائفتين: طائفة عادلة، وطائفة باغية.

    فأهل البغي ذكرهم المصنف أربعة صفات، هذه الصفات الأربع لا بد من توفرها للحكم بكونهم بغاة:

    الصفة الأولى: أن يخرجوا عن جماعة المسلمين وإمامهم، فيكون فيهم خروج على جماعة المسلمين وإمامهم.

    الصفة الثانية: أن يكونوا جماعة.

    الصفة الثالثة: أن تكون لهذه الجماعة شوكة ومنعة وقوة.

    الصفة الرابعة: أن يكون لهم تأويل سائغ.

    هذه الأربع الصفات لا بد من توفرها.

    يقول رحمه الله: ( إذا خرج قوم)

    الخروج على الأئمة وعلى جماعة المسلمين فتنة عظيمة، ولذلك اعتنى العلماء رحمهم الله بهذا الأمر حتى ذكروا في مسائل الاعتقاد، أن مذهب أهل السنة والجماعة أنه ينبغي لزوم جماعة المسلمين، وتلك هي وصية الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ودرج عليها أئمة السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين، وجعل الله الخير للأمة في اتقاء الفتنة، والبعد عنها، ولزوم الجماعة ما أمكن.

    ولذلك نجد في مباحث العقيدة هذا المبحث، ويعتني العلماء فيه بالتأصيل الشرعي للإمامة، ولزوم الجماعة، والسمع والطاعة، والضوابط المعتبرة في ذلك، وكلام الفقهاء في هذا الباب من الفقه إنما هو في باب الجنايات، بمعنى: في حكم من خرج، وليس في تأصيل وتقعيد هذا الأمر والكلام عليه، ولذلك يشير العلماء رحمهم الله فقط إلى أنه مذهب أهل السنة والجماعة من حيث الأصل.

    وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أنه لو تغلب أحد على المسلمين بالشوكة والمنعة، وأصبح يحكم فيهم بالشرع فإنه تلزم طاعته، إذا انعقدت عليه جماعة المسلمين، ولا يشترط انعقاد الكافة عليه، بل المراد أن تنعقد كلمة أهل الحل والعقد والرأي، ولذلك جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر المسلمين كلهم في الستة الذين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ومن هنا قالوا: العبرة بأهل الحل والعقد، وأهل الصلاح كالعلماء والفضلاء، ومن يعرف برجاحة العقل وسداده، ونحو ذلك ممن لهم رأي، وحسن نظر، والناس تبع لأمثال هؤلاء.

    فإذا انعقدت الكلمة من هؤلاء؛ فإنها تكون جماعة المسلمين، والمنبغي لزوم هذه الجماعة، وبين النبي صلى الله عيه وسلم أن على المسلم السمع والطاعة وإن تأمر عليه عبد حبشي؛ ولذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المثل، وقد كانت العرب فيهم العصبية والأنفة أن تقبل بمثل هذا الأمر، ولكنه أراد بذلك إرغام أنف المسلم لحكم الشرع.

    والعجيب أنك لن تجد الأمة تسير على هذا الأصل إلا وجدت غياباً لكثير من الشرور، وإن وجدت شروراً في جماعة فإنك تجد أشر من ذلك أن يخرج الإنسان عن الجماعة، ومن هنا لم تأت هذه النصوص من فراغ، ومن تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) يجد أمراً عجيباً، وعلى هذا كان مذهب أهل السنة والجماعة في لزوم هذا الأصل.

    مظاهر الخروج عن جماعة المسلمين

    يكون الخروج أول ما يكون بالرأي؛ ولذلك نجد نصوص الكتاب والسنة تأمر المسلم بعدم اتباع بالهوى، وعدم المبالغة في تخطئة الغيره، وعدم الدعوة للشذوذ، ومن تأمل أيضاً هدي السلف الصالح رحمهم الله وجد ذلك جلياً ظاهراً.

    فيبدأ الخروج بالاحتقار، والكلام في الولاة والحكام، ثم في العلماء والفضلاء واتهامهم في الدين والرأي، حتى تنسل ثقة الناس من هؤلاء، وإذا نزعت الثقة من العلماء فإنه ينتظر الشر العظيم، والبلاء الوخيم، وهناك كلمات يقولها العلماء قد لا يلقي الإنسان لها بالاً، ولكنه إذا تأملها وعاش حقيقتها أدرك ما يعنيه العلماء وأهل العلم حينما يتقون الفتنة، ويحرصون على جمع الكلمة ما أمكن، وليس معنى ذلك أننا سنصل إلى حال يشابه ما كان في عصر الصحابة أو الخلفاء الراشدين، إنما الشريعة تمشي على الأغلب، وتراعي في المصالح الأغلب، ومن هنا تجد أن المصالح في اتباع هذه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأكبر من أن يجتهد الإنسان عليها، أو يحاول أن يخرج عنها باجتهاد أو برأي.

    الخروج من حيث هو بالأصل لا يكون إلا بالرأي، وقد ضرب الله المثل للإنسان حتى في البهائم والحيوانات فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26] فالحكيم العاقل ينتبه للأمثال، والإنسان لو أراد أن ينظر إلى جماعة المسلمين ويشذ عن رأيهم فلينظر إلى بيته، حينما يرى أنه يقوم على مصالح أولاده ورعاية أسرته، ويسهر عليهم، وفي قرارة قلبه يتمنى أن يكون أفضل بيت، وأحسن بيت، ولكنه ببشريته وضعفه تنتابه الشهوات والملهيات، حتى لربما ضيع كثيراً من حقوق أولاده، وهو في دولة صغيرة وبيئة صغيرة، لا يستطيع أن يجد فيها عشر معشار ما يجده غيره ممن هو أعظم منه مسئولية، وأكثر منه أمانة.

    ومن هنا: إذا أنصف الغير تمعن وتريث، ونظر إلى الأمور بأغلبها خيراً وأقلها شراً كما قرر هذا العلماء والأئمة رحمهم الله، فتجد الإنسان إذا أراد ابنه أن يشذ عنه، أو أن يتمرد عليه في بيته، أول ما يبدأ التمرد بالاحتقار، وأول ما يبدأ الابن إذا كان ابناً شاذاً عن بقية الأبناء أن يذكر مثالب أبيه، وأن يحاول أن يفسر كل خير ونصيحة، وكل ما يداوي به جراحه، وكل ما يحسن به إليه، يحملها على العكس والضد.

    ومن هنا لا يزال الإنسان يتألم مما يرى ويسمع، وكل يوم هذا الابن يسل محبته ومودته وتقديره من آبائه ومن بقية الأسرة، حتى لربما أصبح البيت جحيماً لا يطاق.

    فأول ما يبدأ الشر بالاحتقار، ولذلك تجد الأمور إذا قامت على حسن التقدير، وعدم الغلو في هذا التقدير، وعدم المبالغة في الإطراء والمدح، وأن يكون هناك نوع من التعقل، إلا في المواطن المحددة التي تجابه بضدها، فيقابل الإنسان بالضد من المدح والثناء، حتى يقطع دابر من هو ضده، أما في الشهادة فيشهد شهادة الحق، ويحاول قدر المستطاع أن يعذر وأن ينصف، وأن ينظر إلى غلبة الخير وغلبة المصالح، ووجود الشر في ضده.

    فالخروج على الأئمة والجماعة يكون بالاحتقار، ويكون الاحتقار للعامة والخاصة، فيحتقر أئمة المسلمين، ثم بعد ذلك لربما استرسل به الشيطان -والعياذ بالله- إلى أن يحتقر العوام.

    ومن نظر في أحوال الخارجين في القديم, وحتى في العصر الحديث، نجد أحدهم -في بعض البلدان الخارجية- ينتسب للإسلام ثم يكفر مجتمعه, ويرى أن هذا المجتمع كله كافر، وعندها لا يبالي أن يقتل الصغير أو الكبير أو المرأة أو الطفل، بل ويرى أن هذا حقاً، وأن هذا يطاع به الله عز وجل، ويتقى به الله عز وجل -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا كله كما أخبر الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21] والشيطان له خطوات.

    ومن هنا يبدأ بالاحتقار، ثم بالنقد؛ لأنه إذا بدأ الاحتقار في القلب تسلط اللسان، فبدأ بالنقد، ثم بعد النقد يبدأ يضخم هذه الأمور، ثم يصل إلى قاعدة أو أساس أن الأمر منكر، ثم هذا المنكر يوجد معه منكر آخر، ثم المنكر الثالث، حتى يصل إلى التكفير، ثم يتعدى بتكفيره إلى من رضي به ومن سكت عنه ومن مدح مدحة واحدة قد يلحق بهذا، والسبب في هذا كله الجهل بحكم الله عز وجل، وعدم الرضا بما أنزل الله، وقد يقال له: قد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم المرء المسلم على السمع والطاعة، فيرد عليك قائلاً: أنت بهذه الأفكار وبهذه الرجعية تريدنا صماً بكماً. فيتعالى على النص؛ لأن عقله لا يستطيع أن يتقبل مثل هذا؛ لأن عنده هوى متبعاً.

    فيبدأ الخروج بالاحتقار والازدراء، وعدم المبالاة بجماعة المسلمين، وعدم المبالاة بعلمائهم، وعندها تزل القدم بعد ثبوتها، والله قد أعذر لهؤلاء، فنص الكتاب ونص السنة واضح، وجماعة المسملين أمامه وعلماؤهم أمامه، فمن احتقر هذا كله فلا يلومن إلا نفسه، وكل ما يأتي من تبعات، وكل ما ينجر إليه من ويلات وعواقب وخواتم، فلا يلومن في ذلك كله إلا نفسه، ولن يهلك على الله إلا هالك؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر المنكرات، ويذكر ما سيكون من الولاة من المساوئ والمثالب، ثم قال الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم أغير الخلق على الحق، وأغير على هذه الأمة: (أفلا نناجزهم بالسيوف؟ قال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) من يستطيع أن يجتهد مع هذا، هل يستطيع أحد أن يقدم على هذا أو يؤخر؟ فما على المسلم إلا التسليم.

    لا يعني هذا التخاذل أو التواكل، بل يعني السمع والتسليم، وهل الإسلام إلا الاستسلام، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ويقول: (يا رسول الله! كيف نعطي الدنية في ديننا!) أي: بتلك الشروط القاسية على المسلمين، ثم هم محرمون يتحللون من إحرامهم، ويرجعون إلى ديارهم، ثم إذا أسلم أحد يرد إلى الكفار، وإذا ارتد مسلم فإنه لا يرد إلى المسلمين (أنعطي الدنية؟!).

    إذا جئت تنظر إلى الظاهر وجدت الذلة والصغار في الظاهر، وأموراً لا يسلم بها العقل، لكن الشريعة تأتي لكي تحكم الإنسان بالسمع والطاعة، وتأمر بالاستسلام والتسليم الذي يأتي به الفرج والمخرج، ويظن البعض أنها أوهام وأحلام، ونحن نقول له: اتبع وسترى ما يسرك، وإن كان يظن الإنسان أنه سيجد خيراً في اجتهاده، فسيجد خيراً من ذلك الخير في اتباعه للكتاب والسنة، ولن يجد أعلم من الله بخلقه، ولا أحكم ولا أعدل من الله عز وجل في شرعه ونظامه!

    فلا يستدرك أحد على الله عز وجل، ولذلك تجد أعداء الإسلام يدخلون السموم على المسلمين في هذا، ويحاولون تشكيكهم، ويعتبرون أن هذا ذلة، ويعتبرون أن هذا نوع من الخور والغفلة والسذاجة، نعم؛ ذلة في مقام عزة، ومهانة في مقام كرامة، وعقل وإنصاف، وبعد نظر، ومن قرأ التاريخ يجد العبر، وكم من أشياء خرجت عن جماعة المسلمين تحت دعاوى، ثم لما تمكن أصحاب تلك الدعاوى رموا وراء ظهورهم ما كانوا يقولون.

    هناك أمور لا يمكن للإنسان أن يدركها، فمادام أن هناك نصاً وشرعاً أمر أن يسلم به فليسلم به.

    فالخروج لا يكون أول ما يكون إلا بالاحتقار، ولذلك يبلغ ببعض الناس في بعض الزمان أن يقول: لم يبق عالم أثق به. وإذا قال هذه الكلمة؛ فليعلم أنه قد ضل ضلالاً مبيناً، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) وقد زكى حملة هذا العلم، وانظر إلى نفسك حينما تريد أن تحفظ آية من كتاب الله لا تستطيع أن تحفظها، بعض السور قصيرة لا تستطيع أن تحفظها، لتدرك أن هذا الدين عطية من الله، وأنه مادام وأنه قد زكى هؤلاء العلماء فوالله إن العالم ليخاف، ولكنه يخاف على المسلمين لا على نفسه، وينصح للمسلمين لا لذاته، ولا يدخل في جعبته شيئاً، وإنما يعلم أنه إذا أصغت له الآذان، ووعت منه القلوب فإنه على شفير جهنم، وأنه إن أخذ بهم بالسلامة سلم له دينه، وإن أخذ بهم على منهج السلف الصالح ابتعد بهم عن هذه العواقب الوخيمة.

    بين العلماء رحمهم الله أن الشذوذ لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا تجد نصوص الشريعة كلها تذم شيئين، ولو نظرت في كثير من المصائب الموجودة اليوم وجدتها بسبب هذين الشيئين:

    الأول: في قرارة الإنسان وقلبه.

    والثاني: في لسانه، في اللسان الذي يكب الناس في النار على وجوههم والعياذ بالله.

    أما في القلب: فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) فما بالك إذا احتقر العلماء، واحتقار العلماء -في الخروج على الأئمة والخروج على الولاة والعلماء- لا يكون بأن يقول لك: أنا أحتقر فلاناً، ولكنه كما يكون بالمقال يكون بلسان الحال.

    هناك نماذج، ونذكر في واقعنا ما يقوله البعض الآن عندما تقول له: الشيخ أو العالم فلان نصح بكذا، وإذا به يقول: والله ما يفقه الواقع! ولا بد من فقه الواقع!

    لكن ما هو فقه الواقع؟ فقه الواقع أن تعي ما تقول، والواقعة التي تتكلم فيها، وعندك فيها نص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو تجتهد وعندك أمانة وورع وإخلاص، فقد فقهت في واقعك، أما فقه الواقع أن تكون بمثابة الشهادة والتزكية تُعطى لمن يوافق رأيي، وتنزع ممن لا يوافق رأيي، فبهذا نصير علماء للعلماء، ومعلمين للعلماء، وأعرف من العلماء بدين وشرع الله عز وجل!

    ولذلك ينبغي الحذر، فقد يكون هناك كلمة حق يراد بها باطل، وقد بينت النصوص أنه لا يهلك على الله إلا هالك، فعلى كل إنسان أن يحتاط من هذه اللمزات، وهذا الاحتقار؛ لأنه يؤدي بالإنسان إلى العواقب الوخيمة.

    بداية خروج الخوارج على علي رضي الله عنه كان بالاحتقار

    الخروج على الأئمة لا يكون إلا بالاحتقار، ومن نماذج ذلك في التاريخ: أن أول فتنة وقعت للخوارج حينما خرجوا على علي رضي الله عنه فاحتقروه، واحتقروا مكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتقروا مكانه من العلم والفقه، وقد أمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه بعثه إلى اليمن قاضياً ومعلماً، واستخلفه على المدينة صلوات الله وسلامه عليه وقال له: : (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) فكان بهذه هي المنزلة العظيمة، وإذا بالخوارج يحتقرونه في ذلك، فخرجوا عليه رضي الله عنه وأرضاه، بالنقمة؛ نقموا عليه أنه قبل التحكيم، وقد بينا في المجلس الماضي كيف عتبوا عليه، وكيف أنه رضي الله عنه أقام عليهم الحجة.

    فأصل الخروج لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا أول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما -وهذا موضع الشاهد- أنه قال لهم: ماذا تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه؟ ماذا تنقمون منه وهو أسبق للإسلام وأعرف بشرع الله عز وجل وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم؟

    فهو يخاطب أناساً لو كان عندهم عقل وبصيرة، لرجعوا إلى أنفسهم، إذ كيف يحتقرون هذا الصحابي الجليل المبشر بالجنة والخليفة الراشد، ورموا بكل ذلك وراء ظهورهم، بل وصل الأمر إلى تكفيره رضي الله عنه وأرضاه.

    ومن هنا أول ما يكون الخروج بالاحتقار، وما وجدنا أئمة السلف رحمهم الله يحرصون على شيء مثل احترام المسلم لأخيه المسلم، فضلاً عن العلماء وفضلاً عمن له حق وله فضل.

    1.   

    صفات البغاة المستحقين للقتال

    يقول رحمه الله: ( إذا خرج قوم)

    أي: تميزوا عن جماعة المسلمين بمكان يتجمعون فيه، أو يتحزبون فيه، كما حصل للخوارج حينما اجتمعوا بحروراء، وهذا شرط عند بعض العلماء رحمهم الله، ومنهم من أخذ بمطلق الخروج.

    وقوله رحمه الله: (قوم) هذه العبارة تشير إلى أنه لا يكون الخروج من الأفراد، وأن خروج الأفراد لا يأخذ حكم خروج الجماعات، فلو أن شخصاً تبنى الخروج على جماعة المسلمين، ولم يكن له أتباع أو أفراد كالاثنين والثلاثة؛ فالصحيح: أنهم لا يأخذون حكم البغاة؛ وذلك لتعبير القرآن بالطائفة، والأصل في ذلك: عمل السلف الصالح رحمهم الله.

    والشرط الثالث: أن يكون لهم شوكة ومنعة، أما إذا كانوا لا شوكة لهم ولا منعة، وانحصروا في مكان دون أذية للمسلمين، ودون تحريض للغير أن يخرج معهم بشق عصا الطاعة والشذوذ عن الجماعة؛ فإنهم لا يأخذون حكم الخوارج في قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله، وإنما من حق الإمام أن يعاملهم بما يقطع شرهم وبلاءهم عن المسلمين: إما بعزلهم، وإما بمنع الناس من الاتصال بهم، أو نفيهم ونحو ذلك مما يرى فيه المصلحة.

    والشرط الأول دليله إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال الخوارج بالخروج، وهذا يدل على أنهم لا يقاتلون، ولا يستباح منهم القتال إلا بخروجهم، ويتحقق الخروج بالاعتداء على حرمات المسلمين، ومن هنا استدل العلماء بأن علياً رضي الله عنه كما في الرواية الصحيحة عنه: ما قاتل الخوارج إلا لما قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت رحمه الله ورضي عن أبيه، فلما قتلوه آذنهم علي رضي الله عنه بالقتال، فقالوا: إنهم لا يقاتلون إلا بهذا الشرط.

    وهناك من العلماء -وهو رأي صحيح وأميل إليه- من يقول: إنه لا يشترط أن يبدءوا بالقتال إذا غلب على الظن أنهم سيفعلونه؛ لأنه لو اشترط هذا الشرط فمعناه: أنهم لا يقاتلون إلا إذا فعلوا الضرر بالمسلمين، والواقع أنه إذا غلب على الظن أنهم أعدوا العدة يريدون التعرض أو الأذية بالمسلمين، فحينئذ يجوز قتالهم، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، وهو أنه لا يشترط وجود القتال منهم، وأنه إذا غلب على ظن الإمام أنهم سيخرجون، وأنه سيكون منهم الضرر؛ فمن حقه أن يبدأهم دفعاً للشر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بادر عدوه قبل أن يأتي إلى المدينة كما صح عنه في غزواته صلوات الله وسلامه عليه، وكان من شجاعته عليه الصلاة والسلام أنه لا يسمع بقوم يريدون غزوه إلا بادرهم.

    وقوله رحمه الله: (بتأويل سائغ)

    هذا الشرط الرابع هو التأويل: أن تكون عندهم شبهة، وهذه الشبهة تكون في الرأي كما اشتبه الأمر على الخوارج، وتأولوا في قتال علي رضي الله عنه وأرضاه، فإذا تحققت هذه الأربعة الشروط فحينئذ يوصف هؤلاء بكونهم بغاة أو أهل بغي.

    1.   

    مشروعية مراسلة أهل البغي لإزالة الشبه ورفع المظالم عنهم ليرجعوا

    قال المصنف رحمه الله: [ وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه].

    قوله: (وعليه) أي: يجب على الإمام أن يراسلهم، فيبعث إليهم أناساً من أهل العلم ومن أهل الصلاح، أو ممن يقبلون قوله ويناقشونه ويناظرونه، وقد يكون بعض العلماء أقدر على ردهم إلى الحق، والدليل على هذه المسألة فعل علي رضي الله عنه، فإنه بعث إلى الخوارج عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما فناظرهم، ورجع معه ألفان.

    وانظر كيف أن الإسلام يحفظ الحقوق ويعالج الأمور بحكمة! فلا أكمل من شرع الله عز وجل، ولا أتم من هديه، فأرسل رضي الله عنه وأرضاه عبد الله بن عباس وناظرهم؛ لأنه قد يكون هناك أناس لبس عليهم، فكم من كلمات ظاهرها السلامة وباطنها الخطأ والخلل، ويغتر بعض المسلمين من الأخيار والصالحين بظاهرها من الخير؛ ولذلك لا يكشف عوارها، ولا يبين زيفها إلا من عنده علم وبصيرة، فحينئذ يوكل الأمر إلى العلماء أن يناقشوهم وأن يناظروهم ويقيموا عليهم الحجة، وقد نص عليه جماهير العلماء رحمهم الله: على أنه يجب على ولي الأمر أو الوالي أو الإمام أن يبعث إليهم من يقيم عليهم الحجة.

    قوله: [ فإن ذكروا مظلمة أزالها].

    أي: فإن ذكر البغاة مظلمة، يعني أنهم خرجوا بسبب مظلمة؛ أزالها؛ وقد ذكر بعض العلماء أنه يجب على ولي الأمر أن ينصفهم إذا ذكروا مظلمة، ويكون معهم؛ لأنهم إذا كانوا مظلومين فالواجب عليه أن يزيل عنهم الظلم, وقد تكون في الناس عصبية، أو ضعف في الدين، فإذا حصل أقل الظلم بالغوا فخرجوا، وربما حصلت فتنة وشر، فمثل هؤلاء يبين لهم أن هذه المظلمة ستزال عنهم، ويرفع ما بهم من البلاء، ويكشف عنهم الظلم؛ لأن الله أمر بالعدل، وأوجب العدل على الحكام والولاة، ولا يجوز لهم أن يظلموا رعاياهم، ول أن يكونوا سبباً للخروج عليهم بهذه المظالم.

    وقد يستطيل بعض العمال في عمالته، ويستغل عمله، فيظلم ويكره الناس في ولاتهم، فحينئذ يجب على الولاة أن ينصفوا المظلومين، وأن يردوا المظالم إلى أهلها، وألا يمنعهم من قبول الحق كونه أتى من هؤلاء، بل عليهم أن يقبلوا الحق، ويردوا المظالم إلى أهلها، وينصفوهم في ذلك؛ لأن الله أوجب عليهم ذلك، وما شرع الله عز وجل الإمامة إلا لهذا المقصد العظيم وهو: إقامة العدل، ومنع الظلم، وكف الظالم عن ظلمه، فإذا ذكر البغاة المظلمة فالواجب على الإمام أن ينصفهم فيها.

    قوله: [ وإن ادعوا شبهة كشفها ].

    بأن يخرجوا في مدينة، ويكون سبب خروجهم في هذه المدينة كون عامل المدينة ظالماً، وبعض الأحيان يكون في البوادي فيظلمهم السعاة والجباة، وأصحاب الضرائب؛ فعلى الولاة أن يزيلوا هذه المظالم كلها، وهذا واجب عليه لتزال هذه الشبهة.

    قوله: [فإن فاءوا].

    أي: رجعوا إلى جماعة المسلمين، كف عنهم، وقبل رجوعهم؛ ولذلك قبل علي رضي الله عنه الخوارج الذين تابوا ورجعوا وكانوا قرابة الألفين، ولم يعنف أحداً منهم ولم يلمه.

    فإذا تبين الحق للمسلم ورجع إليه، فهذا يدل على خيره وفضله، والمسلم الحق هو الوقاف عند حدود الله، الذي إذا استبانت له المعالم، وتبين له أن الشرع يلزمه بجماعة المسلمين، وسمع من العلماء النصيحة والتوجيه وقبله بنفس مطمئنة ورجع، فهذا يدل على فضله، وأنه إنسان يريد الخير، فيُقبل منه ذلك ولا يحاسب ولا يقرع ولا يوبخ، بل يثبت على رجوعه ويعان على ذلك.

    1.   

    حكم مقاتلة الخوارج ابتداء بعد إقامة الحجة بمراسلتهم

    قوله: (وإلا قاتلهم) أي: قاتلهم وجوباً، أي: يجب عليه قتالهم، وهذا قول جماهير السلف والخلف؛ لأن الله تعالى يقول: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات:9] فأوجب الله القتال بالأمر، ولأن علياً رضي الله عنه قاتل الخوارج، وقد أجمع أئمة السلف رحمهم الله على مشروعية قتال من خرج على جماعة المسلمين، وأن على ولي الأمر أو الإمام إذا لم يرجعوا بعد أن تقام عليهم الحجة أن يقاتلهم، واختلف العلماء رحمهم الله في كيفية القتال على وجهين:

    فمن أهل العلم من يقول: يقاتلون تدريجياً، فيحاول بالأخف ثم بالأقوى منه، ثم بالأقوى منه، فإن رجعوا وإلا شد وطأته عليهم حتى يكسر شوكتهم، ويستأصل شأفتهم، ويقطع دابرهم عن المسلمين.

    ومن أهل العلم من قال: يجوز أن يبتدئهم بالقوة والعنف.

    المذهب الأول للشافعية والحنابلة: أعني أنه ينبغي التدرج، والمذهب الثاني: للحنفية والمالكية.

    والحقيقة من حيث الأصول والأدلة: أن مذهب المالكية والحنفية أقوى دليلاً؛ لأنهم قالوا: إن الله أوجب القتال وقال: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات:9] وهذا يستلزم القوة وأن يكون حكمه حكم القتال سواءً بسواء، فيُهجم عليهم ويقاتلون حتى بالمنجنيق، وبالرمي بالنار ما لم يكن فيهم نساء وأطفال، على تفصيل في هذه المسألة.

    قالوا: لأن المراد من هذا قطع دابرهم، وفي هذا استئصال للشر، وأيضاً ردع للغير أن يسلك مسلكهم.

    والمذهب الأول فيه احتياط، لكن من حيث الدليل فمذهب القائلين أنه يجوز له قتالهم مباشرة أقوى دليلاً، وقد قاتلهم علي رضي الله عنه، والقتال الذي فعله بهم رضي الله عنه كان كسائر القتال إلا في مسائل فيما يترتب على القتال، فإن أهل البغي ليس قتالهم كقتال الكفار كما هو معلوم، فلا يجهز على جريحهم إذا كان هناك جريح ينزف بل يداوى ويعالج.

    وأيضاً ثبت عن علي رضي الله عنه في ابن ملجم لما طعنه أنه أمر أن يسقى وأن يضاف، ولم يأمر بقتله رضي الله عنه مباشرة، وأمر بالإحسان إليه، فإذا مُكن منهم فلا يعاملون معاملة غيرهم؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: (إخواننا بغوا علينا)، فالأصل في هذا أنهم يقاتلون دفعاً لشرهم، وما جاز للضرورة يقدر بقدرها، فقتالهم بقدر الضرورة وبقدر الحاجة ولا يزاد عليه، ولذلك قالوا: إنه لا تسترق نساؤهم، ولا يضرب عليهم الرق، ولا يجهز على جريحهم، ولهم أحكام خاصة تفصيلها في كتب الفروع، لكن من حيث أصل الحكم الشرعي: أنه يشرع له قتالهم وابتداؤهم بالقتال إذا غلب على ظنه وجود الشر منهم.

    وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يختار التفصيل: وهو أنه يرد الأمر إلى نظر الإمام، فإذا رأى أن من المصلحة أن يبادرهم بالقتال بقوة بادرهم، وإن رأى أن المصلحة أن يبدأ بالتدرج معهم فلا بأس بذلك على حسب الظروف والأحوال، ويرى أن هذا أعدل القولين وأقربهما إلى الصواب.

    1.   

    قتال العصبية

    قال المصنف رحمه الله: [ وإن اقتتلت طائفتان بعصبية أو رئاسة فهما ظالمتان ].

    بعد أن انتهى من أحكام البغاة شرع في مسألة قتال العصبية والحمية والثارات، كما يقع بين القبائل والجماعات، ويقع في العداوات والخصومات، وهذا لا يأخذ حكم قتال أهل البغي، ولذلك إذا وصفنا الفئة المقاتلة بأنهم بغاة، فهو أهون من أن يقال: إنه قتال عصبية؛ لأن أهل البغي يعاملون معاملة خاصة, ولهم أحكام خاصة، أما إذا كان قتال عصبية فالحكم مختلف، ففي قتال أهل البغي: لا يجب على أهل البغي ضمان ما أتلفوه، فلو وقع بينهم وبين جماعة المسلمين وإمامهم قتال فقتلوا وقُتل منهم لم يجب الضمان، لا على الفئة العادلة ولا على الفئة الباغية، وهذا في قول جماهير السلف والخلف.

    وهناك رواية عند الشافعية وقول عند الحنابلة: أنهم يضمنون.

    والصحيح: أن الفئة العادلة لا تضمن، والفئة الباغية لا تضمن، فلا يجب عليهما الضمان إذا كان هناك إتلاف أو قتل أثناء القتال، لكن في قتال العصبية وما يقع في الثارات والعداوات، فإنه يجب الضمان, ويعاقب الإمام الطائفتين، ويصلح بينهما بالعدل، لكن يؤاخذ الطائفة الباغية الظالمة أكثر، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن النداء بالشعارات والثارات أنه يورد الإنسان يوم القيامة النار.

    وكان قد وقع بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من تلك العصبية بسبب ما أثار بينهم يهود من تذاكر قتلى يوم بعاث الت يوقعت بين الأوس والخزرج، حتى قال الأوسي: يا للأوس، وقال الخزرجي: يا للخزرج، وثارت بينهم الثائرة، حتى كادت أن تحصل مقتلة عظيمة بينهم، فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] ولما تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بكى الصحابة رضوان الله عليهم لما تبين لهم ما كانوا فيه من عظيم الخطأ والخلل.

    فالعصبيات موردها وخيم وعاقبتها وخيمة، ومن قاتل تحت راية عمية حُشر في نار جهنم -والعياذ بالله- تحتها، وهي بعث النار، حتى لو كانت في الجهاد، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية -بمعنى أن الدافع له هو بلده ووطنه ومكانه وأهله وعشيرته- والرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل للمغنم؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فكل هذا خارج عن سبيل الله، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يحذر من العصبيات والنعرات؛ فإنها تورد الإنسان الموارد، حتى إنه لربما استباح دماء المسلمين المحرمة.

    وإذا اقتتلت طائفتان وكل منهما يتعصب لطائفة فإنها ليست آخذة حكم قتال أهل البغي، فإذا انتهى القتال؛ وجب على كل طائفة أن تضمن ما أفسدته، ووجب على كل طائفة أن تضمن ما أفسدته على الأخرى، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن هذا: (إذا التقى المسلمان بسيفيها؛ فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) وهذا كله يدل على خطر هذه النعرات والعصبيات.

    فبين المصنف رحمه الله أن القتال على هذا الوجه لا يأخذ حكم قتال أهل البغي، فقال: [ فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى ].

    (فهما ظالمتان): أي: لا يعتبر هذا من قتال أهل البغي، بل يجب على الإمام أن يوقفهما عند حدودهما، وتضمن كل طائفة ما أفسدته على الأخرى.

    فلو حصل إتلاف للأموال وجب عليهما ضمان هذه الأموال التي أُتلفت، كما لو أحرقت منازل، أو مزارع، أو كسرت مصالح وأتلفت؛ فإنه يجب على المتلف أن يضمن، وما وقع من الدماء يجب ضمانه، فلو عرف القاتل بعينه فإنه يقتص منه؛ إعمالاً للنصوص الشرعية التي تقدمت معنا، وهكذا من أتلف المال إذا عرف بعينه وجب عليه الضمان، إذا أقر وجب عليه الضمان، وأما إذا كان لا يعرف فإنه يجب عليهم جميعاً أن يضمنوا ما أتلفوه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم المفاضلة بين العلماء

    السؤال: هل يجوز لطلبة العلم أن يفاضلوا بين العلماء؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    هذا سؤال غريب عجيب! لكن إن شاء الله تؤجر على اختياره.

    الحقيقة أن هذا أمر قد عمت به البلوى، فالمفاضلة بين العلماء وغير العلماء مسئولية، ومن قال: فلان أفضل من فلان؛ فقد زكاه، وتعتبر هذه شهادة، والله تعالى يقول: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19] إذا كان الشخص يتكلم في المفاضلة:

    أولاً: عن علم.

    ثانياً: عن حاجة.

    ثالثاً: بإخلاص.

    عن علم: بمعنى أن يعرف من هو العالم الذي فضله، بأن يكون قد درس عليه، قرأ عليه، ضبط العلم على يديه، ويعرف من هو العالم الآخر -المفضول- فيكون قد أدرك علم الرجلين.

    ووجدت حاجة للتفضيل: لأنه من اللؤم ومن نسيان المعروف والخير: أن يأتي لعالم تتلمذ على يديه ثم يجد من هو أعلم منه ليقول: فلان أعلم من فلان دون وجود حاجة، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، يقول: فلان عالم وفلان عالم، ولعل فلاناً قد أعطاه الله علماً كثيراً، فلا تقل: فلان أفضل من فلان بدون حاجة، لكن إذا وجدت الحاجة فلا بأس، كأن يأتي رجل وقال: سأمكث في مكة أو المدينة سنة، وما عندي إلا هذه السنة، وأحتاج إلى أن أضبط العلم وأتقنه في علم الحديث، علم العقيدة، علم الفقه، فسألك قائلاً: دلني هل فلان أفضل أو فلان؟ هل أدرس على فلان أو فلان؟ فهنا وجدت حاجة.

    وأن يكون بإخلاص، أي: مراده النصيحة للأمة، وليس مراده التحقير والانتقاص، فإذا وجدت هذه الثلاثة الضوابط فلا بأس.

    أيضاً: إذا فضلت أحداً على أحد فينبغي ألا يتضمن الأسلوب التحقير للمفضول؛ لأن من النصيحة لأئمة المسلمين ومنهم علماؤهم: ألا يُنتقص قدرهم، فإذا قيل: إن فلاناً أعلم من فلان على طريقة فيها تهكم بالمفضول؛ فهذا ظلم له واستباحة لعرضه، وليحذر من غيبة العلماء ومن الغيبة عموماً.

    ولا يلام أحد خاصة إذا كان بين طلاب العلم أن يكثر من تحذير الناس أو طلبة العلم من الوقيعة في أهل العلم، وخاصة في هذا الزمان، ولو أن كل مجلس يُستفتح ويُختم بقرع القلوب بقوارع التنزيل في الحذر من الوقوع في أولياء الله من أهل العلم من الأموات والأحياء والتفضيل بينهم، وانتقاصهم على سبيل الانتقاص والاحتقار، لكان حسناً، ولم يلم من قال ذلك.

    وعلى كل حال إذا وجدت هذه الثلاثة الضوابط؛ فأرجو ألا يكون في ذلك بأس، أما أن يجلس شخصان أحدهما قرأ على شيخ، والآخر قرأ على شيخ لكي يفاضلان بين شيخيهما، فلا، أو يتناظر اثنان في مسألة فيقول أحدهما: رجحه الشيخ فلان، فيقول الآخر: رجحه الشيخ فلان، فيقول: فلان أعلم من فلان، فهذه أمور عواقبها وخيمة، وبالأخص إذا كانت في المجالس العامة، أو بين عامة الناس؛ لأن ضررها عظيم. فينبغي على طلاب العلم ألا يفعلوا ذلك. والله تعالى أعلم.

    حكم تأخر الإمام عن المجيء إلى المسجد إلى وقت الإقامة

    السؤال: هل السنة لإمام المسجد أن يأتي بعد الأذان مباشرة أو ينتظر في بيته إلى وقت الإقامة؟

    الجواب: إذا كان بيته قريباً من المسجد مثل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل وقت الصلاة، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، يتأول السنة وحينئذ فلا بأس، وإذا كان بعيداً من المسجد، ولا يأمن زحمة الطريق، ولا يأمن التأخر عن الجماعة وإضرارهم فبكر فلا بأس بذلك ليحتاط للمسلمين.

    وهنا مسألة ننبه عليها: وهي أن الأئمة والمؤذنين عليهم مسئولية عظيمة، ولذلك تحد الناس في كثير من المساجد تتألم من حال الإمام في عدم دخوله إلى الصلاة إلا متأخراً، ومتعجلاً في مبادرته بالخروج، والمنبغي تحري السنة.

    فكون الإمام مثلاً يأتي قبل الأذان، ويتفقد أحوال مسجده، ويحس بالأمانة والمسئولية، ويجلس في المسجد ليقرأ القرآن، ويصلي، ويحيي في الناس الخير فذلك حسن.

    النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل وقت الصلاة، لكنه كان يجلس في المسجد، وكان يعلم الناس في المسجد، ويحرص على الجلوس في المسجد، وكثير من الأحاديث رويت عنه في مجالسه في المسجد صلوات الله وسلامه عليه، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وكنت رجلاً أصحب النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، أشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا) فالأفضل للإمام أن يكون على حال وسمت يعطي الهيبة والمكانة للإمامة، وبالأخص المؤذنين أيضاً؛ لأن بعض المؤذنين يأتي متأخراً عن الأذان، وبعد أن ينتهي من الأذان يخرج من المسجد، وبعضهم يخرج ويجلس يتحدث مثلاً في مكان قريب من المسجد، وإن تيسر دخل بيته، وإن تيسر شرب القهوة في بيته حتى يأتي الوقت! ماذا نقول للناس؟! والله إنه شيء يؤذي جداً إذا لم يشعر المسلمون بعظم هذه الشعيرة العظيمة وهي الصلاة.

    وهل هانت الأمة وذلت إلا لما هانت شعائرها، وحينما كان يصلي بالناس الأئمة والعلماء والفضلاء كانت الأمة في أوج عظمتها وعزها وكرامتها، وأما اليوم فيبلغ ببعض المساجد أن يحضر وقت الأذان -وقد رأيت ذلك مراراً وتكراراً- ويدخل الذي يكنس في الشارع لكي يؤذن الأذان؛ لأن المؤذن وصاه جزاه الله خيراً حتى لا يضيع الوقت، ولا تسأل عن اللحن، ولا تسأل عن الكلمات المحرفة، وقد يكون أذاناً باطلاً من اللحن الذي يحيل المعنى، وكل هذا ولا أحد يبالي!

    ونحن نريد عزة وكرامة للأمة، فإذا كان أعز شيء في دينها بعد العقيدة الصلاة، والأمة بهذا الحال إلى درجة أن الإنسان مؤذناً أو إماماً لا يبالي بمسئوليته وأمانته، فلما أصبحت هذه الشعائر ليس لها مكانة في القلوب ضاعت.

    إذا كان بيت الإمام قريباً من المسجد فينبغي أن يدخل وقت الصلاة، والأفضل أن يكون له مجالس بين الفترة والفترة لأهل الحي ينصحهم ويوجههم ويسمع ما عندهم من أحوال، يجلس معهم ويؤانسهم ويباسطهم تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان بيته بعيداً فيأتي مبكراً ليحتاط للصلاة، انظر إلى إمام يؤذن الأذان وهو في المسجد!

    انظر إليه قارئاً لكتاب الله، وانظر إليه متأثراً بالقرآن الذي يقرؤه، أو قائماً يصلي ويذكر! وتخيل وأنت من صغرك في مسجد ترى إمام مسجدك بهذه الصفة: تالياً لكتاب الله، مبكراً للصلوات، محسناً ومتقناً فيها، محافظاً على كمالها وعلى أفضل الأحوال فيها، وقد لا يؤذن الأذان إلا وهو في المسجد، كيف يكون حالك؟ كيف يكون نظرك لهذه الإمامة وهذا الإمام؟

    سيكون الحال أنه إذا أمرك أطعته، وإذا جاء على المنبر يقول: اتقوا الله.. سمعت له، وإذا نصحك رضيت نصيحته, وإذا أردت أن تستشيره في أمر تباركت بعد فضل الله عز وجل به، فكونه مستقيماً على خير؛ يجعل الله الخير على لسانه، فمثل هذا الإمام المبارك هو الذي يكون إماماً بحق، أما إذا كان بعيداً عن المسجد وقال: أنا أريد أن آتي على وقت الإقامة، فلا بأس، ما دام أنه يحفظ للناس وقت صلاتهم، المهم ألا يضيع على الناس وقت صلاتهم، هذا هو المطلوب. والله تعالى أعلم.

    حكم كراهية الذي أنعم الله عليه بالنعم

    السؤال: كثيراً ما أجد في نفسي -إذا تذكرت نعمة معينة في أحد- كراهية وضيقاً وهماً، ثم أبادر إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، لأني لا أود أن يصاب في الحقيقة بأذى، لكن ما وجدته في نفسي هل هو حسد أعاقب عليه؟ وما هو العلاج؟

    الجواب: هذا على صورتين:

    الصورة الأولى: أن يكون حديث نفسٍ ليس له استقرار في القلب، فلا تلبث أن تراجع دينك وشرعك وتستغفر وتذكر الله، فهذا لا يضرك إن شاء الله، واستمر على هذه الطريقة: أن تبارك وأن تستغفر الله عز وجل وترجع إليه.

    الصورة الثانية: أن يستقر ذلك في قرارة قلبك، وديدن نفسك، فهذا مرض، ولا شك أنه من الحسد وضعف الإيمان، أن الإنسان إذا رأى نعمة على أخيه المسلم؛ حصل له هذا البلاء العظيم.

    والذي أوصيك به أولاً: الدعاء: أن تدعو الله عز وجل أن يرزقك قلباً سليماً.

    وثانياً: أن تبحث عن الأسباب التي لأجلها ابتلاك الله عز وجل بهذا البلاء، فقد تكون ظلمت أحداً، أو آذيته، أو هضمته حقه؛ فابتلاك الله بفتن في قلبك، وهذه تسمى فتنة الحسد، وفتن القلوب كثيراً ما تأتي بسبب الذنوب؛ فقد يكون للإنسان ذنب فيسلط الله عز وجل عليه هذه الفتنة بسببه، فإن تاب تاب الله عليه، ورفع عنه أسباب البلاء؛ لأن الله جعل البلاء في الفتن دائماً بسبب ما يكسبه الإنسان من الظلم والأذية والتعدي لحدود الله، فأوصيك بالتوبة والاستغفار وكثرة الدعاء، وليس هناك حل إلا أن تسأل ربك أن يرفع عنك هذا البلاء، فليس له من دون الله كاشفة، فعول على ربك، وأكثر من الدعاء ولا تيأس ولو استمر معك هذا البلاء سنوات، ولعل الله بدعائك أن يجعل لك فرجاً ومخرجاً بعد توفيقه ورحمته بعباده. والله تعالى أعلم.

    حكم المسبوق بركعة من الرباعية وقد زاد الإمام ركعة خامسة سهواً

    السؤال: كنت مسبوقاً بركعة في الصلاة الرباعية، وكان قد سها الإمام وزاد في صلاته خامسة فماذا علي؟ هل أسلم معه؟ أم آتي بالركعة التي كنت مسبوقاً بها؟

    الجواب: إذا سها الإمام وأنت في نفس المتابعة وتيقنت سهوه وأنه سيسجد بعد السلام فعليك أن تنتظر، ولا تقوم مباشرة، حتى يسلم فلا تسلم، وابق على ما أنت عليه؛ لأنك معذور بالسلام، فإذا سجد تابعته، فهو مأمور بالسلام للأصل الشرعي، وأنت غير مأمور به؛ لأنك مأمور بإتمام صلاتك، ولكنك مأمور بمتابعته، فقد سها ووقع السهو في حال متابعته، وحينئذ تنتظر إلى سلامه ثم تسجد. هذا الوجه الأول عند العلماء رحمهم الله.

    الوجه الثاني يقول: إنه يجوز لك أن تقوم، ثم إذا انتهيت من صلاتك سجدت قضاءً لهذه السجدة؛ لأنه لا يمكنك متابعة الإمام على هذا الوجه؛ لأنها سجدة بعدية، وصلاتك ليس فيها سجدتي السهو قبل الإتمام.

    وكلا الوجهين صحيح. والوجه الأول أقوى من حيث النص، والمتابعة أن تنتظر حتى يسلم، ثم بعد ذلك تسجد سجود السهو ثم تتم لنفسك. والله تعالى أعلم.

    حكم قراءة الآيات الأخر من سورة آل عمران عقيب النوم

    السؤال: هل يستحب استفتاح اليوم بعد النوم بآخر الآيات من سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190] كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟

    الجواب: نعم؛ هذا من السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بت عند خالتي ميمونة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبت في عرض الوسادة، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله عليها، فلما كان هويٌ من الليل، قام فمسح النوم من عينيه، ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ... [آل عمران:190] ثم قال: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن) فيقرأها الإنسان ويتعظ بها. والله تعالى أعلم.

    تعطل أجر الوقف بتعطل منفعته

    السؤال: ما حكم توقف الوقف كتعطل برادة الماء، أو من أوقف كتاباً ضاع أو تمزق؟ هل أجر هذا الشخص مستمر أم منقطع؟

    الجواب: من حيث الأصل: الثواب على العمل، ومن حفر بئراً، أو أجرى نهراً، أو أوقف كتاباً، فمادام الخير موجوداً والناس منتفعة؛ فله أجره على قدر انتفاع الناس، ثم إذا تعطلت مصالح هذا الوقف؛ فالواجب على ناظر الوقف أن ينصح للميت، وأن يبذل الأسباب لإعادته حتى ولو ببيعه ونقله إلى مكان آخر، وهذا عن طريق القاضي، حيث ينظر إلى الأصلح ويأمر بذلك.

    أما من حيث الثواب: فالثواب على حصول النفع عاماً كان أو خاصاً، فإذا أجرى نهراً وانقطع النهر؛ فالأجر موقوف على جريان النهر، فإذا انقطع النهر انقطع الأجر والثواب، فالأجر موقوف على وجود المنفعة للمسلمين ومصالحهم. والله تعالى أعلم.

    حكم ترك الهرولة في الطواف لمن كان معه نسوة

    السؤال: من كان معه نسوة وكان في أثناء الطواف، هل يهرول في الأشواط الثلاثة؟ أم يسير مع النسوة سيراً طبيعياً؟

    الجواب: النسوة لا يهرولن، قال عبد الله بن عمر ، ويروى عن عمر: (ليس على النساء رمل لا في الطواف بالبيت، ولا في السعي بين الصفا والمروة) لأنها إذا رملت تكشفت، ومن هنا فالرمل خاص بالرجال دون النساء، وهذا مما خالف سبب شرعيته تطبيقه، فإن الأصل أن الهرولة بين الصفا والمروة للنساء؛ لأن هاجر -وهي أم إسماعيل- هرولت بين الصفا والمروة، وهذا مما ذكره العلماء في اختلاف السبب عن التشريع، ومن هنا قالوا: إنه لا يشترط المطابقة في المسائل.

    فالحاصل أن النساء لا يهرولن، ومن كان مع نسوة فينبغي أن يتعاطى الأسباب في بعدهن عن الفتنة بأن يطفن في حاشية المطاف، وأن يطفن في وقت بعيد عن الفتنة ما أمكن، ويحرص قدر الإمكان على إبعادهن عن الزحام، ومن الأخطاء الموجودة أن البعض يدخل نساءه إلى داخل المطاف خاصة في الزحام، ثم يدفع ويؤذي الناس، وهذا لا يجوز، بل المنبغي أن يجعل النساء في أطراف المطاف، أو يختار وقتاً مناسباً لطوافهن.

    أما لو كان معه نسوة ويخشى عليهن الضياع، فهذا يرخص له أن يهرول، وهو وجه ثان عند العلماء عندما يشتد الزحام فيهرول بقدر ما يستطيع، وهي ما يسمونها بهرولة الواقف على القول الثاني بأن الرمل هو هز المناكب وتقارب الخطى، على هذا الوجه يحتاط به، وإن شاء الله لا بأس عليه ولا حرج. والله تعالى أعلم.

    نصيحة للقائمين على المراكز الصيفية

    السؤال: ابتدأت الإجازة؛ فما توجيهكم للقائمين على المراكز الصيفية؟

    الجواب: لا شك أن الإخوة الذين يقومون على هذه المراكز من الإخوة الحريصين على الخير، نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله، وعليهم مسئولية عظيمة في توجيه أبناء المسلمين, وحفظ أوقاتهم واستغلالها فيما يفيد، وعلى كل معلم وموجه أن يحرص على الأمور التي لا بد من توفرها لكي يكون توجيهه وتعليمه على السنن، فأساس الخير كله في الإخلاص لله عز وجل.

    فعلى هؤلاء الموجهين القائمين على هذه المراكز الصيفية أولاً وقبل كل شيء أن يخلصوا لله سبحانه وتعالى، ومن أخلص لله بارك الله قوله، وبارك عمله، وأيده وأعانه ووفقه، ووضع له القبول وألهمه الرشد، وكل ذلك خير له في دينه ودنياه وآخرته.

    الأمر الثاني: الحرص على أبناء المسلمين وعلى أوقاتهم، بمعنى النصيحة؛ فإن أبناء المسلمين أمانة في أعناقهم، فينبغي تحبيب الخير إلى قلوبهم، والحرص على وضع البرامج المفيدة والأنشطة النافعة التي يستغل فيها الوقت في طاعة ومحبة ومرضاة الله، فيخرج النشأ ويخرج الابن من هذه الإجازة حافظاً لشيء من كتاب الله، أو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحرص على تذكيرهم بالحكم والفوائد وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وربط خلف هذه الأمة بسلفها، فقديم الإسلام جديد وجديده قديم، ولن يستقيم أمر هذه الأمة، ولن يصلح إلا بما صلح عليه أولها، وهي الأمة المرحومة باتباع نبيها صلوات الله وسلامه عليه، والأمة المهتدية باقتفاء أثره صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فيحرص هؤلاء الأساتذة الفضلاء على ذلك، وليعلموا علم اليقين أنه ليس لهم من هذا الذي يعملونه ويقضونه من الأوقات إلا ما أرادوا به وجه الله وأصابوا به الحق والصواب.

    الوصية الثالثة: الصبر؛ فإن توجيه الناس يحتاج إلى صبر، والصبر في جوانب:

    الجانب الأول: الصبر على إسداء الخير للغير، فإن هذا يحتم على هؤلاء القائمين أن يبذلوا أوقاتهم وأن يضحوا بكثير من مصالحهم ابتغاء النجاح في توجيه أبناء المسلمين وتعليمهم، ولا شك أن الله مطلع على ذلك كله، فهم إذا استشعروا مراقبة الله لهم، وأبدى كل واحد منهم من نفسه أن يري الله خيراً، وأن يكون بأحسن الأحوال وأفضلها، وطمع من ربه أن يكون على أحسن ما يكون عليه الموجه؛ فهذا لا يكون إلا بتوفيق الله ثم بالصبر، الصبر على هذا التعليم واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، واستشعار المثوبة منه جل وعلا.

    الجانب الثاني: الصبر أثناء التعليم، فإن توجيه أبناء المسلمين والتعليم عموماً يحتاج إلى صبر، لأنه يأتي الجاهل بجهله، والسفيه بسفهه، والطائش بطيشه، والضال بضلالته، فينبغي أن تكون هناك نفس طيبة زاكية كريمة سامية عالية، ترجو رحمة الله عز وجل وتمتص هذه الأخطاء والشرور، ولن تستطيع أن تكون بهذه المثابة ولا بهذه المنزلة إلا إذا تذكرت رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في صبره وتحمله لكثير من المشاق والمتاعب، فهذا يقوي هذه النفوس الأبية الصالحة على الخير.

    الجانب الثالث: الصبر على الأذى؛ فإنه ربما يأتي من يشكك ومن يهول ومن يخذل ومن يتهم، وعلى كل موجه ومرب أن يعلم أن الكمال لله عز وجل، وأن الرسل وأتباع الرسل، وكل من قام بهذا الدين لا بد أن يمتحن ويبتلى فيه، ومن كان أصدق في إيمانه، وأصدق في إخلاصه، وأبلغ في الصواب فامتحانه أشد؛ ولذلك ربما يربي أحد أبنائه في هذه المراكز ثم يفاجأ به بعد فترة وإذا به قد انقلب عليه، وهذه نوعيات شاذة، لكن إذا لم يكن عنده صبر فقد يضيع أجره بكثرة غيبته وكلامه وحنقه عليه، ولكن بصبره وتحمله وتذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، وكيف مرت عليهم الشدائد، وأن هذه الأمة أمة مبتلاة ولكنها مرحومة بإذن الله عز وجل، فالعاقبة للمربي بإذن الله إذا صبر ولم يبال، ولم يعرف العجز ولا الخور ولا التواني، بل عزيمته صادقة، ونفسه قوية؛ لأنه يعلم أنه على صواب وحق، ومتى ما علمت أنك على الحق؛ فلا تبالِ بمن اتبع ولا بمن رجع، فعليك أن تستبين الصواب وأن تعمل به، وتصبر على ما يأتيك من التهم ومن التخذيل والتشكيك ونحو ذلك.

    ولا مانع من الأخذ ببعض المباحات التي دلت النصوص على جوازها، ولكن ينبغي استغلال الوقت في الأهم في طاعة الله ومرضاته.

    والنقطة الأخيرة: نوصي الإخوان من طلبة العلم أن يشدوا من أزر هؤلاء، وأن يشيدوا بفضائلهم وأن ينصفوهم وأن يعلموهم إذا كان عندهم خطأ أو خلل، وأن يبينوا لهم الصواب، وينبغي معونتهم على ما هم فيه من توجيه أبناء المسلمين.

    إن الفتن قد عظمت، والمحن قد جلّت وأحاطت بأبناء المسلمين من كل حدب وصوب، وإذا رأيت أحداً يتلقف أو يأخذ ابناً من أبناء المسلمين للحظات في طاعة الله، فاعلم أنه قد أحسن ولم يسئ، كأن يجعله على طريق خير أو حلقة ذكر؛ لأن أبناء المسلمين اليوم إذا لم يأخذهم الأخيار أخذهم الأشرار، ولربما ترى الابن في عز شبابه وزهرة أيامه فيتلقفه ذو شر إلى مجلس مخدرات يدمر به حياته، وذلك بمجلس واحد، ولربما تزل قدمه في الفواحش والمنكرات والمحرمات بجلسة واحدة.

    فعلى كل إنسان عاقل وكل إنسان يخاف الله ويتقيه أن ينظر إلى واقع أبناء المسلمين ويتألم ويشفق عليهم مما يرى من المغريات والملهيات، ومما يرى من الكلاليب التي تتخطفهم إلى المصائب والشهوات، فإذا وجد من يدعوهم إلى الخير، أو وجد المراكز الصيفية تحرص على قضاء أوقاتهم في الخير؛ كمل نقصها، وسدد خطاها، وصوب خطأها، وحرص على أن يعين إخوانه على هذه الرسالة، ومثل هؤلاء الأساتذة الفضلاء لا شك أنهم على ثغر عظيم، ونحن والله نقدر ما يكون منهم لأبناء المسلمين.

    نسأل الله بعزته وجلاله أن يمدهم بعونه وتوفيقه، وأن ييسر لهم الأمر، وأن يشرح لهم الصدر، وأن يجزيهم عن أبناء المسلمين بأحسن الجزاء، وأن يكثر من أمثالهم على الصواب والحق والهدى، وأن يلهمنا وإياهم الرشد، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم.

    حكم قراءة القرآن من المصحف في قيام الليل

    السؤال: إذا كان الإنسان ليس حافظاً للقرآن؛ فهل يجوز له أن يقوم الليل وهو يقرأ من المصحف مباشرة؟

    الجواب: لا بأس بذلك ولا حرج، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله أنها كانت تأمر مولاها ذكوان أن يقوم بها الليل بالمصحف، وجماهير العلماء على جواز ذلك وعلى مشروعية أن يحمل المصحف ويقرأ منه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756408363