إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (12)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان العرب في الجاهلية يؤمنون بالله عز وجل رباً، ويلجئون إليه في الشدائد والملمات، أما حين يكونون في حال من اليسر والأمن انشغلوا بعبادة الأصنام والأوثان، وقد عاب الله عز وجل عليهم هذا الفعل، مخبراً إياهم أنه إنما يبتلي عباده ليتضرعوا إليه، ويتذللوا وينكسروا بين يديه، فمن تاب وآب قبله الله، ومن استبد به شيطانه، واستمر في طريق الغواية أملى له الله سبحانه وفتح عليه من خير الدنيا، حتى إذا فرح بها واطمأن إليها أخذه الله بغتة، ومن أخذه الله لم يفلته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأنعام المكية التي تعالج أصول العقيدة: التوحيد، النبوة المحمدية، البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا، إما بالجنة دار النعيم، وإما بالنار دار البوار والعذاب الأليم.

    وها نحن مع هذه الآيات فليتفضل الابن بتلاوتها ونحن مصغون مستمعون، نسأل الله أن ترق قلوبنا ونحصل على أجر ومثوبة.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:40-45].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:40] من الآمر؟ الله جل جلاله، فالقائل الله عز وجل، والمأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يأمره أن يقول حتى يقرر مبدأ لا إله إلا الله: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ [الأنعام:40] أيها العادلون بربكم أصناماً وأحجاراً وتماثيل، أخبروني إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ [الأنعام:40] بالقحط والجدب، بالأوبئة والأمراض، بالصواعق وألوان العذاب أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الأنعام:40] ساعة الموت، حشرجت النفس وغرغرت، ساعة القيامة ونهاية الحياة، في هذه الحالة أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:40]؟ والله لا تدعون إلا الله.

    وهذه حال العرب المشركين، قد يختلفون مع بعض الأمم، فالعرب والمشركون سكان هذه الجزيرة كانوا يؤمنون بالله رباً لا رب غيره، وكانوا يلجئون إليه ويدعونه عند الشدائد، ولكن إذا كانوا في حال يسر وخير ينشغلون بالتماثيل والأصنام.

    فها هو تعالى يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ [الأنعام:40] أي: أخبروني إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ [الأنعام:40] والعذاب ألوان وأنواع كما بينا: مرض عام، فقر، قحط، حرب، أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الأنعام:40] الساعة هي ساعة القيامة أو ساعة الموت أيضاً، أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الأنعام:40] وتستغيثون، وتبكون، وترفعون أيديكم إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:40]؟ الجواب: لا يدعون مع الله يومها غير الله.

    ذكر خبر إسلام عكرمة بن أبي جهل لاستغاثة راكبي السفينة بالله خشية الغرق

    ولنذكر تلك اللطيفة التي رويت عن عكرمة بن أبي جهل ، ورضي الله عن عكرمة ولعن أبا جهل ، لما فتح الله على رسولنا مكة ودخلها بجيشه الغازي الفاتح فر غلاة الظلمة، ومن بينهم -كما تقول الرواية- عكرمة ، فنزل على ساحل البحر الأحمر يريد الخروج من الجزيرة، فوجد سفينة أوشكت على الإقلاع، فركب، ولما توسطت السفينة البحر قال الملاح: أيها الركاب! ادعوا ربكم، أخلصوا له الدعاء لينقذكم من الغرق، فأخذوا يدعون: يا ربنا! يا إلهنا! يا رب إبراهيم! يا رب العالمين! ولم يذكروا اللات ولا العزى ولا مناة ولا هبل، ففكر عكرمة وقال: هذا الذي هربت منه يلحقني حتى في البحر؟ والله لترجعن بنا إلى الساحل، وأمشي إلى محمد وأسلم بين يديه.

    صور وقصص من شرك بعض المسلمين في حال الشدة

    وهذه الحقيقة واضحة عندنا كالشمس، مشركونا لجهلهم لا يخلصون الدعاء لله وحده في الرخاء ولا في الشدة، والمشركون من العرب يخلصون لله الدعاء في الشدة ويشركون في الرخاء، وآيات القرآن في هذا كثيرة وواضحة، آيات القرآن المثبتة أن المشركين كانوا يستغيثون بالله ويفزعون إليه في حال الشدة، ولا يدعون اللات ولا هبل ولا إلهاً آخر، أما عوامنا وضلالنا في فترة سبعمائة سنة فكانوا يشركون في حال الشدة والرخاء على حد سواء، وقد قلت لكم: كانت المرأة تمسك بحبل الوضع في الولادة وهي تقول: الله يا سيدي فلان! فهل هناك موقف أصعب من هذا؟

    وسفينة الحجاج التي ركب فيها الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه مبحرة من طرابلس في طريقها إلى الإسكندرية، وهي تحمل الحجاج أيام الدولة العثمانية، يقول: اضطربت السفينة وخافوا الغرق، فأصبحوا يرفعون أصواتهم: يا رسول الله! يا بدوي ! يا سيدي فلان! يا سيدي فلان! وبينهم رجل معلم بصير، فما تمالك نفسه حتى قام ورفع يديه وقال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك! وماذا يفعل غير هذا؟ في حال الموت ما عرفوا الله!

    وذكرت لكم حادثة السيارة التي خاف صاحبها أن تنقلب وهو من إخواننا الموحدين، لكن دخله التوحيد على كبر سنه، وإذا به يقول: يا ألله، يا رسول الله.. يا ألله، يا رسول الله؛ خشية أن تنقلب، هذه صورة ومثلها ملايين.

    أمة أبعدوها عن هذا الكتاب، هذه الآيات ما عرفوها ولا سألوا عنها قط، فكيف -إذاً- تهتدي بدون هذه؟ كيف تمشي بدون نور وتهتدي؟ لا يمكن.

    إذاً: فلنستمع إلى هذه الآيات الست تقرر أنه لا إله إلا الله، لا أحد يدعى ولا يستغاث به ولا يستعاذ بجنابه ولا يطلب منه إلا الله في حال الخير والشر، والرخاء والشدة، في البأساء والضراء.

    قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ [الأنعام:40] قل لهم، حدثهم أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ [الأنعام:40] وقد عرفنا العذاب ألوانا وأنواعاً: فقر، مجاعة، قحط، عدو يتسلط عليهم، وباء يجتاح بلادهم، عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الأنعام:40] ساعة القيامة أو ساعة الموت، في هذه الحالة حالة الشدة أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:40] لا والله لا يدعون إلا الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون)

    قال تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ [الأنعام:41] اسبقهم إلى الجواب، بل إياه جل جلاله وعظم سلطانه تدعون لا تدعون غيره ولا سواه؛ لأنكم تعرفون أنه لا يكشف كربكم ولا يزيل همكم وغمكم إلا الله، أما هذه التماثيل فلا قيمة لها.

    إذاً: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ [الأنعام:41]، يكشف ما تدعون إليه من الغم والكرب إن شاء، ما هو بمقهور أو ملزم ولا بد؛ لأنه يعذب بحكمة ويرحم بحكمة، يعطي بحكمة ويمنع بحكمة، فلهذا كان التقييد من ألطف ما يكون فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ [الأنعام:41] أي: ما تدعونه لكشفه وإبعاد ما نزل بكم إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:41]، لا يبقى في ذهنهم اللات، ولا العزى، ولا مناة، ولا سيدي عبد القادر، ولا العيدروس ، كل هذا يزول من آذانهم، إلا عند ضلالنا نحن فلا يزول أبداً، ولعل من الحاضرين من يشك في هذا الكلام! هل تتصور أن شخصاً يكذب على المسلمين في مسجد رسول الله؟ من جرب علينا كذباً منذ أربعين سنة؟ انزعوه من أذهانكم، إن لم يكن هذا هو الحق فما هو الحق؟

    بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ [الأنعام:41] أنتم مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:41] به، فما تقولون: يا هبل، ولا يا إبراهيم، ولا إسماعيل.. هذه حقيقة واضحة أم لا؟ المشركون العرب بخلاف مشركي النصارى أو غيرهم؛ لأن بعضهم يتصور الله في الشمس أو في القمر ويعبدهما، ولا يستغيث بالله ولا يعرفه، هذه أمة أخرى تتصور أن الله حل في جسم عيسى، فهم يدعون عيسى كأنهم يدعون الله، وهذا شرك هابط، شرك العرب الذي نزلت الآيات فيه شرك معقول، يؤمنون بخالقهم ورازقهم، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف:87]، ما ينكرون هذا أبداً، يحلفون بالله وينذرون له أيضاً، فشركهم أخف من شرك الذين ألهوا عيسى والذين يؤلهون الشمس والقمر والمخلوقات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون)

    ثم قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:42] يا رسولنا فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]، البأساء مؤنث البؤس والشدة، كالحرب، كالجوع، والضراء ما يضر ويهلك الأجسام والعقول من أنواع العذاب، فعلنا بهم ذلك لحكمتنا العالية، هم عبيدنا، لكن ابتلاءهم وامتحانهم لأجل صالحهم، سنتنا أننا بلوناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون إلينا، والتضرع هو التذلل والانكسار أمام الجبار بالصوت المنهزم، والهيئة المنهزمة، وقد بينا أيضاً في يوم من الأيام حول قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55] وقلنا: إن العنز ربيناها وعشنا معها في قرانا، حين تلد الجدي تراه بعينيك يأتي وله نغم خاص يطلب اللبن ليرضع، فالعنز تدنوا من الجدي، والجدي تسمع له نغماً ورعدة وصوتاً، هذا الذي بينه تعالى، هذا التضرع، فلهذا دعاء الله ما هو بالعنترية، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا [الأعراف:55] أي: متضرعين، متذللين، مرتعدين، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنا إذا دعوت عرفت أنه استجيب دعائي أو لم يستجب، فقيل لها: كيف تعرفين؟ قالت: إذا أخذتني الرعدة وسالت الدموع عرفت أن دعوتي استجيب لها.

    وهذا ربنا يدعونا إلى هذا: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55].

    إذاً: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:42] يا رسولنا، أمة نوح، أمة هود، أمة صالح، أمة إبراهيم .. فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ [الأنعام:42] أي: بالبلاء والشقاء وبالعذاب امتحاناً لهم لَعَلَّهُمْ [الأنعام:42] أي: كي يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]، رجاء أن يتضرعوا، فما تضرعوا، والمفروض أنهم يتضرعون، فإذا تضرعوا رفع الله عنهم العذاب والبلاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون)

    يقول تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43].

    فالمفروض فينا نحن -أبناء الإسلام- إذا أصابنا كرب، هم، غم أن نفزع إلى الله عز وجل، وأن نتضرع ونبكي وترتعد فرائصنا، وتوجل قلوبنا حتى يفرج الله ما بنا، لكن هذا الباب ما فتح، أغلق عن المسلمين، هل بلغنا أن أهل إقليم مصابون بكذا وكذا فزعوا إلى الله وتضرعوا وبكوا؟ ما فعلوا، حصل عندنا في هزات اليهود حين يضربون العرب، حيث كان في الزمان الماضي يفزع العرب إلى الله، ومن مظاهر ذلك: ترك الغناء والمزامير في الإذاعات، وتبقى فقط تبث ذكر الله والكلام الطيب، وما إن يعلن عن وقوف الحرب والمصالحة حتى تعود حليمة إلى عادتها القديمة، وضع سيئ كأننا لا نعرف كلام الله ولا كتاب الله.

    فربنا سبحانه وتعالى يقول: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43]، أي: فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا وبكوا واطرحوا بين أيدينا وسألونا العفو أو النجاة؟ ولكن العكس هو الذي كان، حيث قست قلوبهم، لهذا لم يبكوا بين أيدينا ولم يسألونا، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الشرك والمعاصي والفسوق والظلم والكفر، الشيطان زين لهم ما كانوا يعملونه، فلم يتخلوا عنه ولم يتركوه مع أنهم أصابهم ما أصابهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ...)

    قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ [الأنعام:44] الذي ذكرتهم به أنبياؤهم ورسلهم من وعيد الله ووعده نسوه، فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44]، فالمياه تدفقت والأمطار والنباتات والزروع والضروع؛ لأنهم ممتحنون.

    فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] مما هو معروف بين الناس من المال، والذرية، والسلطان.. وقل ما شئت، حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا [الأنعام:44] وزغردوا وولولوا، وصفقوا وعقدوا حفلات الرقص أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]. ‏

    الواجب على العبد حال تقلبه في الرخاء والبلاء

    هذه الآية يقول عنها الحبر وغيره: إنها تبين لنا امتحان الرب لنا. فيا أمة الله، يا عبد الله! إن كنت في خير وعافية فإنك مبتلى، وإن كنت في شر وبلاء فإنك مبتلى، فاعرف كيف تعيش، إذا كنت في عافية ونعمة فأكثر من العبادة والطاعة والتضرع لله عز وجل والدعاء، لا تصرف تلك النعم في معاصي الله، ولا تشتغل بها فتنسى ذكر الله؛ فإنك مهيأ لأن تسلب من يديك، ثم تيأس -والعياذ بالله­ وتبلس، وينقطع رجاؤك، وإذا كنت في بلاء فاعلم أن هذا البلاء له سبب هو الذنب، إذاً: فاصبر على طاعة الله، وواصل البكاء بين يدي الله وكلك صدق حتى يفرج الله تعالى ما بك، أما أنك في ساعة الرخاء تشتغل باللهو والباطل والغناء وتنسى ذكر الله، وإذا جاءتك المحنة والبلاء تفزع إلى غير الله، أو تصاب باليأس والقنوط وتعرض عن ذكر الله؛ فهذا لا يليق بالمؤمن ولا يفعله مؤمن حق أبداً.

    الخيرية الكلية في حياة المؤمن في السراء والضراء

    والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( عجباً لأمر المؤمن ) المؤمن بحق وصدق ( إن أمره كله له خير )، سواء أكان شراً أو خيراً، كله خير ( وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء ) حالة مسرة مفرحة، غنى وراحة وأمن وطمأنينة ( شكر فكان خيراً له )؛ ليبقى ذلك الخير، ( وإن أصابته ضراء ) من الضر والأذى ( صبر فكان خيراً له ).

    ( عجباً لأمر المؤمن ) عجباً لأمر من؟ المؤمن، و(أل) تدل على الوصف المتين العريق، ما قال: عجباً لأمر مؤمن، بل قال: المؤمن، أي: الحق الثابت الإيمان ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير )، بيان ذلك: ( إن أصابته سراء شكر ) ما السراء؟ الحالة المسرة المفرحة التي تفرح وتسر، سواء صحة في بدن، أو مال في الجيب، عز في البلاد، كرامة.. قل ما شئت من أنواع السراء.

    ففي هذه الحالة ماذا يصنع المؤمن؟ يغني، يرقص، يكثر من الطعام والشراب، يتنقل في عواصم الدنيا يتبجح؟ أهذا هو المؤمن؟

    إن المؤمن حينئذ يشكر بقلبه ولسانه، لا يفتأ يحمد الله على كل لقمة يأكلها، على كل خطوة يخطوها، شكر الله فامتثل أوامره في صدق واجتنب نواهيه في صدق كذلك، وهو لا يبرح أن يحمد الله ويثني عليه طول يومه وطول عامه، هذا كان خيراً له، تلك النعمة من صحة بدن، أو مال، أو جاه أنفقها في مرضاة الله، أنفقها في سبيل الله، ليزيد رضا الله عنه، فهو في خير.

    حال غير المؤمن في تقلبه في السراء والضراء

    ( وليس ذلك إلا للمؤمن )، غير المؤمن إذا حصل له دولة صال وجال وظلم وفعل كما نشاهد ونسمع، وإذا أصابه ذل انكسر وتحطم؛ لأنه فاقد البصيرة أعمى، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18]؛ لأن الإيمان الحق هو بمثابة الروح للإنسان، المؤمن الحق حي والحي لا يسلك إلا مسالك الخير والرحمة والهدى، ويتجنب مسالك الشر والباطل والفساد؛ لأنه حي، وغير المؤمن ومن كان إيمانه لا يساوي شيئاً، إيمان عن تقليد وجهل، ما عرف الله ولا سأل عنه ولا بكى يوماً بين يديه، هذه الصور كالجنسيات.

    أذكركم بحادثة مضت، وهذه الحوادث هي عظات وعبر لمن يعتبر، قال كاتب في مجلة أو صحيفة منذ حوالي ثلاثين سنة: إنه لقي فتاة في جدة، فسألها عن جنسيتها فقالت: مصرية، قال: والتدين؟ قالت: أظنني مسلمة! فهل هذه مؤمنة؟ أهذا هو المسلم؟

    بل بأذني سمعت خارج البلاد من بين إخواننا هنا من يقول: إنما هي أوقات محدودة، وسوف ترتقي ديارنا، ويزول الحجاب والعمى ويقع ويقع ويقع! والله بأذني سمعته، انتبهتم؟ يقول: إنما هو زمن، ولن تستمر المملكة هابطة هكذا، سيأتي يوم ليس فيه هذا الحجاب وهذا التستر ، فهل هؤلاء مؤمنون مسلمون؟ ما عرفوا الإيمان ما هو ولا الإسلام.

    يقول صلى الله عليه وسلم: ( عجباً لأمر المؤمن ) بحق ( إن أمره كله له خير )، بيان ذلك: ( إن أصابته سراء شكر )، بينوا لنا الشكر يرحمكم الله؟

    هو الاعتراف بالنعمة بالقلب، والنطق باللسان: الحمد لله.. الحمد لله، وتسخير تلك النعمة في مرضاة الله، أعطيت ملايين الريالات فلا تنفق ريالاً واحداً في معصية الله أبداً، أعطيت صحتك وبدنك وكل هذه الطاقة فلا تمش خطوة واحدة في سخط الله، أعطيت بصرك فلا تفتح عينيك مرة واحدة في غير ما يرضي الله.. هذا هو شكر الله على نعمه.

    معنى قوله تعالى: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)

    يقول تعالى: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا [الأنعام:44] والذي آتاهم هو الله تعالى، أعطاهم من الخير والأمن، أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً بدون علامات سابقة فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44] آيسون قانطون، لاصقون بالأرض كلهم كروب وهموم، يقال: أبلس الشيء: إذ أيس وانقطع أو تهشم وتحطم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)

    وختم الله عز وجل بيانه لعباده المؤمنين بقوله: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45].

    فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنعام:45] الظالمون قطع دابرهم، فأخْذ من وراءهم ومن أمامهم من باب أولى، بمعنى: لم يبق منهم شيء، آخرهم أخذ فكيف بالوسط والأول؟ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ [الأنعام:45] ماذا فعلوا؟ ظَلَمُوا [الأنعام:45]، ماذا تقولون في الظلم؟ هل ينجون؟

    الظلم أعلاه الشرك بالله عز وجل، كل من صرف عبادة الله لغير الله فقد ظلم ربه وأخذ حق مولاه وأعطاه لمن لا يستحقه، كل من عبد غير الله بعبادة ولو كانت الدعاء فقط، أو الذبح فقط، أو النذر فقط، أو الاستغاثة فقط.. كل من وضع عبادة الله التي تعبد بها عباده وأنزل بها كتابه وبعث بها رسوله وصرفها لولي من الأولياء، لصالح من الصلحاء، لملك من الملائكة فقد ظلم؛ إذ الظلم -كما علمنا وتقرر عندنا- وضع الشيء في غير موضعه.

    فالعبادة التي شرع الله لتزكية النفوس وتطهير الأرواح هذه ليس من حق أحد أن يصرفها لغير الله عز وجل، إن صرفها لغير الله أظلمت نفسه وخبثت، وأنتنت وتعفنت، ولكن لا يرضى الله تعالى بهذا، أيخلقه ويرزقه ويغدق عليه نعمه، ثم يلتفت إلى غيره يدعوه ويرفع إليه يديه هكذا ويترك ربه؟ هذا ينبغي أن يقطع دابره.

    بهذا لا يبقى بيننا من يفكر في الظلم أو يحاول أن يظلم، وإذا خطر بباله خاطر الظلم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وفزع إلى الله ولجأ إليه.

    درسنا الليلة عرفنا أن الله يمتحن ويبتلي بالسراء والضراء، لا تقل: نحن في خير وعافية والأموال كذا وكذا..وهذا دليل أنه مرضي عنا! والله ما هو إلا اختبار، فإن شكرنا دامت مدة النعمة، واستمر زمانها، ويوم نكفرها قد نمتحن فترة من الزمن -السنة والسنوات والعشر-، فإذا لم نرجع سلبت من بين أيدينا ولا ترد، إلا أن هذه الأمة لا تؤخذ بعذاب الاستئصال والإبادة الكاملة، لكن تؤخذ بألوان من العذاب، ومن مظاهر ذلك العذاب أن أذلنا وسلط علينا الكفار قرناً من الزمان وهم يسوسوننا، أليس هذا من عذاب الله؟ بلى.

    لزوم المؤمن حمد الله تعالى في سائر أحواله

    وأخيراً يقول تعالى: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] هذه الجملة تقال عند كل خير وغيره، عندما تتجلى وتظهر آيات الله، إنعامه، عذابه، قل: الحمد لله رب العالمين، شبعت فقل: الحمد لله، نزلت من على دابتك سليماً فقل: الحمد لله رب العالمين، بلغك أن إسرائيل أخذتها العواصف وغرق اليهود فقل: الحمد لله رب العالمين.. وهكذا كلما تجددت نعمة أو ظهرت نقمة من الله لخصومه وأعدائه تقول: الحمد لله رب العالمين، علمنا الله هذا؛ إذ قال تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45] على قطع ذلك الدابر، وإنهاء أولئك المجرمين، وكم من ظالم وجبار ومفسد بين العرب عاشرناهم نحمد الله إذ قطع دابرهم.

    نتلو الآيات مرة أخرى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:40] لا يدعون غير الله بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ [الأنعام:41] دعوه لرفع المرض، أو لكذا فيكشفه إن شاء وَتَنسَوْنَ [الأنعام:41] في تلك الحالة مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:41]، ما يبقى من يقول: سيدي عبد القادر، ولا مبروك. وهذا حال المشركين الأولين، أما جماعتنا فيزدادون شركاً أكثر، لأنهم جهال ما عرفوا، لقد أضلوهم.

    هذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لولا الحرس ولولا البوليس والهيئة لرأيتهم يركعون ويسجدون كأنهم ما هم بمؤمنين، أما الاستغاثات فحدث ولا حرج: يا رسول الله! يا أبا فاطمة ! يا كذا افعل وافعل، وينسون الله نهائياً، وذلك للجهل وظلمته، حرموا هداية القرآن وأبعدوا عنها.

    وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]، والبأساء والضراء أنواع من العذاب. فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43]، إذاً: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] من الخير حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45].

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755921768