إسلام ويب

تفسير سورة التوبة (17)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • غزوة تبوك وما صاحبها من قحط ومشقة وضيق حال أصاب الناس كانت فاضحة للمنافقين والذين في قلوبهم مرض، ففي هذه الغزوة عرف كثير من المنافقين المتسترين، والذين جاءوا إلى رسول الله ليستأذنوه القعود عن الخروج للجهاد، وكل منهم يعتذر بما يزينه له الشيطان من الأعذار، وما ذاك إلا لانغماسهم في الكفر، وكراهيتهم لما يصيبه المسلمون من الخير والتمكين، وفرحهم بما ينالهم من المشقة والأذى في سبيل الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    ها نحن ما زلنا مع سورة التوبة المدنية -تاب الله علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة- وهانحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ثم بعد ذلك نتدارسها، ويفتح الله علينا بمعرفتها والعمل بها.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ * قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:49-52].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة:49]، هذه الأحداث تمت في آخر السنة التاسعة بسبب عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على غزو الروم بني الأصفر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزواً لقبيلة من القبائل أو جهة من الجهات يوري ولا يصرح، لكن في غزوة تبوك أعلنها جهرةً: غزو بلاد الروم، وأعلن التعبئة العامة بحيث لا يتخلف رجل يقدر على القتال، وهو ما يسمى بالنفير العام، فلما أعلن ذلك وأخذ يعد عدته ويتجهز لقتال الروم، جاء المنافقون وضعفة الإيمان يستأذنون الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يأذن لهم بالبقاء وأكثرهم منافقون، فالرسول صلى الله عليه وسلم لرحمته ولإحسانه ولجوده وكرمه أذن لمن جاء يقول: ائذن لي يا رسول الله! وعاتبه ربه على هذا، وقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، لعلم الله أنه لو لم يأذن لهم ما هم بخارجين إلى قتال الروم، ثم لعلم الله ماذا سيحدث لو خرجوا، فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة:47]، فهذه حال لا نتصورها في هذه المدينة النبوية.

    فضيحة المنافقين وتبشيرهم بجهنم

    وهنا جاء الجد بن قيس -عليه لعائن الله- لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( هل لك في جلاد بني الأصفر؟ ) قال: يا رسول الله! أنا أخشى إذا كنت هناك ورأيت نساء بني الأصفر أن أفتن بهن. وقالها أيضاً غيره، قالوا: لا تحملنا على الفتنة يا رسول الله! ما عندنا قوة صبر نشاهد نساء بني الأصفر -الروم- ونصبر على عدم إتيانهن، فاسمح لنا ولا تفتنا، وهم والله! لكاذبون، فقط يريدون ألا يخرجوا من المدينة، ويتركوا مزارعهم وأعمالهم وخيراتهم التي يعيشون فيها.

    فقال تعالى عنهم: وَمِنْهُمْ [التوبة:49] أي: من أولئك الطالبين للإذن من المنافقين: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي [التوبة:49] أي: في البقاء، وَلا تَفْتِنِّي [التوبة:49] أي: بنساء بني الأصفر، وبنو الأصفر هم الروم، ولا يقال فيهم: البيض، بل هم صفر؛ لأن البياض ما يطاق، فلا يوجد من يكون وجهه كالثوب الأبيض، ولكن الصفرة وهو الصدق فيها هم بنو الأصفر، وبنو الأسود معروفون، ولكن الروم لبياضهم هم بنو الأصفر، فقال الجد بن قيس -عليه لعائن الله-: لا تفتني يا رسول الله! ائذن لي بالبقاء، ولا توقعني في فتنة النساء، فأخبر تعالى عن قوله كما هو: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي [التوبة:49] أي: ائذن لي يا رسول الله! وَلا تَفْتِنِّي [التوبة:49]، ثم قال تعالى: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] (ألا) في القرآن حرف يقال للتنبيه، وعند أصحاب الهواتف: (ألو).

    أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] أي: وقعوا في فتنة الكفر والشرك، فهل هناك فتنة أكبر من الكفر والشرك وبغض الرسول وتمني هلاكه وتمني سقوط دولته؟ فأي فتنة أعظم من هذه؟!

    أخبر تعالى أنهم في الفتنة ساقطين، إذ قولهم هذا ما كان إلا لأنهم في الفتنة، وإلا كيف يكذبون على الرسول ويقولون: نحن نتأثر بنساء الروم بني الأصفر، فاسمح لنا بعدم الخروج؟!

    أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49] أي: سجل كفرهم وأنهم أهل النار، وأن جهنم محيطة بهم، وهذا خبر عظيم؛ لأنهم يبغضون رسول الله، ويبغضون المؤمنين، ويحتالون على ألا يقاتلوا الكفار ولا يجاهدوهم، فهم كفرة فجرة، ومن هنا كان هذا الإعلان: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49] فأين يهربون؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن تصبك حسنة تسؤهم...)

    ثم قال تعالى يخاطب رسوله -قطعاً والمؤمنين أصحابه معه- فيقول: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ [التوبة:50] أي: نصر وغنيمة، وعودة شريفة من قتال بني الأصفر تسوء المنافقين، وهكذا إلى الآن الكفار والمنافقون إذا أصابت المسلمين سيئة يفرحون، وإن أصابتهم حسنة يحزنون، وهذه طبيعتهم.

    إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التوبة:50]، أي: يكربون ويحزنون، ويتساءلون: كيف ينتصرون؟ وكيف يعودون سالمين؟ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ [التوبة:50] بعدم انتصار وبهزيمة وبغلبة وبمرض وغيرها.. يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ [التوبة:50] وهذه الأحاديث في مجالسهم الخاصة في بيوتهم، فالمنافقون أصدقاء لبعضهم البعض، يجتمعون ويتحدثون، والله يخبر بدسائسهم وما يضمرونه في نفوسهم لرسوله صلى الله عليه وسلم.

    إِنْ تُصِبْكَ [التوبة:50] يا رسولنا! حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التوبة:50] ويكربون ويحزنون، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ [التوبة:50] يفرحون ويسرون، يقولون: قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ [التوبة:50] أي: عرفنا أنه سينكسر وينهزم، لن يستطيع أن يقاتل بني الأصفر؛ فلهذا ما خرجنا، ولا أجبنا دعوته؛ لعلمنا بهذه الحقيقة، فلهذا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50] أي: مسرورون، هذا إن أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بانهزام كما حصل في أحد، فهذه حالهم تولوا وهم فرحون مسرورون بهزيمة الرسول والمؤمنين، وهذه أخلاق الكفار وطباعهم، ومهما تزينوا وتحسنوا بالألفاظ فالواقع هو هذا، فكل مبغض للإسلام وأهله يفرح عند المصيبة ويكرب عند الحسنة.

    إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ [التوبة:50] (قد أخذنا أمرنا من قبل): أي: عرفنا أنه لن ينتصر، وَيَتَوَلَّوا [التوبة:50] أي: إلى بيوتهم وَهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50] أي: مسرورون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا...)

    فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ [التوبة:51] أي: يا رسولنا! لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51] أي: لن يصيبنا من خير أو ضير، ومن نصر وغنيمة أو من هزيمة وانكسار لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51] أي: في كتاب المقادير، إذ ما من حركة ولا سكون في الكون إلا وسبق به علم الله وتقديره وكتابته في اللوح المحفوظ؛ فلهذا لا حزن ولا كرب ولا هم ولا غم، فشيء كتبه الله لِمَ البكاء والألم؟

    وهذه من عقائد أهل الإيمان، فالمؤمن إذا أصابته مصيبة ما يكرب ولا يحزن أبداً، ليعلم أن هذا كتبه مولاه عليه لحكمه العالية وإرادته العظيمة، وإن أصابه خير ما يفرح ويطير من الفرح حتى يقول الباطل والسوء، بل يحمد الله عز وجل ويثني عليه.

    مرة ثانية: أقول: معاشر المؤمنين والمؤمنات! المؤمن إذا أصابته سراء ومسرة حمد الله وأثنى عليه، وتناول موجبات الشكر بالصلاة والدعاء والذكر، وإن تصبه مصيبة بمرض أو ألم أو كذا لا يكرب ولا يحزن أبداً، بل يقول: هذا قضاء الله وقدره، وهذا هو الخير الذي كتبه الله، أنا عبده وهو مولاي، ما قدر علي إلا ما فيه خير لي.

    فالمؤمن لا يكرب ولا يحزن، ولا يفرح ولا يطير بالفرح؛ حتى يقول الفجور والباطل، وهذه الآية دلت على هذا، إذ قال تعالى: قُلْ [التوبة:51] أي: قل يا رسولنا لهم: لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا [التوبة:51] ولا مولى لنا سواه، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51] وها نحن متوكلون عليه.

    المؤمنون الصادقون في إيمانهم متوكلون على ربهم، ومعنى التوكل على الله: تفويض الأمر إليه، فإن أمرك الله تعالى بالحج وتهيأت له فلا يصرفك صارف عنه -سواء كان خوف من مرض، أو خوف من ألم أو خوف من تعب وغيره- وتوقف هذه الفريضة، بل توكل على الله تعالى وامض.

    وإذا أعلنت حرب بيننا وبين المشركين والكافرين كذلك ما دمنا قد أعلناها وأقدمنا عليها ما تردنا الهواجس والخواطر، بل نتوكل على ربنا ونمضي في طريقنا إلى قتالهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما تراجع أبداً.

    وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51] والمؤمنون -كما علمتم- الصادقون في إيمانهم المؤمنون بحق، والإيمان بأركانه الستة: هو تصديق الله ورسوله في كل ما أخبرا به من شأن الغيب والشهادة، أولئك المؤمنون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين...)

    ثم قال تعالى لرسوله مرة أخرى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52] أي: ماذا تنتظرون أن يصيبنا إلا واحدة من اثنتين: إما حسنة وهي الاستشهاد في سبيل الله، أو النصر والغنيمة والعودة سالمين، فلن يقع إلا هذا، إما أننا ننتصر ونغنم، وإما أننا نستشهد ونموت في سبيل الله.

    يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الصعب: قل لهم أي: للمنافقين ومنهم الجد بن قيس : هل تتربصون بنا إلا واحدة من اثنتين حسنتين: إما أن نغزو بلاد الروم وننتصر عليهم ونغنم وهذه حسنة، أو نستشهد ونموت في سبيل الله وهذه حسنة كذلك.

    وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ [التوبة:52] أي: بالمجاعة والمرض وبما يشاء، أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52] أي: بأن يأمرنا بقتالكم، من الجائز أن ينزل الله آية: يا أيها الذين آمنوا اقتلوا فلان وفلان وفلان ولا حرج!

    أي: وأما نحن -المؤمنون- فنتربص بكم أيها المنافقون أولاً: أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، سواء أمراض تيفود أو وباء أو خسف أو زلزال، أو يصيبكم بأيدينا فيسلطنا عليكم ويأمرنا بقتالكم فنقتلكم.

    ثم قال تعالى: فَتَرَبَّصُوا [التوبة:52] تربصوا: أي: انتظروا إنا معكم منتظرون. فمن الغالب ومن المنتصر، ومن السعيد ومن الشقي؟

    فسوف تعود كل النكبات والويلات والمصائب على المنافقين، ولهذا أسلموا ودخلوا في رحمة الله إلا من شاء الله عز وجل، فهذه الهدايات القرآنية يسمعونها تقرأ وتتلى ويفهمونها أكثر مما نفهمها؛ ولهذا ما مات الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبق إلا ثلاثة منافقين فقط، والباقي كلهم أسلموا ودخلوا في رحمة الله.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    شرح الآيات من الكتاب.

    معنى الآيات

    [ معنى الآيات ].

    قال: [ ما زال السياق في الحديث عن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك، فيقول تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي [التوبة:49] أي: في التخلف عن الجهاد ] لما يبدي من العلل، كالمرض أو الفقر أو ما إلى ذلك.

    [ أي: في التخلف عن الجهاد، وَلا تَفْتِنِّي [التوبة:49] بإلزامك لي بالخروج، أي: لا توقعني في الفتنة، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( هل لك في جلاد بني الأصفر؟ ) فقال: إني مغرم بالنساء، وأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر -وهم الروم- لا أصبر عنهن فأفتن ]، وهذا قول زعيم المنافقين، وبلا حياء، فلو كان مؤمناً لخجل من أن يقول هذا الكلام الهابط.

    [والقائل هذا هو الجد بن قيس أحد زعماء المنافقين في المدينة؛ فقال تعالى دعاءً عليه ورداً لباطله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] ] وهذا دعاء من الله عز وجل ورد على زعمه.

    [ أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] وأي فتنة أعظم من الشرك والنفاق؟ ]، فليست فتنة الزنا والقمار، بل فتنة الشرك والنفاق، وهي أعظم فتنة.

    [ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49] وبأمثاله -بالكافرين وبأمثال الجد بن قيس- من أهل الكفر والنفاق، هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية فقد تضمنت الكشف عما يقوله المنافقون في أنفسهم -في بيوتهم- أنه إن تصب الرسول والمؤمنين حسنة من نصر أو غنيمة وكل حال حسنة؛ يسوءهم ذلك، أي: يكربهم ويحزنهم، وإن تصبهم سيئة من هزيمة أو قتل وموت يقولوا فيما بينهم: قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا [التوبة:50] أي: احتطنا للأمر فلم نخرج معهم ] حتى نصاب بما أصيبوا به!

    [ وَيَتَوَلَّوا [التوبة:50] راجعين إلى بيوتهم وأهليهم وهم فرحون، هذا ما تضمنته الآية الثانية التي هي قوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50].

    أما الآيتان الثالثة والرابعة فقد علَّم الله سبحانه وتعالى رسوله ما يقوله إغاظة لأولئك المنافقين، وإخباراً لهم بما يسوؤهم، فقال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا [التوبة:51] أي: من حسنة أو سيئة إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وما يكتبه ربنا لنا لن يكون إلا خيراً؛ لأنه مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51] ونحن مؤمنون وعلى ربنا متوكلون.

    وقال له: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا [التوبة:52] أي: هل تتربصون بنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52] النصر والظهور على أهل الشرك والكفر والنفاق، أو الاستشهاد في سبيل الله، ثم النعيم المقيم في جوار رب العالمين ] وهذا الذي تنتظرونه.

    [ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52] وسوف لا نشاهد إلا ما يسرنا ويسوءكم ].

    هداية الآيات

    [ من هداية الآيات:

    أولاً: فضيحة الجد بن قيس وتسجيل اللعنة عليه وتبشيره بجهنم ] والجد بن قيس هو رئيس المنافقين الذي قال: أنا مغرم بالنساء، لا يستطيع أن يشاهد النساء.

    [ ثانياً: بيان فرح المنافقين والكافرين بما يسوء المسلمين، وبيان استيائهم لما يفرح المسلمين ] وبيان استياء وكرب وهم المنافقين والكفار لما يفرح المسلمين، فإذا نزلت الأمطار على المسلمين فقط يكرب المنافقون، وهذا شأن من يبغض أهل الإيمان والتقوى؛ لأن الطباع البشرية طبعها الله عز وجل، فأهل الكفر ما يرضون أهل الإيمان ولا يحبونهم، بل يفرحون بمصائبهم، ويحزنون لنعمهم وخيرهم.

    قال: [ بيان فرح المنافقين والكافرين بما يسوء المسلمين، وبيان استيائهم لما يفرح المسلمين، وهي علامة النفاق البارزة في كل منافق.

    ثالثاً: وجوب التوكل على الله، وعدم الاهتمام بأقوال المنافقين ] الذين يخوفوننا، وجوب التوكل على الله والإقدام على ما نريد أن نفعل من الخير، ولا نبالي بالأقاويل والأباطيل والإعلام الغربي.

    [ رابعاً: بيان أن المؤمنين بين خيارين في جهادهم: النصر أو الشهادة ] فلا خيار للمؤمنين في جهادهم إلا النصر وإلا الاستشهاد في سبيل الله.

    [ خامساً: مشروعية القول الذي يغيظ العدو ويحزنه ] يجوز لك أن تقول قولاً من شأنه أن يغيظ العدو ويحزنه، كـ(عدو) أو (الكافر) أو (المنافق) فهو ليس بمؤمن؛ لقوله تعالى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52].

    هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755793115