إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الظهار [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما قد يعرض على المسلم في حياته مسألة الظهار، وهي مسألة يجهلها الكثير، فما حد الظهار في الكتاب والسنة وفي لغة العرب، وما هي شروطه وأركانه، وسبب مشروعيته، وحكمه في الكتاب والسنة، وما هي كفارته، وكل ذلك قد بينته هذه المادة.

    1.   

    أحكام الظهار

    تعريف الظهار لغة واصطلاحاً وذكر أركانه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ كتاب الظهار ]

    الظِهار في لغة العرب وجمهور أئمة العلم رحمهم الله عليهم: مشتق من الظَهر، كما صرح به صاحب اللسان والإمام الأزهري وغيرهما من أئمة اللغة رحمة الله على الجميع.

    والسبب في ذلك أن المظاهر يقول لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي. فنظراً لوجود هذا التشبيه بهذا الموضع قيل له: ظِهار، فهو فعِال من الظهر.

    والظهر من الكاهل إلى العجز، والكاهل في لغة العرب يشمل الست الفقرات الأول من الأعلى من ظهر الإنسان، والعجز آخر الفقرات من جهة مؤخرة الإنسان.

    وبعض العلماء قال: إن الظهار فعِال من الظهور، بمعنى الارتفاع والعلو، يقال: ظهر على الشيء إذا علاه، ومنه قوله تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف:97] أي أن الله عز وجل لم يمكنهم من العلو على ذلك السد الذي جعله ذو القرنين.

    وأما في اصطلاح الشرع فإن المراد بالظهار: تشبيه المنكوحة بمن تحرم عليه على التأبيد. فهو تشبيه الزوج زوجته ومنكوحته بامرأة تحرم عليه حرمة مؤبدة كأمه وأخته وعمته وخالته وبنت أخته وبنت أخيه، ونحوهن من النساء اللاتي يحرمن عليه حرمة مؤبدة في قول بعض العلماء.

    وقال بعض العلماء: تشبيه المنكوحة بمن تحرم عليه. ولم يفرق بين الحرمة المؤبدة والحرمة المؤقتة.

    والفرق بين القولين أن أصحاب القول الأول يخصون الظهار بمن تحرم على التأبيد، فلو قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أختك فلا يكون ظهاراً؛ لأنها ليست محرمة على التأبيد.

    وعلى القول الثاني لو قال لها: أنتِ عليّ كأختك، أو: أنتِ عليّ كظهر أختك فإنه يقع الظهار.

    فقولهم رحمهم الله: (تشبيه). التشبيه: تفعيل من الشبه، يقال: هذا: يشبه هذا إذا كان مثلاً له، والتشبيه: هو الدلالة على أن أمرين أو شخصين أو شيئين اجتمعا واشتركا في أمر أو أمور، أو في شيء أو في أشياء.

    فحينما يقول الإنسان: محمد كالأسد. يكون هذا تشبيهاً، حيث شبه محمداً بالأسد، لكنه ليس من كل وجه، إنما مراده أن محمداً في الشجاعة والقوة كالأسد، أو يقول: محمدٌ كالبحر. أي أنه كثير العلم ككثرة البحر، أو كثير الكرم والجود والعطاء كالبحر.

    والمقصود أن التشبيه تمثيل، ولا بد في الظِهار من وجود التشبيه، وهذا التشبيه يستلزم أربعة أركان: مشبِّهٍ ومشبَّهٍ ومشبَّهٍ به وصيغة يقع بها التشبيه.

    فالمشبِّه هو الزوج.

    والمشبَّه هي الزوجة المنكوحة التي عقد عليها.

    والمشبَّه به هي المرأة المحرمة حرمة مؤبدة أو حرمة مؤقتة، على التفصيل المعروف عند أهل العلم رحمهم الله.

    والصيغة هي اللفظ الدال على الظهار والتحريم به، ويستوي أن يخاطبها أو يقول في غيبتها، فالمهم أن يقع التشبيه باللفظ، فلا بد من وجود الصيغة الدالة على الظهار والتحريم به.

    فهذه أربعة أركان لا بد من وجودها.

    أما المشبه -وهو الزوج- فيشترط فيه أن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً، فلا يصح الظهار من الصبي، فلو أن صبياً عقد له أبوه على زوجة فقال الصبي: هذه الزوجة عليّ كظهر أمي. فإنه لا يقع الظهار، والسبب في هذا أن لفظ الصبي غير معتد به شرعاً في المؤاخذات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة...)، وذكر منهم الصبي حتى يحتلم.

    كذلك المجنون فإنه لا يصح ظهاره بالإجماع، وفي حكم المجنون السكران ومن تعاطى المخدرات -والعياذ بالله- سواء أكان معذوراً أم غير معذور.

    وقد تقدمت معنا هذه المسألة في طلاق السكران، وبينا مراتب السكر وأوجه السكر، وأقوال العلماء رحمهم الله في مؤاخذة السكران به في الطلاق، وفصلنا في ذلك، وأن الصحيح أن السكران كالمجنون لا يؤاخذ لا على طلاقه ولا على ظهاره إذا بلغ به السكر إلى درجة لا يتحكم فيها في قوله؛ لدلالة قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، فدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن كان لا يعلم ما يقول فإنه لا يؤاخذ به.

    وكذلك ذكرنا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة.

    ويشترط أن يكون مختاراً بحيث لا يهدد ولا يكره، فلو كان مكرهاً فإن الإكراه يسقط المؤاخذة بالألفاظ، ولذلك المرتد إذا أكره على لفظ الردة فإنه لا يؤاخذ إذا كان مطمئن القلب بالإيمان كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فدل على أن المكره ساقط القول؛ لأن الله أسقط عنه الردة وهي أعظم شيء، فمن باب أولى أن يسقط ما دونها.

    فمعنى ذلك أنه لا بد وأن يكون الزوج المظاهر بالغاً عاقلاً مختاراً.

    ولا تشترط فيه حرية، فالرقيق والحر في هذا على حد سواء، فيؤاخذ ويلزمه ما يلزم الحر.

    وأما المشبَه -وهي الزوجة- فيقول لها: أنتِ. أو: زوجتي فلانة، أو: نسائي، أو: امرأتي، ونحو ذلك مما يدل على المنكوحة، سواء أكانت مدخولاً بها أم غير مدخولٍ بها.

    فكل زوجة عقد عليها الإنسان فإنه يصح ظهاره منها إذا كان العقد صحيحاً، ولا يشترط دخوله بها، فلو عقد عليها الساعة ثم قال مباشرة: هي عليّ كظهر أمي. أو: زوجتي عليّ كظهر أمي وقع الظهار، ولا يشترط الدخول، فهذا بالنسبة للمنكوحة حقيقة.

    وأما من في حكم المنكوحة والزوجة فهي المطلقة طلاقاً رجعياً، فلو أن امرأة طلقها طلاقاً رجعياً فقال: هي عليّ كظهر أمي، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي، أو: فلانة مني كظهر أمي ونحو ذلك وقع الظهار.

    ويستوي أن يشبه المرأة كلها أو بعضها، فيقول: أنتِ، أو: بدنك، أو: ذاتك، أو: جسمك، أو: كلك، أو يذكر عضواً من الأعضاء المتصلة، على تفصيل سنذكره إن شاء الله.

    وأما المشبه به -وهي كما ذكرنا المرأة المحرمة عليه، ومن أهل العلم من يقول: حرمة مؤبدة- فيختص بثلاثة أنواع:

    الأول: المحرمات من جهة النسب.

    الثاني: المحرمات من جهة المصاهرة.

    الثالث: المحرمات من جهة الرضاع.

    وقد فصلنا هذه الثلاث المحرمات، وبينّا أدلة الكتاب والسنة وإجماع العلماء رحمهم الله على التحريم بهن على التفصيل في مسائل النكاح.

    فأي واحدة يختارها من المحرمات على التأبيد من جهة النسب السبع يقع بها الظهار، كما لو قال: أنتِ عليّ كظهر أمي، أو: بنتي، أو: أختي، أو: بنت أخي، أو: بنت أختي، أو: عمتي، أو: خالتي، فهؤلاء كلهن من المحرمات حرمة مؤبدة.

    وكذلك المحرمات من جهة المصاهرة، كما لو قال لها: أنتِ عليّ، أو أنتِ مني كأمك، أو: أنتِ عليّ كظهر أمك.

    فإن أم الزوجة محرمة حرمة مؤبدة بالشرط المذكور في القرآن، فلو خاطبها بذكر أمها أو ذكر بنتها فقال لها: أنتِ عليّ كبنتك فإن هذا أيضاً يدخل في المحرمات؛ لأنها محرمة من جهة سبب المصاهرة.

    كذلك أيضاً أن يقول لها: أنتِ عليّ كزوجة أبي، أو: كفلانة التي هي زوجة أبي؛ لأنها محرمة إلى الأبد لقوله تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:22]، أو يذكر زوجة ابنه فيقول: أنتِ عليّ كزوجة ابني، أو: أنتِ عليّ كفلانة ويقصد زوجة ابن من أبنائه وإن نزل، فهذا كله يشمله الظهار، وفي الرضاع مثل النسب.

    والتشبيه هنا قد يقع صريحاً أو كناية، فيسأل عن قصده، فالصريح أن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. والكناية أن يأتي بلفظ محتمل لقصد الظهار وعدمه.

    وعند بعض العلماء إذا قال لها: (أنتِ كأمي) ولم يذكر الظهر أن هذا اللفظ محتمل؛ لأنه يحتمل: أنتِ كأمي محرمة. أو: أنتِ كأمي مكرمة. فيريد أن يكرمها ويجلها فيقول لها: أنتِ كأمي، أو ما أنتِ مني إلا كأمي؛ تكريماً لها وإجلالاً.

    أو يذكر جزء المحرمة، فيقول: أنتِ كعين أمي، أو: كرأس أمي، أو: كصدر أمي، فهذه المواضع -العين والصدر والرأس- مما يحتمل التكريم ويحتمل الظهار، فإذا تلفظ بلفظ الظهار وقع الظهار، فإما أن تكون صيغته صريحة، وإما أن تكون صيغته كناية متضمنة الدلالة على الظهار، فإن كان شيئاً صريحاً أخذنا به وحكمنا به ظهاراً، وإن كان شيئاً محتملاً سألناه عن قصده؛ لأن الله عز وجل جعل لكل شيء قدراً، والصريح لا ينـزل غيره منـزلته إلا إذا كان محتملاً.

    سبب نزول آيات الظهار

    الظهار كان في الجاهلية، وجاء الإسلام فبيّن حكمه وما يترتب على التلفظ به، وكان أهل الجاهلية إذا تلفظوا بالظهار يعتبرونه طلاقاً، وصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهناك رواية مرفوعة -ذكرها الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله- أن خولة رضي الله عنها لما ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه واشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله طلاقاً.

    فمذهب بعض العلماء أنه كان في الجاهلية طلاقاً، وحكى الإمام الشافعي رحمه الله عن بعض أئمة السلف وأهل العلم أنهم كانوا يقولون: كان الطلاق في الجاهلية بثلاثة أشياء: بالطلاق المعروف، وبالظهار، وبالإيلاء، فكانت العرب إذا تلفظت بالطلاق أو بالظهار أو بالإيلاء عدت ذلك كله طلاقاً، فجاء الإسلام وهذب الأحكام، فجعل الطلاق طلاقاً، وجعل الظهار موجباً للكفارة، وجعل الإيلاء على التفصيل الذي تقدم معنا.

    واختلف العلماء في ظهار أهل الجاهلية، فقال بعضهم: كانوا في الجاهلية إذا تلفظ أحدهم بالظهار يعتبرونه طلاقاً محرماً للمرأة إلى الأبد، فكان من عظيم الظلم للنساء، فتبقى المرأة لا هي زوجة ولا هي مطلقة تبين منه حتى ينكحها غيره من الناس، فتصبح معلقة محرومة من الأزواج ومحرومة من زوجها، محرومة من زوجها بالظهار، ومحرومة من الأزواج بالطلاق المؤبد فتحرم على غيره حرمة مؤبدة.

    وقال بعض العلماء: إنها حرمة مثل حرمة الطلاق.

    وعلى كل حال كان هذا اللفظ موجوداً في الجاهلية، وشاء الله عز وجل أن وقع الظهار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع في حادثة مشهورة هي حادثة أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الرجل كان من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد شهد جميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أهل بدر الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح-: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

    وكان من أهل بيعة الشجرة الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة) وهو صحابي له مكانته وفضله رضي الله عنه وأرضاه.

    وقد عمِّر حتى توفي رضي الله عنه في خلافة عثمان في أواخر خلافته رضي الله عنه وأرضاه، وتوفي بالشام ببيت المقدس بالرملة رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه.

    فهذا الصحابي الجليل كان به ضعف وكانت فيه شدة، وفي يوم من الأيام راجعته زوجته في أمر من الأمور فحصل الغضب منه فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي. فظاهر منها، فخرج إلى أصحابه وجلس في النادي مع قومه، ثم رجع، فلما رجع إليها أراد منها ما يريد الرجل من امرأته -أي: أن يستمتع بها- فمنعته، وامتنعت من أن تمكنه من نفسها.

    وكانت حاله وحالها على فقر رضي الله عنهما وأرضاهما، فانطلقت إلى بعض جيرانها وأخذت ثوباً منهم، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منكسرة القلب حزينة مما أصابها من قول زوجها -وكان ابن عم لها- فذكرت شكواها، وبينت أنها أمضت حياتها وعاشرته على أحسن ما تكون العشرة، فنثرت له ما في بطنها، ومكنته من نفسها حتى رق عظمها وشاب رأسها، فظاهر منها رضي الله عنه، فاشتكت إلى الله عز وجل.

    قال بعض العلماء: حصلت المجادلة بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها، ثم نزل الوحي.

    وقيل: إن المجادلة أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل بينه وبينها بعض المراجعة.

    وثبت في الحديث الصحيح من رواية أحمد في المسند أنها ما انتهت من كلامها إلا ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في هذه الحادثة العظيمة تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، إني والله لفي طرف البيت ما بيني وبينها إلا ستر رقيق يخفى عليّ بعض كلامها وسمعها الله من فوق سبع سموات. سبحانه وتعالى.

    ولذلك قال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ [المجادلة:1] و(قد) تفيد التحقيق وثبوت الشيء دون شك فيه ولا مرية، ولا يؤتى بها إلا في الأمر الثابت الذي لا إشكال فيه. وأتى بلفظ الجلالة الظاهر، وما قال: قد سمعت بل قال: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1] .

    يقول بعض العلماء: من بديع دلالات القرآن أن ينفي الأشياء المحتملة التي ليست بحقيقة؛ لأنه لما قال: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ [المجادلة:1] قد يظن ظان أنه سمع قولها ولم يسمع قول غيرها، فقال الله: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1]، فأثبت لنفسه هذه الصفة التي تليق بجلاله وكماله، فوالله ما وقعت حبة في ظلمة إلا علمها الله، وما من نملة ولا أصغر من ذلك على صفحة حجر أملس في ليلة ظلماء إلا سمع الله صوتها وعلم مكانها وأجرى رزقها، لا يعجزه شيء جل جلاله وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره.

    وقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1] فيه دليل على أن الشكوى إلى الله أمرها عظيم؛ لأن هذه المرأة قالت: إلى الله أشكو أوساً ، وإلى الله أشكو أمري، فذكرت أنها تشتكي إلى الله جل وعلا، والله إليه منتهى كل شكوى.

    وفي هذا دليل على أن من اشتكى إلى الله فقد جعل أمره عند من تنتهي إليه الشكوى سبحانه وتعالى، وهو سامع كل شكوى، لذلك كان يقول الأئمة: إلى الله المشتكى، أي أنه هو نهاية كل شكوى سبحانه.

    1.   

    تأملات في آيات الظهار

    يقول تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة:1-2].

    آيات عظيمة ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها قبل بيان الحكم في حقيقة الشيء الذي يتكلم عنه، وانظر إلى جمال أسلوب القرآن وجلاله وكماله، وصدق الله إذ يقول : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، فأول ما جاءت الآيات جاءت بحكاية الحال، وحكاية الحال تورث الشغف، وتورث المحبة والتلهف لمعرفة الحكم.

    ولذلك يستحب العلماء عند إعطاء الأحكام التمهيد لها؛ لأن ذلك يورث الإنسان المحبة، ويورث السامع الشوق لمعرفة الأحكام، فذلك أتم وأكمل في شرع الله عز وجل.

    ولذلك ما جاء الحكم مباشرة، وإنما جاء بحكاية القصة، وأنت تجد في القرآن كل شيء حتى مبادئ كتابة الرسائل كقوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:30-31].

    وقد ذكر بعض العلماء أن الأئمة وأهل العلم في فنون الرسائل استنبطوا كثيراً من علوم الرسائل من القرآن، ومن ذلك القصة، فإن أهم شيء في القصة هو ما يكون فيها من المعاناة، فكون القرآن يأتي بمعاناة الظهار قبل بيان حكمها وبيان ما حدث ووقع، حتى إنك حينما تسمع صدر الآية تحس بمعاناة قريبة من معاناة تلك المرأة وتحس أنه أمر عظيم، ثم تكون التهيئة لقبول الحكم.

    وفيه دليل على عظم أمر الظهار وخطورته وشدة حرمته؛ لأن الله مهد له بهذه الأشياء التي تنفر وتقبح، وتجعل النفوس لا تستسيغه ولا تقبله، فلما جاء الحكم قال: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ [المجادلة:2]، فأول ما كان أن بين الله منـزلة هذا القول أنه ظلم وزور وكذب وجور فقال: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ [المجادلة:2].

    وقال بعض العلماء: قوله تعالى: مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة:2] فيه دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يقول لغيره من الرجال والنساء وصفاً في الأبوة والأمومة إلا إذا كان حقيقياً.

    ومن هنا كره بعض العلماء أن يقول الرجل لغيره: (يا أبتي). واختلفوا في قول الرجل لغيره: (يا والد)؛ لأنها تحتمل أن تكون وصفاً له، فكل شخص له أولاد فهو والد، فهو يقول له: (يا والد) من باب التكريم، قالوا: لا بأس بها ولا حرج، ولكن يشدد فيه بعض العلماء؛ لقوله تعالى: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة:2] وآباؤهم ما هم إلا الذين ولدوهم.

    فقالوا: من هنا يمتنع أن يقول الإنسان هذه المقالة تشريفاً وتكريماً للوالدين؛ لأنه لا يمكن لأحد أن ينـزل منـزلة الوالدين.

    ومن هنا حرم بعض العلماء كلمة: (فداك أبي وأمي) أن تقال إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم رخص فيها لأئمة العلم، وكل هذا من باب تعظيم الشرع لوصف الأبوة والأمومة، وإن كان الحكم عاماً.

    فقوله تعالى: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة:2] أي: ما أمهاتهم إلا اللآئي ولدنهم. فهو أسلوب حصر وقصر، وهذا يدل على أن الظهار قول خرج عن الأصل، فقال تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً [المجادلة:2]، وفيه تأكيد، وصيغة التأكيد (إِنَّهُمْ) واللام في (لَيَقُولُونَ) والقول معناه أنه صدر من إنسان تلفظ به، فجمع الله بين كونه منكراً وزوراً، وفيه فوائد:

    الفائدة الأولى: كونه منكراً من جهة الإنشاء، وكونه زوراً من جهة الخبر؛ لأن قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي يشتمل على أمرين: تحريم ما أحل الله، والإخبار بأنها كالأم.

    فالأول من جهة الإنشاء؛ حيث إن الله عز وجل ما جعل الزوجة أماً، وإنما جعل الزوجة حلالاً محللة مباحة، فهو نقلها من الحل إلى الحرمة، ووقع في المنكر؛ لأنه لا يتفق مع شرع الله عز وجل، وزور لأنه من جهة الخبر قال لها: أنتِ كأمي، أو: كأختي، أو: كبنتي، فهي ليست أماً له وليست بنتاً له حقيقة، فكان كذباً في الخبر ومنكراً في الإنشاء، فجمع الله بين الوصفين وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2] .

    الفائدة الثانية: أخذ العلماء من هذه الآية تحريم هذا القول وهو محل إجماع.

    الفائدة الثالثة: قال بعض العلماء: مظاهرة الرجل لامرأته كبيرة من كبائر الذنوب، والسبب في ذلك وصف الله أنه منكر وزور، وترتيب العقوبة الشديدة التي جعلها الله في قتل الأنفس، وجعلها في جماع نهار رمضان، ولم يجعلها إلا في الكبائر، فقالوا: هذا يدل على أن الظهار كبيرة من كبائر الذنوب، نسأل الله السلامة والعافية.

    ثم انظر إلى سعة رحمة الله عز وجل في قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة:2] ولطفه بعباده وحلمه على خلقه، كيف وهو الودود الرحيم سبحانه وتعالى، والجواد الكريم الذي لن تنفعه طاعة الطائعين ولن تضره معصية العاصين.

    وانظر إلى التأكيد، فما قال: إن الله عفو، بل قال : إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة:2]، وهذا يدل على سعة رحمته سبحانه وتعالى.

    ثم بيّن الحكم فقال تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3].

    فأوجب الله سبحانه وتعالى الكفارة، وبيّن ما يترتب على الظهار -وهذا ما سنفصله إن شاء الله- من وجوب عتق الرقبة، فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع الصوم فإنه يطعم ستين مسكيناً.

    ولما نزلت الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تأمره بعتق الرقبة، فقالت: لا يجد يا رسول الله، ولا يملك إلا نفسه. فأمرها أن تأمره أن يصوم شهرين فأخبرته أنه شيخ ضعيف لا يستطيع الصوم ولا يطيقه، فأمرها أن تأمره بإطعام ستين مسكيناً فقالت: من أين له أن يجد ذلك؟ ثم قالت: يا رسول الله إن عندي عرقاً من تمر -والعرق فيه خمسة عشر صاعاً، أي: فيه ما يقارب سبعة آصع ونصف- فقال عليه الصلاة والسلام: (وأنا أعينه بعرق آخر، واستوصي بابن عمك خيراً). فقد كان من خيار الصحابة، فكانت الكلمة الأخيرة أن جزاها خيراً بمعونتها له على الكفارة ثم قال لها: (واستوصي بابن عمك خيراً)، فدل على كرم خلقه صلى الله عليه وسلم ووصيته بالأزواج.

    وكذلك وصيته للزوجات بالصبر، وأن المرأة تحتسب عند الله سبحانه وتعالى الثواب، وأن الله جل وعلا لا يضيع عمل عامل، ولا يضيع لمن أحسن أجره، فقال عليه الصلاة والسلام هذه الوصية، وهي وصية لكل امرأة صالحة ترجو لقاء الله عز وجل ابتليت بزوج أساء إليها أن تحتمل هذه الإساءة، وأن تستوصي به خيراً؛ لأن الزوج حينما يكون من القرابة حقه عظيم، والزوجة حينما تكون من القرابة حقها عظيم، فلذلك قال: (واستوصي بابن عمك خيراً)، فهي وصية لكل زوج وكل زوجة قريبة أن يتقيا الله عز وجل في القرابة وفي الرحم.

    وقد أجمع العلماء على حرمة الظهار كما ذكرنا، وأنه من كبائر الذنوب في قول طائفة من أهل العلم، وذكرنا دليل ذلك.

    فقول المصنف رحمه الله: [ كتاب الظهار ].

    أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالظهار، ومناسبة هذا الكتاب لما قبله أن كتاب الطلاق وكتاب الإيلاء وكتاب الظهار بينهما اشتراك من جهة التحريم، فالطلاق فيه تحريم للزوجة على مراتبه المعروفة، والإيلاء نوع تحريم؛ لأنه مؤقت بزمان، والظهار نوع من التحريم؛ لأنه يصف المرأة بأنها كالمحرمة، فناسب بعد انتهائه من بيان حكم الإيلاء أن يذكر حكم الظهار.

    ومن دقة المصنف -وهذا منهج العلماء- أن قدم كتاب الإيلاء على كتاب الظهار؛ لأن كتاب الإيلاء ألصق بالطلاق من الظهار؛ فإن الظهار ليس بالطلاق، لكنهم قالوا: لما كان في الجاهلية طلاقاً وفيه شبه بالإيلاء من جهة التحريم ناسب أن يذكر بعده.

    وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الدخول بالمرأة المعقود عليها قبل إعلان النكاح

    السؤال: ما حكم الدخول بالمرأة التي عقد عليها قبل إعلان النكاح؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    من حيث الحكم الشرعي المرأة حلال للزوج إذا عقد عليها عقداً شرعياً صحيحاً، لكن هناك أمور مرتبطة بالعرف لا نحرم بها ما أحل الله ولا نحلل بها ما حرم الله، ولكن نقول: أمور تترتب عليها أضرار ومخاطر ينبغي المحافظة عليها والتحفظ فيها.

    فالزوجة إذا اتفقت مع زوجها على أن يدخل بها دون علم أهلها ربما دخل عليها بصفة سرية، أو كان يختلي بها في بيتها، فإذا توفي هذا الزوج، وكان قد جامعها أو أصابها وهي بكر فمن الذي يصدق أن الزوج أتاها؟ ومن الذي يثبت أنه قد دخل بها؟ فهذه أمور خطيرة جداً ينبغي أن يتريث فيها.

    ولو أن امرأة عقد عليها الزوج، وحصل بينها وبين زوجها جماع قبل الدخول العلني، وشاء الله أن تحدث مشاكل بين الأسرتين فقالوا: لا يدخل عليها ولا يأتيها. وخاف الزوج أن يخبر أباه بهذا الأمر، أو حدثت أمور خطيرة بين أهل الزوجين. فما استطاع أن يبين الحقيقة، ثم ظهرت المرأة حاملاً، فمن الذي ينفي عنها التهمة؟ ومن الذي يثبت أن هذا نسب صحيح؟ فهذه أمور فيها مخاطرة، وأمور مضرة ينبغي التريث فيها من ناحية شرعية وعرفية وأدبية، فقد يكون الشيء مباحاً للإنسان لكنه أدباً وأخلاقاً غير مباح.

    فهناك أمور ينبغي الحياء فيها ومراعاة الذمة، فأبو المرأة له حق عندي أني لا أدخل على بنته حتى يأذن لي، والله يقول: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، فهذا طعن في حق الوالد وحق الوالدة؛ لأنه جرى العرف أنه لا بد من استئذان أهل الزوجة بالدخول.

    فتواطؤ الزوجين وخروج الزوجة مع زوجها، وغير ذلك من الأمور التي فيها نوع من التوسع بين أهل الزوجين ينبغي قفل بابها، خاصة عند فساد الزمان، وخاصة إذا وجد من الشباب والأحداث من لا يبالي بحدود الله عز وجل، ولا يبالي بإنكار ما كان منه من إتيان زوجته وحملها منه. إن حصل بينهما شيء واتهمت بسببه.

    بل قد حدثت حوادث كان الرجل فيها يستخدم هذه الطريقة للإضرار بالزوجة، فتكون بكراً فيعبث بها ويستغلها، فيفتض بكارتها ثم يهددها بما شاء، فليس هناك دليل يثبت دخوله بها، فهذه أمور خطيرة ليست من الحكمة ولا من العقل.

    وهنا أنبه على أنه ينبغي على الزوج أن يكون متفهماً لوضع أهل الزوجة، فالوالد والوالدة حينما يحرصان على المحافظة على البنت ومراقبة الزوج عند دخوله بطريقة معقولة فهذا أمر ليس فيه غضاضة وليس فيه منع؛ لأنه يخشى من أمور لا تحمد عقباها.

    فعلى كل حال لا بد وأن توضع الأمور في نصابها، وأن يتقي الله كلا الزوجين وأهل الزوجين، فإذا كان الدخول على وجه تضمن فيه الحقوق وتصان، ولا يحدث منه ضرر فهذا مما أذن الله عز وجل به، فالزوجة حلال لزوجها، لكن إذا كان التساهل في مثل هذه الأمور يترتب عليه أضرار على أهل الزوجة والزوجة فالأصل منع ذلك.

    ومن الحوادث التي وقعت أن امرأة كانت أكبر أخواتها، وشاء الله عز وجل أن ترتبط بزوج، وكان -نسأل الله السلامة والعافية- فيه استهتار.

    فدخل بها وحصل الجماع وافتضها وهي بكر، ثم بعد ذلك حصلت مشاكل بين أهله وأهلها، واستحيا أن يخبر أباه، وحنق في نفسه على أمها، وجعل الانتقام من الأم عن طريق البنت، وتوسلت البنت إليه ورجته وسألته، وما استطاعت أن تكشف الأمر لأهلها إلا بعد أن ظهر الحمل بها.

    ولما ظهر الحمل بها اتهمها أهلها بالفاحشة، فقالت: إنه ولده! فقال: أنتِ ما تكلمت من قبل! قالت: ما كنت أعلم أن هناك حملاً. واتهمت البنت، واتهمت في أهلها حتى إن أخواتها أُسيء إليهن ولم يزوجن من بعدها، وحصل للبيت وللأسرة ما حصل، وبعد مرور سبع سنوات جاء ذلك الزوج المستهتر يسأل نادماً عن حكم ما فعله.

    فالشاهد أن هذه أمور لا يتساهل فيها، خاصة في هذا الزمان.

    ولا بأس أن يأتي الرجل بأدب فيجلس مع زوجته ويسلم عليها، وأنبه على أنه لا تنبغي المبالغة في مثل هذه الأمور، خاصة أن بعض الأزواج والزوجات يبالغون في إطالة الجلوس والكلام والحديث، وهذه أمور ينبغي أن ترتبط بالآداب وبالأخلاق وبالحياء وبالخجل.

    فالإنسان إذا أتى يسلم على زوجه، ويجلس معها، ويباسطها في وقت يستطيع أن يتحكم فيه، كقبل الصلاة بوقت، حيث يستطيع أن يجد له عذراً، أما أن يأتي ويجلس من بعد العشاء إلى ساعات فلا، حتى إن بعضهم شكى لي أن الزوج العاقد يجلس معها إلى بزوغ الفجر، فهذه أمور لا تنبغي، وقد يحصل منها تضايق أهل الزوجة وإخوانها وقرابتها.

    فهذه أمور ينبغي أن يتحفظ فيها، خاصة الأزواج، فإنهم ينبهون على أن الزوجة ولو كانت حلالاً، إلا أن هناك أموراً مرتبطة بالعرف، وهناك أموراً أدبية جاءت بها مكارم الأخلاق التي تدعو إليها الشريعة وتحبذ فيها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وإن بعض الأزواج ليستحي أن يجلس مع والد زوجته في بعض المجالس؛ حتى لا يُحرج في بعض الكلام أو بعض الحديث.

    وكذلك تجد بعضهم يذوب خجلاً ولا يستطيع أن يأتي يقابل أخاها أو قريبها، ولا شك أن الأمر بين الإفراط والتفريط، فلا يمتنع الإنسان كلية ولا يبالغ، فالوسط والعدل هو المأمور به شرعاً، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل. والله تعالى أعلم.

    حكم مظاهرة الرجل لامرأته ومملوكته

    السؤال: ظهار الرجل من أمته ومملوكته هل يأخذ حكم ظهار الحرة؟

    الجواب: الأمة لا ظهار منها؛ لأن الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:3]، ويقول: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، فجعل محل الظهار النساء، والأمة ليست من النساء، فيقال: (نساء الرجل) لزوجاته، ولا يقال: (نساء الرجل) لإمائه، فالأمة لا توصف بكونها من النساء، إنما النساء في هذا الوصف للزوجات.

    وعلى كل حال فالإجماع منعقد على أن الأمة لا يظاهر منها، وهناك خلاف بين العلماء في أم الولد؛ لأنها شبيهة بالحرة وفيها شبه بالأمة، ولكن الأصل يقتضي أنها كالأمة ولا يقع الظهار عليها.

    والله تعالى أعلم.

    حكم تقييد السلام على القبور بالدخول عليها فقط دون المرور بها

    السؤال: هل السلام على أهل القبور مقيد بزيارة، أم يكون ولو بالمرور بجوارها بالسيارة ونحوها؟

    الجواب: السلام على الأموات جائز حتى ولو لم تمر بالقبر، فأنت تسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وما مررت بقبره.

    والسلام دعاء بالسلامة، لكن كونك تذهب إلى القبر وتقف على القبر فهذا أكمل وأعظم أجراً؛ لما فيه من الزيادة في القربة، ولما فيه من الاتعاظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) .

    أما لو مر بالمقبرة فالذي أعرفه من كلام العلماء والأئمة -وهذه دواوين العلماء كلها موجودة- أن من مر بالمقابر يسلم عليها، ولا يوجد أحد من العلماء يفرق بين أن تدخل المقبرة وبين أن تمر بها، بل المقابر القديمة ما كانت مبينة، وما كان عليها حيطان، بل كان الإنسان يمر عليها مروراً.

    فهذا أمر واضح جداً في كتب العلماء، وتجد في كثير منها: ويستحب لمن زار القبر أو مر به أن يقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين). لأن المراد به الترحم والدعاء للأموات، وهذا مما رحم الله عز وجل به عباده، فجعل للأموات نصيباً عند الأحياء أن يذكروهم من بعد موتهم، وهذا من فضل الأخوة في الإسلام ومن بركاتها، وما أكثر بركات الدين وأعظمها، فإن أخوة الدنيا تنتهي بانتهاء الدنيا، ولكن أخوة الدين لا تنتهي أبداً حتى في الجنة، كما قال تعالى: إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، فهي الأخوة التامة الدائمة؛ لأنها مستمدة من كمال الدين، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، والمبني على الكمال كمال.

    فهي الأخوة الكاملة الباقية، فإذا مات قريب الإنسان، أو من يعرفه، أو من لا يعرفه من عموم المسلمين، فمر على مقابرهم وسلم عليهم وترحم عليهم وسأل الله لهم العافية فهذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الدين دين رحمة.

    ولذلك قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، والرحمة كما تكون للأحياء تكون للأموات؛ فإنك إن وقفت على القبر وترحمت على صاحبه قد لا تستطيع أن تدرك مقدار الخير الذي أسديته لهذا الميت من إخوانك المسلمين، فلا يعلم ذلك إلا الله وحده لا شريك له علام الغيوب.

    وقد تقف على معذب وتسترحم له فيرحمه ربه، وقد تقف على من ضيق عليه قبره فيوسع عليه بدعائك له بالرحمة، وقد تقف على مذنب يعذب بذنب فتسأل الله له المغفرة فيقبل الله شفاعتك فيشفعك فيه، والمسلم لا يذكر الأموات إلا ويسأل الله لهم الرحمة.

    وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في جوف الليل المظلم ليزور أهل القبور، كما في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة قالت: (افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراشه، فقام في آخر الليل فتبعته، حتى أتى بقيع الغرقد ووقف ملياً...) الحديث، أي: وقف وقوفاً طويلاً ورفع كفيه يدعو كما في الرواية الصحيحة.

    ولذلك فرق العلماء بين الدعاء للميت بعد دفنه وزيارة القبور، فعند زيارتها يشرع أن يرفع كفيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع كفيه، ولكن بعد دفنه مباشرة ما ثبت عنه، بل قال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت) ولم يرفع.

    فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جوف الليل المظلم، ووقف على القبور وترحم على أهلها ودعا لهم، وفي الحديث الصحيح في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد -أي: تنظفه- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بشأنها قال: (هلا آذنتموني!) ثم انطلق عليه الصلاة والسلام حتى وقف على قبرها فصلى ودعا لها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) .

    فأهل القبور يحتاجون من إخوانهم المسلمين أن يذكروهم بخير وأن يدعوا لهم، خاصة الأقرباء والوالدين والإخوان والأخوات والأعمام والعمات، والمسلم إذا دخل المقبرة وفيها قريب له فلا بأس أن يقف على قبره ويستغفر له ويترحم عليه ويسأل الله له العافية.

    وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وكان شيخنا الشيخ عبد العزيز رحمه الله يميل إلى تحسينه وثبوته والعمل به- أنه إذا زار الميت يأتيه من قبل وجهه. وهذا يدل على أنه إذا كان له فيها قريب فالأفضل والأكمل أن ينـزل وأن يسلم عليه، وأن يقف على نفس قبره، وأن يدعو له وأن يترحم عليه؛ لأن هذا فيه خير كثير للميت، وفيه خير كثير للحي؛ لأن الحي يكتب له الأجر، وحسنة المؤمن على أخيه المؤمن مكتوبة وثوابها مرفوع عند الله سبحانه وتعالى، ومن رحم أخاه المسلم رحمه الله عز وجل.

    وقد كانت الأمة في سالف زمانها مرحومة، فتجد الأحياء لا ينسون الأموات من صالح دعواتهم، ولا يذكرونهم إلا بخير ويترحمون عليهم، ولا يمر على الولد يوم إلا وقد ذكر والديه بدعوة وسؤال ورحمة، فالذي ينبغي أن المؤمن لا ينسى إخوانه المسلمين.

    ومن العبر التي يحكيها العلماء كما ذكر أبو نعيم في الحلية بسنده أن مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي الجليل رحمه الله برحمته الواسعة كان ينـزل البصرة ويصلي فيها الجمعة، وكانت له ضيعة -بستان خارج البصرة-، فإذا جاء يوم الجمعة ينـزل ليلة الجمعة ويصلي ثم يرجع إلى ضيعته، وكان إذا دخل البصرة يمر بالمقبرة على طريقه، فكان يقف ويترحم على أهلها، ثم يمضي إلى منزله، ثم يصلي ويخرج.

    فشاء الله أنه في جمعة من الجمع كانت ليلة مطيرة ولم يقف المطر فنام رحمه الله، فرأى كأن أمماً كثيرة تأتيه وتقول: إن الله يفرج عنا من الجمعة إلى الجمعة بدعائك.

    وهذا أمر له أصل في الكتاب والسنة، فالمسلم إذا شفع لأخيه المسلم وترحم عليه فالله ينفعه بذلك؛ لأن الله يقول: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10].

    فهذا يدل على أن من السنة ومن الهدي أن يذكر المسلم إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، وأن يترحم عليهم، فينبغي على المسلم ألا ينسى إخوانه المسلمين، فلا نزهد في الدعاء للأموات.

    أما أن نمنعه أن يدعو ويترحم على إخوانه المسلمين وهو مار على القبور إلا أن ينـزل فلا دليل على ذلك، والنصوص كلها مطبقة على الترحم على المسلمين والدعاء لهم وسؤال الله عز وجل لهم الرحمة، ولا فرق بين كونه راكباً وماشياً.

    فإذا كان لا بد أن ينـزل فلا يقال: يدخل المقبرة، أو: يقف على بابها. ثم إذا وقف في المقبرة يقف في أولها، أو وسطها، أو آخرها، ولا يشدد في هذه المسائل.

    فلو كان الأمر متعيناً لفصله الشرع ولبينه، والفقه أن تعلم مقصود الشرع، ونحن عندنا في فتاوى السلف والأئمة رحمهم الله أنه لا فرق بين من مر ومن وقف، وأنه يشرع الدعاء للأموات وأن تقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ولهذا تدرك أن حرمة المسلم حياً كحرمته ميتاً.

    فالقول بأنه لو مررت على أخيك المسلم فلا يجوز لك أن تسلم عليه إلا إذا نزلت، لا يصح، وما أحد قال هذا، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة في سنن ابن ماجة -وصححه غير واحد- : (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً)، أي: في الإثم، فجعل الحرمة للحي والميت -كما يقول العلماء- واحدة.

    فإذا ثبت أن هذا الحي إذا مررت عليه تسلم عليه سواء أصافحته ونزلت، أم مررت مروراً كما جاء في حديث أنس : (أن النبي لما مر على النسوة أشار إليهن بكفه وسلم). فهذا يدل على أنه لا بأس، ولا فرق بين المار والنازل، ولا شك أن النـزول والاتعاظ والرؤية أعظم أثراً وأكثر فائدة؛ لأن كونه ينـزل ويقف على القبر ويترحم على أموات المسلمين أعظم؛ لأنه زيارة، والزيارة أعظم أجراً لأنها مأمور بها في قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) .

    فالأفضل والأعظم أجراً والأكثر عظة أن الإنسان إذا وقف على قبر الميت وكان عنده قلب حي أن تزداد حياة قلبه بهذه العظة، فوالله إنه لمن غرائب ما يقع أنني أدخل في بعض الأحيان بقيع الغرقد، وأعرف قبور بعض الناس الذين لهم عمائر وبنايات بجوار البقيع فأنظر إلى قصره وأنظر إلى قبره وأتعظ عظة عظيمة.

    وروي أن هارون الرشيد رحمه الله مر على رجل كان حكيماً فقال له: عظني. قال: يا أمير المؤمنين! بماذا أعظك؟! هذه قصورهم وهذه قبورهم. أي: بماذا أعظك! إن جئت وجدت الشخص يشيد دنياه ويعمرها ثم فجأة يخرج منها.

    فالقبر فيه عظة عظيمة ويكسر القلب، ويورث الخشوع، ويذهب الكبر والقسوة والغفلة، والمتأمل في القبور وهذه الدور المتقاربة يجد بينها كما بين السماء والأرض، فكم من قبر بجوار قبر بينه وبين أخيه ومن بجواره كما بين السماء والأرض.

    فقبور تجدها في ظلمة مظلمة وكهوف معتمة، لكنها ملئت على أهلها أنواراً من الله جل وعلا، وقبور تمر عليها حولها الناس يسرحون ويمرحون وحولها الضياء والفرح والسرور قد ملئت على أهلها جحيماً وسعيراً.

    فلا يعلم ما في القبور إلا الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء بن عازب أن العبد الصالح إذا سئل وفتن في قبره، فسلمه الله من فتنته، وثبت الله قوله، وسدد كلامه فسح له في قبره مد البصر.

    سبحان الله فالقبور قد تكون كلها قبور صالحين، وكل يمد له مد البصر بأمر الله جل وعلا، وبقدرة الله جل وعلا، والأمر أمر الله، والخلق خلق الله، لا يعجزه سبحانه وتعالى شيء، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحمنا في قبورنا، وأن يلطف بنا إنه ولينا. والله تعالى أعلم.

    الفرق بين قول الشيخ: (في رواية) وقوله: (في لفظ)

    السؤال: يقال عن الحديث أحياناً: (في رواية)، وتارة (في لفظ)، فهل هناك فرق بين الاصطلاحين؟

    الجواب: اللفظ يكون مع اتحاد الرواية، كما يخرج البخاري -مثلاً- حديثاً بلفظين مع اتحاد الرواية، ويختلف في اللفظ الرواة، وأما الرواية فتكون عن صحابي آخر كرواية عن أبي هريرة وجابر ، فهذه رواية أبي هريرة، وهذه رواية جابر .

    وقد تقول -مثلاً-: متفق عليه، ولـمسلم. أي: قد ينفرد مسلم بلفظ ولم يتفقا عليه، فهذه كلها مصطلحات يقصد منها بيان أنواع الرواية، وأنواع التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

    إذا رضعت البنت من جدتها أم أبيها

    السؤال: رجل له ابنة، فأرضعت أمه هذه البنت، فما الحكم في ذلك؟

    الجواب: هذه البنت صارت أختاً له من الرضاعة وبنتاً له من النسب، فتصير أختاً له من الرضاعة إذا أرضعتها أمه، وإذا أرضعتها جدته أم أبيه تصبح عمة له من الرضاعة وبنتاً له من النسب، وهذا من الأمور الغريبة التي كثيراً ما تقع في مسألة صغار السن وكبار السن، ففي بعض الأسر تعمر الجدة حتى ترضع بنات أبنائها، أو أبناء أبنائها ونحو ذلك، وفي هذه الحالة يرتفع الرضيع إلى درجة فوق الدرجة التي هو فيها.

    وبعض الأحيان العكس، فقد يرضع من بنت بنت ويكون -مثلاً- عماً، فينـزل إلى درجة من جهة الرضاعة إلى أسفل، أي: في النسبة، فيقول لأخيه: يا عمي. ويعتبر أخاه عماً له من جهة الرضاعة، ويكون أخاً له من جهة النسب. وكذلك لو أن أخاه أرضعته بنت بنت أخت، فحينئذٍ ينـزل من مستواه الأصلي، ويصير خالاً لهم، ويصير خالاً لأمه في بعض الأحيان.

    فالرضاعة لها أحوال عجيبة جداً من جهة رفع الإنسان ومن جهة وضعه، حتى كانوا يذكرون هذا في طرائف العرب القديمة، فالرجل يكون معه ابنه فيقول لأبيه من باب المداعبة: اسكت فإني عمك. وهذا قد يكون في بعض الأحيان من العقوق؛ لأنهم يمنعون من هذه الألفاظ خاصة مع الوالدين، فمن الطرائف التي تحدث أنه انتقل بالرضاعة إلى درجة يصل فيهـا فوق الوالد وفـوق والدته.

    وعلى كل حال هذا أمر شرعه الله عز وجل، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب). والله تعالى أعلم.

    حكم دفع المبلغ المتفق عليه لمن اشترى أرضاً نسيئة ثم ارتفع ثمنها

    السؤال: مجموعة من الإخوة مشتركون في أرض، فأرادوا بيعها، فرغب أحد الإخوة بشرائها، فوافق الجميع دون تحديد للأجل الذي يدفع فيه المال، ثم بعد سنوات ارتفع سعر الأرض، فما صحة هذا البيع، وبأي سعر يتم البيع؟

    الجواب: إذا اتفق البائع والمشتري على السلعة وحددا قيمة السلعة فالبيع صحيح، ومسألة الدين هل يشترط فيه التأجيل أو لا يشترط تتعلق بمسألة قبض الثمن، فإذا قال: آخذ منك هذه العمارة بمائة ألف إلى ميسرة، يعني: إلى أن ييسر الله عز وجل عليّ فهذا رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله، ولذلك قال الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، وأطلق الأجل.

    وأما قوله تعالى: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة:282]، فهذا من جهة الديون المؤجلة؛ لأنها هي التي يحدث فيها النـزاع والخصومة.

    وأما الديون غير المؤجلة -وهي المرسلة والمقيدة بأوصاف- فهذه على حسب ما يتفق عليه الطرفان، وعلى كل حال فإنه يصح هذا البيع.

    أما هل يدفع الثمن المتفق عليه قبل عشر سنوات أو الثمن الحالي، فإجماع العلماء على أنه ليس له إلا الثمن المتفق عليه، وأنه إذا جاء يطالب بزيادة وأفتى أحد بذلك فقد أفتاه بالربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه، وهكذا في الديون، فمن استدان ريالاً واحداً قبل مائة سنة وجاء ورثته يريدون أن يقضوا دينه لا يقضون إلا ريالاً واحداً، فهذا شرع الله عز وجل.

    وفقه المسألة أنه لو استدنت منه مائة ريال قبل خمسين سنة، فالمائة ريال إذا أعطاك إياها تعتبر في الشريعة من باب الرفق، ومعنى كونه من الرفق أي: من باب الإحسان، فليس أحد فرض على صاحب المال أن يدين، فلست أنت الذي فرضت عليه أن يعطيك المال حتى تتضح الصورة.

    فإذا رضي أن يعطيك مائة ريال وقال لك: خذها إلى أن ييسر الله لك، ولم ييسر الله إلا بعد عشر سنوات، أو بعد عشرين سنة، أو بعد ثلاثين سنة فمعنى ذلك أنه متحمل لارتفاع قيمتها ورخصها، ولذلك لو أن هذه المائة أصبحت تساوي عشرات أضعافها لطالبك بالمائة ولم يطالبك بقيمتها.

    وليس في هذه المسألة إلا شذوذ عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وقول بعض أهل الرأي، فيقولون: إنه إذا أعطاه ديناً في القديم يقدر في وقت القضاء، وهذا يميل إليه بعض المعاصرين، حتى إن بعضهم ناقشناهم فوجدناهم يتعصبون للرأي أكثر من الأصل؛ لأن الله عز وجل قال: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] وهذا في الديون.

    فبيّن أن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض في الديون وقرضاتها أنه يعطى نفس الدين دون زيادة ودون نقص.

    والسبب في هذا أنه رضي بغنمه وغرمه، أي: هو راضٍ لو ارتفع السعر أو نقص، فهذا أمر مسلم به؛ لأنه أعطاه المال على أنه يأخذه منه كالوديعة، فلا يتحمل أحد الغلاء ولا الرخص، ولا يعطى إلا عين ماله.

    والفتوى بأنه يقدر ويُنظر كم قيمته، لو فتح بابها لكان كل دين يحتاج إلى دراسة؛ لأنه ما من يوم إلا ويختلف سعر المال عن أمسه وعن غده، وهذا باب لو جيء لتمريره فالشريعة أغلقته، وقالت: الأصل في هذا المال أنه أعطي معاوضة بدون مكافأة وبدون بخس.

    بمعنى أنك لما أعطيته المائة أعطيتها على سبيل الرفق بأخيك، فأنت أعطيت مائة وتأخذ المائة، فلم تعطها مرابحة حتى تطلب عوضها إذا خسر، ولم تقايض فيها بالعوض حيث تستطيع أن تأخذ قيمتها ومثل قيمتها، فليس لك إلا رأس مالك، وهذا الذي ندين الله به، وهذا الذي عليه فتاوى أهل العلم سلفاً وخلفاً، فأصحاب الديون لا يستحقون إلا ديونهم.

    لكن بقيت مسألة وهي: لو أني استلفت من شخص عشرة ريالات قبل خمس سنوات أو عشر سنوات، وأصبحت لا تساوي شيئاً فالسنة المكافأة على الدين. فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي رافع (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، ثم جاء الرجل يريد حقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أده. فقال: يا رسول الله! لا أجد إلا خيار الرباعين -يعني: لا أجد إلا سناً أفضل من السن الذي أعطاه- فقال عليه الصلاة والسلام: أعطه؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاءاً).

    فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الشريعة فتحت باب المكافأة، كمن استدان خمسة آلاف ريال، ثم وسع الله عليه وبسط له في الرزق فأرجعها وزاد مكافأة عليها ساعة أو قلماً أو ألف ريال ليس على سبيل الاشتراط.

    وأصح قولي العلماء أنه تجوز الزيادة حتى ولو كانت من نفس الذهب والفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس أحسنهم قضاءً).

    فلا فرق بين القضاء بالذهب والفضة وغيرها، وهذا الذي تطمئن إليه نفسي، وهو أنه تشرع المكافأة عند الدين ولو كانت من الذهب والفضة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأ سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) قوله: (سمحاً إذا قضى) أي: عنده سماحة، فيطيل لك في الأجل سماحة منه، وبعضهم إذا استدان قضى قبل حلول الأجل سماحة منه أيضاً، كما أنه أحسن إليك تحسن إليه، قال تعالى: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77]، فكما أحسن الله إليك بتوسعة حالك تحسن إليه فتبادر.

    ومن هذا الإحسان أنه إذا أعطاك خمسة آلاف تعطيه ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف زيادة عليها، لكن بشرط ألا يكون ذلك على سبيل الاشتراط؛ فإنه تجوز الزيادة بدون شرط؛ لأن الشريعة عممت في حسن القضاء.

    والله تعالى أعلم.

    حكم استحضار النية في صلاة الاستخارة

    السؤال: الذي يريد أن يصلي صلاة الاستخارة هل ينوي لها ركعتين خاصة بها، أم أنه يمكن ينويها في النوافل كسنن الرواتب؟

    الجواب: صلاة الاستخارة لا تشترط لها النية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، وقوله: (ركعتين من غير الفريضة) عام، ولذلك قال بعض العلماء: لو صلى راتبة، أو سنة الوضوء، وبعدها بدا له أن يستخير في أمر فدعا فإنه يشرع له أن يدعو في التشهد، ويشرع له أن يدعو بعد السلام. والأفضل والأكمل أن يكون دعاؤه بعد التشهد وقبل تسليمه.

    الشاهد أنه لا تشترط لصلاة الاستخارة ركعتين مستقلتين.

    والله تعالى أعلم.

    حكم من كان يصوم يوماً ويفطر يوماً إذا وافق صومه يوم جمعة أو وافق فطره يوم إثنين أو خميس

    السؤال: من كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فهل يفطر إذا وافق فطره إثنين أو خميس؟ وهل يصوم إذا وافق صومه يوم جمعة؟

    الجواب: الفضل العام عند بعض العلماء مقدم على الفضل الخاص؛ لأنه تفضيل من الوجوه كلها، وورود الفضل الخاص لا يستلزم أنه أفضل من العام.

    من أمثلة ذلك: تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر وعمر مع أنه قال لـسعد بن أبي وقاص : (فداك أبي وأمي) فجعل له الفداء بالأب والأم، وجعل المناصب الخاصة لبعض الصحابة، لكنها فضائل خاصة لا تقتضي التفضيل على الفضل العام الوارد في الشرع.

    فالفضل العام في الصوم الذي هو المرتبة العليا صوم يوم وإفطار يوم، قال بعض العلماء: إذا التزمه يستمر عليه، ويبقى العارض الذي لا يتكرر إلا في السنة مرة، مثل يوم عاشوراء ومثل صيام ست من شوال، قالوا: إنه إذا قصدت بعينها يصومها بعينها. لكن بعض العلماء يقول: لا يستثنى إلا يوم عرفة وعاشوراء اللذين ورد الفضل فيهما، أما الست من شوال فإنها تدخل تحت صوم يوم وإفطار يوم، لكن لابد وأن ينويها.

    فالشاهد أن بعض العلماء يقول: إذا صام يوماً وأفطر يوماً لا يحتاج إلى أن يصوم الإثنين والخميس؛ لأن الفضل العام مقدم على الفضل الخاص، والفضل العام جاء بترتيب معين وهو صوم يوم وإفطار يوم، وبعض العلماء يقول: لا تعارض بين العام والخاص، كما أنه يشرع له أن يصوم يوم عاشوراء للسبب المعين، أي: السبب الخاص الوارد. فيرى أن هذا لا يقدح في صوم يوم وإفطار يوم، فيرون أنه يصوم الإثنين والخميس ويبقى على ترتيبه في صوم يوم وإفطار يوم؛ لأنه لسبب وموجب.

    وعلى كل حال كلا القولين له وجه، ونحن إذا قلنا: كلا القولين له وجه ففي بعض الأحيان نقول هذا لعدم وجود مرجح ما، وبعض الأحيان نقول: لكلا القولين وجهه من باب التنبيه على أنه لا ينكر على من فعل هذا، ولا ينكر على من فعل هذا، ولا نقصد أن الحق متعد؛ لأن الحق لا يتعدد، فالحق واحد، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف، ولم يخالف في هذه المسألة إلا العنبري من أئمة الأصول وقوله شاذ؛ لأنه قال: إن الحق متعدد. ويحكى عن بعض أئمة الأصول لكن الصحيح أن الحق لا يتعدد.

    والأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، فبيّن سبحانه وتعالى أن الحق واحد، وأما الاجتهاد الأول فقال عنه: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، فبيّن أن الأمر فيه صواب وفيه خطأ، وهذا من حيث الأصل.

    وقد دلت السنة على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد وأخطأ كان له أجر واحد)، فبيّن أن الاجتهاد إما صواب وإما خطأ، فلا يتعدد الحق.

    وحينما نقول: لا ينكر على هذا ولا على هذا. فمرادنا أن بعض طلاب العلم إذا ترجح عنده قول استهجن قول غيره وتعصب لشيخه -نسأل الله السلامة والعافية- وقد يبلغ به الغرور أنه لا يعتقد عالماً يصيب السنة إلا شيخه، وهذا لا يجوز في المسائل الفرعية التي اختلف فيها الأئمة الأربعة، فتجده أبداً لا يلتفت إلى مذهب غير مذهب الحنابلة، أو مذهب المالكية، أو مذهب الشافعية، أو مذهب الحنفية، وهذا هو التعصب المذموم الممقوت.

    وقد ينهى عن التعصب ويقع في تعصب أسوأ منه، فتجد الحنفي أو الشافعي إذا خالفه غيره يقول: له دليله. لكن هذا إذا خالفه غيره قال عنه: عدو للسنة.

    فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، فالمسائل الفرعية التي وردت فيها نصوص محتملة لا ينكر فيها ما دام أن هناك أئمة من السلف قالوا فيها، فإن جاء شخص وقبض بعد الركوع، والآخر يرى أن القبض بعد الركوع بدعة فلا يأت يقول للذي قبض بعد الركوع: أنت مبتدع. ولا يأت يقول للذي يترك القبض: أنت تارك للسنة.

    فهذه مسائل فرعية اختلف فيها الصحابة والأئمة، وأجمع السلف ودواوين العلماء وأهل العلم -كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والحافظ ابن حجر، والإمام الحافظ ابن عبد البر من قبلهم، وكذلك العلماء رحمهم الله في مسألة الخلاف الفرعي على أنه لا إنكار في المسائل المختلف فيها فرعياً، فكل له دليله وكل له قوله، فلا يعتدى على الإنسان، ولا يعاتب الشخص إذا أخذ بقول يخالف قولي ما دام أن عنده سنة ودليلاً، أورأى أن هذا الحديث حسن، وأنا أرى أنه ضعيف، أو شيخي يرى أنه ضعيف، فلا آتي وأقول له: يا أخي! أنت تتمسك بالأحاديث الضعيفة. إن كان له شيخ يرجع إليه في الأسانيد، فكما أن شيخي يمكن أن يصيب ويخطأ كذلك شيخه يمكن أن يصيب ويخطأ، وكما أن شيخي يمكن أن يصيب الصواب ويمكن أن يخطأ الصواب. كذلك أيضاً شيخه يمكن أن يصيب الصواب، وهذا أمر محتمل، والشريعة ما جاءت به محتملاً إلا لحكمة يعلمها الله عز وجل.

    ومن هنا شملت الشريعة الإسلامية بهذا الخلاف كثيراً من المسائل والنوازل والمشكلات المعاصرة، ولولا الله ثم هذا الخلاف وهذه التفريعات والتفصيلات ما تفطنت الأذهان، ولا حصلت المناقشات، ولا ضبطت الأصول، ولا فرعت الفروع، ولا عرفت القواعد، ولا عرفت الأمهات إلا بفضل الله ثم بهذا الخلاف.

    وتجد كل عالم يقول بقول وله دليل من كتاب الله من آية تحتمل أو حديث يحتمل، فلا ينكر على من أخذ بدليل وحجة ما دام أن قوله ليس بشاذ، وليس بقول بدعة وحدث، فنحن نرى أن ما اختلف فيه أئمة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان واحتملته النصوص لا إنكار فيه، وهذا الذي نعرفه من كلام العلماء والأئمة.

    ومما ذكر أن من الواجب على العالم النصيحة للأمة في مسألة الخلاف، ومن النصيحة للأمة أنه في بعض الأحيان تتضح السنة ويخالفها دليل ضعيف، فيبين وجه ضعفه، وينبغي أن يتربى طلاب العلم على المناقشة للأدلة نفسها، ويتعودون على التأصيل للمسائل بأدلتها.

    فاقرأ في دواوين العلماء، لتجد في كتب العلماء كل الخلاف الموجود فيها، وتجد عفة الألسن، فلا يخطئون إلا الأدلة، واقرأ في بدائع الصنائع وغيره، فستجدهم يقولون: ولا يجوز عندنا كذا وكذا، وعند الشافعية رحمهم الله يجوز، ودليله كذا وجوابه كذا، فما قامت الدنيا وما قعدت، ولا قال للشافعي: مخالف للسنة.

    والعجيب أن تجد شخصاً يستدل بقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] وكأنه يقول: السنة عندي فقط. وهذا ليس من النصيحة للأمة؛ لأني إذا عودت طلابي ذلك علمتهم التعصب لي، وعودتهم أن يعتقدوا ألا حق إلا فيما أقوله، وهذا لم يكن عليه العلماء رحمهم الله.

    واقرأ كتب العلماء في المسائل الفرعية، فإذا كان هناك أدلة محتملة من الكتاب والسنة يوسع فيها ما وسع الله؛ لأنه الله وسعنا، كالذي ورد بدلالة محتملة، وما ورد بدلالة نصية صريحة، فالشيء الذي ورد بدلالة نصية صريحة. إذا أتى شخص يشذ، أو يخالف، أو يأتي بآراء أو بأهواء يصادم بها النصوص يرد عليه قوله كائناً من كان.

    لكن أن تأتي في المسائل المختلف فيها قديماً بين العلماء والسلف والأئمة، وتبدع المخالف فلا، والصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا، كما قال شيخ الإسلام : كانوا يختلفون فيترحم بعضهم على بعض، ويصلي بعضهم وراء بعض، ويترضى بعضهم على بعض.

    فالأصل أن تجعل مناقشاتك للأدلة، ومن هنا تربي طلاب علم يحفظون للسلف مكانتهم، ويحفظون للخلف مكانتهم، وتجدهم يحفظون للعلماء رحمهم الله مكانتهم، أما إذا جاء العالم أو الشيخ في قراءته للفقه وقراءته للأحاديث والأدلة يوهم طلاب العلم أنه هو وحده الذي يفهم، وهو وحده الذي يعرف السنة، فلا ينبغي هذا.

    فهذا ليس من النصيحة، إنما النصيحة أن تبين لهم أنك تقول قولاً محتملاً للصواب والخطأ، وإن كان الصواب في قولك أقوى، فتعذر غيرك الذي خالفك لدليل وحجة.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وألا يجعل الحق ملتبساً علينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم.

    رفع اليدين بعد الانصراف من الصلاة للدعاء

    السؤال: ما حكم رفع اليدين بعد انقضاء الصلاة مباشرة للدعاء؟

    الجواب: رفع اليدين في الدعاء إذا كان في المواضع المخصوصة والعبادات المخصوصة يُمنع منه إلا في حدود ما ورد في الشرع، فما يفعله بعض الناس عند انتهائه من الأذكار، أو عند انتهائه من السلام يرفع يديه ويدعو، أو الإمام يفعله والمأمومون يؤمِّنون -كما يُفعل في كثير من المواضع وبعض البلدان- هذا كله من الحدث.

    وقد نبه بعض العلماء رحمهم الله من المتأخرين الذين اطلعوا على هذا العمل على أنه بدعة وحدث؛ لأنه شعار خاص في عبادة مخصوصة.

    ولذلك تجد من يعتاد هذه الأمور إذا صلى في مسجد، وصلى به إمام ولم يرفع يديه أنكر عليه؛ لأنه صار يعتقد ذلك عبادة، حتى إن العوام يعتقدون أنه من الشرع والدين، وهذا من الحدث.

    ولكن لو أن إنساناً فرغ من الأذكار الشرعية الواردة، وكانت عنده كربة أو نكبة أو فاجعة أو ضيق ففعل أحياناً دون أن يجعلها عادة وسنة له، فهذا رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله.

    أما الشخص الذي يجعله إلفاً وعادة وداوم على ذلك فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، إنما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ الأذكار التي تلي الصلاة، ثم قال: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت...) إلى آخر الحديث، ولم يرفع يديه عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه ليس من السنة، خاصة أنه إذا كان يدعو بصوت والمأمومون يؤمِّنون على دعائه فهذا من الحدث والبدعة، نسأل الله السلامة والعافية.

    نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة. والله تعالى أعلم.

    حكم المغالاة في المهور لزيادة مكانة المرأة ورفع قدرها

    السؤال: يظن بعض الآباء أن المغالاة في مهر ابنته يزيد من مكانتها، ويشعر بقدرها ولو كان على حساب إرهاق الزوج، فما القول في ذلك؟

    الجواب: المغالاة في المهور تمحق بركة الزواج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خير النساء أيسرهن مئونة)، فدل على أن البركة والخير في الزواج ألا تكون فيه كلفة، وألا يحمل الزوج ما لا يطيقه، ولذلك نهى عمر رضي الله عنه عن المغالاة في المهور وقال: لو كان مكرمة لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته.

    فالسنة ألا يغالي الرجل في مهر ابنته، وأن يطلب العدل والمعروف، وكلما يسر كان ذلك أعظم لأجره، لكن إذا احتاجت البنت المهر، واحتاج والد البنت المهر لكلفة زواجها وأمور محتمة عليه لا بد من وجودها فلا بأس أن يكون أمراً نسبياً متفقاً مع العرف، فيطلب مهر ابنته بالعرف، فإذا كان العرف درج على أن البكر ثلاثين ألفاً وأن الثيب خمسة عشر أو عشرين ألفاً فلا مانع أن يزوجها حتى ولو بخمسة وعشرين ألفاً، أو بعشرين ألفاً.

    ثم هناك أمور نسبية، وهي أنه ينظر في حال الزوج، فإذا كان الزوج غنياً ثرياً مليئاً أخذ منه المعروف الذي هو الثلاثين، وإذا كان الزوج ليس عنده مئونة ولا مال فزوجه بخمسة آلاف أو عشرة آلاف، وفاعل هذا لا شك أن الله سيبارك له في الزواج الذي يقع لابنته، وهذا معلوم ومعهود وسنة من الله عز وجل، ولا تتبدل سنة الله ولا تتغير.

    والذي ينبغي على الآباء أن يرحموا بناتهم وأن يرحموا الأزواج؛ فإن الزوج إذا تحمل أمور الزواج بالدين أول ما يقع الضرر على البنت؛ لأنه ربما طلقها، وربما ضيق عليها حتى تفتدي منه ويحصل الخلع، ولربما ساءت أخلاقه؛ لأنه يحس كأنه اشتراها.

    لكن الوالد الذي يخفف في المهر إذا جاءت البنت تخطئ أو تسيء أو تتجاوز بعض الأمور التي لا ينبغي مجاوزتها تجد الزوج يستحيي أن يشكوها إلى والدها؛ لأن المعروف كثر عنده وأخرس لسانه، فجعل عينه غاضه عن كل خطأ وعيب في البنت، وجعل لسانه أخرس لا يستطيع أن يتكلم؛ لأن الكريم يُكسر بالمعروف.

    لكن إذا بالغ في المهر فالخطأ اليسير كبير، والزلة اليسيرة كبيرة، فهذه كلها أمور يجعلها الله عز وجل مسددات، فاليسر سبب في اليسر، والتعسير سبب في التعسير، فمن ضار ضار الله به، ومن عسّر عسّر الله عليه.

    والذي ينبغي أن يلتفت إليه هو كثرة العوانس في بيوت المسلمين، فكم من نساء ينتظرن من يتزوجهن، وكم من شباب لا يستطيعون الإقبال على الزواج للتكاليف الموجودة في الزواج.

    فعلى الآباء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرحم من يرحم، وقلّ أن تجد إنساناً يرحم في الحقوق وفي الأمور التي يليها مثل بناته وأخواته إذا زوجهن، ويساعد الزوج في زواجه، ويقف في المواقف الحميدة الكريمة إلا بارك الله له في ماله ورزقه، وبارك في هذا الزواج الذي جرى على يده، وجعل عواقبه كلها خيراً وبركة.

    فعلى المسلم أن يأخذ بهذه السنة التي كان عليها سلفنا الصالح تبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في التيسير في أمور الزواج.

    كذلك أيضاً ينبغي إلغاء الأمور التي فيها ضرر على الزوج من اشتراط الكلفات والأمور التي لا تحمد عقباها وقل أن يعظم نفعها، فالشخص إذا أراد أن يتزوج عليه أن يقتصر على دعوة القرابة وبعض من يعرفه، وليس هناك داعٍ للتوسع في أمور الزواج وللبذخ فيها.

    فليت الآباء والأمهات والأزواج والزوجات يتقون الله عز وجل في أنفسهم ويتعقلون كثيراً في هذه الأمور التي لا تعود على الناس بالخير، وما هي إلا مظاهر فانية، ووالله مهما فعل فإنه لا يسلم، ومن العجيب الذي ذكره بعض الإخوان أنه قال: حضرت زواجاً قد تكلف صاحبه وكان ثرياً غنياً، وكان مظهر جعل زواجه من أجمل وأحسن وأكمل ما يكون عليه الزواج، قال: فحضرت مع بعض أقربائه. فإذا بهم يسبون هذا الغني الثري ويقولون: قبحه الله! فعل وفعل وفعل وفعل. فأصبحت المباهاة سبباً في الذلة، لقد طلب الكرامة في معصية الله فأهانه الله، وطلب العزة بمعصية الله فأذله الله عز وجل.

    قال: ثم حضرت زواجاً بعد ذلك مقتصداً ميسراً مخففاً لا كلفة فيه، فكان أن قالوا: فعل الله بأهل الزوج والزوجة.

    أي: ما أطعم الضيوف وما فعل الذي أرادوه.

    فما أحد يسلم من الناس، لا الذي أعطاهم وأشبع بطونهم، ولا الذي أخذ بالقصد.

    فإذا كان الشخص في الزواج دعا العشرات ولم يزد على عدد معين، وجاءته أمة من الناس فهل العتب عليه، أو على هذا الطفيلي الذي جاء بدون دعوى?!

    وعلى كل حال فهناك تجاوز من الناس خاصة في هذا الزمان، والذي أحب أن أقوله هو أني أتمنى من الخطباء والأئمة وطلاب العلم أن يقرعوا قلوب الناس في هذا الأمر وأوصيهم بذلك، والأجر في هذا عظيم إذا ذكروهم، وأن يذكروا كل ظالم كم في بيته من بناته اللاتي لم يتزوجن، وليذكروا كل والد أن يسأل نفسه كم من بنت جاوزت العشرين، بل الخمسة والعشرين، بل الثلاثين ولم تنكح بعد.

    فليسأل نفسه وليبحث عن الأسباب، والعيب أن نرى أخطاءنا موجودة ونسكت عنها، فهناك أسباب موجودة، وعلينا أن ننبه الناس، وأن نكثر من هذه الخطب التي تُبيّن للناس هذا الخطأ الفادح؛ فإن كثرة الفواحش والمنكرات هي بسبب كثرة المطلقات والمرملات والعوانس من الأبكار اللاتي لا يحصى عددهن، وقد ذكر لي أن في بعض المدن مالا يقل عن أربعين ألف بنت عانس، والسبب في هذا تكاليف المهر التي ذكرناها، وهي عامل كبير جداً أثرت على كثير من الناس.

    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح الأحوال، وأن يلطف بنا في العاقبة والمآل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755949720