إسلام ويب

تفسير سورة فصلت (9)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن خلق الليل والنهار وتعاقبهما، وخلق الشمس والقمر ودورانهما، من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته، وألوهيته وربوبيته، فهو سبحانه الذي يحيي الأرض الميتة فينزل عليها الماء فإذا بها تنبت من كل زوج بهيج، ثم يأتي من الناس من يلحدون في آيات الله، ويكفرون بما أنزل الله من الكتاب، أولئك الذين عميت منهم الأبصار، وصمت منهم الآذان، وغطى قلوبهم الران، فلا يكادون يفقهون حديثاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:37-42].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال ربنا جل ذكره: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت:37]. الآيات جمع آية، والآية معناها: العلامة. فآية أني رجل لحيتي، وآية أني ضعيف البصر النظارة على عيني. فالآية هي العلامة.

    ومن العلامات -وما أكثرها، فهي آلاف- الدالة على وجود الله وعلى ربوبيته وألوهيته، وعلى قدرته وعلى علمه وعلى حكمته: الليل والنهار، والشمس والقمر. فالبشرية لا تستطيع أن تغير الليل والنهار، ولا يعقل أن هذا الليل بهذه الطريقة يأتي به إنسان أو جان، بل الذي أوجد هذا الليل وهذا الظلام هو الله. ولو أن الله سلب النهار وترك البشرية في الظلام فلن تسعد ولن تعيش، ولو جعل النهار فقط بدون ليل لعانوا من التعب والشقاء والبلاء، ولكنه جعل الليل مظلماً؛ للاستراحة والنوم، والهدوء والاستقرار، وجعل النهار مضيئاً للسعي والعمل الجاد في الدنيا.

    وما أكثر الآيات الدالة على وجود الله، وعلى ربوبيته وعلى ألوهيته، وعلى علمه وقدرته، ومن بينها الليل والنهار، والشمس والقمر. فهذه الشمس التي نشاهدها قد علمنا من أهل العلم أنها أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، وهي لم يوجدها بنو هاشم ولا بنو فلان، ولا أمريكا ولا روسيا الملحدة، ولا الصين الكافرة، ولا يسعك إلا أن تقول: لا أحد إلا الله.

    والقمر يبدو هلالاً، ويتكامل حتى يصبح بدراً، ثم يتناقص حتى يصبح هلالاً؛ من أجل أن نعرف الحياة والحساب فيها، والشهور والأعوام والسنين. وهذا تدبير عليم حكيم. ولولا القمر لما عرفنا الحساب، ولما عرفنا الشهر من الشهر، ولذلك قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت:37].

    حكم السجود لغير الله أو عبادة غيره سبحانه

    قال تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ [فصلت:37]. فيا عباد الله! الذين يسجدون للشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لخالق الشمس والقمر، واسجدوا لله الواحد الأحد، كما قال تعالى: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت:37].

    وقوله: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت:37]، هذا يدل على أن من العرب من كان يعبد الشمس، وهم في اليمن. والدليل على هذا القرآن، فلما ذهب الهدهد ورجع لسليمان قال: وجدت قوماً يعبدون الشمس من دون الله، ثم العرب منهم أيضاً من كان لهم أصناماً يسمونها الشمس، ولهذا كانوا يسمون عبد الشمس. فقد كان لهم صنم معروفاً يسمونه الشمس، ويعبدونه ويسجدون له، فقال تعالى لما أعلن عن وجوده وعلمه وربوبيته وإلهيته: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت:37]، أي: خلق الليل والنهار، والشمس والقمر، فهذا الذي يستحق أن تركع له وتسجد، وليس الصنم أو الشمس أو القمر، بل اسجدوا لخالق الشمس والقمر، والليل والنهار إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37]. وإذا كنتم ما تعبدونه فاسجدوا حتى للشيطان.

    وهنا لطيفة علمية، وهي: أن مالكاً يرى هنا السجدة، والشافعي وأبو حنيفة وغيرهما يريان أن السجدة عند قوله: لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]. فإن شئت سجدت في الأولى أو الثانية، ولكن الذي يبدو والله أعلم أنه أليق باللطيفة العلمية: أن السجود في الأخير أولى؛ لأنك إذا سجدت في الأول وما سجدت في الثاني فقد تكون مطالباً بالسجود، وإذا سجدت في الثاني فأنت معفو عنك؛ لأنك سجدت. ومالك ومن وافقه يرون أن السجود العزم عند قوله: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37]. والشافعي وأبو حنيفة وغيرهما يقولان: عند قوله: لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]. فاعرفوا هذا. وهم يقولون: الكل جائز، فإن شئت سجدت عند الأولى أو عند الثانية.

    واللطيفة التي قلتها لكم هي: أن السجود عند الأخيرة أحوط.

    إذاً: قال تعالى هنا: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ [فصلت:37] حقاً إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37]. ومع الأسف لما جهلت هذه الأمة وهبطت أصبح أبناؤها يسجدون لغير الله، ففي بعض الجماعات يأتون القبر والضريح زاحفين والله على ركبهم. وهذا أفظع من السجود. وبعضهم يسجد للحكام جهلاً ويركع. وهناك بعضهم رأيناهم في الألعاب والرياضة يركعون لمن يقودهم. وهذه سجود وعبادة لغير الله، وهو كفر، ولا يحل أبداً؛ لأن لفظ السجود يطلق على الركوع، فكل سجود ركوع؛ لأنه انخفاض وانكسار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار...)

    قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا [فصلت:38] وأبوا أن يسجدوا لله فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فصلت:38]، وهم الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]، ولا يملون. فإذا كفر الناس وأبوا أن يسجدوا للرحمن يا رسولنا! فلا تحزن لا تكرب، فإن لله تعالى ملائكة وهم حملة العرش وغيرهم، بل ما من شبر أو موضع قدم في السماء إلا وعليه ملك ساجد أو راكع والله العظيم. فإذا لم يسجد هؤلاء فلا تكرب ولا تحزن، كما قال تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]. فسبحان الله وبحمده! وسبحان الله العظيم!

    وقوله: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]، أي: لا يملون. قال زهير في شعره:

    سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أباً لك يسأم

    والشاهد عندنا: أن سئم إذا مل وما قدر يفعل. ويسأم بمعنى: يمل ويتعب.

    فهؤلاء الملائكة يسبحون الليل والنهار طول الحياة وقبل الحياة، ولا يسأمون ولا يملون ولا يتعبون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت...)

    قال تعالى وقوله الحق: وَمِنْ آيَاتِهِ [فصلت:39] الدالة على وجود الله وعلمه، وقدرته ورحمته، وحلمه وصفات الكمال التي هي صفاته أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً [فصلت:39] أيها السامع! فمن آيات الله الدالة على أنه قادر على أن يحيي الموتى، وعلى أن يجمع عظامهم ورفاتهم، ويحييهم كما كانوا وأفضل مما كانوا أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً [فصلت:39] لاصقة جامدة، ليست منتفخة ولا مرتفعة إذا منعت من المطر، فإذا نزل المطر ارتفعت وتحللت.

    فمن آياته الدالة على قدرته على إحياء الموتى بعد موتهم ليحاسبهم ويجزيهم: أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً [فصلت:39] لاصقة في الأرض، فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]. وهو كذلك. والاهتزاز هو أن ترتفع وتخرج النباتات منها. إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا [فصلت:39]، أي: هذه الأرض الميتة بماء السماء لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت:39]، أي: قادر على أن يحيي الموتى؛ إذ هو على كل شيء قدير، كما قال: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39].

    والآية الأولى في تقرير التوحيد، وهذه في تقرير البعث. وكل السور المكية تعمل على تقرير الحياة الثانية والجزاء، والتوحيد والنبوة المحمدية. فكل الآيات في السور المكية تعمل على إيجاد عقيدة سليمة صحيحة، وإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والبعث الآخر والجزاء الذي يتم فيه.

    وقال تعالى هنا: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39]. فلا يعجز الله شيء قط، فالذي خلق هذا الكون لا يعجزه شيء أبداً؛ وذلك إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39]. ومن ذلك: أنكم إذا متم وأصبحتم تراباً وعظاماً نخرة فسوف يحييكم كما يحيي الأرض بعد موتها. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بين النفختين الأولى والثانية أربعون سنة، ثم ينزل الله مطراً من السماء كمني الرجال، فننبت في الأرض كما ينبت البقل والثوم والبصل، وإن كان الثوم ينبت ذراعاً فقط، وأما نحن فإلى مترين أو ثلاثة. فننبت كما ينبت البقل. وهذا لما تهلك البشرية كلها، وتنتهي الحياة هذه نهائياً، وتصبح الأرض كقصعة أو كصحفة، فحينئذ ينزل الماء من السماء ماء، فننبت بواسطة عجب الذنب، وهو العظيم الصغير في آخر خرزات الظهر، فذلك الذي والله ننبت منه كما ينبت القمح والشعير. فإذا نبتنا وامتددنا في الأرض على أجسامنا ينفخ إسرافيل النفخة الثانية، فتدخل الأرواح في أجسامنا، فإذا بنا أحياء نساق إلى المحشر إلى ساحة فصل القضاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا...)

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [فصلت:40]. وسوف ننزل بهم البلاء والعذاب والشقاء. والذين يلحدون في الآيات هم الذين يحرفونها ويبدلونها، ويميلون بها إلى أغراضهم وإلى شهواتهم. فألحد يلحد إذا مال عن الطريق، كما نلحد الميت في القبر، أي: نجعله في جانب القبر ونميل به.

    فهذا خبر للذين يردون على القرآن ويتزعمون الرد عليه، وأنه كذا وكذا ويحرفونه، فيقول تعالى لهم: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [فصلت:40]. ومعنى هذا: لنهلكنهم ولنسلطن عليهم البلاء والعذاب، ومأواهم جهنم وبئس المصير. وهذا تهديد عظيم. فلهذا يجب ألا نميل بشهواتنا وأطماعنا ودنيانا في القرآن، بل نقول الحق كما هو، وأما تحريف كلام الله لنبيح الحرام أو لنحرم الحلال أو نبيح بدعة أو باطلاً أو منكراً فهذا لا يحل أبداً، ولذلك جاء الوعيد لمن فعل هذا في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [فصلت:40]، بل نعرفهم، وبعد ذلك ننزل البلاء بهم.

    وإن أردت أن تعرف البلاء الذي ينزل بهم فاسمع الله تعالى يقول: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت:40]؟ والجواب: أن الذي يأتي يوم القيامة آمنا خير قطعاً، فذاك في جهنم. ومعنى هذا: أن الذين يلحدون في آيات الله ويحرفونها للشهوات والأطماع والدنيا مصيرهم جهنم، وقد تنزل بهم العقوبة في الدنيا قبل الآخرة؛ لأن الله هددهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [فصلت:40]. وسننزل بهم ما ننزل ونهلكهم.

    فالخير هو الذي يأتي يوم القيامة آمناً، ألا وهو المؤمن التقي. والملحد هو الكافر الفاسق الفاجر، والعياذ بالله تعالى.

    ثم قال تعالى لهم: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40]. وهذا الأمر للتهديد والوعيد، أي: اعملوا ما شئتم فلنزلن بكم عذابنا، ولنسخطن عليكم ولا نرضى، ولندخلكم جهنم؛ لتشقوا أبداً.

    والرسول الكريم كان يعاني من أولئك العمالقة، المعاندين المتكبرين، الذين يحرفون كلام الله، فقال له تعالى: اصبر يا رسول الله، وقل لهم: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40]، إن الله تعالى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40]، وعليم خبير، وسيجزيكم بكفركم وشرككم، وتأليهكم للأصنام والأحجار. فـ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ [فصلت:40] تعالى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40]. لا يخفى عليه شيء. فالكافر والمؤمن، والبار والفاجر، والتقي والفاجر الكل بين يدي الله، وهو يعلمهم أكثر مما نعلم أنفسنا، ولا يخفى عليه شيء أبداً، وسيجزيهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز...)

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ [فصلت:41]. المراد من الذكر والله إنه القرآن، فالقرآن يسمى الذكر؛ لأن الذي يسمع القرآن يذكر الله، وبمجرد ما يسمع القرآن يذكر الله. وهو الذي أنزله، وحتى الكافر إذا سمع القرآن يفهم أن هذا هو الذي أنزله الله، ولهذا سمي القرآن بالذكر، فإن قرأته فقد ذكرت، وإذا سمعته فقد ذكرت، لكن إذا ابتعدت وصممت ولم تسمع لم تذكر أبداً، لا الله ولا الدار الآخرة. وقد قال تعالى عن هؤلاء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ [فصلت:41]، أي: بالقرآن لما جاءهم، وَإِنَّهُ [فصلت:41]، أي: القرآن العظيم لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [فصلت:41]. فهو كتاب عظيم عزيز والله، وهو مائة وأربعة عشر سورة، وآياته ستة آلاف وأربعمائة آية.

    وهذا الكلام الإلهي تحدى الله به الإنس والجن مع بعضهم البعض أن يأتوا بمثله فعجزوا وخنعوا وخضعوا، بل تحدى فصحاء العرب وبلغاءهم أن يأتوا بسورة واحدة ووالله ما استطاعوا، فقد قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] إذاً فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24].

    فهذا الذكر يقول تعالى هنا عن الكافرين به: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ [فصلت:41]، أي: بالقرآن لَمَّا جَاءَهُمْ [فصلت:41]، وانتهى إليهم بواسطة رسولنا وعبادنا، وَإِنَّهُ [فصلت:41]، أي: القرآن لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [فصلت:41] ممتنع. والله ولا حرف واحد يزيد أو ينقص أبداً، بل فيه عزة كاملة، والذي أعزه هو الله مولاه ومنزله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد...)

    قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ [فصلت:42] بأن يزاد فيه حرف أو كلمة أو قصة أو حدث وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]. بمعنى: ينقص منه شيئاً. فهو لا يأتيه الباطل من بين يديه، بل الكتب الأولى الإلهية كلها تقول بصدق القرآن، ولا تكذب بشيء منه، ولا يأتي بعد ذلك كتاب آخر ينسخه أبداً. وكل هذا صالح.

    فهو لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ [فصلت:42] بأن يوجد كتاب من كتب الله ينفي القرآن أو يحرفه، وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42] بأن يأتي كتاب من جديد يمحه ويبطله، ولا يأتيه من بين يديه من يستطيع أن يزيد فيه كلمة، وإلى الآن مضى ألف وأربعمائة وعشرون سنة، وما استطاع عالم من العلماء أن يزيد آية، أو حتى كلمة فقط؛ لأن الله تعهد بحفظه، فقد قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. والكتب التي هي غير القرآن يزاد فيها وينقص منها مئات المرات، وأما القرآن لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، أي: لا يستطيع أحد أن ينقص منه حرفاً أو كلمة أو آية أبداً، وهذه عصمة الله وحفظه لكتابه؛ إذ به تقوم الحجة على عباده.

    ثم قال تعالى: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ [فصلت:42]. ألا وهو الله الحكيم العليم، حَمِيدٍ [فصلت:42]، أي: يحمده كل المخلوقات على نعمه وأفضاله وإحسانه. فبصرك من نعمة الله، وكلامك من نعمة الله. إذاً: علينا كلنا أن نحمد الله، فهو الحميد العليم.

    وقد نزل هذا القرآن على محمد، فإذاً: محمد رسول الله. وهو كما قرر التوحيد قرر النبوة والبعث الآخر، فقال تَنزِيلٌ [فصلت:42]. وقد نزل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

    فقررت الآيات هذه الثلاثة، أي: التوحيد، والنبوة، والبعث الآخر والجزاء فيه. وهذه السور المكية، وهذه حالها.

    فقال هنا: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. ألا وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات.

    [ من هداية ] هذه [ الآيات:

    أولاً: تقرير التوحيد بالأدلة القطعية الموجبة لله العبادة دون غيره من خلقه ] فهي تقرر التوحيد، وهو أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله، لا نبي ولا ملك، ولا عبد صالح ولا كائن من الكائنات، بل لا يستحق أن يعبد إلا الله بالركوع وبالسجود، وبالذكر وبالدعاء، وبالذبح وبالنذر، وبالحب وبالبغض. فلا يوجد من يستحق العبادة إلا الله، فهو خالق كل شيء، ورب كل شيء.

    [ ثانياً: بيان أن هناك من الناس من يعبدون الشمس ويسجدون لها من العرب والعجم، وأن ذلك شرك باطل، فالعبادة لا تكون للمخلوقات الخاضعة في حياتها للخالق، وإنما تكون لخالقهما ومسخرها لمنافع خلقه ] فقد كان هناك من العرب من كانوا يعبدون الشمس، واليمن في أيام بلقيس كانوا يعبدون الشمس، وحتى في مكة كانوا يسمون عبد شمس، فقد كان فيها صنم يسمونه شمس ويعبدونه.

    [ ثالثاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر دليل من أظهر الأدلة، وهو موت الأرض بالجدب، ثم حياتها بالغيث، إذ لا فرق بين حياة النبات والأشجار في الأرض بالماء وبين حياة الإنسان بالماء كذلك في الأرض بعد تهيئة الفرصة لذلك بعد نفخة الفناء، ومضي أربعين عاماً عليها ينزل من السماء ماء، فيحيا الناس وينبتون من عجب الذنب، كما ينبت النبات بالبذرة الكامنة في التربة ] ففي هذا تقرير عقيدة البعث الآخر والحياة الثانية، وقد ضرب الله لذلك مثلاً بالأرض الجافة الممنوعة من المطر، اليابسة التي أصابها القحط، فينزل الله عليها المطر فتهتز وتنتفخ وترتفع بالأشجار والنباتات، وكذلك عظامنا تفنى، ويبقى هذا العجب الصغير العظيم الذي هو كالنملة، فيبقى في الأرض، وننبت منه كما ينبت البقل. فقولوا: آمنا بالله ولقائه.

    [ رابعاً: تقرير قدرة الله على كل شيء أراده، وهذه الصفة خاصة به تعالى، موجبة لعبادته وطاعته بعد الإيمان به وتأليهه ] فهي تقرر ألا قدرة لمخلوق، بل القدرة لله، وقدرة الله لا يعجزها شيء، فادعه واسأله، واعبده واركع له واسأله؛ فإن الله لا يعجزه شيء، فهي يحيي الموتى، ويميت الأحياء، وينبت الأرض، ويحييها ويميتها؛ إذ هو على كل شيء قدير. وهذا لن يكون إلا لله، ولا يوجد كائن من الكائنات قدير على كل شيء أبداً.

    [ خامساً: حرمة الإلحاد في آيات الله بالميل بها عن القصد، والخروج بها إلى الباطل ] والإلحاد هو: الميل وهو تحريف المعنى. فتكون الآية تدل على معنى كذا، ويصرفها يحرفها؛ حتى ما يعبد الله وحده، فيحل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله، أو يشيع منكراً أو باطلاً بتحريف الآيات، والعياذ بالله. وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [فصلت:40]. وسوف ننزل بهم نقمنا وعذابنا. فلهذا إذا علمت قل: معنى الآية كذا وكذا، وإن ما علمت فقل: الله أعلم.

    [ سادساً: التهديد الشديد لكل من يحرف آيات الله، أو يؤولها على غير مراد الله منها ] ليفسد على الأمة دينها وعقيدتها، وعبادتها وشرعها وقانونها، وما أكثر هذا النوع من المدعين الذين يدعون العلم والفلسفة والباطل، والعياذ بالله.

    [ سابعاً ] وأخيراً: [ تقرير مناعة القرآن ] وأنه عزيز [ وحفظ الله تعالى له، وأنه لا يدخله النقص ولا الزيادة إلى أن يرفعه الله إليه، إذ منه بدأ وإليه يعود ] ووالله لا يقدر أحد في الكون أن يزيد فيه آية، ولا ينقص منه أخرى أبداً؛ لأن الله تولى حفظه، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. وانظر فمن ألف وأربعمائة سنة لم يتغير في القرآن شيء بين العرب والعجم في الشرق والغرب، بخلاف الكتب الإلهية التوراة والإنجيل، فالإنجيل حولوه إلى ثلاثين إنجيلاً، ثم فيما بعد جمعوها في خمسة أناجيل، وأما التوراة فلا تسأل عما زاد فيها اليهود، وعما أنقصوا منها، وأما القرآن فوالله ما تغير فيه ولا حرف واحد، وصدق الله العظيم في قوله: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [فصلت:41]. فقولوا: آمنا بالله وبكتابه.

    قال الشيخ في النهر: [ تضمنت الآية ست صفات للقرآن العظيم، وهي كالتالي:

    أولاً: أنه ذكر، يذكر الناس بما يغفلون عنه ] وكما سمعنا، فالقرآن ذكر.

    [ ثانياً: أنه ذكر للعرب، أي: شرف لهم، كقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44] ] فالعرب شرفوا بالقرآن؛ لأنه نزل بلسانهم

    [ ثالثاً: أنه كتاب عزيز، والعزيز: النفيس والمنيع أيضاً؛ إذ عجز الإنس والجن أن يأتوا بمثله.

    رابعاً: أنه لا يتطرق إليه الباطل ولا يخالطه بحال ] أبداً، لا بالزيادة ولا بالنقص أبداً، بل يبقى هو هو، ما أحله الله حلال، وما حرمه حرام، وما أخبر به فهو كما أخبر.

    [ خامساً: أنه مشتمل على الحكمة، وهو حكيم وذو حكمة وحاكم أيضاً ] فهو مشتمل على الحكمة ويعلم الحكمة.

    [ سادساً ] وأخيراً: [ أنه تنزيل من حميد، والحميد: المحمود حمداً كثيراً ] والمحمود هو الله، فهو يحمده من في السماوات ومن في الأرض.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755950315