إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الصلاة للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد عظم الشرع من شأن الصلاة فجعلها الركن الثاني من أركان الإسلام؛ بل هي عمود الدين، فلا يستقيم دين العبد إلا بها، وهي الفارق بين المسلم والكافر، ولأهميتها يجب على المسلم أن يتعلم أحكامها من شروط وواجبات وأركان، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالصلاة.

    1.   

    من أحكام الصلاة

    تعريف الصلاة لغةً وشرعاً

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الصلاة].

    قوله: (كتاب) مراد العلماء رحمهم الله بكلمة (كتاب) التعبير بها للدلالة على عِظم المبحث وسعة مسائله، ولذلك يقسمونه إلى فصول، ويقسمون الفصول إلى مباحث ومسائل، وكل مذهب بحسبه.

    والصلاة في اللغة تستعمل بمعانٍ، أولها: الدعاء، ومنه قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] فقوله: (صلّ عليهم) أي: ادع لهم، ومنه قول الشاعر:

    تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

    عليك مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا

    ومعنى البيت: أن هذا الشاعر لما أراد أن يسافر قالت بنته:

    يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

    فقال رداً عليها:

    عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً

    فقوله: (عليك مثل الذي صليت) أي: لك مثل ما دعوت لي من السلامة والعافية من البلاء.

    ومن معاني الصلاة: البركة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، أي: بارك لهم فيما رزقتهم.

    وتطلق الصلاة بمعنى: الرحمة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56] أي: إن صلاة الله على نبيه رحمته، ومنه قول الشاعر:

    صلى المليك على امرئٍ ودعته وأتم نعمته عليه وزادها

    فهذه معاني الصلاة في اللغة.

    أما في اصطلاح العلماء فإنهم إذا قالوا: (الصلاة) فمرادهم بها أنها عبادةٌ مخصوصة مشتملة على أقوال وأفعال مفتتحةٌ بالتكبير ومختتمة بالتسليم، فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث علي : (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) أي: الصلاة.

    فقوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير) هي التكبيرة الأولى، ولذلك قالوا: إن التكبيرة الأولى تسمى تكبيرة الإحرام؛ لأن المكلف بهذه التكبيرة يدخل في حرمات الصلاة، فلا يتكلم ولا يعبث ولا يفعل أي فعلٍ يعارض الصلاة أو يخالف مقصودها، ولذلك قالوا: مفتتحةٌ بالتكبير.

    وقالوا: (ومختتمة بالتسليم)؛ لأنه إذا أنهى صلاته خرج بالسلام، أي أن خاتمتها تكون بالسلام، ولذلك اعتبر من أركانها.

    وأما كونها (عبادةً مخصوصة) فقد أجمع العلماء على وصفها بكونها عبادة مشتملة على أقوال وأفعال؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح وذكر الله وقراءة القرآن) كما في صحيح مسلم.

    فهذا التعريف الاصطلاحي نفهم منه أن الصلاة عند العلماء -أعني الفقهاء- لها معنىً مخصوص، وأن معناها في اللغة أعم من معناها في الاصطلاح، والسبب الذي جعل العلماء يجعلون تعريفاً لغوياً وتعريفاً شرعياً أن الحقائق الشرعية ربما أطلقت بمعنىً أخص من إطلاقها اللغوي، ولذلك تجد معنى الصلاة في اللغة أعمّ من معناها في الاصطلاح، ولذلك يعتنون بذكر التعاريف الاصطلاحية؛ لهذه الحقائق الشرعية المخصوصة.

    أهمية الصلاة في القرآن والسنة

    الصلاة عبادةٌ عظيمة مفروضة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي من أعظم شعائر الإسلام بعد الشهادة، ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه لليمن قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلة) أي أن الله أوجب عليهم هذه الصلوات الخمس، وفرضها عليهم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بيان وجوب الصلاة تابعاً لفرضية الشهادتين، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: إن أهم ما يعتنى بالدعوة إليه، وأمر الناس به، وحثهم عليه، وحضهم على فعله هو الصلاة بعد الشهادتين، فهي أهم المهمات بعدها، وآكد الفرائض والواجبات بعد قول: (لا إله إلا الله)، شهادة التوحيد، وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عمود الإسلام، ومن المعلوم أن العمود إذا سَقط سقط ما بُني عليه، وهذا يدل دلالة عظيمة على فضل هذا الركن العظيم وعظيم شأنه.

    وثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أنها آخر ما يفقد الناس من دينهم) وأنه إذا فقدت الصلاة فقد ذهب الدين، وثبت في الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة، فإن صلحت نظر في بقية عمله، وإن كان لها مضيعاً فإنه لما سواها أضيع) .

    فهذه الصلاة فرضها الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وورد ذكرها في القرآن في أكثر من موضع، يأمر الله بها تارة، وتارةً يرغب فيها، وتارةً يبين فضل أهلها ويثني عليهم، ويبين عواقبهم من دخول الجنة وحصول رضوان الله تعالى عليهم بفعلها.

    وقد أمر الله بها عموماً فقال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] وأمر بها خصوصاً فقال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]. وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطابٌ لأمته، وأمر سبحانه أن تؤمر بها الذرية والأبناء والأهل والأزواج والزوجات، فقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] وأخبر سبحانه وتعالى عن فضل أهلها الآمرين بها، فأثنى على نبيه إسماعيل فقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:54-55] قال بعض العلماء في قوله تعالى: (وكان عند ربه مرضياً) أي: بأمره لأهله بالصلاة؛ لأنه أمرهم بأعظم شعائر الدين وأجلّها عند الله عز وجل.

    وأجمع المسلمون على وجوب الصلاة وفرضيتها، وأنها ركنٌ من أركان الإسلام؛ لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة)، فأجمعوا على أنها ركنٌ من أركان الإسلام، وأنه لو جحد إنسانٌ وجوبها كفر، إلا أن يكون جاهلاً فيعلم، كما سيأتي إن شاء الله بيانه للمصنف رحمه الله.

    ولما كان من عادة العلماء رحمهم الله أن يقولوا: (كتاب الصلاة)، والمقصود بهذا الكتاب بيان الأحكام والمسائل المتعلقة بعبادة الصلاة، استلزم ذلك بيان ما يشترط لصحة الصلاة من الوقت واستقبال القبلة، ففي المواقيت يتكلمون عن أفراد المواقيت، أعني: مواقيت الصلوات الخمس، وفي استقبال القبلة يتكلمون عن مسائل استقبال القبلة، ومتى يسقط هذا الواجب -كما هو الحال في السفر- ويقوم على الاجتهاد والظن؛ لثبوت السنة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يتكلمون على ستر العورة وأخذ الزينة، وما يتبع ذلك من مباحث، كصلاة العراة ونحوهم.

    ثم يتكلمون في الصلاة على صفتها، ويتضمن ذلك بيان الأركان والواجبات والسنن التي هي من هيئات الصلاة، فيبدأون ببيان أركانها التي فرضها الله عز وجل، وإذا لم يقم المكلف بها فلا تصح صلاته.

    ثم بيان الواجبات التي إذا فعلها أثيب، وإذا تركها عوقب وأثم ولا يحكم ببطلان صلاته إلا إذا تركها متعمداً، فهي أخف مرتبةً من الأركان، ثم السنن التي يرغب في فعلها ولا حرج في تركها.

    ثم بعد ذلك يتكلمون على ما يطرأ على الصلاة، كما هو الحال في باب سجود السهو، فيتكلمون على حال المكلف إذا أخلّ بالأركان أو بالواجبات أو السنن، ثم يتكلمون على أفراد الصلاة الواجبة، ثم المسنونة التي لا تجب على الأعيان وقد تجب على الكفاية، فيتكلمون على صلاة الجمعة وصفتها وشروطها وما يلزم لها، ثم يتكلمون على الصلوات النوافل التي تشترط لها الجماعة، كصلاة التراويح وصلاة العيدين على القول بأنها سنة مؤكدة، وما يتبع ذلك من صلاة الاستسقاء ونحوها.

    ثم يتكلمون على مطلق النوافل بصلاة التطوع، فيذكرون المباحث المتعلقة بالسنن الراتبة والوتر -على القول بعدم وجوبه- فهذه المباحث كلها متشعبة ومتعددة، فمن العلماء من يختصر، ومنهم من يسهب، ونظراً إلى تعددها حتى في المختصرات فإن من عادة العلماء أن يقولوا: (كتاب الصلاة) دون قولهم: (باب الصلاة)؛ لسعة هذا المبحث، وكثرة مسائله، وتشعب أحكامه.

    وقد ذكر المصنف رحمه الله كتاب الصلاة عقب كتاب الطهارة، والمناسبة في هذا لطيفة، وهي أن الطهارة وسيلةٌ إلى الصلاة، وقد أمر الله عز وجل بالطهارة قبل الصلاة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، فمن المناسب أن يتكلم على الوسائل قبل الكلام على المقاصد، ولذلك أتبع المصنف رحمه الله كتاب الطهارة بكتاب الصلاة.

    1.   

    من تجب عليه الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [تجب على كل مسلم مكلف].

    الوجوب في أصل اللغة: السقوط، يقال: وجب الشيء، إذا سقط، ومنه قولهم: وجبت الشمس، إذا سقطت، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36] أي: سقطت واستقرت على الأرض.

    ويطلق الواجب في لغة العرب بمعنى اللازم، ومنه قول الشاعر:

    أطاعت بنو عوفٍ أميراً نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب

    أي: أول لازمٍ عليهم أن يفعلوه.

    والواجب في الاصطلاح: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فالواجب أعلى مراتب الأوامر، والحنفية يجعلون أعلى مراتب الأوامر الفرض، ثم يليه الواجب، ويفرقون بين الفرض والواجب بأن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني سواءٌ في الدلالة أم في الثبوت، كما هو مفصل في مباحث الأصول.

    قوله رحمه الله: ( تجب) أي: الصلاة. أراد المصنف بهذه العبارة أن يبين حكم الصلاة، ولذلك ينبغي على طلاب العلم والفقه أن يبتدئوا أولاً ببيان موقف الشريعة من العبادة، وعادةً إذا قال العلماء: (كتاب الزكاة)، أو (كتاب الصلاة)، أو(كتاب الصوم)، يقولون عقبه: (تجب الصلاة)، أو: (تجب الزكاة)، أو: (يجب الصوم)؛ لأن أول ما يحتاج إليه بيان حكم الشريعة في هذا المبحث من مباحث الفقه، ولذلك قال المصنف: (تجب)، أي: الصلاة، فالأصل فيها اللزوم والوجوب.

    قوله: [على كل مسلم].

    أي: تجب هذه الصلاة على كل مسلم، و(كل) من ألفاظ العموم عند الأصوليين إذا جاءت في صيغ الكتاب أو السنة، وقد درج العلماء على ذلك.

    فأول ما يخاطب به من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، ولذلك قدم شرط الإسلام؛ لأنه لا تصح الصلاة من كافر، فيطالب المسلم أولاً بالإتيان بالشهادتين، ثم بعد ذلك يتوجه عليه الخطاب بفعل الصلاة.

    فلابد من وجود الإسلام أولاً، ثم توجه الخطاب ثانياً، وهذا مفرع على حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) .

    فلا يخاطب أحد بالصلوات إلا بعد أن يحقق الشهادتين، ولذلك قال المصنف: (على كل مسلم)، وهذا الوجوب محل إجماع، إلا أنَّ بعض العلماء يقولون: الصلاة واجبة، وبعضهم يقول: الصلاة فرضٌ، والتعبير بهما على مسلك الجمهور واحد، ولكن الحنفية يقولون: إنها فريضة، ويرون أنها أعلى مراتب الوجوب، والخلاف بين الحنفية والجمهور في هذا عند بعض المحققين من أهل الأصول خلاف لفظي. فالحاصل من هذا أن العلماء رحمهم الله قالوا: إنها واجبة، ونستفيد من هذا أن تَرْكها إثمٌ، وأن فعلها قربة وطاعة.

    ولما كانت واجبة ويرد السؤال: على من تجب؟ قال: (على كل مسلم)، والمراد هنا: جنس المسلم، فيشمل الذكر والأنثى، ولا فرق بين ذكرٍ وأثنى في الأحكام إلا ما خص الدليل به الرجال دون النساء، أو النساء دون الرجال.

    وقوله: [مكلفٍ].

    التكليف: مأخوذٌ من الكلفة، والشيء الذي فيه كلفة هو الذي فيه مشقة وتعب وعناء، والعلماء رحمهم الله يعبرون عن أوامر الشرع ولوزامها بأنها تكاليف؛ لأنه لا بد في الشرع من ابتلاء، والدليل على ذلك قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فدل على أنه يكلف، لكنه يكلف بما في الوسع لا بما هو خارج عنه، والسبب في هذا أنه لو كانت الأوامر خاليةً من التكليف والمشقة لعريت عن الابتلاء، ولاستوى المطيع والعاصي؛ لأنه لا يظهر فرق بين المطيع والعاصي إلا بوجود الابتلاء، ولذلك قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ [الملك:2] أي: ليختبركم. وهذا يدل على أن تكاليف الشرع فيها ابتلاء، ومن الأدلة على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره)، والمكاره: ما يكون في التكاليف سواءٌ أكانت أوامر أم نواهي، فإن كانت أوامر فالمشقة في تحصيلها، وإن كانت نواهي فالمشقة في تركها والاجتناب عنها.

    والتكليف ينقسم إلى قسمين: إما تكليفٌ بمشقةٍ مقدور عليها، وإما تكليفٌ بمشقة غير مقدورٍ عليها، كان التكليف يتضمن مشقةً غير مقدور عليها فهذا لا يكلف به ولا يرد به التكليف؛ لأن النص في الكتاب دلّ على أنه لا يكلف بما فيه مشقة؛ لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وقوله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] ، وقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)، فدلّ هذا على أن تكاليف الشرع ليس فيها مشقةٌ غير مقدور عليها.

    وإن كان التكليف بالمشقة المقدور عليها، فهذه يكلف بها، ولكن هناك ضوابط عند العلماء؛ إذ قد يخفف على الإنسان، كالحال في مشقة الصوم في السفر، فأنت تقدر على الصوم في السفر ولكن بمشقة فيها حرج، فخيّرك الله عز وجل بين أن تصوم وبين أن تفطر.

    والتكليف يكون بالأمر والنهي.

    والتكلف في قوله: (على مسلمٍ مكلف) يتضمن شرطين، وقيل ثلاثة شروط: الشرط الأول: العقل، والشرط الثاني: البلوغ، كما قيل:

    وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل

    فلا بد في التكليف أن يكون هناك عقلٌ، وأن يكون هناك بلوغ، فلا تكليف على مجنون، ولا على صبيّ دون البلوغ.

    وقال بعض العلماء: يضاف إليهما أمرٌ ثالث وهو الاختيار وعدم وجود الإكراه. لكن هذا في مسائل مخصوصة، فقد يسقط التكليف لعدم وجود الاختيار كما في المنهيات، فلو أن إنساناً اضطر إلى حرامٍ فإنه يسقط عنه التكليف ولا يكلف، ولذلك يقتصر بعض العلماء على الشرطين الأولين في ثبوت الأهلية، ويرون أن الشرط الثالث يتقيد بأحوال مخصوصة.

    أما الدليل على أنه لا يخاطب بالصلاة غير العاقل فهو ما جاء في حديث علي عند أبي داود وأحمد في المسند بسندٍ صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رُفِع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون عن يفيق)، فدلّ على أن من كان مجنوناً لا يكلف، لقوله: (رفع القلم)، وفرّع العلماء عليه أن من شرط وجوب الصلاة أن يكون عاقلاً، وهذا بالإجماع، وأما بالنسبة لكونه بالغاً فللحديث نفسه، وأما أمره عليه الصلاة والسلام في حديث أحمد وأبي داود أن يؤمر الصبيان بالصلاة لسبع، وأن يضربوا عليها لعشر، فهذا من باب التعويد والترويض، لا من باب التكليف.

    وعند العلماء خلاف فيما إذا أمر إنسانٌ أن يأمر غيره، فهل الأمر للأول أو للثاني؟

    فعلى القول بأن الأمر للأول فإن هذا الحديث دلّ على أن لا تكليف أصلاً؛ لأن الخطاب لم يتوجه إلى صبي، وبناءً على هذا نأخذ من هذين الحديثين دليلاً على المسألتين، وهو أنه يشترط في إيجاب الصلاة البلوغ والعقل.

    وعند بعض العلماء الصّبي فيه تفصيل:

    فإذا بلغ العاشرة فإنه يؤمر بالصلاة ويلزم بها، ويعتبرونه نوع تكليف واستثناء من عموم الخطاب الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم برفع القلم عن الصّبي، حتى قال بعض العلماء: إنه يثاب ولا يعاقب لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة..) وذكر منهم الصّبي، وقال: إن حديث: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) يدل على أنه يثاب ولا يعاقب، ويبقى الثواب معلقاً على بلوغه، فإذا بلغ جرى القلم بكسب ثوابه، وهذا مذهبٌ فيه تكلّف، وهو مذهب لبعض الأصوليين، وهو رواية عن الإمام أحمد أيضاً، ولكن الصحيح أن ظاهر السنة عدم تكليفه، وأن الأمر متوجهٌ إلى الآباء من باب الترويض والتعويد، كما ثبت مثله في الصوم من أمر الصحابة أبناءهم بالصيام، كما في أثر أنس رضي الله عنه وأرضاه-، وإعطائهم اللعب والدمى من العهن يعبثون بها حتى ينشغلوا عن طلب الطعام والإخلال بصيامهم.

    قال رحمه الله: [لا حائضاً ونفساء].

    أي: لا تجب الصلاة على حائض ولا على نفساء، وقد يقال: إنها واجبة على كل مسلمٍ بالغٍ عاقل إلا أن يكون حائضاً أو نفساء.

    والمراد بالحائض والنفساء: من كانت متلبسةً بالحيض أو بالنفاس، وليس المراد به الوصف؛ لأن المرأة قد توصف بكونها حائضاً، كما تقول: تجب الصلاة على كل حائض، أي: على كل امرأة بلغت المحيض، أو يجب الستر على المرأة الحائض، والمراد: التي بلغت سن المحيض، والعرب تسمي الشيء بما يقارنه.

    فالمقصود أن قوله: (لا حائضاً) أي أن الحائض لا تجب عليها الصلاة أثناء الحيض، وللعلماء في هذه المسألة قولان:

    فبعض الأصوليين يقول: الخطاب متوجب على الحائض والنفساء، وسقط عنهما الفعل لمكان العذر في الصوم والصلاة، ثم إذا طهرتا فإنهما تقضيان صومهما، ولا تعتبران موديتين له.

    وبعضهم يقول: لا يتوجه عليهما الخطاب أصلاً إلا بعد طُهرهما، فيتوجه عليهما الخطاب بفعل الصوم دون فعل الصلاة، والفرق بين القولين في الأداء والقضاء، فإنك إذا قلت: إن الحائض والنفساء أثناء الحيض والنفاس يتوجه عليهما الخطاب فإنك تقول: تكلف الحائض والنفساء بالصلاة وسقطت عنهما بعذر، فالتكليف باقٍ أصلاً.

    إذا ثبت هذا فيصبح قوله: (لا حائض ونفساء) أي أنه لا يتوجه عليهما الخطاب، فهذا اختيار صاحب الزاد، وهو أيضاً اختيار صاحب المقنع نفسه الإمام ابن قدامة رحمة الله تعالى عليهما، وقد تكلم على هذه المسألة وبيّنها في كتابه النفيس: (روضة الناظر)، وأشار إلى مذاهب العلماء فيها من ناحية توجه الخطاب على الحائض والنفساء أو عدم توجهه عليهما.

    فإن قلنا: إنه لا يتوجه عليهما، ففي هذه الحالة بعد انتهاء أمد الحيض والنفاس يتوجه الخطاب بالصوم دون الصلاة، وهذا يعارضه حديث عائشة أنها قالت: (كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر قضاء الصلاة). فقولها: (نؤمر بقضاء الصوم) دل على أنه أثناء الحيض كان هناك خطاب وأمر، ولذلك قضي الصوم بعد الطهر. وبناءً على ذلك يقولون: الحائض والنفساء كلٌ منهما مكلف بالصوم والصلاة، وإنما سقطا لمكان العذر، كما في الشخص الذي يكون عنده عذر عن فعل الصلاة في أول الوقت، فإنه متوجه عليه الخطاب، فبعد أن يزول عذره يطالب بالفعل لوجود الإمكان.

    1.   

    من يجب عليهم قضاء الصلاة لعذر

    من زال عقله بنوم

    قال رحمه الله تعالى: [ويقضي من زال عقله بنوم].

    قوله هذا دلّ على أن النائم مكلف أثناء نومه، أي أن الخطاب متوجهٌ عليه أثناء النوم، واختلف العلماء: هل النائم والناسي والساهي والسكران مكلفون أثناء السكر والنسيان والنوم، ثم يطالبون بالفعل بعد الإفاقة، كالحال في مسألة الحائض والنفساء؟

    فقال بعض العلماء: النائم والناسي والساهي مكلفون، ولكن لا يؤاخذون وقت العذر، فإذا زال عنهم العذر فإنهم يطالبون بالفعل، وبناءً على هذا يقال: يؤمرون بالقضاء ويثبت عليهم؛ لأنه إذا تعذّر عليهم الأداء لعذرٍ فالقضاء مفرعٌ على وجود الأداء، وقالوا: إن النائم يؤمر بقضاء الصلاةِ، وهذا بالإجماع؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة له إلا ذلك)، فدل على أنه مطالبٌ بالقضاء، ودل على أن نومه وخروج الوقت عليه وهو نائم لا يوجب سقوط التكليف عنه، ولذلك يؤمر بقضاء هذه العبادة، والأصل: أن ذمته مشغولةٌ بفعل هذه العبادة حتى يدل الدليل على سقوطها، ولا دليل، فيبقى مطالباً بفعل الصلاة، فيؤمر بها بعد استيقاظه من النوم.

    لكن هنا مسألة: فقد قال بعض العلماء: من نام عن الصلاة وخرج وقتها، فإنه يؤمر بالفعل مباشرةً، وإن تأخر أثم؟

    وقال بعض العلماء: يؤمر بفعلها ما لم يدخل وقت الثانية التي بعدها، ويخرج وقت الصلاة التي هو فيها، وقالوا: يجوز له أن يؤخر.

    وتوضيح هذه المسألة ما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما الثابت في الصحيح أنه قال: (عرّس النبي صلى الله عليه وسلم وسار إلى آخر الليل، قال: فوقعنا وقعةً ألذ ما تكون على المسافر -لأنهم كانوا يسيرون في الليل في مقدمهم من غزوة تبوك رضي الله عنهم وأرضاهم- فلما صار إلى آخر الليل وقرب وقت الفجر أعياهم المسير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـبلال : اكلأ لنا الليلة -أي: يا بلال ! ارقب لنا الفجر وانتبه له، حتى إذا تبين الصبح فأيقظنا للصلاة- فنام بلال، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا إلا بحرِّ الشمس، فاستيقظ عمر وصاح في الناس، وصار يكبر، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إلى القوم قال عليه الصلاة والسلام: يا بلال: ما شأنك؟ -أي: ما الذي دعاك أن تضيع علينا الصلاة؟- فقال: يا رسول الله: أخذ بعيني الذي أخذ بعينك) أي: أنت متعب وأنا متعب، فكما نمتَ نمتُ، وهذا من لطف الصحابة رضي الله عنهم وحسن أدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: (ارتحلوا إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان. فارتحلوا عن الوادي، ثم توضأ عليه الصلاة والسلام، وتوضأ أصحابه فصلّى راتبة الفجر -كما في الصحيح في رواية أنس -، ثم أمر بلالاً فأقام فصلى الفجر) .

    فالمسافة ما بين انتقاله من الوادي إلى الوادي فيها تأخيرٌ للصلاة، ولذلك قالوا: دلّ هذا على أنه إذا استيقظ لا يؤمر بالفعل مباشرة، وأنه لو أخّر ليسير الوقت فلا حرج، وقالوا: إنَّ له أن يؤخر إلى قرب الظهر، فهذا مذهب من يقول: إنه لا يطالب بالفعل مباشرةً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخّر الصلاة فانتقل من الوادي الذي هو فيه إلى واد آخر.

    وأجاب الأولون بأن فعله صلى الله عليه وسلم عذرٌ خاصٌ بهذه الصورة أو ما في حكمها، ويبقى الأصل بتوجه الخطاب عليه بالفعل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصليها إذا ذكرها). فجعل الأمر عند الذكر، فدل على أنه مطالبٌ بالفعل فوراً، خاصةً على مذهب من يقول: إن الأمر يقتضي الفور، فهذا حاصل ما ذكره العلماء.

    والحقيقة أنَّ الأحوط أن الإنسان يبادر، ويفعل الصلاة بمجرد الاستيقاظ ما أمكنه.

    من زال عقله بإغماء

    قال رحمه الله: [أو إغماء].

    المغمى عليه إما مغمىً عليه باختياره كأن يتعاطى أمراً يفضي به إلى الإغماء، أو مغمى عليه بغير اختياره كمن به صرع أو نحو ذلك، فهذه أحوال المغمى عليه، فعمم المصنف فقال: (أو إغماء). فكل من أغمي عليه داخل في هذا العموم، والمغمى عليه للعلماء فيه قولان:

    قال بعض العلماء: كل من أغمي عليه فهو مكلف، ويبقى إلى أن يفيق فيطالب بقضاء الصلوات وقضاء الأيام التي فرض الله عليه فيها الصيام.

    والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وقال به بعض السلف رحمة الله عليهم: أنَّ المغمى عليه ليس بمكلف، وإذا زال إغماؤه لا يطالب بقضاءٍ ولا بأداء.

    وفائدة الخلاف: أن من أغمي عليه حتى فاتته الصلوات، أو أغمي عليه وفاته مع الصلاة الصيام، فعلى القول بأنه مكلف يطالب بالقضاء ولو طالت المدة، وعلى القول بأنه غير مكلف لا يطالب بالقضاء، ويقولون: إنه كالمجنون.

    والحقيقة أنّ المغمى عليه فيه شبه بالمجنون، وفيه شبهٌ بالنائم، ففيه شبهٌ بالمجنون من جهة أنه إذا أوقظ لا يستيقظ، وفيه شبهٌ بالنائم من جهة أن الأصل فيه أنه مكلف، وأن الذي يعتريه من الإغماء إنما هو أشبه بالغطاء على عقله كالغطاء الذي على النائم فليس فيه زوال العقل بالكلية، ولذلك قال بعض العلماء: هو كالنائم، وقال بعضهم: هو كالمجنون، فمن يقول: إن المغمى عليه كالمجنون لا يطالبه بقضاء الصلوات، ويقول: هو كمن جنّ وأفاق، ومن يقول: إنه كالنائم يطالبه بالقضاء، وهذه المسألة يتفرع عليها ما يسمّى بالموت السريري عند الأطباء -أعاذنا الله وإياكم منه ولطف بنا وبكم في كل حال-، فهذا الموت السريري الذي يكون الإنسان فيه عديم الحركة حتى يشاء الله عز وجل بزوال المانع عنه، إما بجلطة أو بسبب آخر يؤدي إلى تعطله، فيصبح كالنائم في سبات، فإذا كلمه الإنسان لا يعي ولا يجيب، حتى يشاء الله له الإفاقة فيستيقظ بعد شهور، وقد يستمر الإغماء إلى سنوات.

    فعلى القول بأن المغمى عليه مكلف يصبح في هذه الحالة يطالب مثل هذا بالقضاء، وعلى القول: بأنه غير مكلف لا يطالب بالقضاء.

    وعند النظر في المسألة من جهة الأصول يترجح القول الذي يقول: إنه كالنائم، والشبه فيه بالنائم أقوى من الشبه بالمجنون؛ فإن الإغماء لا يؤثر في عقل الإنسان من جهة الزوال، ولكنه أشبه بالنائم من جهة السبات والخدر، والنائم حقيقته أنه مخدر، أي: لا يستطيع أن يتكلم ولا يفهم الكلام، فالمغمى عليه أقرب إلى النائم منه إلى المجنون، والقاعدة عندنا في الأصول: (إذا تعارض القولان ينظر إلى أقربهما شبهاً بالأصل).

    فنحن نسلّم أن المغمى عليه فيه وجه شبه بالمجنون، وفيه وجه شبه بالنائم، فانظر رحمك الله أيهما أقرب إلى الأصل، فإذا نظرت إلى أن الأصل وجوب الصلاة عليه وتكليفه احتطت للشارع، وقلت: هو مكلف وأنا أشك في عذره هل يسقط التكليف أو لا، فيبقى على الأصل من كونه مكلفاً، وإن جئت تنظر إلى الأصل الآخر الذي يغلب فيه جانب الجنون فالأصل براءة الذمة.

    وعند النظر إلى الأصلين نجد أن أصل التكليف ألصق من أصل براءة الذمة؛ لأن توجه الخطاب عليه في الأصل قد ثبت، وأصل براءة الذمة إنما يقوى في المسائل التي لم يتوجه فيها خطاب، أي: لم يوجد فيها أصل يوجب توجه الخطاب، ولذلك يقوى قول من يقول: إنه يطالب بالقضاء. لكن السؤال هنا: لو قلنا: إنه يطالب بالقضاء فأغمي عليه شهرين أو ثلاثة أو أربعة، فكيف يقضي؟

    قالوا: إن طالت المدة رتب الصلوات، فكل صلاةٍ مع فرضها، فلو كانت أربعة أشهر فإنه يبدأ من حين إفاقته، ويصلي كل فرض مع فرضه، ويبدأ بالمقضي أولاً ثم بالمؤداة، حتى تتم له أربعة أشهر بهذه الحالة.

    أما لو أغمي عليه ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو خمسة أيام فإن هذا يطالب بالقضاء مباشرةً.

    وإسقاط التكليف عنه لمكان المشقة -كما يقوله بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه ليس بصحيح، فإنهم يسلمون أنه يطالب بالقضاء ثم يقولون: إن طالت المدة سقطت عنه. وهذا غير صحيح؛ لأن مشقة القضاء يمكن اغتفارها بمطالبته بتسلسل الأوقات بالفرض مع نظيره، وهذا أقوى، واعتبار الأصل فيه أبلغ من اعتبار براءة الذمة الذي سبقت الإشارة إليه.

    من زال عقله بسكر

    قال رحمه الله تعالى: [أو سكرٍ أو نحوه].

    السكر قد يكون بسببٍ مباح أو بسبب غير مباح، فالسكر بسبب مباح كأن يشرب خمراً يظنها ماءً، فهذا معذور، أو أكره على شرب الخمر عند من يرى أن الإكراه مسقط للتكليف، فهذا معذور، أو أعطي (البنج) لإجراء عملية جراحية فزال عقله، فهذا السكر يعذر العلماء صاحبه، ويخصونه بأحكام في مسائل العبادات والمعاملات.

    وأما السكر المحرم فالمراد به ما يزيل العقل سواءٌ أكان شراباً أم كان جامداً، وسواءٌ كان قديماً أم حديثاً، كما يوجد الآن في بعض المركبات كالمخدرات ونحوها، فكل ذلك يأخذ حكم السكر في باب الفقه.

    فإذا ثبت أن السكر يؤثر فإن السكران غير مكلف بالصلاة أثناء سكره، ويطالب بقضائها بعد الإفاقة؛ لأن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، فدل على أنه أثناء السكر لا يطالب بالصلاة، وبناءً على ذلك فإذا أفاق فإنه يخاطب بفعلها، ويكون فعله لها قضاءً لا أداءً.

    وقوله: [أو نحوه].

    أو نحو السكر، كمثل ما يقع في بعض المخدرات والمركبات التي تكون في حكم السكر.

    1.   

    من تصح منه الصلاة ومن لا تصح منه

    قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح من مجنون ولا كافر].

    أي: ولا تصح الصلاة من مجنونٍ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة) ، والصحة تستلزم وجود أو ثبوت الثواب، إلا على القول في الصبي في حده وصلاته.

    وقوله: [ولا كافر].

    أي: ولا تصح الصلاة من كافر؛ لأنه مخاطبٌ بالأصل، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يؤمر بالصلاة وتصح منه بعد الشهادتين، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يرتب الصلاة على وجود الشهادتين يدل على أن الكافر لا تصح منه الصلاة قبل الشهادتين؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم...) الحديث، فدل على أن توجه الخطاب عليهم بالصلاة وصحتها منهم متوقفٌ على تحصيل الأصل وهو الشهادتان، فقد قال تعالى في الكفار: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، فدل على أن الكافر لا تصح منه قربةٌ ولا طاعة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعجل للكافر دنياه بحسناته، حتى إذا وافى الله يوم القيامة وافاه وليست له حسنة واحدة)، فلذلك لا تصح منه صلاته ولا تقبل منه عبادته.

    قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى فمسلم حكماً].

    قوله: (فإن صلى) أي: هذا الكافر في الظاهر، وقوله: (فمسلم حكماً) يشير به إلى أنَّ عند العلماء ما يسمونه القضاء وما يسمونه الديانة، والقضاء يعبرون عنه أحياناً بقولهم: (حكماً)؛ لأنه يتصل بحكم الحاكم وهو القاضي، وهذا ينبغي أن يتنبه له طلاب العلم، فالشريعة رتبت الأحكام على الظاهر، ولم ترتبها على السرائر في حكم القضاء، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكلْ سرائرهم إلى الله)، والسبب في ذلك أنه لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقة الشيء من الإنسان سواءٌ أكان في عبادةٍ أم معاملة، فلا يستطيع أن يعلم قصده ولا نيته، ولذلك أُمِر من زكى إنساناً أن يقول: أحسبه والله حسيبه. ولا يمكن أن تنكشف حقيقة الإنسان أو ينجلي صلاحه من عدمه إلا في يومٍ يبعثر فيه ما في القبور، ويحصل فيه ما في الصدور، وهذا هو الفصل في معرفة حقائق الناس، فلما كانت معرفة حقائق الناس متعذرة بالاطلاع على قلوبهم أخذ بالظاهر، فأحكام الشريعة مبنية على الظاهر، فلو أن إنساناً جاء وصلى مع الناس، وفعل الصلاة في الظاهر، فليس لأحدٍ أن يقول: هذا منافق؛ لأنه يحتاج إلى أن يطلع إلى حقيقة قلبه، ما لم تظهر منه أفعال المنافقين التي تدل على نفاقه، والأصل فيها أنه يحكم على ظاهره، وتوكل سريرته إلى الله عز وجل.

    فمن دخل المسجد وصلى مع المسلمين، واستقبل قبلتهم، وصلّى صلاتهم، وتأثر بكلامهم في ظاهره فهذا من المسلمين، وحكمه حكم المسلمين، والحقيقة ترد إلى الله سبحانه وتعالى.

    فعندنا شيء في الظاهر، وعندنا شيء في الباطن، فإن قالوا: (مسلمٌ حكماً) أي: في الظاهر، وأما حقيقته فأمرها إلى الله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي معه المنافقون وهو يعلم أنهم منافقون، والقرآن ينزل عليه، وسمى المنافقين لـحذيفة بن اليمان ، وقال عمر لـحذيفة : (أناشدك الله: أكنتُ فيمن سمى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً)، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يعرفون المنافق من المسلم إذا رأوا حذيفة يصلي على الرجل، فإذا رأوا حذيفة يصلي على الرجل علموا أنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رأوا حذيفة اعتزل جنازة علموا أنه منافق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه من خبره شيئاً.

    فالذي ينبغي على الحاكم أن يحكم على الظاهر، وهذا هو الأصل، لظاهر حديث مسلم الذي ذكرنا: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، وأما النيات والمقاصد فأمرها إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن قد توجد قرائن تدل على المقصد فيغلب على الظن، فهذا أمر آخر يحكم به في مسائل في القضاء.

    ومن أمثلة الديانة والحكم أو القضاء: لو أن إنساناً قال لامرأته: أنتِ طالق، ولم يدر في خلده أن يطلقها، وإنما كان قصده: أنت طالق من الوثاق، أي: أنك غير مربوطة، فإذا رفع إلى القضاء حكم بكونه مطلقاً زوجته، ولكن بينه وبين الله لا تطلق عليه زوجته؛ لأن لفظ الطلاق في قوله: (أنت طالق) لا يقع ديانةً؛ لأنه لم يقصد الطلاق فيه أصلاً، وبناءً على ذلك قالوا: ينفذ الطلاق حكماً -أي: في ظاهر الأحكام- لا ديانةً.

    ولها نظائر أيضاً في المعاملات، فإن الإنسان قد يتلفظ بلفظٍ يكون فيه احتمال غالب يؤخذ بظاهره، وإن كان قصده أمراً آخر.

    لكن لو كان الأمر محتملاً لمعنيين على السواء فلا بد فيه من سؤاله عن قصده ونيته، فتجد الفقهاء يقولون: (ينوّى) أي: يسأل عن نيته، فلو قال لفظاً يحتمل الطلاق، ثم رفع إلى القاضي، فقال له القاضي: ما الذي نويت في هذا اللفظ المتردد بين المعنيين؟ قال: نويت المعنى الذي لا طلاق فيه، وحلّفه القاضي فحلف، فحينئذٍ يحكم بكون الطلقة غير واقعة قضاءً، ولكن ديانةً بينه وبين الله قد طلقت عليه زوجته.

    ولو أن إنساناً ادعى مال إنسان أو اغتصب أرضه، وليس عند الشخص الذي أخذت منه الأرض الدليل، فإنه إذا حكم القاضي بكون الأرض للغاصب دون المغصوب منه بناءً على اليد ففي الباطن لا يحل له من ذلك المال شيءً، فالمال ماله قضاءً لا ديانةً.

    فهنا يقول المصنف رحمه الله: (فإن صلى) أي: هذا الكافر الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فدخل المسجد وصلى مع المسلمين (فمسلمٌ حكماً) أي: أعطه حكم المسلمين بناءً على ظاهره، وأما سريرته فتوكل إلى الله عز وجل.

    1.   

    متى يؤمر الصبي بالصلاة ويضرب عليها

    قال رحمه الله تعالى: [ويؤمر بها صغير لسبع، ويضرب عليها لعشر].

    هذا هو ظاهر السنة للحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) فاشتمل هذا الحديث على ثلاثة أحكام:

    أولها: أمرهم بالصلاة لسبع، ولا يضربون إذا تركوها ولم يصلوا، والثاني: إذا بلغوا العاشرة يؤمرون بالصلاة ويضربون عليها إن لم يصلوا.

    والثالث: التفريق بين الذكر والأنثى في المضجع، وكلام المصنف موافق لظاهر السنة.

    وقوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) للعلماء وجهان في قوله: (لسبع) وقوله: (لعشر):

    قال بعض العلماء: يؤمر في السبع عند ابتدائها، ويؤمر بالضرب إن عصى في العشر عند ابتدائها.

    وقال بعضهم: يؤمر في السبع عند تمامها، ويؤمر ويضرب إن عصى في العشر عند تمامها.

    والفرق بين القولين أنه على القول بأنه يؤمر بالسبع عند ابتدائها يؤمر بعد السادسة ودخوله في أول السابعة، فلو بلغ ست سنوات يؤمر في اليوم الذي هو زائدٌ على الست؛ لأنه بهذا اليوم قد دخل في السابعة، وهكذا في العشر تضربه إذا بلغ تسعاً وزاد يوماً واحداً، فبدخوله اليوم الواحد يدخل في العشر.

    وعلى القول الثاني إنما يؤمر بعد تمام السبع أو يؤمر ويضرب إن عصى بعد تمام العشر، وهذا أقوى؛ لأن الأصل عدم أمره وعدم ضربه؛ لأنه غير مكلف في الأصل، فإذا شككنا فهذا ينبني على مسألة أصولية عند العلماء أو قاعدة فقهية لطيفة وهي: (هل العبرة بالابتداء، أو بالتمام والكمال)؟

    فإن قلت: العبرة بالابتداء تقول: لأول يومٍ من السبع ولأول يومٍ من العشر، وإن قلت: العبرة بالتمام والكمال تقول: إذا تمت له السبع أو تمت له العشر.

    قال رحمه الله تعالى: [فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها أعاد].

    أي: إذا بلغ الصبي أثناء فعله للصلاة، كما لو أن صبياً دخل في الصلاة وأحرم بها الصلاة وهو غير بالغ، ثم بلغ وهو في أثناء وقت الصلاة، زالت الشمس وليست عليه أمارة بلوغه، ثم لما مضت ساعة أو ساعتان احتلم، فباحتلامه دخل في التكليف، فيؤمر بفعل الصلاة وإن كان عند دخول الوقت غير مكلف بها، وهكذا بالنسبة للمرأة الحائض والنفساء، فإنها لو طهرت قبل انتهاء الوقت ولو بركعة واحدة فإنها تؤمر بفعل الصلاة، وهذا مبنيٌ على حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) فدل على أن إدراك الوقت ولو بركعة واحدة يوجب الحكم والمطالبة بالفعل.

    فلو أن هذا الصبي صلى صلاة الظهر وهو صبي، ثم نام واحتلم قبل دخول وقت العصر، فحينئذٍ تأكدنا بلوغه بعد الاحتلام، فتكون صلاته الأولى غير مجزية، ويطالب بأداء الصلاة في وقتها؛ لأن الخطاب توجه عليه بعد البلوغ والاحتلام.

    1.   

    حرمة تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر

    قال رحمه الله تعالى: [ويحرم تأخيرها عن وقتها].

    قوله: (ويحرم) أي: يأثم من فعل ذلك، أعني التأخير عن وقتها، ووقت الصلاة سيأتي إن شاء الله في باب المواقيت، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يخصون المواقيت في باب مستقل، ويذكرون فيه مواقيت الصلوات الخمس.

    وإذا أخّر المكلف الصلاة عن وقتها فإما أن يكون معذوراً أو غير معذور، فالمصنف رحمه الله يقول: (ويحرم تأخيرها عن وقتها) أي: لا يجوز للإنسان أن يؤخرها عن وقتها، فإن كان هناك عذرٌ يسقط التكليف عنه -كما تقدم في النائم والمغمى عليه- فهذا لا إشكال فيه، وإن كان بعناء ومشقة لا يعذر بها كالقتال ونحوه، فإنه يطالب ولو كان على حال المقاتل، ودليل ذلك آية النساء، أعني آية المسايفة في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، فأمر الله عز وجل بالصلاة ولو حال القتال، فدل على أن الصلاة لا تسقط بحال، وإن كان بعض الفقهاء رحمة الله عليهم -وهو مذهب بعض السلف- يجوز للإنسان إذا عظم عليه الخوف أن يؤخر الصلاة، واستدل بذلك لبعض الآثار عن الصحابة.

    والصحيح والأقوى أنه يصلي على حاله؛ لأن الله قال: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239] وعمم في الخوف، فدلّ على أن الأصل مطالبته بالفعل، ولذلك يبقى مكلفاً ولو دفن؛ لأن الله لا يكلف الإنسان إلا ما في وسعه، فيقاتل ولو كان راكباً ولو كان ماشياً، كما يقع الآن في الحالات الشديدة التي تقع في القتال فإنه يصلي على حاله، ولو كان على جهاز، ولو كان على آلة أو على دبابة فليصل على حاله، وهذا من سماحة الإسلام، ومن عظم شأن الصلاة؛ لأنه لا يأمن الإنسان أن يقتل أو تزهق روحه، ولذلك يبرئ ذمته ويصلي على قدر استطاعته فيلقى الله عز وجل وقد أدى هذه الصلاة، ولا تسقط في شدة الخوف ولا بشدة ذهول، بناءً على الأصل من كونه مطالباً بفعلها مأموراً بأدائها.

    1.   

    حالات جواز تأخير الصلاة عن وقتها

    من نوى الجمع في السفر

    قال رحمه الله تعالى: [إلا لناوي الجمع].

    هذا استثناء، والاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فلما ذكر أن الأصل أنه مطالب استثني من ذلك من نوى الجمع، وصورة ذلك: لو أذّن عليك أذان الظهر وأنت في السفر فقلت: أؤخر الظهر إلى وقت العصر، جاز لك أن يخرج عليك وقت الظهر وأنت لم تصلها؛ لكونك معذوراً بنية الجمع، وهكذا لو أذن عليك أذان المغرب وأردت أن تجمع مع العشاء فلا حرج عليك، وبناءً على ذلك يعتبر هذا مستثنىً مما ذكرناه؛ لأن الجمع بين الصلاتين رخصة من رخص السفر فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هديه في ذلك ثابتاً عنه عليه الصلاة والسلام.

    من اشتغل بشرط الصلاة عنها

    قال رحمه الله تعالى: [ولمشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً].

    مثال ذلك: شخص قام قبل طلوع الشمس بوقت يسير يريد أن يتوضأ فيه أو يغتسل من الجنابة، فقد قال بعض العلماء: يتيمم ويصلي، وقال بعضهم: يغتسل ويتوضأ ولو خرج الوقت، وعلى هذا القول الثاني درج المصنف، فهذه الحالة تستثنى من المنع من تأخير الصلاة إلى خروج الوقت، قالوا: يرخص لشخصين: أحدهما: من نوى الجمع، والثاني: من اشتغل بتحصيل شرط الصلاة، فإن الطهارة من الحدث من شروط صحة الصلاة، فلو أراد أن يسخن الماء، أو أراد أن يغتسل وليس عنده إلا قدر ما يصلي، فإنه يغتسل ولو خرج الوقت، وهو في حكم المصلي لاشتغاله بشرط صحة صلاته.

    1.   

    حكم جاحد وجوب الصلاة وتاركها تهاوناً

    قال رحمه الله تعالى: [ومن جحد وجوبها كفر].

    من جحد وجوب الصلاة كفر إجماعاً؛ لأن الله أمر بها في كتابه، وإذا قال هو: ليست بواجبة: فإنه يكفر، ودليل كفره: أنه كذّب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كذّب الله ورسوله فقد كفر، فالله عز وجل يقول: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، وهو يقول: لا تقيموا الصلاة، وليست بواجبة.

    لأن قول الله: (أقيموا) أمرٌ تضمن الوجوب والإلزام، وهو يكذّب الله فيقول: ليست بواجبة -والعياذ بالله-، ولذلك قال العلماء: من استحل ما حرم الله في كتابه وعلم بتحريمه سبحانه لذلك فإنه يكفر، فلو قال: الزنا حلال لا شيء فيه، أو: شُرْبُ الخمر حلال لا شيء فيه -والعياذ بالله- كفر؛ لأنه يستحل ما حرم الله، ويكون مكذّباً لله عز وجل بالاستحلال.

    وكذلك رد الواجبات، بشرط أن يكون على علمٍ بوجوبها، أي: أن تقام عليه الحجة، ومفهوم هذا الشرط أن يكون جاهلاً، فلو أن إنساناً -كما مثل العلماء- في بادية ولا يعلم بشرائع الإسلام قيل له: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما أسلم جاءه رجل وقال له: صلّ، قال: ليس هناك صلاة! لكونه جاهلاً لا يعلم، فهذا لا يكفّر، وهي من المسائل التي يعذر فيها بالجهل الذي يدل على عدم وجود التكذيب؛ لأن الأصل في الحكم بكفره تكذيبه لله، ولذلك قالوا: شرطه أن يكون عالماً حتى يوجد فيه السبب الموجب للكفر، وقد تكلم في هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام عند كلامه على مرتكب الكبيرة عند اعتقاده لكونها كبيرة أو عدم اعتقاده لكونها كبيرة، فليرجع إليه.

    قال رحمه الله تعالى: [وكذا تاركها تهاوناً].

    من ترك الصلاة تهاوناً كفر، ولكن للعلماء تفصيلٌ في كفره:

    فمنهم من يقول: يكفر مطلقاً.

    ومنهم من يقول: يكفر إذا لم يصل أبداً، بمعنىً أنه يترك الصلاة بالكلية، وهذا ظاهر النص، واختاره شيخ الإسلام رحمة الله عليه جمعاً بينه وبين حديث عبادة رضي الله عنه: (خمس صلواتٍ كتبهن الله في اليوم والليلة، فمن حفظهن وحافظ عليهن كان له عند الله عهدٌ أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له)، فإن تركها كليةً كفر، وإن صلى أحياناً وترك أحياناً لا يحكم بكفره جمعاً بين النصين، ولأن قوله: (فمن تركها) أي: ترك الصلاة، أي أنه لم يصل بالكلية، وفرقٌ بين قولك: ترك الصلاة، وبين قولك: ترك صلاةً، ولذلك اختار رحمه الله هذا، ولا شك أنه يوفق بين النصوص ويجمع بينها.

    قال رحمه الله تعالى: [وكذا تاركها تهاوناً، ودعاه إمامه أو نائبه فأصر].

    هذا شرط عند من يقول: إن تارك الصلاة تهاوناً يكفّر. قالوا: بشرط أن يدعوه الإمام، وظاهر النصوص ليس فيها هذا الشرط، ولذلك اختار جمعٌ من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه عدم اشتراط دعوة الإمام، وقال الذين قالوا باشتراطها: إن ذلك أبلغ في وجود العذر حتى يحكم بكونه كافراً.

    قال رحمه الله تعالى: [وضاق وقت الثانية عنها].

    أي: أن يضيق وقت الثانية عن فعلها.

    قال رحمه الله تعالى: [ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً فيهما].

    أي: أننا إذا حكمنا بكونه كافراً بترك الصلاة فإنه لا ينفذ عليه حد القتل إلا إذا استتيب ثلاثاً، فجمهور العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة على أن تارك الصلاة يُدعى إليها ثلاثاً ثم يقتل إذا أبى، وقرر شيخ الإسلام رحمه الله أنه إذا دُعي إليها ثلاثة أيام وهو يصر على تركها أنه كافرٌ بإجماع المسلمين؛ لأنه إذا قيل له: صلّ، وهو يقول: لا أصلي. ثلاثة أيامٍ، فإنه في هذه الحالة لا يحكم بكونه مسلماً، وقال: إنه في حكم من جحد، ويحكي الإجماع على ذلك في غير ما موضع من المجموع.

    فبعض العلماء على أنه يستتاب ثلاثاً، وهذا مبني على مسألة استتابة المرتد، واستتابة المرتد فيها قولان للعلماء رحمة الله عليهم:

    فمنهم من يوجب الاستتابة لأثر عمر رضي الله عنه، ولا مخالف له، وقد أمرنا بالأخذ بسنن الخلفاء الراشدين، وأثر عمر : هو (أن أبا موسى رضي الله عنه قدم عليه فقال له عمر : هل من مغربة خبر؟ -أي: هل هناك خبرٌ غريب- قال: نعم يا أمير المؤمنين! رجلٌ ترك دين الإسلام ورجع إلى النصرانية أو اليهودية، فتهود أو تنصر فقتلناه، فقال عمر رضي الله عنه: هلا أطعمتموه وسقيتموه ثلاثاً؟!! اللهم إني أبرأ إليك لم أشهد ولم آمر، اللهم إني أبرأ إليك لم أشهد ولم آمر)، فبرئ رضي الله عنه من فعلهم، قالوا: ولا يبرأ إلا بضياع واجب أو ارتكاب محرم.

    فقوله: (هلا أطعمتموه وسقيتموه ثلاثاً) دل عند من يقول بوجوب الاستتابة ثلاثاً على وجوبها.

    والذين يقولون بعدم الوجوب استدلوا بما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة وجدت مقتولةً ليلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: أحرّج على رجل يعلم من خبر هذه إلا أخبرنا، فقام زوجها وهو أعمى وقال: يا رسول الله! إنها كانت تسبك وتشتمك وتسمعني فيك ما أكره، فما هو إلا أن عديت عليها البارحة بمعولي فقتلتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا أن دمها هدر) قالوا: هذا يدل على عدم وجوب الاستتابة، فإن الرجل قتلها مباشرة دون أن يستتيبها.

    واستدلوا بحديث ابن عباس الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، فأمر بالقتل بوجود الشرط وهو تبديل الدين، فدل على عدم وجود وصفٍ زائد وهو الاستتابة.

    وبعض العلماء -وهو رواية عن الإمام أحمد - يجمع بين القولين فيقول: إن الكفر والارتداد يكون على أحوال: فتارة يحكم فيها بالكفر مطلقاً ويتفق فيها دلالة الظاهر والباطن كمن يستهزئ بالإسلام والدين، فهذا كفره لا شبهة فيه، بخلاف من يكون كفره دون ذلك أو ارتداده دون ذلك لشبهة أو نحوها فإنه يستتاب حتى يعذر إليه، وهذا جمعٌ لطيف لا شك أن فيه جمعاً بين الأخبار والنصوص، وسنفصل هذه المسألة أكثر إن شاء الله في باب الردة وأحكامها.

    وعند الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه وأصحابه أن من ترك الصلاة يسجن إلى أن يموت أو يصلي.

    والجمهور على أنه يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755956959