إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب مسح الخفينللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من رحمة الله تعالى بعباده أن خفف عنهم في عباداتهم ومعاملاتهم، فكان من صور هذا التخفيف أن رخص لهم في المسح على الخفين وما في حكمهما عوضاً عن غسل الرجلين دفعاً للمشقة، ويشبه هذا المسح على العمائم، والمسح على الجبائر، والمسح على الخمر للنساء، وكل هذا مضبوط في الشرع بأحكام وضوابط.

    1.   

    مشروعية المسح على الخفين

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب مسح الخفين]

    تقدم في مباحث الوضوء: أن المسح: هو إمرار اليد على الشيء، تقول: مسحتُ الكتاب، إذا أمررتَ يدك عليه، ومسحتُ برأس اليتيم، إذا أمررت يدك عليه.

    وقوله رحمه الله: (باب مسح الخفين) الخفان: مثنى خُف، وهو النعل من الجلد أو الأدم الذي يكون للقدم.

    والأصل فيه في الشرع أن يكون ساتراً لموضع الفرض، وذلك من أطراف الأصابع إلى الكعبين، وهما داخلان.

    كأنه يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة برخصة المسح على الخفين.

    أما مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله: فقد تكلم المصنف رحمه الله على صفة الوضوء الشرعية، فلما فرغ من بيانها وذِكْرِ المواضع التي أمر الله عز وجل بغسلها أو مسحها ناسب أن يذكر ما يتعلق بآخر عضو من أعضاء الوضوء وهما الرجلان؛ حيث رخَّص الله جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمسح المكلفُ على ساترٍ مخصوصٍ لهما، فناسب بعد الفراغ من باب الوضوء أن يذكر باب المسح على الخفين؛ لأنه متعلق بآخر فرض من فرائض الوضوء وهو غَسل الرجلين.

    والمسح على الخفين رخصة من رخص الشرع، وهذه الرخصة ثبتت مشروعيتها بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى بلغت مبلغ التواتر.

    قال الإمام أحمد رحمه الله: فيه -أي: في المسح على الخفين- أربعون حديثاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقال بعض العلماء: إنها بلغت سبعين حديثاً.

    ولذلك قال بعض الفضلاء -يشير إلى أن المسح على الخفين مما تواترت النصوص بالدلالة على جوازه- عن الحديث المشهور:

    ثم من المشهور ما تواترا وهو ما يرويه جمع حُظِرا

    كَذِبُهم عُرْفاً كمسح الخُفِّ رفعُ اليدين عادمٌ للخُلْفِ

    وقد روى حديثه مَن كتبا أكثر من ستين ممن صَحِبا

    أي: أكثر من ستين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم روَوا هاتين الحادثتين عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:

    الأولى: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، ففيها أكثر من ستين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    الثانية: المسح على الخفين.

    والأحاديث التي وردت في المسح على الخفين:

    منها ما هو قولي.

    ومنها ما هو فعلي، أي: ما يدل على فعل النبي صلى الله عليه وسلم إياه.

    ولذلك لا إشكال في مشروعيته.

    وكان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- عندهم خلاف في الصدر الأول.

    وقال بعض العلماء ومنهم الحافظ ابن عبد البر : لا يوجد صحابي ينكر المسح إلا رُوي عنه عكسُه، أي: إثبات المسح، ولذلك اتفقت الكلمة على مشروعية هذه الرخصة.

    وأُثِر عن بعض السلف من العلماء أنه خصها بالسفر؛ لكنه قال بأصلها، وهو إحدى الروايات الثلاث عن الإمام مالك رحمة الله عليه.

    وسنبين أن الصحيح: أنها رخصة لا تختص بالسفر؛ لحديث حذيفة في الحَضَر، وهو حديث في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بال عند سُباطة قوم قال: فصببتُ عليه الوضوء، فتوضأ ومسح على خفيه) وذلك في الحضر.

    المسح على الخفين

    فالمسح على الخفين ثابت، وثبوته اعتبره السلف ومَن بعدهم، حتى كان بعض العلماء يُدْخل في عقيدة أهل السنة والجماعة القول بمشروعية المسح على الخفين، مبالغةً في الرد على أهل البدع والأهواء الذين لا يقولون بمشروعيته، فكانوا يُدْخلونه من جملة العقائد، فيقولون: ونرى المسح على الخفين؛ والسبب في ذلك أنه ثبت بالتواتر، فأصبح من الأمور التي ثبتت مشروعيتها بدليل القطع، وما ثبتت مشروعيته بدليل القطع وأنكره مَن اعتقد قطعه فقد كفر، -والعياذ بالله- لأنه يكذب الشريعة، وكل قطعي ثابت في الشريعة -في الكتاب أو في السُّنة- فإن إنكاره لمن اعتبر قطعيته وثبوته يُعتبر إنكاراً وتكذيباً للشرع، فيكفر بذلك كما هو مقرر في العقيدة.

    فبالغ العلماء رحمة الله عليهم في إثبات هذه السُّنة، والرد على أهل البدع والأهواء الذين لا يرونها.

    والمسح على الخفين ثابت في الحَضَر وثابت في السفر، فالإنسان يُرَخَّص له إذا كان في حَضَر أو كان في سفر أن يمسح على خفيه، ما دام لابساً لهما، وذلك على صورة مخصوصة، سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

    وهذا المسح يعتبر رخصةً غير لازمة، أي: من الرخص غير الواجبة، وليس بلازم على الإنسان أن يمسح على خفيه.

    واختلف العلماء رحمهم الله: هل الأفضل المسح أو الغسل للقدمين؟

    وهي مسألة أقوى الأقوال فيها -وهو اختيار بعض العلماء من المحققين-: أنه يختلف باختلاف حال الإنسان، فإذا كان الإنسان لابساً لخفيه فالأفضل أن يمسح وألاَّ ينزعهما؛ لأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كانت الرجلان مكشوفتين فإنه لا يتكلف لُبس الخفين من أجل أن يمسح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف لبس الخفين، وإنما كان عليه الصلاة والسلام إن كانت رجلاه مكشوفتين غَسَلهما -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- وإن كانتا مستورتين بالخفين مَسَحَ عليهما.

    وقال بعض العلماء: الأفضل بل قد يجب على طالب العلم وعلى العالِم إن عاش بين قوم ينكرون المسح أن يلبس الخفين ويمسح عليهما لِيَرُدَّ القولَ بعدم المشروعية وهذا قول صحيح من جهة النظر، وهو يرجع إلى أصلٌ معتبرٌ عند العلماء: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن توقف إحياء السنن على إظهارها وإعلانها لزم أهلَ السُّنة أن يُظهِروها وأن يعلنوها إحياءً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وبياناً لسنن الشرع، ولا يمكن لسَنَنِ الشرع أن يقوم أوْدُه وينتصب عمودُه إلا بالإحياء والدلالة قولاً وعملاً، مهما كان في ذلك من الكَلَفة على الإنسان.

    1.   

    بعض أحكام المسح على الخفين

    يقول رحمه الله: (باب مسح الخفين) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة بالمسح:

    أولاً: مشروعيته؛ أنه مشروع أو غير مشروع.

    ثانياً: هل مشروعيته على سبيل اللزوم أو غير اللزوم؟

    ثالثاً: متى يمسح الإنسان على خفيه؟

    رابعاً: ما هي شروط المسح على الخفين؟

    خامساً: ما هما الخفان المعتبران للمسح؟

    سادساً: ما هي صفة المسح؟ هل لِأَعلى الخف ولِأَسفله، أو لِلْأَعلى دون الأسفل، أو لِلْأَسفل دون الأعلى؟

    سابعاً: ما هي مواقيت المسح على الخفين؟ وما حكم الصور التي يختلف فيها حال الإنسان في تلك المواقيت؟

    هذا بالنسبة لما يتعلق بمبحث المسح على الخفين.

    ثم من عادة الفقهاء -رحمة الله عليهم- أنهم يعتنون بذكر حكم النظير مع نظيره، فيُدخلون المسح على العمامة -إذا قالوا بمشروعيتها- في باب المسح على الخفين، فيذكرون أحكام المسح على العمامة، ويُتْبِعُونها بأحكام المسح على الجبائر والعصائب، وقد يُتْبِعُونها كذلك بالمسح على الخُمُر بالنسبة للنساء على القول بمشروعيتها.

    وكل ذلك سيبيِّنه المصنف -رحمة الله عليه- في هذا المبحث.

    مدة المسح على الخفين

    قال رحمه الله: [يجوز يوماً وليلةً لمقيمٍ]

    (يجوز) أي: المسح على الخفين جائز، ولما قال: جائز، فهمنا منه أنه مشروع، وأن مشروعيته ليست بإلزام للمكلف، أي: أنه لا يجب على الإنسان أن يمسح على الخفين، وإنما ذلك مباح له وجائز، فإن ترتبت مصالح من قصد إحياء السُّنة ودلالة الناس عليها فإنه يُثاب ويعتبر مندوباً في حقه، وقد يصل إلى الوجوب على التفصيل الذي ذكرناه.

    ومن عادة العلماء أنهم إذا بوَّبوا باباً أو ذكروا أمراً ما متعلقاً بالعبادة أو بالمعاملة، فإنهم يتكلمون أولاً على موقف الشرع من هذا الشيء، ثم يفصلون بعد ذلك في جوازه؛ هل هو على سبيل الإطلاق أو على سبيل التقييد؟

    فقال رحمه الله: (يجوز) أي: المسح على الخفين.

    (يجوز يوماً وليلةً لمقيم)

    الإقامة ضد السفر، وتتحقق الإقامة حقيقةً إذا كان الإنسان في موضعه الذي هو نازلٌ فيه، سواءً كان في باديةٍ أو حاضِرة، وتتحقق الإقامة أيضاً حكماً، وهي الإقامة الحكمية، كأن يكون الإنسان ناوياً أن يمكث في بلد أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمهاجرين أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام.

    ووجه الدلالة من هذا الحديث: أنه أجاز لهم أن يبقوا بمكة مع أنهم هاجروا منها.

    والإجماع منعقد على أن من ترك أرضاً مهاجراً منها فإنه لا يجوز له أن يرجع إليها وأن يسكن فيها؛ لأن رجوعه إليها نقض لهجرته، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ مات بمكة)، ثم قال كما في صحيح مسلم: (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم) فدل هذا على أن المهاجر لا يبقى بموضعه، فلما أجاز لهم البقاء ثلاثة أيام فهِمْنا أن من مكث في موضع ثلاثة أيام فإنه لا يأخذ حكم أهله، ودل على أنهم في اليوم الرابع يُعتَبَرون في حكم المقيم.

    وعلى هذا يُعْتَبَر الناس على ثلاثة أصناف:

    مسافر.

    مقيم.

    في حكم المقيم.

    وأخذ العلماء من هذا الحديث أصلاً في تحديد مدة السفر بأربعة أيام غير يومي الدخول والخروج، ولا يُشْكِل على هذا الحكم قصة تبوك، حيث قصر عليه الصلاة والسلام للصلاة سبعة عشر يوماً أو واحداً وعشرين يوماً، فإن ذلك لعدم علمه بالمدة التي سيبقاها في ذلك الموضع.

    وقال بعض العلماء: بل هو عالِم، وهذا محل نظر، فإن المقرر عند العلماء في شرحهم لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غير عالِم، وهذا صحيح؛ لأنه نزل على تخوم الشام لأجل أن الروم أعدت له، فلا يدري أهم قادمون أو غير قادمين؟ وقد بَعَثَ العيون لتأتيه بأخبارهم، فلا يدري أهم قريبون أم بعيدون؟ فقول العلماء رحمة الله عليهم عند بيانهم للحديث: إنه غير عالِم بمدة إقامته بتبوك صحيح، من جهة سياق الحديث ودلالته.

    وكذلك أيضاً ما ورد عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أنهم مكثوا يقصُرون الصلاة مدة طويلة، كـأنس في فتح أذربيجان، فقد مكث ستة أشهر، وكانوا على الرباط الذي لا يُدرَى متى ينتهي وينقضي.

    فالمقصود أنه إذا أقام الإنسان إقامةً حُكْمية أو إقامةً حقيقية فإنه يمسح على خفيه، ويمسح إذا كان مسافراً، وأراد المصنف أن يثبت بهذا القول مشروعية المسح حَضَراً وسفراً.

    وللعلماء أقوال في هذه المسألة:

    فمنهم من يقول: المسح مختص بالسفر، وهو إحدى الروايات عن الإمام مالك رحمة الله عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح في السفر، والسفر يناسبه التخفيف، وذلك أن حديث المغيرة في إثبات المسح كان في سفره عليه الصلاة والسلام بغزوة تبوك، فقال أصحاب هذا القول: إن المسح يختص بالسفر.

    وقال الجمهور: إن المسح لا يختص بالسفر، بل يشمل السفر والحَضَر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم من حديث علي : (يمسح المسافر ثلاثة أيام، والمقيم يوماً وليلة) فدل على أنه مشروع للمسافر ومشروع للمقيم، وهذه دلالة السُّنة القولية، وقد دلت السُّنة الفعلية أيضاً على مشروعية المسح في حال الحَضَر، كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً، قال: ثم قال لي: ادنُ، فدنوتُ، ثم قال لي: ادنُ، حتى كنتُ عند عقبيه، قال: فلما فرغ صببتُ عليه وضوءه -حتى قال- ثم مَسَحَ على خُفَّيه) وهذا في الحَضَر، فدل على مشروعية المسح في الحَضَر كما هو مشروع في السفر، وفي حديث صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه في السنن قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم) فأثبت مشروعية المسح حضراً وسفراً.

    وبناءً على ذلك: يترجح قول الجمهور بأن المسح يُشرع حضراً وسفراً، وعلى هذا: فلا تتقيد رخصته بالسفر كما هو قول من يقول: إنه متقيد بالسفر؛ لأن ورود المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة من كونه مسح في السفر لا يقتضي تخصيص الحكم بالسفر؛ لثبوت الحكم الشرعي بالسنة القولية والفعلية.

    قال رحمه الله: [ولمسافرٍ ثلاثةً بلياليها]

    يجوز المسح للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن.

    وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: هل المسح على الخفين يتأقت أو لا يتأقت؟ ولذلك يُعَنْوِنون لهذه المسألة بقولهم: توقيت المسح على الخفين، ومرادهم إذا مَسَحْت على الخفين وأنت مقيم فهل أنت ملزمٌ بزمان معين أو غير ملزم؟

    - فذهب الجمهور إلى أن المسح على الخفين مؤقت، كما ورد في الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها: ثلاثةُ أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وحجتهم ما سبق من حديث علي في صحيح مسلم، وحديث صفوان بن عسال المرادي في السنن، قالوا: إنها نصت على أن المسح مؤقت.

    - القول الثاني: أن المسح على الخفين غير مؤقت، وهذا هو مذهب المالكية رحمة الله عليهم، وقد احتج المالكية على عدم التأقيت بحديث أبي بن عمارة -وكان ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم- أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسح على الخفين: (يوماً؟ قال: يوماً، قال: ويومين؟ قال: ويومين، قال: وثلاثة؟ قال: نعم، وما شئتَ) قالوا: إن هذا الحديث أصل في عدم تأقيت المسح على الخفين، فإذا لبستَ الخفين فامسح ما بدا لك، وينتهي الوقت عند نزعك للخفين، وعند أصحاب هذا القول أن المسح لا يتأقت في السفر ولا في الحَضَر، فالإنسان يمسح مدة لُبسه للخفين.

    وأصح القولين في نظري -والله أعلم-: أن المسح يتأقت:

    أولاً: لصحة دلالة السُّنة على ذلك.

    ثانياً: أن حديث أبي بن عمارة ضعيف، قال ابن معين رحمه الله: إسناده مظلم، وضعَّفه البخاري أيضاً، ولذلك لا يعارِض السُّنة الصحيحة التي أثبتت التوقيت في المسح.

    فلا بد للإنسان إذا مسح على خفيه أن يلتزم التأقيت الذي صحت به النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    العبرة في بداية توقيت المسح على الخفين

    قال رحمه الله: [مِن حَدَثٍ بعد لُبسٍ على طاهر]

    (مِن حَدَثٍٍ) (مِن) للابتداء، فتبدأ الثلاثة الأيام إذا كان الإنسان مسافراً، واليوم والليلة إذا كان الإنسان مقيماً مِن الحَدَث بعد لبسه، صورةُ ذلك: أن الإنسان إذا أراد أن يمسح على خفيه فيجب عليه أن يتوضأ وضوءه للصلاة حتى إذا فرغ من غَسل كلتا الرجلين، فإنه يُشرع له أن يلبس الخفين، فلو غسل إحدى القدمين ولم يغسل الثانية وأدخل الرجل التي غسلها في الخف لم يصح ذلك منه. والدليل على اشتراط الطهارة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن المغيرة رضي الله عنه وأرضاه أنه لَمَّا صب الوضوء على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين) ولا تتحقق الطهارة في (طاهرتين) إلا للرجلين، لأنهما كالعضو الواحد، ولذلك جاز تقديم اليمنى على اليسرى، وأجزأ، وصح ذلك في الوضوء-، ولا يُصْدَق عليهما كونهما طاهرتين إلا إذا تمت طهارتُهما معاً، فلو غسل إحداهما وأدخلها قبل الأخرى لم يَصْدُق عليه أنه طهَّر الرجلين؛ لأن طهارة إحداهما متوقفة على طهارة الأخرى.

    وبناءً على ذلك: فلا بد أن يكون قد أتم الوضوء، ويستوي في هذا أن يتوضأ ويلبس الخفين بعد الوضوء مباشرة، أو يتوضأ ويلبس الخفين بعد انتهاء الوضوء ولو بساعات طويلة، مثال ذلك: لو أن إنساناً توضأ عند شروق الشمس وبقي على وضوئه إلى منتصف النهار، ثم لبس الخفين وهو على الوضوء صح له أن يمسح عليهما؛ لأنه لبس الخفين وهو على طهارة، فصَدَق عليه وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين)

    إذا ثبت هذا فعندنا في الخف:

    أولاً: وقت اللبس.

    ثانياً: ثم بعد لُبسه وهو على وضوء يأتي الحدث، وهو أول ناقض للوضوء.

    ثالثاً: إذا أحدث فإنه يتوضأ ويأتي المسح، ولذلك اختلفت أقوال العلماء رحمة الله عليهم في المسح على الخفين سواءً كان يوماً وليلة أو ثلاثة أيام: هل يبدأ من بداية الحدث؛ لأنه سبب للكل، أو يبدأ من عند مسحه بعد الحدث؟

    فلو فرضنا -مثلاً- أنه أحدث الساعة الثالثة، ثم لم يتوضأ إلا الساعة الرابعة، فيقع مسحه في الساعة الرابعة، فهل العبرة بالحدث الذي هو في الساعة الثالثة، أم العبرة بالمسح بعد الحدث والذي يكون في الساعة الرابعة؟

    فقال بعض العلماء: العبرة بالحدث؛ لأنه سبب لما بعده، والأسباب مُنَزَّلة منزلة مسبباتها، وهي المؤثرة في مسبباتها، فيعتبر السبب، وأكدوا هذا بأنه لما أحدث شُرِع له أن يمسح؛ لأنه لما انتقض وضوءه بعد اللبس شُرِع له أن يبتدئ المسح، فكونه يؤخر هذا لا يعنينا، وإنما الذي يعنينا هو وجود الرخصة من الشرع، فقالوا: يبتدئ مِن الحَدَث إلى مثلِه من اليوم القادم، فلو لَبِس الخف الساعة الثانية ظهراً، وأحدث الساعة الثالثة ظهراً، ومسح في أول وضوء الساعة الرابعة، فنقول: العبرة بالساعة الثالثة التي وقع فيها الحدث، ولا نعتبر وقت لُبْسه للخفين، ولا نعتبر وقت مسحه الأول على الخفين، وهذا هو أصح الأقوال؛ لما ذكروه؛ لأن الشرع لما قال: يمسح المسافر ويمسح المقيم، كما في حديث علي رضي الله عنه: (يمسح المسافر ثلاثة أيام، والمقيم يوماً وليلة) شرع أن نستبيح الرخصة بالمسح، واستباحة الرخصة إنما تقع بعد وجود موجب الرخصة وهو الحدث. ولذلك يترجح هذا القول الذي اختاره المصنف رحمة الله عليه.

    - وقال بعض السلف: العبرة باللُّبس، أي: الساعة الثانية.

    - ومنهم من قال: العبرة بالمسح؛ لأنه يتم بالمسح العددُ، وهذا مرجوح؛ لأن إتمام المسح بالعدد يكون من المكلف، وجواز المسح من الشارع، واعتبار رخصة الشارع أبلغ من اعتبار ما يكون من المكلف؛ لأن الأحكام الشرعية ترتبط بإذن الشارع، فإذن الشارع: مِن الساعة الثانية -مثلاً- يأذن له أن يتوضأ وأن يمسح، وكونه يؤخر فهذا لا يعنينا، فيُسْقط اعتبارُ المسح ويبقى اعتبارُ موجِبِ المسح أو المؤثر في المسح حقيقةً.

    وبناءً على ذلك: قال العلماء: وقت المسح مِن الحَدَث إلى مثلِه، أي: الحَدَث الذي وقع بعد اللبس.

    وبناءً على هذا: فلو أنه أحدث الساعة الواحدة ظهراً فيمتد وقت المسح إلى مثلها من الغد، أو إلى مثلها إلى ثلاث، في الأولى: إذا كان مقيماً، وفي الثانية: إذا كان مسافراً.

    (بعد لُبس): أي: من الحدث، بعد لُبسه.

    شروط الخف

    قال رحمه الله: (على طاهرٍ مباحٍ): يشترط في الخف:

    - أولاً: أن يكون طاهراً.

    - ثانياً: أن يكون مباحاً.

    أن يكون طاهراً: فلا يمُسح على نجس؛ لأن الخف النجس:

    أولاً: لا تصح الصلاة به، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نزع نعليه لَمَّا أخبره جبريل أنهما ليستا بطاهرتين، فدل على أن حذاء المصلي لا بد أن يكون طاهراً، فلا يتأتى أن يمسح على هذا النوع وهو النجس.

    ثانياً: أنه بالمسح يتنجس ولا تتحقق طهارة الموضع، فلا بد وأن يكون طاهراً.

    وأن يكون مباحاً: أي: يكون ذلك الخف مباحاً، ويخرج بقوله: (مباحاً) ما كان حراماً، وهو كالمغصوب، أو يكون من جلد ميتة غير مدبوغ، أو من جلد ميتة لا يُدْبَغ مثلُه، بأن يكون مِن جلد ما لا يُذَكى، إذا قيل: بأنه لا تؤثر الدباغة فيه، كالسباع مثلاً، على القول بأنها لا تطهر جلودوها بالدباغ، فإن هذا في حكم المحرم؛ لأنه نجس وغير مأذون بالانتفاع به.

    وبناء على هذا: فلا بد من تحقق الطهارة وكونه مباحاً.

    واختلف العلماء: لو لبس خفاً مغصوباً، أي: أخَذَ خف إنسان ظلماً ثم لبسه وأراد أن يمسح عليه، فهذه المسألة للعلماء فيها وجهان مشهوران مفرَّعان على مسألة أصولية وهي: هل النهي يفيد فساد المنهي عنه أو لا يفيد؟ أو هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه؟ وتوضيح ذلك:

    - أنك إذا قلت: إن الخف المغصوب منهي عنه، والنهي عنه يقتضي فساد الصلاة به وكذلك فعل العبادة به، فيبطل المسح عليه، وهذا قول الحنابلة.

    - وقال جمهور العلماء: يصح مسحه ويأثم باللبس.

    ففرع المصنف على هذا الأصل، فقال: [على طاهرٍ مباحٍٍ]؛ لأن غير المباح لا يجوز له ولا يصح أن يمسح عليه. ومذهب الجمهور أنه يصح المسح ويأثم، وهو كالصلاة في الدار المغصوبة، وعلى الأرض المغصوبة، فإنه تصح الصلاة؛ لأنه مأمور بها شرعاً وقد تمت أركانها وشرائط صحتها، ويأثم؛ لأن الجهة منفكة، والقاعدة: أن النهي لا يقتضي الفساد إلا إذا اتحد المحل بأن ينصبَّ إلى الذات -ذات الشيء- أو إلى الوصف اللازم له.

    وبناءً على هذا: لا يعتبر مسحه على الخف المغصوب موجباً لعدم صحة وضوئه.

    فالصحيح: أنه يأثم بلبس الخف ويصح مسحه.

    قال رحمه الله: [ساترٍ للمفروض يَثْبُتُ بنفسه].

    (ساترٍٍ) هذا الشرط الثالث:

    - أن يكون ساتراً للمفروض.

    لأن البدل يأخذ حكم المبدل، والمسح بدل عما أمر الله بغسله وهو الرجلان، فوجب أن يستر جميع الرجلين اللتين أمر الله بغسلهما، أي: محل الفرض، فلا بد أن يكون ساتراً من أطراف الأصابع إلى الكعبين، والكعبان داخلان كما قررناه في آية الوضوء.

    فلو كان الخف إلى نصف القدم، فإنه لا يجوز أن يمسح عليه؛ لأنه غير ساتر لمحل الفرض، ولو انكشف الكعبان أو انكشفت رءوس الأصابع، فإنه لا يصح أن يمسح عليه؛ لأنه أيضاً غير ساتر لمحل الفرض.

    (يثبت بنفسه)

    هذا الشرط مبني على أنه إذا وردت الرخصة في الشرع فينبغي تقييدها بالوصف الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالخفاف التي كانت موجودة ومعروفة تثبت بنفسها، فيخرج ما لا يثبت؛ لأن الذي لا يثبت بنفسه عرضة لأن يكشف محل الفرض، وبناءً عليه: فإنه لا يمُسح عليه ولا يعتبر على صفة الخف الذي هو الأصل أو الذي ورد دليل الشرع باستباحة المسح عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خفه مشدوداً، ولو كان مما يُشَد أو كان مما ينزل عن الموضع لبَيَّن ذلك، ولكان ظاهراً من الأحاديث التي جاءت بذكر مسحه صلوات الله وسلامه عليه على خفيه.

    1.   

    حكم المسح على الجوربين

    قال رحمه الله: [مِن خُفٍّ وجوربٍ صفيقٍ ونحوِهما]

    (مِن خُفٍّ) أي: سواءً مَسَحَ على خف أو جورب، فيستوي في ذلك أن يكون من الخفاف وهي التي تكون من الجلد، أو الجوارب، والجوارب: جمع جورب، والجورب الأصل فيه أن يكون من القماش؛ ولكن له صورتان:

    الصورة الأولى: أن يكون من القماش، أي: كله من القماش، كجورب صوف، وجورب قطن، فهذا يعتبر جورباً من القماش الخالص.

    الصورة الثانية: أن يكون من القماش المنعَّل، وصورته: أن يكون أعلاه من الصوف، وأسفلُه جلداً، فهذا يسمونه: (الجورب المنعَّل)، فهو من القماش؛ لكن بطانته التي تلي موضع الأرض أو موطئ القدم تعتبر من الجلد، وهو موجود إلى الآن.

    أما الجوارب ففيها مسألتان:

    المسألة الأولى: هل يجوز أن يُمسح على الجوارب كما يُمسح على الخفاف؟

    المسألة الثانية: هل ذلك شامل لكل جورب؟

    الخلاف في مشروعية المسح على الجورب

    أما المسألة الأولى: وهي هل يُمسح على الجورب كما يُمسح على الخف؟

    ففيها قولان مشهوران:

    القول الأول: يُمسح على الجورب كما يُمسح على الخف، وبه قال الإمام أحمد وأهل الحديث.

    القول الثاني: أنه لا يُمسح على الجورب، وهو مذهب الجمهور.

    فالذين قالوا بمشروعية المسح على الجورب احتجوا بحديثٍ رواه الترمذي وأحمد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين).

    والذين قالوا بعدم جواز المسح على الجوربين، وأنه لا يُمسح إلا على الخفاف التي هي من الجلد، احتجوا بأن الأصل: الغَسل أو المسح على الخفين، وأما الجوارب فقالوا:

    أولاً: لم تصح أحاديثها كأحاديث الخفين.

    ثانياً: أنه يحتمل أن قول الصحابي: (على الجوربين) المراد به: الخفاف التي ورد ذكرها في الأحاديث الصحيحة.

    هذان وجهان لهم.

    والذي يظهر -والله أعلم- جواز المسح على الجوربين:

    أولاً: لصحة الحديث، فقد صحَّحه غير واحد من أئمة الحديث، منهم الإمام الترمذي والإمام أحمد رحمة الله عليهما.

    ثانياً: أن حمل الحديث على الخفين خلاف الظاهر، والمعروف أن إطلاق الجورب له معنى، وإطلاق الخف له معنى، وليس الصحابي بجاهل بدلالة الألفاظ، فإنه عبر بلغة صحيحة، قالوا: إن رواية: (مُنَعَّلَين) تدل على الجلد، ويمكن أن يجاب عنها بأن (المُنَعَّلَين) المراد بها بعض أنواع الجوارب، وهي الجوارب التي لها بطانة من الجلد، فإذا ثبتت رواية: (مُنَعَّلَين) فتحمل على الجلد، مع أنه أجيب: بأنه مسح على الجورب ومعه نعله، فمسح صلى الله عليه وسلم على جورب بنعل، أي: كان النعل موجوداً، فمسح على ظاهر الجورب، والنعل لا يلزم مسحه؛ لأنه من باطن كالخف، فاقتصر على مسح الجورب، فقال الصحابي: (جوربٍ مُنَعَّل) أي: أن قصده أنه مسح مع وجود النعل.

    وعلى هذا يصح القول بالمسح على الجوربين.

    صفة الجورب الذي يمسح عليه

    وإذا ثبت هذا فلا بد في الجورب من أن يكون صفيقاً، وعلى ذلك كلمةُ جماهيرِ مَن يرى المسحَ على الجوربين؛ لأن الجوارب الخفيفة الشفافة هذه لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إنما كانوا يلبسون الجوارب ويمشون بها، ولذلك كانوا يلفون الخرق على أقدامهم، وهذا يدل على ما اعتبره العلماء من اشتراط الصفاقة أي: كونه صفيقاً. وأيضاً فالنظر يقتضيه، فإن الجورب مُنَزَّل منزلة الخف، والخف صفيق، ولا يمكن للجورب أن يُنَزَّل منزلة الخف إلاَّ بالثخانة والصفاقة.

    وعلى هذا: فإنه يصح المسح عليه -كما نص العلماء- إذا كان صفيقاً ثخيناً، فالذي يشف البشرة لا يُمسح عليه؛ لأنه غير معروف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال بجوازه بالقياس، أي: يقول: أقيس هذا الشفاف على الجورب الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجاب عنه من وجهين:

    الوجه الأول: أن القياس على ما هو خارج عن الأصل لا يطَّرِد، ولذلك الأصل: غسل الرجلين، والمسح خلاف الأصل، فلا يطَّرِد القياس على الرخص.

    الوجه الثاني: أن المسح على الجورب إذا كان شفافاً لا يُنَزَّل منزلة الثخين؛ لأن الفرق بين الشفاف والثخين ظاهر، ومن شرط صحة القياس: ألاَّ يوجد الفارق بين الأصل والفرع، فالفرع -وهو (الشُّرَّاب) الشفاف- خفيف، والأصل المقيس عليه -وهو الجورب- ثخين، وإنما جاز المسح على الجورب الثخين لمشابهته الخفين، فيُمنع في الخفيف لعدم وجود وصف الأصل، وهو: كونه ثخيناً، وعلى هذا فالذي نص عليه من يقول بمشروعية المسح على الجوربين اشتراط كونه صفيقاً، كما نبَّه عليه غير واحد من الأئمة، منهم الإمام ابن قدامة -رحمة الله عليه- في المغني، وكذلك المتون المشهورة في المذهب: كالإقناع للحجاوي ، والمنتهى للنجار ، كلهم نصوا على كونه صفيقاً، إخراجاً للشُّرَّاب الخفيف الذي يمكن أن يصف البشرة أو يكون غير صفيق.

    (مِن خُفٍّ وجوربٍ صفيقٍ ونحوٍهما).

    (وجوربٍ صفيقٍ) كما ذكرنا، أي: ثخين.

    (ونحوِهما): أي: نحو الخف أو الجورب الثخين، حتى قالوا: لو وُجِد نعال من الخشب جاز أن يُمسح عليها، فقد يوجد إنسانٌ -مثلاً- يَصْنَع له نعالاً من خشب، فيقولون: لا حرج أن يمسح عليها، المهم أن يكون ساتراً للقدم أي: أن الحكم لا يختص بالجلد ولا بالقماش، فلو صُنِّع الآن نوعٌ من (الشَّراريب) من غير القماش ومن غير الجلد لجاز أن يُمسح عليها؛ لكن بشرط أن تكون في حكم الخفين أو الجوربين.

    1.   

    العمامة وأحكام المسح عليها

    قال رحمه الله: [وعلى عمامةٍ لرجل]

    بعد أن فرغ رحمه الله من الخفين، شرع في العمامة.

    والعمامة: مأخوذة مِن عَمَّ الشيءَ إذا شملَه، ووصفت العمامة بكونها عمامةً؛ لأنها تشمل الرأس بالغطاء، فهي تستر الرأس، فيقال لها: عمامة.

    أنواع العمائم

    والعمامة تأتي على صور:

    - الأولى: العمامة التي لها ذؤابة ومحنَّكة.

    - الثانية: العمامة التي لها ذؤابة وغير محنَّكة.

    - الثالثة: العمامة التي لا ذؤابة ولا عَذَبَة لها.

    هذه ثلاث صور للعمائم.

    أما العمامة التي لها ذؤابة ومحنكة فهي موجودة إلى الآن عند بعض المسلمين، تكون غطاءً للرأس يلف بها الساتر على الرأس، ثم تبقى فضلة من الملفوف يؤتى بها من تحت الحنك، حتى إنهم بعض الأحيان كانوا يسافرون في البر على الإبل وربما آذاهم التراب أو الغبار، فترى الرجل يضع ما تحت الحنك من العمامة على أنفه فلا ترى منه إلا عينيه، هذه العمامة هي على أكمل صورتها؛ تكون ساترة للرأس ومحنكةً من تحت الحنك، فالأصل في العمائم أن تكون إما محنكة أو لها عَذَبَة، وقد كانت عمائم المسلمين على هذه الصفة، إما لها عذبة وإما محنكة، ولذلك قال حسان بن ثابت رضي الله عنه يصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار:

    إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بيَّنوا سُنَناً للناس تُتَّبَعُ

    يرضى بها كلُّ من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا

    فقوله: (إن الذوائب) أي: أهل الذوائب التي كانوا يلبسونها، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عمم عبد الرحمن بن عوف ، وأرسل العَذَبة بين كتفيه، وقال: (هكذا فاعتمَّ يا ابن عوف ).

    فالعمامة تكون لها عذبة، إما محنكة وإما غير محنكة.

    وغير المحنكة: هي العذبة المرسلة؛ التي تكون مرسلة إلى الوراء بين الكتفين، أو يرسلها على جهة كتفه الأيمن تفضيلاً للأيمن على الأيسر.

    هذا بالنسبة لعمائم المسلمين.

    وهناك نوع ثالث من العمائم: وهي العمامة المقطوعة التي لا عذبة لها ولا ذؤابة، وكانوا يُلْبِسُونها أهلَ الذمة؛ لأن أهل الذمة إذا كانوا مع المسلمين فإنهم لا يشابهونهم، وهي سُنَّة عمرية سَنَّها الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، ولها أصل في السُّنة: أن الكفار إذا دخلوا بلاد المسلمين فإنهم لا يشابهونهم في اللباس، فلذلك كان يلزمهم بعمائم مخصوصة، وشَدِّ الزُّنَّار في وسطهم، حتى يكون علامةً لهم، فإذا ساروا بين المسلمين تكون لهم ذلةً وصغاراً، فيلبسون هذه العمائم تمييزاً لهم، حتى لا يكون لهم فضل المساواة ولا الفضل على المسلمين.

    فهذا النوع من العمائم يختص بأهل الذمة، وقد منع المسلمون من لبسه، وشدد العلماء رحمهم الله فيه؛ لأن فيه مشابهةً بأهل الذمة.

    ولذلك قال المصنف: [محنكةٍ أو ذات ذؤابة] وتجد كذلك في كتب الفقهاء اشتراط أن تكون العمامة لها عذبة؛ لأن عمامة النبي صلى الله عليه وسلم وعمائم الصحابة -كما هو معروف وسبقت الإشارة إليه- كانت لها عذبة وليست بعمامة مقطوعة، ولذلك قالوا: إذا لبس العمامة فإنه لا بد أن تكون على الصفة الشرعية؛ لأنه إذا لبسها على صفة أهل الذمة فإنه لا يستباح بمثلها الرخصة، خاصةً على مذهب الحنابلة الذين يرون أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، فهو منهي عن مشابهة أهل الذمة، فلا يمسح على مثل هذا.

    حكم العمامة للمرأة

    (وعلى عمامةٍ لرجلٍ محنكةٍ أو ذاتِ ذؤابة)

    (وعلى عمامةٍ لرجلٍ) فالمرأة لو اعتمت فإن اعتمامها يكون على حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون بدون حاجة، فتكون -والعياذ بالله- ملعونة؛ لأنها تتشبه بالرجال، وقد يفعل هذا بعض المسترجلات من النساء، نسأل الله السلامة والعافية.

    الحالة الثانية: أن تحتاج إلى العمامة لشد رأسٍ من وجعٍ أو ألَمٍ أو نحوِ ذلك، فهذا أمر مستثنى، فتعصب الرأس فيكون كالعمامة، فمثل هذا لا يُمسح عليه، والمرأة ليست لها عمامة، فليست بمحل للرخصة.

    دليل جواز المسح على العمامة

    والأصل في مشروعية المسح على العمامة حديث المغيرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وعلى العمامة)، وورد أيضاً أمره عليه الصلاة والسلام بالمسح عليها، وحسَّنه بعضُ أهل الحديث.

    والحديث المتقدم أصلٌ في جواز المسح على العمامة، ويُشترط فيها أن تكون كما قال المصنف: (محنكةٍ أو ذاتِ ذؤابة) أي: موضوعة تحت الحَنَك، وقد كانوا يستحبونها لأهل الفضل، ويعتبرونها نوعاً من كمال الرزانة والحلم؛ لأنه كلما تعاطى الإنسان كمال الستر كلما كان ذلك أهيب، وإلى عهد قريب ترى كثيراً من الأخيار لا يستحبون أن تكون نواحي الصدر مكشوفة، وكانوا يسترونه بطرف العمامة، حتى ولو كانت من العمائم المعروفة الآن، ولا يزال هذا الآن نوعَ شعارٍ لأهل الخير؛ وما ورد في السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من كشفه لصدره هو حالة مخصوصة، دخل فيها الصحابي عليه فوجد أزراره قد فتح منها حتى بدا صدرُه عليه الصلاة والسلام، وهذا لا حرج فيه، أن يبدو الصدر، والعلماء يقولون: قد يفعل النبي صلى الله عليه وسلم الشيء للجواز ونفي الحرج؛ لكن الكمال مطلوب، ولذلك قالوا: الأكمل للإنسان أن يراعي ستر هذا الموضع، وهذا معروف، فإن المشاهد بالحس والطبع أن الناس تحب وتجل من الإنسان إذا عرف منه ذلك؛ لأنه أبلغ في الاحتشام وأبلغ في السكينة والوقار.

    فالمقصود: أن المحنكة تكون تحت الحنك؛ ولكن لا يشترط في العذبة -كما قلنا- أن تكون تحت الحنك، فلو كانت العذبة طويلة وأرسلها من ورائه شرع له أن يمسح.

    الفرق بين المسح على العمامة والمسح على الخفين

    والمسح على العمامة يخالف المسح على الخفين، وذلك من وجوه:

    - منها: ظهور بعض المحل المفروض، فإن العمامة يظهر فيها أطراف الرأس الأيمن والأيسر كالسوالف ونحوها، فهذه تغتفر ويجوز كشفها، وكذلك الناصية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وعلى العمامة، وكانوا يكشفونها، وكان ذلك يعتبر من شعار أهل الصلاح والخير، أنهم يكشفون النواصي، فإذا كشف شيئاً من ناصيته فلا حرج، ولا يعتبر ستر جميع محل الفرض شرطاً، فقالوا: تغتفر الناصية مُقَدَّمُ شعر الرأس، والقفا؛ لأنه لا بد إذا تعَمَّم أن يظهر شيءٌ قليل مِن آخِرِ الرأس وأطراف الوجه، فهذا يُغتفر ولا حرج في كشفه، ولا يلزم بالمسح عليه؛ لكن قالوا: يستحب المسح عليه كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على ناصيته وعلى العمامة، فاستحب بعض أهل العلم أن يجمع بين الناصية والعمامة، ومن ذلك أيضاً الأُذُنان؛ لأن الأُذُنين تكونان خارجتين عن الموضع الذي يُعَمَّم به الرأس عادةً.

    1.   

    مسح المرأة على الخمار

    قال رحمه الله تعالى: [وعلى خُمُرِ نساءٍ مُدارةٍ تحت حُلُوقهن في حدث أصغر].

    (وعلى خُمُر نساءٍ): هذا فيه أثر عن أم سلمة رضي الله عنها، والخَمْر: أصله التغطية، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (خَمِّروا الآنية) أي: غَطُّوها، وسميت الخَمْر خَمْراً -والعياذ بالله- لأنها تغطي العقل، فكأن الإنسان لا عقل عنده، ووُصِف الخمار بكونه خماراً؛ لأنه يستر المرأة ويغطيها، مما يكون من رأسها، فيجوز لها أن تمسح عليه، وهذا على اختيار بعض العلماء لأثر أم سلمة رضي الله عنها، وفيه حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    (مُدارةٍِ تحت حُلُوقهن)

    قالوا: إنه ينبغي أن يكون ذلك الخمار مُداراً، مثل: المسفع ونحوه، ويكون تحت الحلق كالحال في المحنك.

    (في حَدَثٍ أصغر)

    بعد أن بيَّن -رحمه الله- ما الذي يُمسح عليه، ووقت المسح، شرع في بيان محل المسح.

    فيختص المسح على الخفين وعلى العمامة وعلى الخمار بالحَدَث الأصغر دون الأكبر، فلا يجوز للإنسان أن يمسح على خفيه إذا اغتسل من الجنابة، بل يجب عليه نزع الخفين وغسل القدمين، والأصل في هذا ما ثبت في الحديث الصحيح وهو حديث صفوان بن عسال المرادي قال رضي الله عنه وأرضاه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننزع خفافنا من بولٍِ أو نومٍ أو غائطٍ لكن من جنابة) فقوله: (من بولٍ) أي: بسبب بولٍ (أو نومٍ) أي: بسبب نومٍ (أو غائطٍ) أي: بسبب غائط، فكل هذه لا ننزع منها، ثم قال: (لكن من جنابة) أي: ننزع من الجنابة، فدل على أن الجنب باحتلامٍ أو إنزالٍ أو جماعٍ عليه أن ينزع خفيه وكذلك النفساء والحائض من جماع ونحوه، فإنه يلزمها أن تغتسل ولا تمسح على الخفين.

    1.   

    أحكام المسح على الجبائر

    قال رحمه الله: [وعلى جبيرةٍ لم تتجاوز قدر الحاجة].

    بعد أن بيَّن -رحمه الله- المسح على الخفين، وعلى العمائم، وعلى الخُمُر، قال: (وعلى جبيرة).

    الفرق بين المسح على الجبيرة والمسح على العمامة

    وهنا يَرِد السؤال: أليست الجبيرة يُمسح عليها كما يُمسح على العمامة، فهذه من قماش وهذه من قماش، وهذه ساترة لمحل فرض وهذه ساترة لمحل فرض، فلماذا أفردها؟

    والجواب: أن الجبيرة تخالف ما تقدَّم في كونها يمسح عليها في الحدث الأصغر والأكبر، فإن الإنسان إذا جَبرَّ كسراً ووضع الجبيرة، فإنه يحتاج إلى بقائها مدةً معينة، فسببُ الرخصةِ قائم، بخلاف المسح على الخفين، والمسح على العمامة، وعلى الخُمُر، فإنه ليس مرتباً على سبب ولا علة، وإنما هي رخصة مطلقة، وبناءً على ذلك أفرد المسح على الجبائر بهذا.

    دليل مشروعية المسح على الجبائر

    والأصل في المسح على الجبائر: حديث ذي الشجة الذي رواه الدارقطني وغيره: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سافر مع أصحابه فأصابته شجاج أو كانت به جراح، فأجنب فسأل أصحابه: هل من رخصة؟ قالوا: لا رخصة واغتسل -أي: يلزمك الغسل- فاغتسل فمات، فقال صلى الله عليه وسلم: قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ جهلوا، إنما شفاء العِيِّ السؤال -وفي بعض الروايات-: قد كان يكفيه أن يعصب جرحه) فأخذوا منه مشروعية المسح على العصائب والجبائر، وهذا الحديث مُتَكَلَّمٌ في سنده، والقول بضعفه في رواية الجبائر أقوى؛ ولكن أصول الشريعة وقواعدها العامة تدل على مشروعية المسح على الجبائر، ولذلك اتفقت كلمة العلماء وأجمعوا على أنه يجوز المسح على الجبيرة؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فإذا كان بإمكان المكلف أن يفعل كُلِّف، وإن لم يكن بإمكانه لم يُكَلَّف، فهذا الذي أصابه الكسر في يده أو ساعده أو زنده أو كفه ليس بإمكانه أن ينزع الجبيرة حتى يغسل، وذلك يترتب عليه ضرر عظيم؛ ولأن الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه، فلما أذنت الشريعة له أن يتداوى فقد أذنت بلازم التداوي من بقاء الجبيرة، فتبقى الجبيرة على ما هي عليه، ويمسح.

    شروط المسح على الجبائر

    ويحل هذا الساتر محل الأصل بشروط:

    أولاً: وجود الحاجة، أي: أن يتحقق من وجود الكسر الذي يُحتاج به إلى الجبر ويتعين الجبر.

    ثانياً: أن يشد بقدر الحاجة، فلو فُرض أن موضع الكسر الذي يُحتاج بسببه إلى الجبر محدد بخمسة أصابع، ويحتاج الطبيب إلى إصبع قبل وبعد، أي: من البداية والنهاية -وهذا يسمونه في الطب: الاحتياط- فإنه لا يوضع على نفس الموضع؛ وإنما يزيد قدراً لكي يتماسك، أو يكون في الخشبة الموضوعة في الجبيرة التي تعين على التحام العظم، فهذا الزائد الذي هو الإصبع السابق واللاحق في حكم الأصل فيُشرع ولا حرج؛ لكن لو زاد إصبعين أو ثلاثه أو أربعة، فإنها ليست بداخلة في الإذن، وبناءً عليه يُحكم عليه بما يلي:

    أن يُؤمر بإزالة الجبيرة وإعادتها إلى الموضع الذي يُحتاج إليه بقدر الضرورة، فإن وَسِعه ذلك -أي: كان بإمكانه أن يعيد الجبيرة مرة ثانية، بأن تُفَك وتُعاد- دون ضرر لَزِم.

    وإن ترتب الضرر ففيه خلاف بين العلماء:

    فمنهم من قال: يبقيها والرخصة قائمة له لمكان الضرر اللاحق، ويأثم الطبيب بالزيادة ولا حرج على المكلف.

    ومنهم من قال: يبقيها ويتيمم لما زاد.

    ومنهم من قال: يبقيها ويعيد الصلاة إذا برئ.

    هذه كلها أوجه للعلماء رحمة الله عليهم.

    ولكن الحقيقة القول بأنه يبقيها إذا عَلِم أن النزع يتسبب في الضرر من القوة بمكان، وتُنَزَّل منزلة الضرر بنفسه؛ لأنه لما تعدى الضرر بإزالته نُزِّل هذا الزائد منزلة المحتاج؛ لأن زوال الضرر بإزالتها موقوف على إبقاء هذا الزائد فيُنَزَّل منزلة الحاجة، وعلى هذا: فيقوى القول بأنه يبقيها ويصح منه المسح عليها مع الزيادة على الموضع.

    (لم تتجاوز قدر الحاجة)

    للقاعدة الشرعية: (أن ما أبيح للضرورة يُقَدَّر بقدرها) المتفرعة عن قاعدة من القواعد الخمس المعروفة:

    (الأمور بمقاصدها).

    (اليقين لا يُزال بالشك).

    (الضرر يُزال).

    (المشقة تجلب التيسير).

    (العادة مُحَكَّمة).

    هذه الخمس القواعد التي انبنت عليها مسائلُ الفقه الإسلامي.

    والقاعدة الرابعة: (المشقة تجلب التيسير)، تفرعت عنها قواعد كثيرة، منها: (الضرورات تبيح المحظورات)، فيصبح في هذه الحالة من اضطر إلى شيء أبيح له فعله ولو كان محظوراً، ويتفرع على هذه القاعدة (أن ما أبيح للضرورة يُقَدَّر بقدرها)، فهي مفرعة على هذا الأصل الذي تفرع عن القاعدة العامة.

    وبناءً على هذا: ييسر على المكلف بتغطية هذا الموضع الذي أمر بغسله مباشرة، ثم يَمسح على ما ستر؛ ولكن يتأقت المسح بقدر الحاجة، فقال المصنف: إذا لم يتجاوز بشدها موضع الحاجة، على التفصيل الذي ذكرناه.

    المسح على الجبائر في الحدث الأكبر

    قال رحمه الله: [ولو في أكبرَ إلى حَلِّها]

    (ولو في أكبرَ): أي: ولو وقع المسح عليها في حدث أكبر، فإنه يجوز له أن يمسح عليها ولو كان في جنابة، ولا يلزمه الفك؛ لأن الرخصة التي تبيح له المسح في الحدث الأصغر تبيح له في الحدث الأكبر.

    (إلى حَلِّها)

    أي: إلى أن يحل هذا الرباط أو هذه الجبيرة؛ ولكن يرجع ذلك إلى قول أهل الخبرة، فإن قال الأطباء: تبقى شهراً، فإنها تؤقت بالشهر، وإن قالوا: تبقى شهرين، فكذلك، فلا يتجاوز القدر الذي حكم الأطباء بالحاجة إليه، فإذا زاد عليه فإنه لا يصح له أن يمسح في ذلك الزائد من الزمان.

    قال رحمه الله: [إذا لَبِس ذلك بعد كمال الطهارة]

    يتوضأ قبل شدها، ثم تُلَف، أي: يقوم الطبيب بوضع ما يريد ويَلُف، وهذا إذا وسع الوقت للوضوء، أما لو أنه فُجِئ بالمرض أو كان مُغْمَىً عليه، واضطُّرَّ إلى هذا الشد، واحتيج إلى جبر كسره قبل أن يتوضأ، فقول طائفة من العلماء أن الجبيرة يمسح عليها ولو لم يمكن ذلك على وضوء، لوجود الحاجة والضرورة.

    1.   

    أحكام اختلاف ابتداء المسح وانتهائه

    قال رحمه الله: [ومن مسح في سفر ثم أقام أو عَكَسَ، أو شَكَّ في ابتدائه، فمَسْح مقيم]

    هذه المسألة مفرعةٌ على الأصل، فقد عرفنا أن المقيم يمسح يوماً وليلةً على الخف، ويمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن على الخف، فلو فرضنا أنك كنت مسافراً فمسحت اليوم الأول، ثم رجعت إلى البلد في اليوم الثاني، فأصبحت مقيماً في اليوم الثاني، فهل نقول: العبرة بالابتداء فتتم مسحك مسح مسافر، أو العبرة بالانتهاء فتقطع مسحك لأنك أتممت مسح المقيم؟

    والعكس، فلو كان مقيماً فلبس الخف -مثلاً- الساعة الثانية ظهراً وهو على طهارة، ثم انتقض وضوءه في الساعة الثالثة ظهراً، ومسح في الساعة الرابعة، ثم سافر في المغرب، فإنه في الأصل مقيم، وطرأ عليه السفر، فهل نقول: العبرة بالابتداء أو العبرة بالانتهاء -أي: ما انتهى إليه حاله-؟

    فللعلماء في هذه المسألة أوجه:

    منهم من قال: في كل هذه الصور يُرَد إلى اليقين، والقاعدة: أن (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)، فالمسح رخصة، فنشُك إذا كان مسافراً وأقام: هل يتم مسح مسافر؟ فنرده إلى اليقين وهو اليوم والليلة، ولما كان مقيماً ثم سافر نشك: هل يطرأ عليه التوسع أو لا يطرأ؟ أو نبقيه على اليقين، فنرده إلى اليقين وهو اليوم والليلة، وهذا اختيار الشافعية والحنابلة.

    وقال بعض العلماء: إنه يعتبر المآل، فيمسح مسح المسافر، ولو طرأت عليه الإقامة، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه.

    والأقوى والأحوط: أنه يتم مسح مقيم في جميع الصور، للقاعدة: أن (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل) خاصةً وأنه في عبادة الوضوء التي ينبني عليها الحكم بصحة صلاته، وهذا هو أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى.

    قال رحمه الله: [وإن أحدث ثم سافر قبل مسحه فمسح مسافر]

    بناهُ على قوله: (يمسح المسافر)، وإن كان أصل المذهب أن العبرة بالحدث، فكان يلزم إعمالاً لأصل المذهب أن يقول: إن العبرة بالحدث، فإن وقع حدثه في السفر أو في الحضر فالعبرة بالحدث، فقال: لا، بل نُعمل ظاهر الحديث في قوله: (يمسح المسافر) فيتحقق فيه موجب الرخصة، ويجوز له أن يتم مسح مسافر إذا وقع سفرُه قبل المسح، فلو أحدث الثانية ظهراً ثم خرج للسفر، فتوضأ ومسح في الثالثة ظهراً، فإنه يمسح ثلاثة أيام كاملة، واضح؟

    وبصورة أخرى: لو أن إنساناً طرأ عليه سفر وهو مقيم، فتوضأ عند صلاة الظهر، ثم صلى الظهر، وبعد أن صلى الظهر لبس الخف أو قبل صلاة الظهر لبس الخف، المهم أنه لبس الخف بعد وضوئه هذا، ثم أحدث بعد صلاة الظهر وهو لابس للخف، ثم سافر بعد الحدث ولم يتوضأ، وفي السفر توضأ لصلاة العصر ومسح، فقال المصنف: أعتبرُ مسحه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمسح المسافر)، فأعتبره مسافراً.

    ثم لو كان في السفر، مثلاً: أنت قادم على مكة، وقبل وصولك إلى مكة بساعات لبستَ الخفين وأنت على طهارة، ثم حصل الحدث الساعة الثانية ظهراً قبل دخول مكة، ثم دخلت مكة، وتوضأت ومسحت بمكة فتتم مسح مقيم.

    إذاً: في حال اختلاف الهيئة من سفر إلى حضر يتم مسح مقيم في جميع الصور، إلا إذا وقع مسحُه بعد الحدث الأول في حال سفر أو حال حضر فالعبرة بالمسح لا بالحدث الذي يقع بعد اللبس.

    1.   

    ما لا يمسح عليه

    حكم المسح على القلانس واللفائف

    قال رحمه الله: [ولا يمسح قلانس ولفافة].

    شرع -رحمه الله- في بيان ما لا يُمسح عليه، والقلنسوة واللفافة لا يعتبر كل واحد منهما من جنس ما يُمسح عليه، ولذلك لا يصح المسح عليهما، ولا يُمسح على طاقية ونحوها، لعدم استيعابها لمحل الفرض؛ ولأن الرخصة ثبتت في العمامة، والقلنسوة ليست بعمامة ولا في حكم العمامة، وأما اللفافة: فهي ما يُلَف على الشيء أي: يُدار عليه، ولا يمسح على شيء يحيط بالعضو من القماش إلا ما ورد الاستثناء فيه، وهو الجبيرة، وأما ما عدا ذلك من اللفافات ونحوها فإنها لا تأخذ حكم الرخصة.

    يتفرع على هذا الحكم: لو أن إنساناً أصابه جرح، ثم غطَّى هذا الجرح بما يسمى في العرف اليوم بـ(الشاش)، ولم يكن ذلك على وجه الرخصة وهي الجبيرة، فإنه لا يُمسح على هذه اللفائف، وتختص الرخصة بما ورد الشرع به من العمامة، وفي حكمها الجبيرة لمكان الإجماع، كما بينا ذلك سابقاً.

    حكم المسح على ما لا يثبت ولا يستر محل الفرض

    قال رحمه الله: [ولا ما يسقط من القدم، أو يُرى منه بعضُه]

    يتأتى ذلك فيما إذا لبس الخف ولم يكن ساتراً لمحل الفرض لتساقطه، وقد ذكرنا أن من شرط المسح على الخف: أن يثبت بنفسه، فلا ينكشف من محل الفرض شيئ، فإذا كان الخف على هذه الصورة التي ذكر، فإنه ليس بمحل للرخصة، أعني: رخصة المسح.

    كيفية المسح على الجرموق

    قال رحمه الله: [فإن لَبِسَ خفاً على خفٍٍ قبل الحدث فالحكم للفوقاني]

    اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة المسح على خف فوق خف:

    فقال بعض العلماء: الرخصة تختص بالخف إذا باشر القدم.

    وقال بعضهم: يجوز المسح على خف فوق خف، أي: لا يشترط أن يكون الخف قد وَلِي البشرة أو وَلِي القدم.

    فدرج المصنف -رحمه الله- على القول الثاني، والقول الأول أقوى، وذلك أن الرخَص يُقتصر فيها على صورة ما أذن به الشرع، والذي ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم: مسحه على خف يلي محل الفرض، وعلى هذا: لا يقوى القول بالمسح على خف فوق خف؛ لأنه يلي ما حكمه المسح، ولا يلي عضواً يختص الحكم بغسله.

    وبناءً على القول الذي اختاره المصنف رحمه الله: إن لبس خفاً فوق خف فإن الحكم يكون (للفوقاني) أي: الأعلى منهما.

    1.   

    مقدار المسح

    قال رحمه الله: [ويَمسح أكثرَ العمامةِ]

    لأن مسح كل العمامة من الصعوبة بمكان، وذلك يخالف موجب الرخصة، وقد ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على عمامته، كما في حديث المغيرة ، ولم يحكِِ المغيرة رضي الله عنه تكلُّف النبي صلى الله عليه وسلم في تتبعه المسح لكل العمامة، بل قال: (ومسح على ناصيته وعلى العمامة)، فدل هذا على أنه إذا مسح على العمامة فإنه يمسح أكثرها، ولا يشترط في صحة المسح: الاستيعاب.

    مقدار المسح على الخف

    قال رحمه الله: [وظاهر قدمِ الخُفِّ]:

    للعلماء في المسح على الخُفين أقوال:

    فقالت طائفة من أهل العلم: يُمسح أعلى الخف وأدناه، وفيه رواية في حديث المغيرة : (ومسح على أعلى خفه وأسفله).

    ومنهم من قال: يَمسح الأعلى ولا يمسح الأدنى، وذلك لقوله: (ثم مسح على خفيه) وهذا يقتضي أنه للأعلى، وأيد ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره؛ ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) فدل هذا على أنه لا يُمسَح الباطن، وهو الذي يلي الأرض، وقوله: (لو كان الدين بالرأي -أي: بالاجتهاد- لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره) لأن الإنسان إنما يطأ الأرض بباطن قدمه، فباطن الخف الذي يلي الأرض أحوج لِأَنْ يُنَظَّف ويُمسح عليه من ظاهر الخف، فلما قال ذلك رضي الله عنه وأرضاه، دل على أن باطن الخف لا يُمسح.

    وقال بعضهم -وهي الرواية الثالثة عن مالك -: أنه يُمسح باطن الخف ولا يُمسح ظاهره. وهو قول ضعيف.

    فهذه ثلاثة أوجه لأهل العلم رحمة الله عليهم، أصحها وأقواها: ما اختاره المصنف -رحمة الله عليه- من أنه يُمسح الظاهر ولا يجب مسح الباطن، بل لو قال قائل بعدم استحبابه لصح قوله على ظاهر الحديث الذي ذكرنا، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في السنن أنه: (مسح على خفه، فخط الخطوط) كما سيأتي -إن شاء الله- بيانه عند ذكر صفة المسح.

    قال رحمه الله: [مِن أصابعه إلى ساقه، دون أسفله وعَقِبِه]

    (مِن) للابتداء.

    (أصابعه) أي: أصابع القدمين، (إلى ساقه) يُمِرُّ كفَّه مفرقة الأصابع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقال العلماء: يجعل طرف الزند على رأس الأصابع، ثم يُمِرُّها، فإذا فعل ذلك فلا يلزمه مسح العقب، ولا يلزمه كذلك مسح ما هو أسفل القدمين.

    مقدار المسح على الجبيرة

    قال رحمه الله: [وعلى جميع الجبيرة]

    هذا من الفوارق بين الخفين والجبيرة، ووجه ذلك: أن المسح على الجبيرة حل محل الغَسل للعضو على سبيل الاضطرار، وإذا تعذر الغَسل للعضو وأمكن مسحه بمسح الجبيرة، تعين المسح؛ لأنه مقدور عليه، والقاعدة في الشرع: أن (البدل يأخذ حكم المُبْدَل إلا ما استثنى الشرع)، فلما كانت الجبيرة التي على ساعده -مثلاً- وُضِعت لجبر كسر، والأصل غَسل الساعد، فتعذر غَسله لمكان الحائل وتعذر غَسل الحائل فإنه يَمسح على ذلك الحائل بتمامه؛ لأنه بدل عن أصل، فالمسح بدل عن الغسل، فأصبحت الجبيرة بدلاً عن المحل، وهو البشرة، وأصبح المسح بدلاً عن الغَسل، واستثنى العلماء الخفين لورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يستوعب الخف، فبقيت الجبيرة على الأصل من أن البدل يأخذ حكم مُبْدَلِه.

    1.   

    ما ينقض المسح

    قال رحمه الله: [ومتى ظهر بعض محل الفرض بعد الحدث أو تمت مدته، استأنف الطهارة]

    (ومتى ظهر بعض محل الفرض): هذا يوجب انتقاض المسح، وذلك لعلة ذكرها أهل العلم -رحمة الله عليهم- يستوي فيها أن يكون في الجبائر أو يكون في الخفين: وهي أنه إن ظهر جزءٌ من المستور الذي مُسح عليه بدل غسله فقد توجه الخطاب في الشرع بغسله، ولا يستطيع أن يغسله؛ لأن شرط الموالاة قد فُقِد، فإن مُضِي المدة بين وضوئه الذي مَسَح فيه، وبين انكشاف العضو، يقتضي بطلان شرط الموالاة، وإذا بطل شرط الموالاة تعذر أن يغسل، فيُرجع إلى الأصل من وجوب الوضوء عليه. توضيح ذلك:

    لو فرضنا أن إنساناً توضأ ثم نزع من خفه ما بان به محل الفرض، فحينئذٍ نقول: إنه في الأصل مطالَب بغسل رجليه، الذي هو محل الفرض، ورُخِّص له في المسح على خفيه، بشرط أن يبقى على الصورة التي أذن الشرع بها من استتمام المدة والخف ساتر لمحل الفرض، ويمسح المقيم يوماً وليلة، فإذا نزع أو انكشف جزء من محل الفرض فقد توجه خطاب الشرع بغسل الموضع؛ لأنه فَقَدَ شرط المسح، فلما توجه الخطاب بالأصل وهو: غسل الموضع، وقد مضت فترة لا يمكنه فيها أن يحقق شرط الموالاة، حُكِم بانتقاض طهارته وبطلانها، وكل ذلك مبني على شرط الموالاة، ولذلك فالمذهب الذي نص عليه المحققون: أنه لو انكشف جزءٌ من محل الفرض في الخفين، وكان قريب العهد بمسح الرأس، كأن يكون مسح برأسه ثم مسح على خفيه، وبعد دقيقة أو دقيقتين كشف عن جزء من محل الفرض أو خَلَعَ خُفَّه، فإنه يمكنه أن يغسل رجليه وتصح طهارته؛ لأن شرط الموالاة لم يُفْقَد؛ لكن صورة المسألة التي يحكم فيها بالبطلان: إذا فُقِد شرط الموالاة، كما نبه على ذلك الإمام الموفق -رحمة الله عليه- في المغني.

    1.   

    الأسئلة

    حكم المسح على الحذاء

    السؤال: ما حكم المسح على ما يسمى بـ(الجزمة) عندما يُلبس تحتها (الشُّرَّاب)؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

    أما بعد:

    فما يسمى بـ(الجِزَم) -أكرمكم الله- أو (الكنادر) الموجودة الآن، هذه على حالتين:

    الحالة الأولى: أن تكون ساترة لمحل الفرض.

    الحالة الثانية: أن تكون غير ساترة لمحل الفرض.

    فإن كانت ساترة لمحل الفرض فلا يخلو حالها من صورتين:

    إما أن تستر محل الفرض، ولا يكون تحتها حائل.

    وإما أن تستر ويكون تحتها حائل كالشُّرَّاب ونحوه.

    فإن سترت ولم يكن تحتها حائل فيُمسح عليها قولاً واحداً؛ لأنها في حكم الخفين، أي: إذا كانت (الكنادر) أو (الجِزَم) -أكرمكم الله- ساترة لمحل الفرض، ولو كانت طويلة كـ(الجراميق) فإنه يَمسح عليها، بشرط أن لا يكون بينها وبين الرجل حائل من (شُرَّاب) أو غيره.

    الصورة الثانية: أن يكون بينها وبين القدم (الشُّرَّاب)، وحينئذٍ تقع هذه المسألة مفرَّعةً على الخلاف المشهور في مسألة: من لبس خفين هل يَمسح على الأعلى أو الأدنى؟

    والصحيح: أنه لا يَمسح إلا على الأدنى؛ لأنه هو الذي يلي محل الفرض، وأن الأعلى لا يقوم مقام الأدنى، وتختص الرخصة بالصورة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد عنه أنه مسح على خفٍ فوق خف.

    وبناءً على ذلك: إذا لبس تحتها (شُرَّاباً)، وكان (الشُّرَّاب) من جنس ما يَمسح عليه امتنع المسح؛ لكن لو كان من جنس ما لا يمسح عليه كالشفاف جاز المسح وصح؛ لأنه ليس بحائل مؤكَّد، ووجوده وعدمه على حد سواء.

    أما إذا لم تكن ساترة لمحل الفرض فإنه لا يُمسح عليها؛ للأصل الذي قررناه من اشتراط ستر محل الفرض.

    والله تعالى أعلم.

    حكم المسح على الخف الذي لا يثبت بنفسه

    السؤال: في قول المصنف رحمه الله تعالى: [يثبت بنفسه من خف] قلتَ: إنه لا بد أن يثبت بنفسه لا واسعاً فضفاضاً ولا ضيقاً صغيراً على القدم، فلو قال قائل: إن النصوص الواردة في المسح على الخفين مطلقة، فما رأيكم في ذلك؟

    الجواب: لا. ليس بصحيح، فالخف الذي هو خف يثبت بنفسه، أما خف يتهلهل ويسقط فهذا لا يسمى خفاً، ولماذا أُمر بأن يبقي هذا الخف يوماً وليلة إن كان لا يستر محل الفرض، فما الداعي لتحديد المدة؟!

    إذاً: لا بد أن يكون ساتراً لمحل الفرض.

    ولماذا خُصَّت الخفاف؟

    لأنها تستر محل الفرض.

    فلذلك: الشروط قد تكون ظاهرة ومعروفة من النصوص، وقد تكون جلية في المعنى، أي: بالمفهوم إذا نظر أو سَبَر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو تدل دلالة الحال على هذا الشرط، فإذا كان الخف يتساقط أو فضفاضاً كما مثل العلماء -رحمة الله عليهم- مثل الإمام ابن قدامة وغيره، فإنه لا يعتبر خفاً متعارَفاً عليه؛ لأن الخف جلد، وتعرفون أن الجلد لا ينزل وإنما يتماسك، أما إذا كان من القماش الذي يتهلهل ويسقط مع المشي فهذا كـ(البُلْغَة) أكرمكم الله، و(البُلْغَة) تكون لنصف القدم، وليست بساترة للقدم حقيقةً.

    وعلى هذا: أيَّاً ما كان، فعندك أصول:

    أولاً: انظر -رحمك الله- إلى من يقول بهذا القول، فتجيبه بالأصل وتقول له: هذا الخف أليس هو بدلاً عن القدمين؟

    فيقول: نعم.

    فتقول: إذا كان يتساقط عن القدمين فهل يُشرع أن يُمسح عليه؟

    فيقول: لا يشرع.

    فتقول: ما الدليل؟

    فيقول لك: لأن الخف مُنَزَّل منزلة القدم.

    فتقول: إذاً: يبقى مُنَزَّلاً منزلة القدم مدة المسح، حتى يأخذ حكم المسح، أما إذا كان أحياناً يستر وأحياناً لا يستر فليس مُنَزَّلاً منزلة القدم حتى يُمسح عليه.

    حكم لبس العمامة، وحكم قطع الدرس للأذان

    السؤال: هل لُبس العمامة من السنن أو من العادات التي كان يفعلها صلى الله عليه وسلم؟ وهل يدخل في ذلك ما يلبسه الناس مما يسمى بـ(الغُتْرة)؟ وهل لِلُبس العمائم وقتٌ للمقيم والمسافر كالخف؟

    الجواب: أما لبس العمامة فيعتبر من السُّنَّة، ومَن لبس العمامة وتأسَّى بالنبي صلى الله عليه وسلم فالذي أدركنا عليه أهل العلم رحمة الله عليهم وعليه فتاويهم أنها من السنن، وهذا موجود في كتب العلماء رحمهم الله...

    - الأذان.

    - يا إخوان! لاحظوا أنني أنبه على قضية الإلزام؛ أن يكون الأذان في وقت معين! أي: في حِِلَق العلم لَمَّا نتكلم على مسألة أو على حكم فيُقاطع المحاضر أو المدرس فلا أرى أن هذا من السنة، وأنا أقول -وهذه وجهة نظري-: أنني أرى أنه في المرة الثانية لا يُقاطع؛ ففي بعض الأحيان لَمَّا نقطع حكماً شرعياً لأجل الأذان فالأذان لو أُخِّر دقيقة أو دقيقتين فما فيه إشكال.

    أما بالنسبة للعمامة فإن الإنسان إذا وضعها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه مُثاب، وتعتبر من السنن على هذا الوجه، إذا قصد التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    أما الإنكار على مَن وضعها، والتشديد عليه أو اعتباره غير مؤتسٍ بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد نبه العلماء على أنه لا يصح للإنسان أن يُلْزِم غيره برأيه.

    فإذا كنت ترى أن العمامة فَعَلها النبي صلى الله عليه وسلم وتتأسى به بفعلها فلا حرج عليك في ذلك وأنت مأجور.

    والأصل: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى يدل الدليل على عدم التأسي، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

    وقد رأى أنس بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدُّبَّاء في القصعة، قال: (فما زلت أحبها منذ أن رأيته يتتبعها)، فإذا كان هذا في الدُّبَّاء والطعام، فكيف بالهيئة والحال والشارة، ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام جعل الله له أكمل الهيئات وأشرفها، وقد ثبت في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء) كما في الصحيح، صلوات الله وسلامه عليه.

    فالمقصود: أن من فعلها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يُنْكر عليه، وبعض طلاب العلم الآن ينكرون على بعض من يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم بوضع العمامة، وهذا لا ينبغي، فإذا كنت ترجح القول بأنها ليست بسنة فلا تُلْزم غيرك ممن يرى التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الصحابة يتأسون به في الطعام والشراب فضلاً عن الهيئة والشارة.

    وأما الخلاف بين سنن العادات وسنن العبادات، فهذا مسلك عقلي معروف عند الأصوليين لا يقدح في التأسي، وكون الإنسان يحب أن تكون هيئته كهيئة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج في هذا، إلا في حالة واحدة: وهو أن يكون شيئاً مشتهراً يلفت النظر، أما إذا قصد إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج، وقد كان الناس إلى عهد قريب، قبل عشرين أو ثلاثين سنة يعرفون هذا، وكانت العمامة موجودة، وكان العلماء يتعممون، وكانوا علماء أجلاء ممن يُشار إليهم بالبنان، وكانوا يحافظون عليها في المواسم تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ترجح عند الإنسان أنها عادة فلا يُنْكِر على مَن يفعلها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    وقال بعض العلماء: إن لها أوصافاً محمودة، فإنه قل أن تجد إنساناً يتعمم ويتعاطى رذائل الأمور، وقد يوجد بعض السَّفَلة من يفعل هذا؛ وقالوا: إنها كاللحية، فإن الإنسان إذا التحى تجده يتعاطى كمالات الأمور؛ لكن إذا كان حليقاً ربما جارى صغار السن والأحداث في بعض الأمور، أما إذا كان ملتحياً فتجده ينكف ويتورع، ولو وضع العمامة فسيجد لذلك أثراً، فليجرِّب من أراد أن يجرب، فإنه سيبتعد عن سفاسف الأمور، وسيجد من نفسه نوعاً من تعاطي الكمالات؛ لأنه يشعر أنه يخالف الناس بهذه الهيئة، وقلَّ أن تجد الناس ينظرون إلى إنسان تعمم إلا أجلُّوه وشعروا نحوه بالاحترام والتقدير، هذا إذا قصد التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    أما بالنسبة لهذا الموجود الآن فهذا يعتبر كغطاء، أما أنه عمامة كما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا تخريج إلى الآن لم يتبين وجهه؛ لكن -إن شاء الله- فيه خير، أي: ما دام أنه يستر ويحمل الإنسان على الكمال، أما بالنسبة للأكمل والأفضل فهو ما ذكرناه. والله تعالى أعلم.

    وأما بالنسبة للتأقيت فقد ذكر بعض العلماء التأقيت، ففي بعض الشروح أنها تتأقت، ومنهم من يقول: إنها تطلق كالجبيرة.

    الفرق بين الخف المخرق والخف غير الساتر لمحل الفرض

    السؤال: ما هو قولكم فيمن يقول: إنه لا يُشترط في المسح على الخف أن يكون ساتراً للمفروض؛ لأن النصوص الواردة في المسح على الخفين مطلقة؛ ولأن كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا فقراء، وغالب الفقراء لا تخلو خفافهم من خروق، وقد كانوا يمسحون عليها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينبههم على ذلك عليه الصلاة والسلام؟

    الجواب: أولاً: ينبغي أن يُفَرَّق بين الخف المخروق، والخف غير الساتر لمحل الفرض، فهاتان قضيتان مختلفتان، فالساتر لمحل الفرض شيء، والمخَرَّق شيء آخر، والغالب في الخروق في الخفين أنها تكون من أسفل الخف والذي يُمسح الأعلى، فما الذي أدخل هذا في هذا؟!

    فهذا شيء وهذا شيء.

    ولذلك ينبغي التفريق، فالسلف -رحمة الله عليهم- والعلماء الأولون الذين اشترطوا ذلك ليسوا من الغفلة حتى يلزموا الناس بشيء لا أصل له في الشرع.

    فالخف اسم له حقيقة، إن حملت على الكمال فتبقى على الكمال حتى يدل الدليل على ما دونه، وإن حملت على الأقل فهذا خلاف الأصل.

    فالخف الأصل فيه أنه غير مخرق، والأصل فيه أنه ساتر.

    هذا المعروف في لغة العرب: أن الخف يقال لشيء ساتر، أما إذا بدت الرجلُ فلا يقال: خف.

    فينبغي للإنسان أن يفقه، فالنص جاء للخفين، فإذا كان الإنسان يجتهد ويقول: إن الغالب أن خفاف الصحابة ..إلخ، فهذا تعليل ووجهة نظر، وليست بصريح نص ولا بدلالة نص، و(مَسَحَ على خفيه) دلالةُ نص حقيقية، والخف ساتر.

    فإذا أردت أن تحتاط وتستبرئ لدينك فابقَ على الأصل، حتى يدل الدليل صراحةً على خلاف الأصل.

    فإذا اجتهد أحد وقال: الغالب فيها أن تكون مخرقة، والغالب فيهم أنهم كانوا فقراء.

    فنقول: هَبْ أن خفاف الصحابة كانت مخرقة، فلِضرورة أم لغير ضرورة؟

    ونقول: افرض أنهم كانوا فقراء، فهل نحن فقراء؟

    النقطة الثانية: أوضح من هذا أنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن الصحابة كانوا إذا سجد أحدهم بدت عورتُه، ولذلك نهيت النساء عن رفع رءوسهن قبل الرجال.

    الآن: لو جاء شخص يصلي، فإذا سجد بدت عورته، فما حكم صلاته؟

    إذاً: تلك حالات اضطرار.

    فينبغي الفقه، فليست المسألة أن الإنسان يعلل في مقابل أصل، نحن عندنا حقيقة: (خف)، فتستبرئ لدينك، وتؤدي عبادة ربك على وجه تبرأ به الذمة، وتقول: يمسح على خفين -كما قال العلماء رحمة الله عليهم- ساترَين لمحل الفرض.

    أما أن تقول: هؤلاء كانت خفافهم لا تسلم من الخرق، هؤلاء كانوا كذا... إلخ.

    فهذا تعليل، لكن هل الإنسان رأى خفافهم حتى يحكم عليها؟ فربما كانت خفافهم مخرَّقة؛ لكنها مخرَّقة من غير مكان المسح، وفرقٌ بين أن يكون الخرق في مكان المسح أو يكون في غير مكان المسح، وهذا الذي جعل بعض العلماء يخفف في الخرق إذا كان من أسفل الخف دون أعلاه.

    فأنا أقول: إن الأصل بقاء الألفاظ على أكمل دلالتها، حتى يدل الدليل على ما دونها.

    وهذا أبرأ وأسلم وأدعى لأداء العبادة على الوجه المعتبر.

    والله تعالى أعلم.

    قاعدة (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)

    السؤال: نرجو منكم توضيح قاعدة: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل).

    الجواب: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل) عندنا أصل وعندنا رخصة، والرخصة تخفيف، وغالب الرخص استباحة محظور، وتأتي على خلاف الأصل الشرعي، فمثلاً: تقول: قصرُ الصلاة رخصة؛ لأن الأصل في الصلاة أربع ركعات، والمسح على الخفين رخصة؛ لأن الأصل وجوب غسل الرجلين.

    وهذا منصوص عليه: أن المسح على الخفين رخصة، فعندنا أصل وهو: غَسل الرجلين، وعندنا رخصة، وهي: المسح على الخفين، فإن انقدح دليل الرخصة وموجبها قلت: يرخص له، وإن لم ينقدح تقول: الأصل البقاء على الأصل وهو: الغسل.

    فهم يقولون: هذه قاعدة لفظية؛ لكنها مستندة إلى أصل شرعي.

    نقول: يتوجه الخطابان:

    خطاب بالأصل: اغسل رجليك.

    وخطاب بالرخصة: إن شئت فامسح عليهما إن كان عليهما خفان.

    فإذا توجه خطاب الرخصة يتوجه بحالة مقيدة وهي: إن كنت مسافراً فثلاثة أيام، ثم ترجع إلى الغَسل، وإن كنت مقيماً فيوم وليلة ثم ترجع إلى الغَسل.

    فرع: إذا مسحت يوماً وأنت مسافر، ثم أقمت، فشككت، هل تبقى على حالك مسافراً فتتم الثلاث، ولا زال خطاب موجهاً لك، أو ترجع إلى الأصل؟

    فنقول: الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل.

    ما هو الأصل؟

    أنه يغسل رجليه، فنقول: يتم مسح مقيم، فإن تمت مدة الإقامة غََسَل، وإن لم تتم أتمها، ثم غسل بعد هذا الإتمام.

    فهذا معنى قولهم: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل).

    الخلاف في تنزيل المصاهرة منزلة النسب من جهة تأثير الرضاع عليه

    السؤال: رضع أخي الأصغر من زوجتي، فصار ابناً لي من الرضاعة، ثم تزوج، فهل تكون زوجته محرماً لي؟

    الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: هل المحرمات بالمصاهرة تختص بالنسب أو يأخذ الرضاعُ حكمَها؟

    وتوضيح ذلك: أم الزوجة من الرضاع، هل يكون الزوج محرماً لها كالأم من النسب؟ وكذلك أبو الزوج من الرضاع هل يكون محرماً بناءً على ما يحصل في النسب للزوجة؟

    هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمة الله عليهم:

    فالذي نص عليه طائفة: أن الحكم في التحريم بالمصاهرة مختص بالنسب.

    وظاهر السُّنة من قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) تنزيل الرضاع منزلة النسب في التأثير؛ لكنهم قالوا: لا يشمل ذلك المصاهرة؛ لأنه لم يدخل في ظاهر قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فلم تُنَزَّل المصاهرة منزلة النسب.

    فإن كان الإنسان ترجح عنده القول بالرخصة، أو سأل مَن يرى أن المصاهرة تُنَزَّل منزلة النسب في حال الرضاع عمل بفتواه، وإذا سأل مَن يرجِّح القول بأنها لا تنزل عَمِل بفتواه، وإن كان الأقوى أنه لا يُنَزَّل منزلة الرضاع، بمعنى: أن التحريم من الرضاع في المصاهرة لا يسري كسريان التحريم من الرضاع في النسب، وعلى هذا يحتاط، على قاعدة: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)؛ لأننا هنا نشك في تأثير الرضاعة، والأصل أنها ليست بمحرم، وأنها أجنبية، فيبقى على الأصل حتى يقوى تأثير الرضاعة على العموم.

    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

    بطلان الوضوء بانتهاء مدة المسح

    السؤال: إذا انتهت مدة المسح للمقيم أو المسافر، فهل تبطل طهارته؟

    الجواب: إذا انتهت المدة للمسح بطلت الطهارة؛ لأن الشرع أجاز لك أن تمسح هذه المدة، فإذا انتهت المدة رجعت إلى حكم الأصل وهو: وجوب غسل الرجلين، ولذلك يجب عليه أن يتوضأ وأن يلبس الخفين على طهارة، وهو ظاهر حديث المغيرة : (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) ولذلك أجمعوا على أنه إذا انتهت المدة لا يمسح، فدل على أنه ليس بمحل للرخصة، وإذا انتفى محل الرخصة انتفى وصفها، فرُجِع إلى الأصل من كونه منتقض الوضوء. والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756268377