إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب النكاح [5]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • وجود الولي هو أحد شروط عقد النكاح التي لا يتم عقد النكاح إلا بها، فلا نكاح إلا بولي، والولي له شروط لابد أن تتوافر فيه، منها: التكليف، والذكورية، والحرية.. وغيرها من الشروط، والولاية لابد أن تكون حسب الترتيب، فلا يجوز أن يقدم الأخ الشقيق على الأب إلا لعذر.

    1.   

    وجود الولي شرط من شروط عقد النكاح

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: الثالث: الولي]

    الشرط الثالث من شروط صحة عقد النكاح: الولي، والولاية على الشيء القيام بأمره، وقد تقدم معنا شرط الولاية، والولاية تكون خاصة وعامة، فيشترط لصحة عقد النكاح الولي، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما رضي الله عنهم: (لا نكاح إلا بولي) فهذا نص، وأصل التقدير: لا نكاح صحيح إلا بولي، أو لا نكاح معتبر إلا بولي، وفي قوله عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة رضي الله عنها وغيرها: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل! باطل! باطل -وفي رواية: فنكاحها باطل! فنكاحها باطل! فنكاحها باطل-) وفي حديث أبي هريرة : (البغي -وفي رواية-: الزانية هي التي تزوج نفسها).

    فالمرأة لابد من أن يلي عقدها الرجل، وهذا هو الولي الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إلا بولي) فلا يصح النكاح إلا بالولي، ويتفرع على هذا أن المرأة لا تزوج نفسها ولا توكل رجلاً بتزويجها؛ لأن الأصل لا تملكه فمن باب أولى فرعه، فلو قالت: يا فلان! زوجني من فلان، لم يصح؛ لأن الأصل الذي وكل ليس له حق الولاية على نفسه فضلاً عن أن يوكل غيره، كذلك أيضاً كما لا يصح أنها هي بنفسها تلي عقد النكاح لنفسها لا يصح أن تكون ولياً لغيرها، فلو أن امرأة زوجت بناتها لم يصح، فلو قالت: يا فلان! زوجتك بنتي فلانة، لم يصح؛ لأنها لا تملك الولاية على نفسها فمن باب أولى أنها لا تملكها على غيرها.

    السبب في هذا: نحن قدمنا أن هناك جانباً للنساء وجانباً للرجال، فجانب الرجال اعتبرته الشريعة، ومن الأدلة على اعتبار جانب الرجال حديث الولي في النكاح، والسبب في هذا: أن الرجال أعرف بالرجال، والمرأة لا تعرف الرجل خاصة إذا كانت بكراً، فالرجل هو الذي يعرف الرجل، ولربما خُدعت المرأة بالرجل ولربما كذب عليها، وهذا يقع في المجتمعات التي هي غير مسلمة، وتجد فيها المرأة يمكن أن تزوج نفسها، فتجد الرجال يتلاعبون بالنساء كما يشاءون، وممكن أن يأتيها في أحسن حالة في هيئته الظاهرة، فيظهر لها أنه غني وأنه ثري ويخدعها بسيارة غيره، وعمارة غيره، ويمكن أن تنخدع وتنجر معه، وفي النهاية يتبين أنه فقير لا مال عنده، وأن هذه الأشياء كلها مستأجرة، لكن من يستطيع أن يعرف حقيقة هذا الرجل في وضعه وفي غناه وفقره، وفي قوة وضعف شخصيته، وفي كذبه وصدقه، وفي أمانته وخيانته، وفي ظاهره وباطنه.. وفي جميع شئونه؟ لا يستطيع أن يعلم ذلك إلا رجل مثله، يدخل مدخله ويخرج مخرجه، ويمكنه أن يسأل من تحت يده ومن فوقه، ومن يتعامل معه، وقرابته حتى يستجلي حقيقة أمره.

    إذاً: أعطي الأولياء حظ النظر للجوانب التي لا يمكن للنساء أن يطلعن عليها.

    فولاية الرجل تقوم على جوانب، أول شيء منها وأهمها: اختيار الكفء الكريم، سواء تقدم الكفء طالباً أو بحث عنه الولي بنفسه، فإن الولي الصادق الذي يريد الخير لبناته وأخواته إذا تأخر زواجهن وتأخر من يتقدم لهن تأخذه الحمية والغيرة وحب الخير حتى ربما عرض بنته من أجل أن يحفظ دينها وأمانتها وعرضها، وهذا فعله من هو خير منا، كـعمر رضي الله عنه وأرضاه وغيره من الصحابة والأفاضل خوفاً على مولياتهم، كل ذلك من تمام الولاية.

    إذا ثبت هذا فالرجل ينظر في كفاءة الرجل ويستلزم هذا جوانب مهمة؛ يستلزم النظر في صفات الرجل الخلقية والخُلقية والدينية والدنيوية، فيأخذ صورة كاملة عن شخصية الرجل وطبيعته، ولذلك لما جاءت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (إن أبا الجهم رجل لا يضع العصا عن عاتقه، ومعاوية صعلوك لا مال له) فنظر إلى وضعه الدنيوي، (صعلوك لا مال له)، ونظر إلى شخصيته الذاتية من حيث سرعة الغضب والعصبية (لا يضع العصا عن عاتقه) معنى ذلك أنه شديد على أهل بيته، فقال لها بعد ذلك: (انكحي أسامة).

    فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر لها حظ الرجال، ووجَّهها أيضاً إلى طرف ثالث، فكل هذا من باب نظر الأولياء أو نظر من يستشار فينزل منزلة الأولياء في النظر في مصلحة المرأة.

    1.   

    الشروط الواجب توافرها في الولي

    التكليف

    قال رحمه الله: [ وشروطه: التكليف ]:

    لماذا يدرس طالب العلم شروط الولي؟

    أولاً: لكي تعرف أن الولي شرطٌ في صحة عقد النكاح، فلو سألك سائل: زوَّج فلانٌ فلاناً بنته هل يصح النكاح؟ تعرف أن من شروطه الولاية، فهل فلان هذا الذي زوج هذه المرأة ولي لها أو لا؟ وإذا كان ولياً لها فهل الشروط المعتبرة في الولي متوفرة فيه أو لا؟

    فنبحث الشروط التي سيذكرها المصنف رحمه الله، فلا يمكن لنا أن نقول لكل شخص: تعال ولياً للزواج، ولا يمكن أن نقبل كل شخص للولاية في النكاح، فهناك نواقض من ناحية الدين ومن ناحية الأمانة من ناحية الصفات في الرجل ذاته، فلابد من توافر شروط لكي نحكم بصحة الولاية.

    إذاً: عندنا جانبان:

    أولاً: نثبت شرط الولاية، وقد بينا دليله من السنة.

    ثانياً: ما هي صفات الولي أو الشروط المعتبرة في الولي؟

    جمهور العلماء على اشتراط الولي، وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان عليه من الله الرحمة والرضوان فقال: يجوز للمرأة أن تزوج نفسها، واستدل بقوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232] فقال: أسند النكاح إلى النساء وقال: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] وهذا ضعيف، ولذلك يقول الإمام الشافعي : إن هذه الآية حجة لإثبات الولي أكثر من أنها حجة لإلغاء الولي؛ لأن الله خاطب الأولياء فقال: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232] فدل على أن المرأة إذا كان من حقها ورأت أنه صالح لها لو كانت تلي نفسها لكان أباح الله لها أن تتزوج؛ لكن لما وقف الأمر على مخاطبة الأولياء: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] دل على أن النظر للأولياء، وأن الذي يلي عقد النكاح إنما هم الأولياء وليس النساء.

    ومما يدل عليه كذلك: قوله تعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221] فوجه الخطاب للأولياء، وهذا يدل على اشتراط الولاية، ناهيك عن صريح السنة فيما ذكرناه من حديث ابن عباس رضي الله عنه وعائشة وأبي هريرة رضي الله عن الجميع كما تقدم.

    قوله: [ التكليف ]: والتكليف بينا أنه يكون بالعقل والبلوغ

    وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل

    وبينا هذا، فإذا قيل: التكليف، فلابد من شرطين:

    البلوغ: فلا يصح أن يكون الولي صغير السن صبياً، فلو أن امرأة لديها أخ عمره اثنتا عشرة سنة ولم يبلغ، وليس عندها أب ولا أولياء أقرب من الأخ الشقيق، فجاء أخوها الشقيق وزوجها من رجل، فإن هذا النكاح لا يصح؛ لأن الولاية شرط في صحة عقد النكاح وهذا الصغير ليس بولي؛ لأن من شرط صحة عقد النكاح التكليف، والصبي غير مكلف.

    وهكذا المجنون، فالتكليف شرطه البلوغ والعقل، فلو كان مجنوناً لا يصح أن يلي عقد النكاح، ولو كان سكراناً؛ فمن شرب الخمر أو تعاطى المخدرات، وأثناء تعاطيه للمخدرات زوَّج أخته أو زوَّج بنته وقال: يا فلان! زوجتك بنتي فلانة، لم يصح؛ لأننا قلنا: شرطه العقل، فمثل هذا لا يصح إنكاحه وتزويجه.

    الذكورية

    قال: [والذكورية]:

    لأن المرأة لا تزوج نفسها ولا تزوج غيرها، ولذلك اشتُرِطت الولاية؛ لأنها متصلة بالرجال، فقوله: (لا نكاح إلا بولي) يدل على أن المرأة لا تزوج نفسها ولا تزوج غيرها.

    الحرية

    قال: [ والحرية ]:

    لأن الرقيق بحكم الشرع لا يملك نفسه فكيف يملك غيره؟ ولذلك جماهير السلف والخلف رحمهم الله على أن الرقيق لا يملك؛ لأن الرقيق تحت ضغط سيده وربما تنازل عن حقوق المرأة وأضر بمصالحها وليس كالحر.

    الرشد في العقد

    قال: [ والرُّشد في العقد ]

    الرُّشد يستخدم لمعانٍ، فعندنا رشد الدين وعندنا رشد الدنيا، أما رشد الدين فمنه قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] فالرُّشد هنا: الإسلام والهداية، وضده الغيِّ الذي هو الكفر، ويطلق الرُّشد بمعنى صلاح النظر في الدنيا، تقول: فلان رشيد، إذا كان يحسن التجارة ويحسن الأخذ لنفسه والإعطاء لغيره، مثل الشخص الذي يحسن البيع فإنه يعلم كيف يبيع ويشتري، فإذا أحسن النظر في أمواله قالوا: فلان رشيد.

    ومنه قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، قوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) يعني: إحساناً للتصرف في المال، وهذا هو النوع الثاني من الرُّشد.

    هناك نوع ثالث من الرُّشد، وهو رشد الولاية في النكاح، ورشد الولاية في النكاح أن يحسن الولي النظر لموليته، فيكون إنساناً عاقلاً يعرف الرجال ولا يخدع، ولا يكون ساذجاً يضحك عليه أو فيه غفلة أو تسرع في الأمور، كل من جاءه يقول له: زوجني بنتك يقول: زوجتك، فبعض الناس عنده نوع من الغفلة والتسرع، يعني لو كنا في مجلس وجاء رجل لأول مرة وقال لشخص: يا فلان! إني أحبك، قال: وأنا أحبك، قال: زوجني بنتك قال: زوجتك بنتي، هذا ليس من الرُّشد وليس من العقل.

    ومن هنا ندرك أن الشريعة ما جعلت الولاية للرجال يتصرفون فيها كيف شاءوا، فالولاية على النساء من الرجال مبنية على خوف من الله عز وجل وتقوى وورع، وإنصاف وعدل، وبحث عن مصالح وبحث عن كيفية الخروج من الموقف بين يدي الله عز وجل، يقول له: لمن زوجت بنتك؟ ولمن زوجت أختك؟ فيقول: لفلان الذي يُرضى في دينه وخلقه وعقيدته وسلوكه وجميع ما يكون من شئونه وأحواله، هذا هو الرُّشد، فكأنه إذا أحسن النظر للمرأة التي يلي عليها فقد رشد بنفسه ورشد بغيره، وأصاب الرُّشد، يعني: أصاب الحق والصواب والسنن فيما ولاه الله عز وجل وفيما أنيط به من أمانة.

    اتفاق الدين

    قال: [واتفاق الدين سوى ما يذكر]

    قوله: (واتفاق الدين) يعني: المسلم لا يلي الكافرة، والكافر لا يلي المسلمة، فلو كان والدها كافراً تسقط ولايته، وتنتقل الولاية إلى من هو أقرب كأخيها الشقيق، فلو أن امرأة مسلمة كان أبوها وأخوها وعمها وأبناء عمومتها كفاراً إلا ابن ابن عم مسلم يلغى هؤلاء الأولياء كلهم وتنتقل الولاية إلى ابن ابن عمها المسلم؛ لأن أهل الإسلام بعضهم أولى ببعض، وأما الكافر فلا ولاية له على المسلمة، قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] فلو قلنا: إن والدها الكافر هو الذي يزوجها فقد جعلنا لكافر على مؤمن سبيلاً.

    وقوله: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] يقول العلماء: خبر بمعنى الإنشاء، وهذا من أساليب القرآن، يعني: أن الله سبحانه وتعالى في حكمه وشرعه لا يجعل الكافر على المسلم، فلا يمكن بالولاية عليه، ولأنه لو كان وليها كافراً لربما زوجها من كافر، ولأن وليها إذا كان كافراً قد يضرها، ولذلك تجد في بعض الأحيان إذا كان الوالد فاسداً والبنت صالحة قد يضرها ويزوجها -والعياذ بالله- نقمة منها على صلاحها -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا من أسوأ ما يكون، يراها دينة صالحة فيوقعها في رجل شرير انتقاماً من صلاحها، فكيف إذا كان كافراً؟ من باب أولى وأحرى، ولذلك يقرر العلماء هذا الشرط، يقولون: لأن الكفر يحمل على الأذية وفيه عداوة دينية وهي أشد من عداوة الدنيا، ولذلك لا يلي الكافر عقد المسلمة، وتنتقل ولايتها إلى من هو أقرب فأقرب.

    قال: [سوى ما يذكر]

    هناك خلاف: هل يزوج اليهودي إذا كانت بنته نصرانية والعكس؟ يعني: اليهود والنصارى أهل كتاب وهم في ترتيب الشريعة أقرب من غيرهم من الكفار، ولذلك قال الله عز وجل في سورة الروم: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:1-3]، ثم قال: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم:4-5] فجعل نصر أهل الكتاب نصراً من الله عز وجل؛ لأنهم أهل دين سماوي بخلاف المجوس والمشركين وعبدة الأوثان ونحوهم، فهؤلاء أبعد في كفرهم؛ لأن الله عدل، ومن عدله سبحانه وحكمة هذه الشريعة أنها جعلت لكل شيء حظه وقدره، فالكفار ولو كانوا كفاراً فإن الله تعالى يقول: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:132] فالكفر له مرتبته، فاختلفوا في اليهود والنصارى فهم أهل كتاب.

    هناك خلاف مطرد في أبواب الفقه وسيتكرر معنا، وقد يأتينا في بعض الأبواب الآتية، فبعض العلماء يرى أن اليهود والنصارى في حكم الملة الواحدة، فتسري عليهم أحكام الملة الواحدة، وعلى هذا القول يزوج اليهودي النصرانية ويزوج النصراني اليهودية.

    فائدة الخلاف: إذا كانوا تحت المسلمين وارتفع إلى القاضي المسلم أن يهودياً زوج بنته النصرانية، فهل يحكم بصحة النكاح أو لا؟

    فعلى القول بأن الولاية تقع مع اختلاف الدين -كما سيأتي- يصح، وعلى القول بأن اختلاف الدين مؤثر يسقط ولايته.

    العدالة

    قال: [والعدالة]

    العدالة: الاستقامة، والعدل: الوسط، والوسط هو العدل أيضاً، ومنه قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً، وقالوا: إن الشيء عدل؛ لأن ضد العدل المعوج، وإذا اعوج إما أن يذهب إلى اليمين أو يذهب إلى الشمال، فإذا اعتدل قالوا: عدل، ولما كان طرفا النقيض هما الضرر -الإفراط والتفريط- جاء العدل بينهما، ولذلك قالوا: العدل -الشخص العدل- هنا ليس المراد به الوسطية المطلقة يعني: مثلاً عندنا فاجر بلغ نهاية الفجور، وفاجر في بداية الفجور، فهل نقول: هذا وسط بين الاثنين، لا. الوسط هنا أن الحق نفسه وسط؛ لأن الحق يأتي دائماً بين الإفراط وبين التفريط: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، يأتي دائماً وسطاً.

    فالعدل يوصف به الشخص، والعدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم:

    العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر

    إذاً له وصفان:

    الوصف الأول: أن لا يقع في كبائر الذنوب وهي المحرمات الكبيرة كالقتل وعقوق الوالدين.. ونحوها من المحرمات، هذه الكبائر إذا فعلها سقطت عدالته.

    الوصف الثاني: أن يجتنب في أغلب أحواله الصغائر، وهي صغائر الذنوب، يعني: تنظر في أغلب أحواله أنه على الطاعة والخير والاستقامة ولا يفعل المحرمات، لكن لا يوجد أحد يسلم من صغائر الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما) فاللمم وصغار الذنوب لا يسلم منها أحد، ولذلك قال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32] فاللمم لا يسلم منه أحد، لكن يُنظر إلى غالب حاله، فإن كان غالب حاله أنه يتقي الصغائر فهو عدل.

    فلابد وأن يكون وليها عدلاً؛ لأن ضد العدل الفاسق، والفاسق: من فسق الرطب إذا خرجت عن قشرها، ويقولون: الفاسق هو الذي خرج عن طاعة الله عز وجل، ويخرج بارتكاب الكبائر كما ذكرنا أو الإصرار على الصغائر، فلا يلي الفاسق الولاية في قول طائفة من العلماء، قالوا: لأن الفاسق فيه جرأة على حدود الله عز وجل، وإذا كان جريئاً على حدود الله وضيع حق الله فمن باب أولى أن يضيع حقوق عباده، ولكن في المسألة تفصيل، فبعض العلماء يقول: الفاسق يلي عقد النكاح، ويمكن أن يزوج بنته بشرط أن يكون فسقه بعيداً عن الولاية، قالوا: فإننا وجدنا الرجل تقع منه محرمات مثل القذف، فلو أنه قذف يحكم بفسقه، ومن قذف رجلاً أو قذف امرأة فإنه فاسق، لكن تجده من أعدل الناس في أموره الأخرى، ولا يمكن أن يتنازل، ولا يمكن أن يخون أمانة، وتجده من أوفى الناس في أمانته، لكن هل كونه فقط قذف لا يقبل منه شيء نهائياً؟

    قالوا: لا. ما دام أنه فسق خارج عن الولاية وليس له تأثير في الولاية نقبله، لكن إذا كان فاسقاً وفسقه يسري إلى الولاية، وهذا يرجع إلى النظر، فإننا نجد بعض الآباء وبعض الأولياء عندهم تقصير، ولكنه إذا جاء يلي أمور أبنائه وبناته يليها في بعض الأحيان أفضل من غيره ممن هو دين ومطيع، وهذا مجرب وموجود، فتجده ينصح، ويذهب ويسأل عن الرجل ويتحرى عنه، وعنده حمية وعنده فطرة ومحبة للخير لأبنائه، فمثل هذا لا يضره فسقه على نفسه، وشره على نفسه لا يتعدى إلى الولاية، فمثل هذا يقبل ولياً ولا يضر ولا يؤثر.

    لكن إذا كان شخصاً معروفاً بالتهتك وبالجرأة وبالإضرار بمصالح أولاده، ولربما يغيب عن بيته الزمن الطويل، يعني: مثلاً إذا ثبت عند القاضي أن هذا الرجل يغيب بالثلاثة أشهر والأربعة أشهر عن بيته ويتركهم بلا طعام وشراب، هل مثل هذا يؤمن على تزويج بنته؟ إذا كان ترك البيت بكامله وضيع حقوقه بكامله أفلا يضيع حق امرأة؟ يمكن أن يجامل شخصاً شريراً مثله فيزوجه بنته، فمثل هذا لا يقبل ولياً؛ لأن فسقه سارٍ إلى الولاية، فإذاً: لابد من التفصيل، وهذا أمر يرجع إلى القضاة، ومنهم النظر -كما ذكر العلماء رحمهم الله- فيمن تقبل ولايته ومن لا تقبل.

    فائدة الخلاف: لماذا يشترطون العدالة وعدمها؟ يعني لو فرض مثلاً: أن ولي امرأة كانت فيه هذه الملاحظات وأراد أن يزوج بنته من رجل لا يصلح، وعلم أخوها الشقيق أو علم عمها الشقيق الذي هو وليها من بعده، فذهب إلى القاضي وقال: فلان يزوج بنته من فلان، وفلان معروف بالفسق وكذا.. وأيضاً يضيع حق هذه البنت، فإن الرجل الذي اختاره ليس بكفء، فإذا ثبت عند القاضي هذا نزع ولايته، ونقلها إلى من هو أولى منه بالولاية ممن توفرت فيه الشروط.

    قال رحمه الله: [ فلا تزوج امرأة نفسها ولا غيرها ]

    الفاء للتفريق، ونحن دائماً نقول: الفقهاء يذكرون الشروط ثم يذكرون مفاهيم الشرط، فلا تزوج المرأة نفسها لما أثبت الولاية، فإذا ثبت أن الولي يلي عقد المرأة فمعنى ذلك أنها لا تزوج نفسها وأيضاً لا تزوج غيرها، فلا تلي عقد نفسها ولا تلي عقد غيرها.

    1.   

    مراتب الأولياء

    قال رحمه الله: [ ويقدم أبو المرأة في نكاحها ]

    بدأ رحمه الله بمسألة، وانظروا إلى كيفية ترتيب العلماء رحمهم الله للمسائل، أولاً: الولاية، ثانياً: من هو الولي وما هي صفاته؟ ثالثاً: ما هي مراتب الأولياء؟ ثم إذا أثبت مراتب الأولياء التي سنذكرها، ما الحكم إذا تخطى أحد مرتبته فزوج البعيد مع حضور القريب، وزوج الأبعد مع حضور من هو أقرب منه؟ هذه كلها مسائل سنبحثها الآن.

    الولاية لها جهات:

    الجهة الأولى: الأبوة، ويتبعها الجدودة من الأبوة المباشرة والأبوة بواسطة.

    فأولاً الأبوة، ثم البنوة على خلاف؛ فابن المرأة الذكر وابن ابنها ممن تمحض بالذكور في ولايته خلاف من جهة البنوة، فبعض العلماء لا يرى أن الابن يلي عقد نكاحها؛ لأن الابن قطعة من أمه ولا يمكن أن يصير ولياً عليها، وفي هذا حديث ضعيف عن عمر بن سلمة أنه زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة لكن الحديث فيه ضعف، والذي يعنينا الآن الأبوة، ثم الحواشي وفروعها، ويسمونها: حواشي النسب وحواشي النسب تنقسم إلى قسمين:

    إما حاشية تجتمع معك في أصليك الذين هما الوالد والوالدة، أو حاشية تجتمع معك في أصل أصليك.

    فنبدأ بالحواشي التي تجتمع معك في أصلك؛ الذين هم: الأخ الشقيق، والأخ لأب، ثم الأخ الشقيق وابنه، ثم الأخ لأب وابنه، هؤلاء يجتمعون معك في الوالد والذين هم أصولك، وهناك حواش تجتمع معك في أصل أصلك، وأصل الأصل الذي هو الجد؛ لأن أصلي والدي وأبو الوالد الجد، فإما أن تجتمع معك الحاشية في الأقرب الذي هو الوالد وهم إخوانه وبنوهم، وإما أن يجتمعوا معك في أصل أصلك الذي هو الجد، فهؤلاء الأعمام وبنو الأعمام.

    فنبدأ أول شيء بالآباء، أولاً: الأب وأبوه وإن علا، فأول من يلي عقد النكاح الأب ولا يقدم على الأب أحد ألبتة إلا إذا اختلت فيه الشروط، لكن الأصل أن الأب هو الذي يلي وهو أحق، ثم بعد الأب أبوه وإن علا، فلا يزوج الجد مع وجود ابنه؛ لأنه الواسطة بينه وبين المزوجة، ولا يمكن أن نجعل الفرع حاكماً مع وجود الأصل، فهو يدلي بواسطة الأب، فلا يمكن أن يسقط الأب مع وجوده كالميراث، ففي الميراث الأب يحجب والده الذي هو الجد، فلو مات وترك أباً وجداً حجب الأب أباه، وعلى هذا قالوا: عندنا الأب وأبوه وإن علا، ثم الابن وابنه وإن نزل، لكن بالذكور؛ كابن ابن وابن ابن ابن وإن نزل، فلو أن امرأة عندها ابن وعمر الابن عشرون عاماً، وجاء رجل يتقدم وقال له: يا فلان! زوجني أمك، ذهب إلى والدته واستشارها وسأل عن الرجل فوجده كفئاً، والأم هذه ليس لها أب قالوا: يلي عقدها ابنها، ويقول: زوجتك أمي فلانة، ويتم العقد معه.

    أو ابن ابنه لكن لابد أن يتمحض بالذكور؛ لأن الولايات الضابط فيها دائماً العصبة، يعني لا يدخل فيها نساء، فأبو الأم لا يدخل؛ لأنه يدلي بأنثى، وابن البنت لا يدخل؛ لأنه يدلي بأنثى، فلابد أن يتمحض بالذكور، الابن وابنه وإن نزل، هذا بالنسبة للآباء والأبناء؛ وهم الأصول والفروع، ثم تنتقل إلى الحواشي كما ذكرنا، وحواشي الأصل كالأخ الشقيق، فيقدم الأخ الشقيق أولاً من الإخوان كلهم، فإذا كان هناك أخ شقيق وأخ لأب فيزوج الأخ الشقيق قبل الأخ لأب، وإذا كان هناك ابن أخ شقيق وأخ لأب الذي هو عمه لأب فإنه في هذه الحالة يقدم ابن الأخ الشقيق على الأخ لأب، فالأخ الشقيق هو الذي شاركك في أصليك، والأخ لأب هو الذي شاركك في أبيك فقط الذي هو أحد الأصلين، ولا يدخل الأخ لأم؛ لأنه يدلي بأنثى، ففي الولايات لا تدخل.

    ثم بعد الأخ الشقيق تنتقل إلى أبنائه، وبعد الأخ لأب تنتقل إلى أبنائه، وتنتقل بعد ذلك إلى العم الشقيق وأبنائه وابن العم لأب وأبنائه، فلو أن امرأة لها أولاد عم وليس لها آباء ولا أبناء، وليس لها إخوة أشقاء ولا أبناء إخوة أشقاء ولا إخوة لأب ولا أبناء إخوة لأب نسأل: هل لها أعمام؟ قالوا: أعمامها توفوا جميعاً، سواء الأعمام الأشقاء أو الأعمام لأب، ثم نسأل: هل لها أبناء عم؟ قالوا: نعم، عندها ابن عم شقيق وابن عم لأب، فنقدم الشقيق على الأب، ولو كان لها ابن ابن ابن ابن ابن عم شقيق يعني مرتبته الخامسة أو السادسة، وابن عم لأب مباشرة، قدمنا ابن ابن ابن ابن ابن عم الشقيق وإن نزل..

    فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهم التقديم بالقوة اجعل

    (فبالجهة التقديم): تقدم الآباء على الإخوة، هذه الجهات.

    (ثم بقربه): فابن ابن شقيق يقدم على ابن ابن ابن شقيق، وهذا من ناحية القرب.

    (وبعدهم التقديم بالقوة اجعل): فابن الأخ الشقيق مقدم على ابن الأخ لأب؛ لأن القوة في الأشقاء أقوى من القوة في الأب، فابن الأخ الشقيق لو نزل إلى رابع مرتبة أو خامس مرتبة فإنه مقدم على ابن أخ لأب ولو كان في أعلى مرتبة، بل حتى لو كان الأخ لأب حي قدم عليه؛ لأن القوة في ابن الشقيق أقوى من الأخ لأب؛ لأن الفرع تابع لأصله، والشريعة هكذا، فلو ترك ميراثاً وترك ابن ابن ابن عم شقيق، وعم لأب مباشرة قدم ابن ابن ابن العم الشقيق على العم لأب؛ بسبب قوة الأشقاء؛ لأن صلته بالرحم من جهتين أقوى من صلته بالرحم من جهة واحدة، وقد أعطى الله لكل حقه وحظه.

    قالوا: والسبب في هذا التقديم: الشفقة، فإن شفقة القريب من ناحية الأشقاء أقوى من شفقة القريب من ناحية الأب وحده، ولذلك جعلت الشريعة لكلٍ حظه وحقه.

    قال رحمه الله تعالى: [ ويقدم أبو المرأة في نكاحها ثم وصيه فيه ]

    ثم وصيه في النكاح، كما ذكرنا أن الفرع تابع لأصله إذا أوصى أن يزوج بناته.

    قال: [ثم جدها لأب وإن علا]

    وجدها لأم هل يلي أو لا يلي؟ لا يلي؛ لأنه أدلى بأنثى.

    قال: [ ثم ابنها ثم بنوه وإن نزلوا ]

    ابن المرأة، وقد قلنا: إن الشافعية ومن وافقهم لا يصححون ولاية الابن؛ لأن الابن فرع عن الأم، ولا يمكن أن يكون ابناً لها ويكون ولياً عليها.

    قال: [ثم أخوها لأبوين]

    الذي هو الشقيق.

    قال: [ ثم لأب، ثم بنوهما كذلك، ثم عمها لأبوين ]

    بعض العلماء يرى أن الأخ الشقيق وبنوه يقدمون على الأخ لأب، ثم الأخ لأب وبنوه، وبعضهم يرى أن الأخ الشقيق ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق ثم ابن الأخ لأب، فيجعل الجهات تبحث بعد الأصول، والأول فيه قوة كما ذكرنا، يعني: أن الجهة أقوى.

    قال: [ثم عمها لأبوين]

    الذي هو عمها الشقيق، والعم الشقيق: هو الذي شارك أباها في أصليه، الوالد والوالدة.

    قال: [ثم لأب، ثم بنوهما كذلك، ثم أقرب عصبة نسباً كالإرث]

    قوله: (ثم أقرب عصبة نسباً كالإرث)

    هذا يكون في فروع القبائل، الله سبحانه وتعالى خلق بني آدم وجعلهم على قبائل وطوائف، فترتيب القرابة والقبيلة والجماعة راجع إلى الأجداد، فهناك جماعة تجتمع معهم في الجد الثالث، وجماعة تجتمع معهم في الجد الخامس، وجماعة تجتمع معهم في الجد العاشر، كقريش، فإنها تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد العاشر، فهناك مراتب، فإذا انتهى هذا البيت وهذه المجموعة التي أنت منها تنظر إلى أقرب فخذ إليك، فإن هذا في قرابته وعصبته منك أقرب من غيره الذي يلتقي معك في جدٍ أعلى، فيقدم القريب في الجد الأقرب على القريب الذي في الجد الأبعد، على نفس الترتيب الذي ذكرناه.

    فمثلاً: لو أن امرأة أسلمت، وجميع قراباتها من العصبة كفار -والعياذ بالله- أو أموات، وعندها رجل من نفس البيت لكن يجتمع معها في الجد العاشر وهذا عصبة، نسأل: هل هناك ممن أسلموا من قرابتها أقرب من هذا؟ قالوا: لا. فيكون هذا هو الذي يلي عقد النكاح؛ لأن النسب والعصبة موجودة فيلي نكاحها.

    قال: [ثم المولى المنعم]

    لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولاء لحمة كلحمة النسب) كما في الصحيحين، فنزل الولاء منزلة النسب، والولاء هو الذي ينتج عن العتق، فالعبد إذا أعتقه سيده فإنه يصير له ولاؤه، قال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) كما في حديث عائشة في الصحيحين، فقال: (إنما الولاء لمن أعتق) فأثبت الولاء بالعتق، وقال في الحديث الصحيح الآخر : (الولاء لحمة كلحمة النسب) يعني: تسري عليه أحكام النسب ، فلو أن امرأة ليس لها من عصبتها أحد فينتقل إلى مولى أبيها الذي أعتقه؛ لأن موالي أبيها كمواليها، فإنهم يلون عقدها.

    فالذي أعتقها يقدم على غيره من سائر قرابته وهو المعتق، ثم أبوه وإن علا، ثم ابن المعتق وإن نزل على القول بأن الأبناء يتبعون، ثم الأخ الشقيق، ثم بنوه، ثم الأخ لأب ثم بنوه، ثم العم الشقيق، ثم عم المعتق نفسه، وتسري المسألة إلى المعتق، هذا ترتيبه، وهذا في القديم، فقد كان في القديم يحتاج إلى كثير من هذا، خاصة في الفتوحات.

    قال: [ثم أقرب عصبته نسباً، ثم ولاءً، ثم السلطان]

    قوله: (ثم ولاء).

    ولاء المولى؛ لأنه في بعض الأحيان يكون الولاء مركباً على الولاء، ويكون الذي أعتقه هو أيضاً قد أعتق من غيره، فيكون حراً معتقاً من غيره، وليست القضية قضية الولاء والعتق، وإنما مراد الفقهاء: حفظ الضابط ومراعاة الترتيب فقط، يعني: عندما يقرأ طالب العلم هذه المتون يظن أن هذا هو المقصود، والمراد فقه المسألة، فهم عندما يذكرون الأمثلة فإنما هو لترويض الذهن، بحيث إذا سُئلت تعرف كيف تقدم الأقرب فالأقرب، وكيف تقدم الأحق على من هو دونه في الحق، وكيف تنظر إلى مراتب الأشياء وتقديراتها، وكيف تنظر إلى أن الذي يشارك في الأبوين ليس كالذي يشارك في أب واحد، وكيف أن ابن الأخ الشقيق الذي شارك في الأبوين ينزل منزلة أبيه ويقدم على غير الشقيق، هذا كله ترويض للذهن مع أن فيها أحكاماً شرعية لابد أن تعلم كما ذكرناها.

    قال: [ فإن عضل الأقرب أولم يكن أهلاً أو غاب غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة زوج الأبعد]

    قوله: (فإن عضل الأقرب) عرفنا ترتيب الأولياء، لكن ترد مسألة: لو أن شخصاً اعتدى وزوج مع وجود من هو أحق منه؟ فلو أن أخاً شقيقاً زوج مع وجود الأب -هذا يقع- أو أن العم الشقيق زوج مع وجود أولاد أخيه، فما الحكم؟ هذه مسائل يحتاج إلى النظر فيها، فهذه مسألة: اختلال الترتيب، فمتى يسمح بمخالفة هذا الترتيب ومتى لا يسمح؟ وهذه من عادة الفقهاء، والسبب في هذا: أنهم إذا قالوا: إن الترتيب لازم فينبغي أن يعطى حكم مخالفة الترتيب حتى يكتمل التصور، فهل يحكم ببطلان العقد، لو أن امرأة زوجها أخوها الشقيق وأبوها موجود ثم رفع أبوها إلى القاضي أن ابنه فلان قد زوج بنته فلانة وهو حاضر أو غير حاضر أو غائب وذهب يشتكي، وطلب من القاضي فسخ النكاح، فالسؤال: هل ينفسخ أو لا؟

    الأصل يقتضي أنه لا يجوز للأبعد، فعندنا ولي أبعد وعندنا ولي أقرب، فالأبعد هو الذي قال فيه العلماء الذي في المرتبة التي دون من هو أحق منه، فتمثل لها بالأخ الشقيق إذا سبقه الأخ من أب، أو الابن مع وجود الأب أو العم الشقيق مع وجود الإخوة وبنيهم، وكذلك مع وجود الآباء والأبناء، فتمثل بمرتبة دنيا مع مرتبة هي أعلى، فإذا قيل: (الأبعد) يعني الذي في الدون في المرتبة، إذا زوج الأبعد، فمتى يصح زواج الأبعد مع حضور الأقرب؟ إذا كان الأقرب غير أهل للولاية فيجوز أن يزوج الأبعد مع حضور الأقرب، أو كان الأقرب عاضلاً، والعضل: الظلم.

    وهذا يقع في بعض الأحيان، لو أن والداً -والعياذ بالله وهذا إن شاء الله لا يقع في مجتمعات المسلمين لكن كمثال- لو أن والداً ظلم بناته، كلما تقدم رجل كفء وصالح ودين قال: لا أريده، أو يريد رجلاً ثرياً غنياً، فيتقدم أُناس أكفاء، وغناهم لا بأس به ووضعهم جيد، لكنه يريد أكثر، أو قال: لا أزوج إلا أبناء العم، وما تقدم أحد من أبناء العم، فكبرن البنات أو خُشي كبر البنات، فجاء الأخ واشتكى إلى القاضي، أو جاءت الزوجة واشتكت إلى القاضي، قالوا: من حق القاضي أن يحضره ويقول له: يا فلان! اتقِ الله، هذه أمانة عندك، ويذكره بالله ويخوفه، فإن استجاب فالحمد لله، وإذا لم يستجب ونظر القاضي فوجد أن الذي تقدم أهل أمضى النكاح وصححه، حتى ولو لم يوافق هذا الولي؛ لأنه عضل وظلم: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] لأنها نزلت في رجل من الأنصار، أحسن إلى رجل وزوجه أخته، وبعد أن زوجه أخته حدث بينهما شيء فطلقها، ثم ندم الرجل وجاء إلى ولي المرأة وقال له: يا فلان! أريد أن أراجع فلانة، فرغبته المرأة ورغب المرأة، فقال الرجل الصحابي رضي الله عنه: لا والله، زوجتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم طلقتها، لا تعود إليك أبداً، فامتنع، فلما امتنع أنزل الله عز وجل هذه الآية، ووصف امتناعه على هذه الوجه بأنه عضل وظلم.

    إذا تراضى الزوج مع زوجته بالمعروف وأصلحا ذات بينهما، فحينئذٍ دخول الولي لمنع إتمام النكاح يكون على وجه ظلم وعضل، هذا معنى العضل، مثلاً: رجل حجر بناته على أبناء العم، وقال: لا يتزوجهن إلا ابن العم من القبيلة، وجاءها أكفاء من القبيلة لكنهم ليسوا بأبناء عم، وإنما قرابة غير مباشرين، أو جاءها أكفاء من قبيلة أخرى وعلى دين وصلاح وتقوى وأكفاء فامتنع، فهذا عضل وظلم، فإذا رغبت المرأة رجلاً وليس فيه عيب لا في دينه ولا في دنياه قال: لا أزوجه، لماذا يا فلان؟! قال: أنا لا أريد أن أزوج فلاناً. فهذا ليس بيده، وهو عضل وظلم.

    العضل ضابطه: أن يمتنع من تزويج المرأة من الكفء إذا حضر بدون عذر، كذلك يمتنع من تزويجها بالكلية، وهذا أعظم العضل وأشده، أو يشترط شروطاً تعجيزية، فهذه الأحوال كلها تعتبر من العضل والظلم.

    قال: [ أو لم يكن أهلاً ]

    مثل ما ذكرنا كوالد كافر (لم يكن أهلاً)؛ لأنه فقد شرطاً من شروط الولاية، أو مجنون، أو أصيب بغيبوبة، كأن يصاب في آخر عمره بغيبوبة تامة وخشي ألا يفيق منها، مثلاً: في بعض الأحيان يكون والد المرأة في المستشفى مغمى عليه إغماء مطبقاً، قالوا: قد يستمر هذا سنوات وقد يموت فجأة وهو لا يتكلم ولا يتحدث ولا يعي، والمرأة الآن حضر لها كفء كريم، وهذا الكفء جاء وقال: إن لم تزوجني سأذهب أتزوج، إذاً المرأة مهدد حالها بهذا الكفء، وخاصة إذا كانت في بيئة يحتاج إلى تزويجها والمبادرة بتزويجها، والولي الأقرب حاضر، لكن وجوده وعدمه سواء، فهو في غيبوبة ولا يملك النظر، فحينئذٍ تنتقل الولاية إلى الأقرب، وهذه من أحوال انتقال الولاية إلى الأقرب.

    قال: [أو غاب غيبة منقطعة]

    لا يمكن أن يتوصل إليه إلا بكلفة ومشقة، مثل ما كان في القدم، فلم تكن هناك اتصالات، فإذا سافر سفراً بعيداً وانقطعت أخباره، وهي غيبة لا يمكن مراسلته فيها؛ لأننا لا نعلم أين هو، فهذه هي الغيبة المنقطعة، واحتمال أن يمكث فيها لسنوات، والمرأة حضر لها كفء كريم، فهل تزوج أو لا؟ تزوج، وترفع أمرها للقاضي والقاضي يزوجها.

    قال: [لا تقطع إلا بكلفة ومشقة زوج الأبعد]

    ومن المشقة: فوات الكفء، كأن تكون المسافة تقطع في شهرين لكن الكفء قال: أنا إذا لم أتزوج هذا الشهر سأتزوج من غيرها، حينئذٍ سيفوت، وهذا فيه ضرر على المرأة، وكذلك أيضاً اشترط المصنف فقال: (غيبة منقطعة) لكن إذا كانت الغيبة غيبة غيم منقطعة، كأن يكون مسافراً إلى بلد خارج المملكة لكن عنوانه معروف، ويمكن الاتصال به، ويمكن سؤاله وأخذ رأيه، لا يزوج الأقرب، ولا يحل للأقرب أن يزوج؛ لأنه يمكن الاتصال به ومعرفة حاله.

    قال رحمه الله: [وإن زوج الأبعد أو أجنبي من غير عذر لم يصح]:

    إن زوج الأبعدُ -مثلما ذكرنا- وهو دونٌ في المرتبة، مع حضور مَن هو أقرب فقد ظلم وقطع الرحم وآذى وأضر، وهذا ليس من حقه، ولذلك لابد أن ينظر في الولاية للأقرب فالأقرب، فوجود هذه الولاية وعدمها على حد سواء. ما الدليل؟

    اشترط النبي صلى الله عليه وسلم للنكاح الولاية، فإذا كان هذا الولي الذي هو مثلاً الأخ الشقيق لا يلي تزويج أخته إلا بعد فقد الأب، فمعنى ذلك أنه في حال وجود الأب ليس بولي، وأصبح كالأجنبي، فإن زوج -والحال كما ذكر- كان زواجه كزواج الأجنبي، وهذا الذي جعله رحمه الله يقول: (إن زوج الأبعد أو أجنبي)، رجل أجنبي جاء وزوج امرأة، قال: يا فلان! زوجتك بنت فلان، قال: قبلت، سواءً وكلته أو هو من نفسه تجاسر، فإن مثل هذا يؤدبه القاضي ويعزره، وكذلك أيضاً يلغي النكاح؛ لأن النكاح لا يصح على هذا الوجه.

    بعض العلماء يقول: لا يفسخ النكاح؛ لكن نحضر الولي الأقرب ونقول له: ما رأيك؟ هذا فلان زوج فلانة هل ترى إمضاء العقد أو لا؟ قالوا: فإن صححه مضى وإلا فلا؛ لكن هذه الصورة يخصونها بالولي ولا يدخلون فيها الأجنبي، قالوا: لأن ابن العم والقريب له شبهة الولاية وفُقِد شرط الولاية، فهو في الأصل من الأولياء، فنحن نرى أن العقد من حيث هو موقوف على إجازة الولي الأقرب، فإن ظهر به عيب وأسقطه سقط، وإن لم يظهر به عيب ورضيه واتقى الله عز وجل وصحح لا بأس، وهذا القول في الولي الأبعد مع الولي الأقرب له قوة، ويختاره طائفة من العلماء رحمهم الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756245052