إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الإحرامللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله سبحانه وتعالى الإحرام وجعله نية لنسك الحج أو العمرة، وجعل له أحكاماً وسنناً بينتها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمها: حكم الغسل والطيب قبل الإحرام، والمخيط المنهي عن لبسه للمحرم، واللباس الخاص بالمحرم. ومن رحمته تعالى بعباده أن نوّع لهم مناسك الحج لتكون ملائمة لأحوال العباد وقدراتهم، وبيَّن السبيل والطريق للمرأة الحائض إذا خشيت فوات الحج.

    1.   

    صفة الإحرام

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب الإحرام]

    بعد أن بين لنا المصنف الأحكام المتعلقة بمواقيت الحج والعمرة، ناسب أن يبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتفرع عليه من المسائل والأحكام المتعلقة بالإحرام؛ لأن الإنسان إذا خرج من بيته يريد الحج أو العمرة أو هما معاً، فإنه أول ما يكون من أمره أن يصل إلى الميقات، فبيَّن المؤلف أحكام المواقيت، ثم بعد أن بيَّن ما هي المواقيت شرع في بيان صفة الإحرام، وكيف يدخل الإنسان في نسك الحج ونسك العمرة، فقال رحمه الله: (باب الإحرام).

    والإحرام: مأخوذ من قولهم: أحرم الرجل يحرم إحراماً فهو محرم، إذا دخل في الحرمة، وأحرم الرجل إذا دخل في الحرمات، سواء كانت زمانية كالأشهر الحرم، أو كانت مكانية كحدود حرم مكة والمدينة، فتقول للرجل إذا دخل حدود حرم مكة: أحرم، بمعنى: أنه دخل داخل الحرم، وتقول: هو حرمي، أي: هو ساكنٌ داخل حدود حرم مكة.

    والعرب تقول: أحرم إذا دخل في الحرمات كأنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا دخل تهامة.

    ومراد العلماء بقولهم (الإحرام): نية أحد النسكين أو هما معاً، إما الحج وإما العمرة، فإن كانت نيته أن يدخل في الحج فهو حاج، وإن كانت نيته أن يدخل في العمرة فهو معتمر، وإن نواهما معاً فهو حاج قارن لحجه.

    يقول رحمه الله: (باب الإحرام)

    أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بكيفية الإحرام والدخول في نسك الحج ونسك العمرة، وذلك أن الدخول في نسك الحج والعمرة يفتقر إلى نية مخصوصة، وينبغي لمن دخل في هذه العبادة -أعني الحج أو العمرة- أن يراعي أموراً فرضها الله عز وجل عليه، وأن يتقي أموراً حرمها الله عليه، وهي التي تسمى بمحظورات الإحرام، فالإحرام كأنه حد للدخول في هذه العبادة.

    أهمية الإحرام والتلبس بنية النسك

    قوله رحمه الله: [الإحرام نية النسك].

    الإحرام -في عرفنا معاشر الفقهاء-: نية النسك. أي: نية الدخول في الحج أو الدخول في العمرة أو هما معاً، وليس مجرد كون الإنسان يخرج من بيته للحج والعمرة كافٍ، فقد تخرج من بيتك وأنت تريد الحج والعمرة، ولكن لا يحصل بهذه النيةِ النيةُ المعتبرة، ولا يقال: إنك محرم.

    مثال ذلك: لو كنت في المدينة أو في الرياض فخرجت من المدينة إلى ذي الحليفة، فإنه منذ خروجك من بيتك قبل الميقات وأنت ناوٍ للحج أو العمرة أو هما معاً فليست هذه نية، ولكن الدخول لا يكون إلا في الميقات، وحينئذٍ يصدق عليك أنك قد تلبست بالنسك.

    حكم الغسل للإحرام

    قوله: [سن لمريده غسل أو تيمم]

    أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل، فأول ما يبدأ به الإنسان إذا أراد الحج أو العمرة أن يغتسل لحجه أو عمرته؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه اغتسل في الوادي المبارك، وهو وادي العقيق، وهو الذي يسميه الناس اليوم بوادي عروة، وموضعه أبيار علي، فاغتسل في ذي الحليفة، وقد طاف على نسائه صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك تطيب واغتسل وتنظف صلوات الله وسلامه عليه.

    والسبب في الاغتسال: أن الإنسان إذا دخل في الحج والعمرة قد تمضي عليه أيام وهو متلبس بهذه العبادة ولا يتطيب، ولا يقلم أظافره ولا يقص شعره، فهو مظنة الشعث، ولذلك جاء في الأثر: (انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً)، خاصة في الأزمنة القديمة، حيث كان بين ميقات المدينة وبين مكة ما يقرب من عشر مراحل يسيرونها عشرة أيام بالإبل، وحينئذٍ يتضرر ويتضرر من معه، ويتضرر الناس من حوله، وإذا شهد الجماعات أو الصلاة مع الناس آذاهم برائحته وببخره، ولذلك سن له أن يغتسل.

    وهذا الاغتسال في حق الحائض والنفساء آكد، حتى ذهب جمع من العلماء رحمة الله عليهم إلى أنه يجب عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، والسبب في ذلك وجود القذر كما سيأتي -إن شاء الله- ذكره.

    فيسن للمحرم أن يغتسل فيزيل ما يعلق ببدنه من الروائح الكريهة والأوساخ، فيكون طيباً في بدنه، ويدخل لهذه العبادة على أتم الصفات وأكملها.

    قال بعض العلماء: كأن الإنسان إذا أراد الحج أو العمرة ونزل في ميقاته، وأراد أن يغتسل وتجرد من مخيطه؛ يتذكر حينما يجرد من الدنيا ويخرج منها صفر اليدين إلا من رحمة الله عز وجل، فحينما يغتسل لإحرامه ويتجرد وهو بقوته واختياره كأن هذه بداية العظة له، إذ يتذكر حينما ينزع من الدنيا وينزع من بين أهله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

    قوله: [أو تيمم لعدم]

    إذا لم يستطع الاغتسال لمرض أو لعدم وجود الماء، أو كان الزمان بارداً شديد البرد، ولا يستطيع أن يدفئ الماء، أو يستطيع أن يدفئ الماء ولكنه يخشى إذا اغتسل ولبس ثياب الإحرام أن لا يحسن الاستدفاء، فحينئذٍ يعدل إلى التيمم، وهو أحد قولي العلماء.

    وقال بعضهم: لا يتيمم؛ لأن المقصود من الغسل النظافة، والتيمم لا ينظف، حساً، بخلاف ما إذا اغتسل فإنه ينقي بدنه، ولكلا القولين وجه، فمن تيمم فلا حرج عليه، ومن ترك التيمم فلا حرج عليه.

    كيفية التنظف للإحرام

    قوله: [وتنظف] التنظف يكون بتقليم الأظفار، وقص الشعر من رأسه إذا كان يخشى طوله، وهكذا بالنسبة للشعر الذي يكون في بدنه، فينتف إبطه ويحلق عانته، ونحو ذلك من الأمور التي يتهيأ بها البدن على أحسن وأفضل الهيئات وأكملها؛ تشريفاً لهذه العبادة وتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    حكم التطيب للإحرام

    قوله: [وتطيب]:

    أي: يسن له أن يتطيب، والطيب: ما طاب ريحه، وسمي الطيب طيباً لطيب رائحته، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أطيب الطيبين بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، طيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها في حله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت، فدل على أن السنة لمن أراد أن يحج أو يعتمر أن يتطيب.

    مسألة: هل يضع الطيب في بدنه قبل الغسل أو بعد الغسل؟

    أجمع العلماء على أنه يجوز للإنسان أن يتطيب في بدنه قبل الغسل، ثم إذا غسل بدنه فإن بقي شيء من الطيب؛ فإنه مغتفر بإجماع العلماء، ولكن الخلاف فيما لو اغتسل ثم تطيب قبل أن ينوي، أي: قبل أن يدخل في النسك.

    فمذهب الشافعية والحنابلة وأهل الحديث أن من السنة أن يغتسل ثم يضع الطيب في بدنه، ولا بأس أن يكون الطيب في شعره أو صدره أو مغابنه.

    وذهب المالكية والحنفية إلى أنه يتطيب أولاً ثم يغتسل، فإن بقي بعد غسله شيء فهو مغتفر، وعلى هذا فإن أصحاب القول الثاني لا يجيزون أن يتطيب بعد الغسل، وكأنهم يرون أنه مغتفر بعد غسله.

    والصحيح أنه يجوز أن يتطيب قبل الغسل وبعده؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها كما في صحيح مسلم قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه) وهذا يشمل ما بعد الغسل وقبل النية.

    ثم إذا وضع الطيب في بدنه فإن كان في أعالي البدن كالرأس، أو في المواضع التي لا يحتك بها الثوب فلا إشكال، ولا حرج عليه أن يبقى أثر الطيب في بدنه، كأن تبقى صفرة الطيب في شعره، أو على صدره أو نحو ذلك؛ وذلك لأن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (كنت أرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله عليه وسلم وهو محرم) -أي: لمعان الطيب- لأنه كان يفرق شعره نصفين، وقيل: مفرقه في أصل الشعر، فدل على أنه يجوز أن يبقى الطيب بعد الغسل وبعد النية، ولكن إذا سقط شيء من هذا الطيب وعاد إلى البدن بعد سقوطه، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تلزمه الفدية.

    أما لو تطيب في صدره وعلق الطيب بثوب الإحرام -الذي هو الرداء- أو تطيب على أسفل بدنه ومغابنه فتعلق بالرداء، فحينئذٍ إن كان الرداء باقياً عليه ولم ينزعه فلا إشكال، ولكن إذا نزع الرداء عنه فإنه لا يعيده مرة ثانية؛ لأنه يغتفر استصحاباً ما لا يغتفر استئنافاً، لكن لو خلع الرداء المطيب عنه ثم أراد لبسه فكأنه يلبس بعد إحرامه ثياباً مسها الزعفران والورس، هذا عند من يقول: يغتفر إصابة الطيب للثوب، لأنه لما رئي على رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على جواز أن يكون في ثوب الإحرام.

    ولكن الأحوط والأكمل أن يتحفظ من إصابة الطيب لثوبه؛ لأنها رخصة جاءت في البدن، فلا يقاس غير البدن عليه، وعلى هذا: فإنه إذا أصاب ثياب الإحرام الطيب فإن الأحوط له أن يغسله، وأن يخرج من العهدة بيقين ويستبرئ لدينه، فهذا أكمل.

    لكن من قال من العلماء إنه يغتفر ورأى فيه المسامحة قياساً على ما في البدن، فحينئذٍ يفرقون بين أن يكون الرداء على الإنسان، وبين أن ينزعه ثم يلبسه، فإنه إذا لبسه فكأنه يلبس ثوباً مسه الطيب.

    والدليل على أنه لا يجوز له أن يلبسه بعد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للرجل لما لبس الجبة وعليها الطيب: (انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما-: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) فدل على أنه يتقي في ثيابه أن تصيب الطيب، والرخصة في البدن، وأما الثياب فإنه لم يرد التصريح بالرخصة فيها.

    حكم لبس المخيط للمحرم

    قوله: (وتجرد من المخيط) المخيط هو الذي يحيط بالبدن، فالقميص يعتبر مخيطاً؛ لأنه يحيط بصدر الإنسان ويحيط بيده، ولذلك قالوا: قد يكون المخيط مخيطاً ولا خيط فيه، فلو أخذ رداء الإحرام وعقده بشوك فأحاط بالبدن حتى صار كيد الثوب فهو مخيط؛ لأنه محيط بالبدن، فالعبرة بالإحاطة بالبدن، لا بعدم وجود خيط، ولذلك كانت العمامة في حكم المخيط؛ لأنها تحيط بأعلى الرأس، مع أنها ليست مخيطة، مما يدل على أن المراد: الإحاطة بالعضو.

    أما بالنسبة للدليل على أن المحرم لا يلبس المخيط -أي: المحيط بالبدن جزءاً أوكلاً-: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله الرجل فقال: (يا رسول الله! ما يلبس المحرم؟ قال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف) وهذا الحديث إذا تأملته وجدت كمال بلاغته عليه الصلاة والسلام، وما أوتي من جوامع الكلم!

    فإنك إذا تأملت هذا الحديث وجدت أنه نهى عن العمامة: والعمامة تكون غطاء لأعلى الرأس، ثم (القميص): وهو يكون للصدر وأعلى البدن، ثم (السراويل): وهي لأسفل البدن، ثم (البرانس): وهي التي فيها غطاء الرأس وغطاء جميع البدن، فكأنه بهذا يمنع المخيط الذي يحيط بالبدن أجزاءً أو كلاً، فجمع قوله: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات) بين تغطية أعلى البدن وأوسطه وأسفله، ثم جاء بما يجمع الكل فقال: (ولا البرانس)، وهو جمع برنس، ولذلك قالوا: يحظر عليه أن يلبس ما يحيط بالبدن ولو لم يكن له خياطة، وهو مخيط إذا أحاط بالبدن.

    والإحاطة بالبدن جزءاً كأن يحيط بيده أو برجله كما في السراويلات ونحوها، فعلى المحرم أن يتجرد من السراويل، والفنايل التي تسمى بهذا في زماننا، وهي سترة الصدر، وكذلك يتجرد من القمص وما في حكمها مما يسمى اليوم بالكوت أو نحوه؛ لأنه يستر أعالي البدن، فجميع ذلك يلزمه أن يتجرد منه، ويتجرد مما يغطي الرأس من العمائم والغتر والأشمغة، وهكذا بالنسبة للطواقي ونحوها فإنها غطاء للرأس، فيتجرد من جميع ذلك.

    مسألة: لو كان الإنسان في طائرة، وعنَّ له وهو قادم من الرياض -مثلاً- أن يحرم بالعمرة، ولكن ليس عنده إزار يستر أسفل بدنه، وليس باستطاعته أن يتجرد، فحينئذٍ يجوز له أن يلبس السروال، ويكون السروال عوضاً عن الإزار؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في يوم عرفة وقال: (السراويل لمن لم يجد الإزار) فحينئذٍ يتجرد من المخيط إلا إذا لم يجد ما يستره؛ فيجوز له أن يستتر بالمخيط حتى يجد غير المخيط، وهذا من كمال الشريعة ومن رحمة الله عز وجل بعباده، وهو من اليسر الذي بعث به نبيه صلوات الله وسلامه عليه.

    لباس المحرم

    قال رحمه الله: [ويحرم في إزار ورداء أبيضين]

    كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (خير ثيابكم البيض) وقال: (كفنوا فيها موتاكم) ، وثبت في الصحيح عنه أنه كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، وقد قالوا: إن إحرام الإنسان كالكفن، فمن هنا استحب جماهير العلماء رحمة الله عليهم البياض في إحرام الإنسان.

    لكن لو لم يجد إزاراً ورداء أبيضين، ووجد إزاراً ورداءً بلون آخر، فلا حرج أن يلبسه ولا عتب عليه، فالبياض من باب الأكمل والأفضل، ولكن إذا وجد الأبيض وغيره فإنه يستحب له أن يتحرى الأبيض؛ لما فيه من تحري السنة ولأنه خير ما لبس من الثياب.

    حكم صلاة ركعتين قبل الإحرام

    قال المصنف رحمه الله: [وإحرام عقب ركعتين]

    أي: والسنة أن يحرم عقب الركعتين، وهذا من ترتيب الأفكار، وهو يقول لنا: أولاً يتجرد من المخيط في ثيابه، ثم بعد ذلك يغتسل ويتطيب، وهذا بعد أن ينظف بدنه مما علق به، وينتف إبطيه ويحلق عانته، فإذا ما تم هذا كله؛ قال: وإحرام عقب ركعتين.

    فالسنة أن يقع الإحرام عقب صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بعد الفريضة، ولكن إذا كان الوقت ليس بوقت فريضة فحينئذٍ يغتسل، ثم ينوي ركعتي الوضوء، ويحرم عقب ركعتي الوضوء، وليس للإحرام سنة مقصودة، وإنما يغتسل أو يتوضأ ثم يصلي ركعتي الوضوء لما فيها من الفضل، ثم يحرم بعد ذلك؛ لأن فيه شبهاً بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بعد الصلاة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.

    وقد جاء في حديث عمر المشهور في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: أهِلَّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة)، والمعنى: أنه رأى رؤيا وقال بعض العلماء: بل أتاه حقيقة، أي: يقظة وليس بمنام وفي رواية: (صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة) ولذلك ثبت في رواية الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يمر بهذا الوادي -وادي العقيق- وهو مسافر إلا صلى فيه رضي الله عنه وأرضاه؛ تأسياً بهذه السنة.

    فأحرم عليه الصلاة والسلام عقب الفريضة، وهذا هو هديه، فإذا صلى الإنسان الفريضة وأراد أن يدخل بنية النسك فإنه يدخل عقب الفريضة، ولا يتكلف ركعتين؛ لأن هذا خلاف السنة، بل قال بعض العلماء: لو صلى الفرض ثم قام يصلي ركعتين خاصة لإحرامه فهو إلى البدعة أقرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف الركعتين بعد الفريضة، فلما تكلفهما وخالف هديه بالإحرام عقب الفريضة مباشرة كان هذا خلاف السنة، وكأنه يعتقد فيها مزية فضل، فكان أقرب إلى البدعة من هذا الوجه.

    حكم النية والاشتراط في الإحرام

    قال المصنف رحمه الله: [ونيته شرط].

    أي: أن نية النسك شرط في صحة الإحرام، وقيل: إنها ركن.

    ولا يصح الإحرام ولا ينعقد إلا بنية، فلو أن إنساناً مر بالميقات ولم يوجب الإحرام ولم ينو؛ فإنه لا يصح منه ذلك ولا يجزيه، ولا يزال حلالاً حتى يعود ويحرم من الميقات، فإن أحرم من دونه فعلى التفصيل الذي ذكرناه في مسألة من أحرم دون المواقيت.

    وقوله: [ويستحب قوله: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي، وإن حبسني حابس؛ فمحلي حيث حبستني]

    هذا اللفظ جاء في حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج، وأنا شاكية -يعني: مريضة- فقال عليه الصلاة والسلام: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني).

    وللعلماء في هذا الحديث وجوه:

    الوجه الأول: أن هذا الحديث يعتبر أصلاً عاماً، وأن كل من يريد أن يهل فله أن يقول هذه الكلمة، ويجوز له أن يشترط؛ بل ويستحب له تلافياً لما يطرأ عليه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله.

    الوجه الثاني: أن هذا الحديث خاص بـضباعة . فهو عكس الوجه الأول، فالوجه الأول يرى أنه عام في الحال وفي الأفراد، سواء وجد عذر أو لم يوجد عذر، والوجه الثاني يقول: هذه قضية عين، والقاعدة في الأصول: (أن قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم)، ولا يوصف الحديث بكونه قضية عين إلا إذا كان الأصل خلافه، وتوضيح ذلك: أن الأصل في المريض أنه يفتدي إن أصابه المرض، وأنه إذا أحصر ومنع من البيت؛ فإنه حينئذٍ يتحلل كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، لكنه بالاشتراط يخرج من هذا كله: من الفدية ومن إراقة الدم في الإحصار، فصارت قضية عين من هذا الوجه.

    وتوسط بعض العلماء وهو المذهب الراجح، وبه يقول جمع من الشافعية والحنابلة: أن هذا الحديث مخصوص بالشخص الذي يكون مريضاً قبل الحج أو العمرة، فيكلف نفسه الحج أو العمرة، وكأن الشرع أعطاه بتكلفه مع المرض سعة، أما الصحيح القادر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم على الميقات لم يقل للصحابة: أهلوا واشترطوا، ولا شك أن الاشتراط يخفف عنهم التبعة.

    فكونه يقال: إن كل من أراد أن يحرم يستحب له أن يقول هذا غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به الصحابة، ولو كان سنة ماضية للجميع لأُمِر به الصحابة، والفقه أننا نعتبر كل نص بمورده وطريقته، ونحمل النصوص على مواردها، فلما كان الأصل في الإنسان الصحيح القادر أنه يحرم ويمضي لوجهه، فإن طرأ له عذر يمنعه من البيت صار محصراً، وأحكام المحصر معروفة، وإن كان مريضاً فأحكام المريض معروفة: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] فهذا هو الأصل.

    وأما إذا كان على صفة ضباعة ، أراد الحج وتكلفه وهو مريض، فحينئذٍ يصح أن يشترط، وحينئذٍ نكون قد أعملنا النصوص على وجهها، فأبقينا الأصول كما هي، واستثنينا ما ورد به حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس: أن الاشتراط لا يكون إلا للمريض على صورة حديث ضباعة ، وهو أعدل الأقوال في هذه المسألة، وأولاها بظاهر الحديث الوارد بالرخصة في ذلك.

    قوله: [ويستحب قول: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي]

    والمسلم لا شك أنه يدعو ربه في أي عبادة أن ييسر له الخير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيث ما توجهت) فهذا من نعم الله على العبد أن ييسر له الخير، ولكن في مواطن العبادات لا يستحب شيء إلا بنص، فلا يستحب ذكر مخصوص ولا لفظ مخصوص في موضع مخصوص إلا بدليل يخص هذا اللفظ وهذا الموضع بهذا الذكر، ولذلك الأصل أن يقتصر على النية، فيقول: (لبيك حجاً، لبيك عمرة، لبيك حجاً وعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة وعمرة).

    فهذا نص يدل على أنه لا يزاد على هذه النية، ولذلك قال أنس رضي الله عنه: (ما تعدوننا إلا صبياناً، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها) أي: كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه، لأنه كان ربيباً عند أبي طلحة زوج أم سُليم ، وأم سُليم هي أم أنس ، وكانت ناقة أبي طلحة مع ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يكادان يتساويان مع بعضهما، فكان أنس من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول: (لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجة) فهذا يدل على أنه يقتصر على ذكر النسك، وأن في ذلك الكفاية.

    1.   

    أنواع النسك في الحج ومشروعيتها

    قال المصنف رحمه الله: [وأفضل الأنساك التمتع، وصفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه].

    هناك أنساك ثلاثة لمن أراد الحج:

    فإما أن يفرد فينوي الحج وحده.

    وإما أن يذهب بعمرة في أشهر الحج يتمتع بها، ثم إذا قضى العمرة وانتهى منها تحلل وتمتع، ثم يحرم بعد ذلك بالحج.

    وإما أن يكون قارناً -وهو النسك الثالث- وهو أن ينوي الحج مع العمرة، فيجمع بين نية الحج والعمرة، يقول: لبيك عمرة وحجة.

    وقد أجمع العلماء على مشروعية الأنساك الثلاثة: الإفراد، والقران، والتمتع. ودليل هذا الإجماع ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى الميقات قال: (من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل) فخيرهم بين الأنساك الثلاثة.

    وخالف ابن عباس جماهير الصحابة رضوان الله عليهم، ومنهم الخلفاء الراشدون المأمور باتباع سنتهم، فقال رضي الله عنه وأرضاه: (إن من طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وكان لم يسق الهدي؛ فيجب عليه أن يتحلل بعمرة)، وهذا كأنه نسخ للإفراد؛ لأنه إما تمتع بالقران وإما تمتع بالتمتع المعروف، فكأنه نسخ للإفراد، وهي من المسائل التي انفرد بها ابن عباس رضي الله عنهما، وخولف في ذلك من جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم.

    ومن مفرداته التمتع بالنساء، وقوله بجواز ربا الفضل، ونحوها من المسائل التي انفرد بها رضي الله عنه وأرضاه.

    فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي أن يتحلل وأن يجعلها عمرة، فهم رضي الله عنه وأرضاه أن التخيير الذي وقع عند الميقات منسوخ بأمره عليه الصلاة والسلام بفسخ الحج بعمرة.

    وخالفه في هذا الفهم جماهير الصحابة؛ لأن السنة الصحيحة دلت على صحة الإفراد، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عروة بن مضرس وهو في صبيحة يوم النحر قال: (يا رسول الله! أقبلت من جبل طيء، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، وما تركت جبلاً ولا شعباً إلا وقفت عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: من صلى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار؛ فقد تم حجه) وهذا يدل على صحة حج الإفراد؛ لأن عروة كان مفرداً بالإجماع؛ ولم يدرك إلا الوقوف بالليل، فلم يكن هناك عمرة، ولم يستطع أن يتمتع، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ العام، ولم يقل: من كان مثله متأخراً عن الحج يجوز له، ومن لم يكن مثله فإنه يجب عليه الفسخ.

    وقد فهم الصحابة أن إيجاب فسخ الحج بالعمرة خاص، ولذلك قال أبو ذر كما في الرواية الصحيحة عنه: (متعتان لا تصلح إلا لنا أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم: متعة النساء ومتعة الحج)، أي: أن إيجاب فسخ الحج بعمرة كان في ذلك العام للتشريع، وتأكيداً على جواز العمرة في أشهر الحج؛ لأنهم كانوا حديثي العهد بالجاهلية، وكان الناس قد قدموا من كل صوب وحدب، وأقبلوا طائعين للإسلام، فكانوا على ما ألفوه أن العمرة في أشهر الحج فجور، وقالوا: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟! وقالوا: (يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله) فلذلك كان الأمر بالعزيمة، وأمروا بفسخ الحج والعمرة، وبقي الأمر بعد ذلك على السعة.

    وقد حج أبو بكر جميع سنوات خلافته وهي سنتان من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها مفرداً، وهذا بإجماع العلماء، كما أن عمر رضي الله عنه وأرضاه في جميع سنوات خلافته -قرابة العشر السنوات- ما حج إلا مفرداً، وكذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه ما حج إلا مفرداً، وهذا على ما كانوا يختارونه، حتى كان عمر رضي الله عنه يرى أن إتمام الحج والعمرة بأن يحرم بهما من دويرة أهله.

    فالمقصود أن هذا وقع في الخلافة الراشدة، وكان أبو بكر رضي الله عنه هو الذي يقيم للناس حجهم، فلو كان الإفراد منسوخاً لما صح حج الناس؛ لأن الخلفاء وهم: أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كلهم حجوا بالناس مفردين، ولذلك قال العلماء: إن هذا من مفردات ابن عباس رضي الله عنه، وهو مأجور على اجتهاده وما أدى إليه قوله، ولكن قول جماهير الصحابة الموافقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أولى وأحرى، والقول بوجوب فسخ الحج بالعمرة إنما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وأما من عداهم فقد بقي الأمر على التخيير.

    ذكر الخلاف في أفضل الأنساك وأدلته

    قال المصنف رحمه الله: [وأفضل الأنساك التمتع]

    مسألة: هل الأفضل أن يفرد أو يقرن أو يتمتع؟

    قال الشافعية والمالكية: الأفضل أن يفرد. وقال الحنفية: الأفضل أن يقرن. وقال الحنابلة: الأفضل أن يتمتع.

    ولهم جميعاً حججهم رحمة الله عليهم، فمن قال: الإفراد. احتج بأن الأفراد ليس فيه دم الجبران؛ لأنهم يرون أن الدم الذي في التمتع والذي في القران دم جبران؛ قالوا: فكان المفروض على من تمتع بالحج والعمرة أن يرجع بعد العمرة إلى الميقات ويحرم من الميقات، ولذلك لو تمتع المكي سقط عنه الدم؛ لأنه أحرم من ميقاته، وهذا يدل على أن الدم لمكان النقص الذي وقع بين الحج والعمرة بالتمتع أو لكونه لم يرجع إلى الميقات؛ بدليل سقوط الدم عن حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم أحرموا من ميقاتهم.

    فقالوا: الإفراد ليس فيه نقص، والتمتع فيه نقص. والتمتع بنوعيه: القران والتمتع المعروف، وقالوا: إن أبا بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان، والخلافة الراشدة ظلت أكثر من عشرين عاماً والحج بالإفراد، وما هذا إلا لفضيلة الإفراد.

    وقال الحنفية: إن الأفضل القران؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة، وقد قرن عليه الصلاة والسلام منذ ابتداء نسكه إلى نهايته، ولذلك قال: (إني لبَّدتُّ شعري وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر)، وقد ثبت عنه الصلاة والسلام عن طريق أكثر من خمسة وعشرين صحابياً أنه قرن الحج بالعمرة.

    قالوا: ولو كان غير القران أفضل لما اختار الله لنبيه المفضول، فكونه عليه الصلاة والسلام لم يحج إلا حجة واحدة، ومع ذلك يختار الله له إحراماً من فوق سبع سماوات أن يقرن الحج بالعمرة يدل على أنه أفضل، وأكدوا هذا بما يلي:

    أولاً: لو كان الإفراد أفضل -وذلك أنكم تقولون: إن المفرد يأتي بسفر مستقل لعمرته وسفر لحجه- فإننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر أكثر من عمرة، ومع ذلك لم يقع اختيار الله له للإفراد، وإنما اختار الله له القران، فلو كان الإفراد أفضل لما اختار الله لنبيه المفضول.

    وقالوا: إن القران كان أوحي به من فوق سبع سماوات ولم يكن باختيار النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة) فقرانه عليه الصلاة والسلام إنما كان بوحي وباختيار من الله، وهي حجة واحدة ولا يختار له إلا الأفضل.

    ثالثاً: إنه قد اعتمر أكثر من عمرة، ومع ذلك أمر أن يقرن عمرته مع حجه، فدل على فضيلة قرن الحج بالعمرة.

    رابعاً: أن القارن يفضل المتمتع؛ لأن المتمتع يشارك القارن في جميع ما ذكروه من هذه العلل، فقالوا: فينفرد القارن عن المتمتع بأن القارن بعد العمرة يبقى بإحرامه، ولكن المتمتع يتحلل فيتمتع بالنساء ويصيب الطيب، والقارن يبقى على إحرامه، والقاعدة: (أن الأكثر تعباً أعظم أجراً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دل على هذه القاعدة كما في الصحيح: (ثوابكِ على قدر نصَبكِ)، قالوا: فإذا كان القارن لحجه بعمرته يوافق المتمتع في كون كلاً منهما يصيب النسكين، إلا أن هذا يتعب أكثر من المتمتع؛ لأنه يبقى على إحرامه بعد العمرة، وحينئذٍ يكون أفضل.

    رد أهل التمتع بأن هذا التمتع الذي يقع بين العمرة والحج إنما هو بإذن شرعي.

    وأما قولكم: إن الأكثر تعباً أعظم أجراً؛ فقد يكون الشيء أقل تعباً ويصيب به الإنسان ما هو أكثر فضيلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت من بعدكِ كلمات لو وزنت بما قلتِ لرجحتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) ، قالوا: فهذا يدل على أنه قد يكون الشيء أقل عملاً ولكنه أكثر أجراً.

    ثم أكدوا فضيلة التمتع بأن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى التمتع، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة) قالوا: ولا يتمنى إلا الأفضل، وقولكم: إنه أحرم واختار الله له إحرام القران ينسخه ما بعده من التمني.

    رد الأولون بأن هذا التمني لم يقع ابتداءً وإنما وقع لسبب، وهو أن الصحابة لما أمرهم أن يتحللوا امتنعوا، فطيب خواطرهم بهذه الكلمة.

    وفي الحقيقة إن أعدل ما ذكر في هذه المسألة وهو اختيار بعض المحققين ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو أن في المسألة بالتفصيل:

    فإن كان الرجل يستطيع أن يأتي إلى البيت ويفرد حجه عن عمرته فالإفراد أفضل، وإن كان يستطيع أن يسوق الهدي معه فالقران أفضل، وإن كان لا يستطيع أن يسوق الهدي، أو يصعب عليه -كحال أكثر الناس اليوم حينما يقدمون من خارج المملكة- فالتمتع له أفضل؛ لأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسفر مستقل لعمرتهم، وبناء على ذلك يجمعون بين التمتع بالتحلل ثم يحرمون بعد ذلك بحجهم لصعوبة سوقهم للهدي، وعلى هذا يكون الجمع بين النصوص من جميع الأوجه، ففضل التمتع من وجه، وفضل القران من وجه، وفضل الإفراد من وجه، ويكون هذا جمعاً بين هذه النصوص والأوجه المختلفة.

    خلاف العلماء فيمن يجوز له التمتع

    مسألة: من الذي يتمتع؟

    ينقسم الناس في التمتع إلى قسمين: مكي، وغير مكي. حاضر المسجد الحرام وغير حاضر المسجد الحرام، أما الذين هم من حاضري المسجد الحرام فللعلماء فيهم أوجه، وأقوى ما قيل في حاضري المسجد الحرام أن المراد بهم: أهل مساكن مكة أو من كان دون حدود الحرم، أو من كان دون مسافة القصر، فالمكي ومن كان داخل حدود حرم مكة فهو من حاضري المسجد الحرام.

    وللعلماء قولان فيمن يجوز له أن يتمتع:

    قال جمهور العلماء: المكي وحاضر المسجد الحرام يتمتعون، وإن تمتعوا فلا دم عليهم، وعلى هذا فأهل مكة يجوز لهم أن يأتوا بالعمرة في شوال وما بعد شوال، ثم يحجون من عامهم فهم متمتعون، ويصيبون فضيلة التمتع ولا يلزمهم الدم.

    وقال الحنفية رحمة الله عليهم: المكي ومن كان من حاضري المسجد الحرام لا يتمتع، وإن تمتع فعليه دم. فلا يرون لأهل مكة أن يتمتعوا، وإن تمتعوا فعليهم الدم.

    وسبب الخلاف الآية الكريمة في قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196].

    فلما قال الله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] اختلف في مرجع الإشارة: (ذلك)، فالجمهور يقولون: (ذلك) عائد إلى إيجاب الدم: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] فأعادوه إلى أقرب مذكور؛ لأن الإشارة تعود إلى أقرب مذكور، فيكون قوله: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) أول الآية منفصل عن آخرها، ويكون قوله: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] المراد به: إيجاب الدم، فيقولون: يصح التمتع لعموم قوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ [البقرة:196] ولا يجب الدم لقوله: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196].

    والحنفية يقولون: (ذلك) عائد إلى أول الآية، بدليل أنه اسم الإشارة (ذلك) للبعيد، فقالوا: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] عائد إلى صدر الآية: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] فالتمتع لمن لم يكن من حاضري المسجد الحرام.

    قالوا: والدليل الثاني عندنا على هذا أنه قال: ذَلِكَ لِمَنْ [البقرة:196] فلو كان الدم -كما يقول الجمهور- لقال (ذلك على من لم يكن). فدل على أن المراد مشروعية التمتع وليس وجوب الدم.

    رد الجمهور بأن (ذلك) جاء اسم إشارة لصيغة البعيد لوجود الفصل: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] فنظراً للفصل بالبدل عن الواجب جاء باسم ( ذلك )، حتى لا يفهم منه أن هذا الإيجاب مختص بمن يكون على خلاف هذه الحال.

    وأجابوا عن قوله: ذَلِكَ لِمَنْ [البقرة:196] أن (اللام) تأتي بمعنى (على) كما قال تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7] أي: فعليها، فيكون قوله: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ [البقرة:196] أي: ذلك الدم على من لم يكن من حاضري المسجد الحرام.

    ومذهب الجمهور أقوى، وعليه: فإن أهل مكة يتمتعون، وإن تمتعوا فلا دم عليهم.

    فالمتمتع إما أن يكون من حاضري المسجد الحرام، وإما أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام، فيشمل الذين كانوا خارج حدود الحرم أو خارج مسافة القصر، فالآفاقيون الذين هم غير حاضري المسجد الحرام يشرع لهم التمتع بإجماع العلماء.

    شروط التمتع بالعمرة إلى الحج

    قال المصنف رحمه الله: [وصفته أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه].

    شروط التمتع:

    أن تكون هناك عمرة في أشهر الحج، فمن اعتمروا في أشهر الحج صح له أن يتمتع بهذه العمرة إلى الحج، بشرط البقاء بعد فعل هذه العمرة بمكة، وعدم الرجوع إلى الميقات أو ما يحاذيه أو إلى مسافة القصر، وأن يحج من ذلك العام، فهذه شروط لا بد من توفرها للحكم بصحة التمتع.

    أما الشرط الأول -أن يأتوا بعمرة في أشهر الحج- ففيه تفصيل: أشهر الحج تبدأ من ليلة العيد، فمن أوقع العمرة في ليلة عيد الفطر فما بعدها من شوال أو ذي القعدة فحينئذٍ يصدق على هذه العمرة أنها عمرة تمتع إن بقي بعدها وحج، لكن إن وقعت عمرته قبل ليلة العيد، ثم بقي بمكة وحج من عامه؛ فليس بمتمتع بالإجماع؛ لأن عمرته ليست في أشهر الحج، وعمرة التمتع يشترط فيها أن تكون في أشهر الحج.

    لكن لو أحرم قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان، وغابت عليه شمس آخر يوم من رمضان قبل أن يتم، فأوقع بعض أفعال العمرة في رمضان وبعض أفعالها في شوال، فهل نقول: العبرة بالابتداء، أم العبرة بالانتهاء، أم يفصل؟

    خلاف بين السلف، قال بعض العلماء: العبرة بالنية، فإذا دخل في النسك ونواه قبل غروب الشمس ولو بلحظة؛ فإنه لا يعتبر متمتعاً، فهم يعتبرون أول لحظة من العمرة، وهي نية الدخول في النسك، فإن غابت عليه الشمس ثم نوى ولو بلحظة بعد مغيبها فإنه متمتع، وهذا مذهب الظاهرية.

    القول الثاني: العبرة بدخوله إلى مكة، فإن وقع دخوله مكة قبل غروب الشمس؛ فعمرته ليست تمتعاً، فهو مفرد إن حج من عامه، وإن وقع دخوله لمكة وحدود الحرم بعد مغيب الشمس، وبقي بعد هذه العمرة وحج فهو متمتع، فالعبرة عندهم بدخول حدود الحرم، وهذا مذهب طائفة من السلف ومنهم عطاء .

    القول الثالث: العبرة بابتداء الطواف، فننظر متى ابتدأ الطواف، فإذا ابتدأ طوافه قبل غروب الشمس ولو بلحظة، فهو مفرد إن حج من عامه، وإن ابتدأ طوافه بعد غروب الشمس ولو بلحظة؛ فهو متمتع إن حج من عامه، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

    القول الرابع: العبرة بأكثر الطواف، وهذا مذهب الحنفية، فيقولون: إن طاف أربعة أشواط قبل غروب الشمس؛ فمفرد إن حج من عامه، وإن طاف الثلاثة الأشواط قبل غروب الشمس والأربعة بعد الغروب؛ فإنه متمتع إن حج من عامه.

    فتجد أن مذاهب الأئمة اعتبرت بالطواف؛ لأن الطواف أول أركان العمرة.

    وهناك قول خامس: وهو أن العبرة بالتحلل، وهو مذهب المالكية، قالوا: ننظر متى يقص شعره أو يحلق رأسه، فإن وقعت حلاقته أو قصه لشعر رأسه قبل غروب الشمس فإنه مفرد إن حج من عامه، وإن وقع القص والتحلل بعد غروب الشمس ولو بلحظة فإنه متمتع إن حج من عامه.

    وأصح هذه الأقوال والعلم عند الله: أن العبرة بابتداء الطواف لما ذكرنا؛ وذلك لأنه يكون حينئذٍ قد دخل في ركن عمرته فإذا كان قد ابتدأ طوافه قبل غروب الشمس فإنه حينئذٍ يكون قد أوقع الركن -الذي هو ركن العمرة- قبل غروب الشمس، وحينئذٍ لا يصدق عليه أنه تمتع بعمرته إلى الحج.

    الشرط الثاني من شروط التمتع: بقاؤه بمكة وهذا هو نص القرآن: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] فإنه يشترط في كونه متمتعاً أن يبقى بعد العمرة إلى أن يحج من نفس العام، فلو رجع بعد عمرته إلى بلده أو إلى ميقات بلده؛ فإنه لم يتمتع بسفره الأول -وهو عمرته الأولى- لحجه، وحينئذٍ كأنه أنشأ سفراً ثانياً، وعليه فيكون مفرداً ولا يكون متمتعاً على ظاهر القرآن.

    وشذ طاوس فقال: هو متمتع وإن رجع إلى بلده.

    والعلماء يقولون: شذ طاوس كما عبر به غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم في هذه المسألة، وإذا قال العلماء: شذ. فليس المراد تحقير العالم، ولكن الخلاف عندهم في المسائل على مراتب، فتارة يكون المخالف مصادماً للنصوص أو مصادماً لجماهير العلماء، فيقولون عنه: شذ؛ تنبيهاً إلى أن العمل عند الأئمة والسلف والعلماء وأكثر الأمة على عدم قبول هذا القول؛ لمخالفته للنصوص القوية، فيعبرون عن ذلك بالشذوذ مثلما يقولون: شذ ابن عباس فقال بالمتعة. وليس المراد منه تحقير ابن عباس رضي الله عنه، وإنما المراد أن قوله هذا خالف الأصول وخالف الجماهير، ولذلك فإن خلاف الشذوذ يكون في المسائل التي تخالف النصوص، كالقول بجواز ربا الفضل وبجواز المتعة، ونحوها من المسائل المفردة.

    فعند طاوس من سافر إلى بلده بعد عمرته وحج من عامه فإنه يعتبر متمتعاً، وهذا قول شاذ كما ذكرنا لمخالفته لظاهر الآية الكريمة، وجماهير السلف والخلف على خلاف ذلك، وأن من رجع إلى بلده أو أنشأ السفر بعد عمرته فإنه لم يتمتع على ظاهر الصفة التي نص عليها كتاب الله عز وجل.

    والشرط الثالث من شروط التمتع: أن يحج من عامه، ويحكى عن عبد الله بن الزبير : أنه لو أتى بالعمرة في هذه السنة، ثم أتى بالحج من العام القادم أنه متمتع، ولكن جماهير السلف رحمة الله عليهم على خلافه، والإجماع على أنه لا يكون متمتعاً إلا إذا حج من ذلك العام.

    حكم من تمتع بالعمرة إلى الحج وليس من حاضري المسجد الحرام

    قال المصنف رحمه الله: [وعلى الأفقي دم]

    أي: وعلى الأفقي دم إن تمتع، وفهم من ذلك أن غير الأفقي لا يلزمه دم.

    أما بالنسبة لإيجاب الدم على الأفقي فلقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] فأمر الله سبحانه وتعالى من تمتع بالعمرة إلى الحج أن يريق الدم، وهذا الدم ستأتي مباحثه ومسائله في الفدية، ونبين إن شاء الله ما هو المعتبر في هذا الدم، وأين محله، وما هو الواجب، والسن الواجب في هذه الدماء، سواء كانت في قران أو تمتع.

    1.   

    حكم المرأة الحائض إذا خشيت فوات الحج

    قال رحمه الله: [وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج أحرمت به وصارت قارنة].

    هذا إذا كانت المرأة متمتعة، والمرأة الحائض في الإحرام قبل الحج على صور:

    الصورة الأولى: أن يأتيها الحيض قبل نية النسك، فحينئذٍ إذا كان هناك وقت قبل الحج ويمكنها أن تتمتع بالعمرة؛ فالأفضل أن تصيب فضيلة التمتع، فتحرم بالعمرة، ثم تتحلل من العمرة، ثم بعد ذلك تتم مناسك الحج، مثال ذلك: لو أن امرأة أقبلت على الميقات في شهر ذي القعدة، وجاءها الحيض، وحيضها ثمانية أيام، فقد بقي من الوقت ما يسعها أن تطهر ثم تؤدي العمرة قبل أن تتلبس بالحج أي: قبل أيام الحج، فحينئذٍ تحرم بالعمرة، ويجوز لها وهي حائض أن تنوي العمرة، ولكن تمتنع من الطواف بالبيت، لقوله عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين عائشة حيث كانت معه في حجه وأصابها الحيض فقال: (ما لكِ.. أنفستِ؟ قالت: نعم. قال: ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) فهذا يدل على أنه لا يجوز لها أن تطوف بالبيت، ولا يجزئها أن تطوف وهي حائض على ظاهر النص، فتمكث حتى تخرج من عادتها وتطهر، فتغتسل ثم تؤدي عمرتها وتتحلل منها، هذه الصورة الأولى.

    الصورة الثانية: أن يطرأ الحيض بعد نيتها للنسك، فإذا طرأ الحيض بعد نيتها للنسك فلا يخلو من حالتين: إما أن يمكنها أن تؤدي العمرة قبل أيام الحج، وإما أن يضيق الوقت ولا يمكنها أن تؤدي عمرتها قبل أيام الحج، كأن تكون عادتها ثمانية أيام، وبقي على الحج ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فإذا طرأ عليها الدم وكانت قد دخلت في النسك فلا تخلو نيتها.

    إما أن تكون مفردة فحينئذٍ تمضي إلى عرفات، وتتم مناسك الحج، حتى إذا طهرت طافت طواف الإفاضة ولا إشكال.

    وأما إذا كانت متمتعة -أي: كانت معتمرة- فإنه لا يمكنها أن تؤدي عمرتها قبل حجها؛ لأنه وقت ضيق، فتنقلب قارنة لمكان الضرورة، لقول عليه الصلاة والسلام: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)، فدل على أنها كانت متمتعة بمنعه إياها من الطواف بالبيت، وقد ثبت أنها كانت متمتعة، فحينئذٍ انقلبت إلى القران لقوله عليه الصلاة والسلام لها في آخر الحج: (طوافكِ بالبيت وسعيكِ بين الصفا والمروة كافيكِ لحجكِ وعمرتكِ) فدل هذا على أن الذي وقع منها إنما هو القران؛ لأنه لم يمكنها أن تتحلل، فلما منعها من الطواف دل على أنه يجوز لها أن تنقلب قارنة، وحينئذٍ تؤخر طوافها بالبيت إلى طهرها، وهذا هو قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

    وهكذا الحال إذا كان طرأ العذر، فإذا أحرمت بالتمتع فطرأ الحيض فإنها تحرم وينقلب نسكها القران، على ظاهر هذه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    التلبية

    قال المصنف رحمه الله: [وإذا استوى على راحلته قال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. يصوت بها الرجل وتخفيها المرأة].

    تحقيق الخلاف في وقت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم في حجته

    قوله رحمه الله: (وإذا استوى على راحلته).

    السنة أن يلبي وهو في مصلاه، فقد أوجب عليه الصلاة والسلام وهو في مصلاه، وأوجب وهو على الراحلة، وأوجب وهو على البيداء، وهذا كله ثابت عنه، ولذلك فضل ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ذلك فيما ثبت وصح عنهما، وكان ابن عمر يقول: (بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أهل إلا من عند الشجرة)، وقد بين ابن عباس السبب في ذلك، وهو أن الناس كانوا كثيرين.

    وقال أنس رضي الله عنه: (كنت أنظر أمامي فأرى الناس مد البصر، وأنظر عن يميني فأرى الناس مد البصر، وأنظر عن شمالي فأرى الناس مد البصر، كلهم يقولون: كيف يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما نزل إلى الميقات وصلى عليه الصلاة والسلام أدرك أناس تلبيته وهو في مصلاه)، وأدرك أناس تلبيته وهو عند الشجرة، وأدرك أناس تلبيته وهو قد استوى على راحلته، وأدرك أناس تلبيته وهو على البيداء؛ لأن الميقات -وهو الذي يسمى بأبيار علي- واد، ومنخفض الوادي في بطنه المسجد والمصلى، هذا المنخفض يكتنفه شقي الوادي الأيمن والأيسر، أيسر الوادي من جهة جبل عير الذي هو حد المدينة، وأيمن الوادي الذي هو صفحته اليمنى بعد أن تخرج من المسجد وتصعد هذه الربوة التي هي أعلى الشط الأيمن للوادي وهي تسمى بالبيداء، وهي ما ارتفع من الأرض من مائتي متر إلى ثلاثمائة متر، وبعد البيداء وأنت في طريقك إلى مكة متجهاً إلى جهة جنوب غرب تقريباً تأتي منطقة تسمى ذات الجيش، وهي التي انقطع فيها عقد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكان لـأسماء ، في قصة التيمم، فالبيداء هذه كانت هي الربوة العالية التي بعد الوادي، بمعنى أنك إذا خرجت من الوادي وصعدت فأول ما يواجهك البيداء، فكان الناس يعتقدون أن التلبية تبدأ من البيداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رقى البيداء لبى؛ لأنه كان من سنته إذا علا النشز أن يلبي، فأدرك أناس تلبيته بالبيداء، فظنوا أن السنة هناك، وأدرك أناس تلبيته عند الشجرة فظن أن السنة هناك، وأدرك أناس تلبيته أول ما أوجب.

    فالسنة أنه يلبي وهو في مصلاه، ثم إذا ركب على راحلته -وفي حكمها السيارة الآن- يلبي، وإذا علا البيداء أو صعد من شط الوادي لبى؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواء صعد على الخط القديم -الذي هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم في القديم- أو صعد على الخط الجديد -الذي يسمى بالهجرة-؛ لأن الجهتين اللتين تكتنفان الوادي بمثابة واحدة من حيث العلو والنشز، فالسنة فيهما واحدة، فكان ابن عمر يقول: ( بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) تكذبون: الكذب يطلق بمعنى الكذب المذموم، وبمعنى مخالفة الحقيقة، وليس المراد به ذم صاحبه، فقال: ( تكذبون ) يعني: أنكم تقولون بها أمراً غير الذي وقع منه عليه الصلاة والسلام، ولا يقصد أصل الكذب الذي ورد في الوعيد، فمراده: أن الأصل أن التلبية كانت في بطن الوادي، فالسنة أن تكون التلبية على هذه الصورة.

    معنى التلبية

    أما قوله: ( لبيك اللهم لبيك )، (لبى): اختلف العلماء في أصلها، قيل: (لبى) بمعنى أجاب، تقول: لبيت النداء، أي: أجبته، وهذا مبني على قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27] حيث أوحى الله بذلك لإبراهيم فقال: (ربي وما يبلغ صوتي. قال: أذن وعلينا البلاغ، وهو حديث رواه الحاكم في مستدركه، وصححه غير واحد، فأذن وقال: (أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) فمن كتب الله عليه الحج والعمرة فإنه يلبي هذا النداء بقوله: لبيك. أي: إجابة لداعي الله عز وجل، هذا على القول بأنها مشتقة من إجابة النداء.

    وقيل: (لبى) بمعنى: لب الشيء وخالصه، والمراد بذلك: إن إخلاصي لك يا ألله. فمعنى (لبيك): أي إخلاصي؛ لأنها كلمة التوحيد، ولذلك قال جابر : (أهل بالتوحيد). فقالوا: إن المراد بها إخلاص العبادة لله عز وجل، وهو الأصل الذي من أجله أمر الله عز وجل بالحج إلى بيته، فتكون أول كلمة من الإنسان بالتلبية شعارها التوحيد والإخلاص لله سبحانه وتعالى بالعبادة، وإفرادها له جل شأنه، فقالوا: إنها مأخوذة من لب الشيء، وهو خالصه.

    وقيل: مأخوذة من (ألب بالمكان)، إذا أقام به، أي: أنا مقيم على طاعتك طاعة بعد طاعة، أي: أنه ثابت على طاعة الله مستديم عليها.

    وقيل: إنها من (ألب) بمعنى: واجه، وتجاه الشيء وجهته تقول: (داري تلب بدارك) أي: تواجهها، كأنه يقصد بقوله: (لبيك اللهم) أي: اتجاهي لك يا ألله في كل صغير وكبير، فلا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا به، ولا يستجار إلا به، فكأنه يقول: (وجهت وجهي لك كلاً) كما قال تعالى: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79] فهذه أوجه ذكرها العلماء في معنى: ( لبيك اللهم) أي: لبيك يا ألله.

    صفة التلبية

    للتلبية صفتان: الصفة الواردة المشروعة، والصفة الزائدة من المكلف ثناءً على الله عز وجل.

    أما بالنسبة للصفة المشروعة: فالتي ذكرها المصنف: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) هذه الصفة الواردة، وهناك حديثان في السنن، أولهما: (لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً) وهو حديث أنس ، والثاني: (لبيك إله الحق) وهو حديث أبي هريرة ، والصحيح الأول، وأما الصيغتان الأخريان ففيها كلام وفي سندهما مقال، وبعض العلماء يحسن إسناد: (لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً).

    أما بالنسبة للصفة الزائدة عن الوارد، كأن يقول: لبيك يا رحمن، لبيك يا عظيم، لبيك يا كريم... ونحو ذلك، فللعلماء قولان: قيل: لا يجوز أن يحدث غير الصفة الواردة، وقيل: يجوز، وهذا هو الصحيح؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الصحابة يقولون: لبيك ذا المعارج) فلم يأمرهم بالتزام اللفظ الوارد، ولذلك قال جمهور العلماء بجواز الزيادة وهو فعل السلف، ولذلك كان ابن عمر يقول: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) والأفضل: أن يقتصر على الوارد؛ لأنه إذا اقتصر على الوارد أجر بأجرين: الأول: أجر التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: أجر اللفظ الوارد.

    حكم التلبية

    الصحيح وجوبها، وهو أصح قولي العلماء، ولذلك من نوى ولم يلبِ حتى فرغ من نسك العمرة أو الحج، يلزمه دم جبراناً لهذا الواجب وهي التلبية، قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية).

    والدليل على وجوب التلبية: قوله عليه الصلاة والسلام: (أتاني الليلة آتٍ من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة) قالوا: إن هذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لبيك عمرة وحجة). كما في حديث أنس في الصحيح، قالوا: فقوله: (أهل في هذا الوادي المبارك، وقل) الإهلال: هو النية، وقل: المراد به التلبية، فيكون أمراً وهو دال على الوجوب.

    حكم رفع الصوت بالتلبية

    السنة رفع الصوت بالتلبية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية)، وهذا ثابت في الصحيح، فدل على أن السنة في التلبية أن يرفع بها الصوت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الحج: العج والثج) أما (العج): فهو رفع الصوت بالتلبية، وأما (الثج): فهو نحر الهدي ونحوها مما يتقرب به إلى الله عز وجل في الأنساك في الحج.

    وقت قطع التلبية للحاج والمعتمر

    أما المعتمر، فقال طائفة من العلماء: يقطع التلبية عند الحرار التي تبدو قبل مكة، وهي الحرار التي قبل التنعيم، وهو المأثور عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال به جمع من فقهاء المدينة.

    والقول الثاني: أنه يقطع التلبية عند دخوله لحدود الحرم؛ لأنه يلبي إلى الحرم، فإذا بلغ الحرم فإنه يقطع التلبية.

    والقول الثالث: أنه يقطع التلبية عند ابتداء الطواف. وهو أصح الأقوال في العمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : (أنه لم يزل يلبي حتى استلم الحجر)، فدل على أن التلبية تنقطع عند استلام الحجر، يعني: عند ابتداء الطواف.

    وأما الحاج فقال جمع من العلماء: يقطع التلبية إذا مضى إلى الوقوف بعرفة، وذلك بعد الزوال؛ لأنه يبتدئ الوقوف بعد الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل خارج عرفة وذلك بنمرة، وهو المنبسط الذي قبل الوادي الذي بين حدود الحرم وبين الوادي الذي هو وادي عرنة، هناك منبسط يقرب من خمسمائة متر يسمى بنمرة، نزل فيه عليه الصلاة والسلام، فابتدأ وقوفه ومضيه إلى عرفات بعد الزوال، وبعد أن زالت الشمس ركب صلوات الله وسلامه عليه وخطب الناس، قالوا: فيقطع التلبية بعد الزوال من يوم عرفة، وكان يفعله علي رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها، وأكدوا هذا بأن التلبية للحج، والحج عرفة، ويكون وقوف عرفة بعد الزوال فيقطع عند الزوال.

    القول الثاني: أنه يقطع عند ابتداء رمي جمرة العقبة، وهو مذهب الجمهور.

    والقول الثالث: أنه يقطع عند آخر حصاة يرمي بها جمرة العقبة، وهو رواية عن أحمد وقول إسحاق بن راهويه وجمع من أهل الحديث، وهو الصحيح؛ لحديث الفضل أنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يلبي حتى رمى آخر حصاة من جمرة العقبة).

    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755909088