إسلام ويب

وانهار العملاقللشيخ : سالم العجمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن قضية انهيار الغيرة أمر عظيم، وخطير جد خطير، وعواقبه وخيمة على الفرد والأسرة والمجتمع، منها: أنه يؤدي إلى الهبوط بالثوابت الإنسانية إلى مستوى البهيمية، والغرق في مستنقعات الرذيلة، وإنه لمن المحزن جداً، ما عليه حال الأمة من الانتكاسة في الأخلاق، والابتعاد عن الفضيلة، ومجاراة الأعداء والاقتداء بهم. لهذه الأسباب وجب على العلماء والدعاة أن يتداركوا الوضع، بغرس الفضيلة والحشمة والعفة في نفوس المسلمين، وذلك بدعوة الناس إلى الالتزام بتعاليم الدين، والالتزام بالأخلاق الفاضلة.

    1.   

    اشتداد الفتن والمآسي بعد انهيار العملاق

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فالحقيقة أننا لا ندري من أين نبدأ؟ وماذا نقول؟

    فالمآسي كثيرة، والوقائع الموحشة أكثر وأكثر، وكلما حاول المرء أن يسد ثغرةً إذا بها تنفتح عليه ثغرات من الأسى، وكلما عمد إلى جرحٍ ليداويه نزف جرحٌ آخر:

    ليلٌ من الغـم أم فجر من الكمدِ     وضيعة الحق فيك اليوم يا بلدي

    أرثي لقومي أم أقضي عـلى ألمي     شجاً بحلقي وأجبالاً على كبدي

    نشكو إلى الله من دهياء كـالحةٍ     أعمت بصائرنا عن مسلك الرشَدِ

    أمور مبكية وحوادث محزنة في طريق موحش قل فيه المعين، وتعثر فيه الصاحب البار، وكلما نظرت إلى جهة من الأرض وصوبت النظر وجدت ما يبكيك ويستمطر أدمعك، ويقتل فيك الإحساس بالسعادة مما غزا ديار المسلمين من الانحراف.

    جاء رجل إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال: [يا أبا سليمان ! اتق الله فإن الفتن قد ظهرت، قال: أما وابن الخطاب حي فلا، إنما تكون بعده] فينظر الرجل فيفكر، هل يجد مكاناً لم ينزل به مثلما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر؟ فلا يجد.

    فتلك الأيام هي التي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم عنها أن بين يدي الساعة أيام الهرج.

    لقد كان في وجود عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَمَنَةٌ لهذه الأمة من الفتن، وبموته فُتِحت أبواب الفتن على مصارعها، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند عمر إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر، فقال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً، قال عمر : أيكسر الباب، أم يفتح؟ قلت: بل يكسر، قال عمر : إذاً لا يغلق أبداً، قلت: أجل، قال شقيق -أحد التابعين- قلنا لـحذيفة : أكان عمر يعلم الباب؟ فقال: نعم، كما يعلم أن دون غدٍ الليلة، وذلك أنني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، فسئل حذيفة عن الباب؟ فقال: الباب عمر ) .

    وحقاً فبانكسار ذلك الباب الذي كان بيننا وبين الفتن، بمقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه انطلقت الفتن، وبدأت تموج كموج البحر، ودارت رحاها على الناس، فأصبح الكثير منهم لا يعرف الحق من الباطل، ولا الصحيح من السقيم، وبسطت الدنيا نفوذها على كثير من البشر، فأصبحوا في غيهم سادرين، لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون، ولا على أي طريق يسيرون، وإذا جاءهم ناصح أمين تولوا وهم مدبرون.

    والمتأمل في أزماننا هذه بالذات يرى أنه لم يمض زمانُ شدةٍ إلا وخلفه ما هو أشد منه بلاءً وفتنة، وهذا مصداق قول معاذ رضي الله عنه: [إنكم لن تروا من الدنيا إلا بلاءً وفتنة، ولن يزداد الأمر إلا شدة، ولن تروا من الأمراء إلا غلظة، ولن تروا أمراً يهولكم ويشدد عليكم إلا حقَّره مِن بعد ما هو أشد منه] قال عروة بن الزبير رحمه الله تعالى: [كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: رحم الله لبيداً كان يقول:

    ذهب الذين يُعاش في أكنافهم     وبقيتُ في خلفٍ كجلد الأجرب
    ]

    فكيف لو أبصر زماننا هذا؟!

    قال عروة : [ونحن نقول: رحم الله عائشة فكيف لو أدركَتْ زماننا هذا؟!] رحمكِ الله يا أماه! فهي تقول هذا الكلام وهي تعيش بين خير القرون، وصفوة البشر بعد الأنبياء، صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فكيف لو أدركَتْ زماننا هذا الذي تكالبت فيه قوى الشر على جهود الخير المتواضعة، وتحركت معاول الهدم على صرح الفضيلة تريد أن تمحو أثره من الوجود؟!

    زمان فشا فيه الجهل والانسلاخ، وضيعت فيه الأمانة، ونَطَق فيه الرويبضة.

    زمان خُوِّن فيه الأمين وأُمِّن فيه الخائن، وأُُكْرِم فيه أهل الباطل وحُقِّر فيه أهل الحق، حتى أصبح المتمسكون بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أندر من الذهب الأحمر؛ فلا يؤخذ قولهم، ولا يجدون معيناً لهم، وأصبحوا غرباء حقاً، لا يجدون على الحق أنصاراً، وصدق فيهم وصف النبي صلى الله عليه وسلم للغرباء (أناس صالحون قليل في أناسِ سوء كثير مَن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) وانطبق على الكثير من أهل زمانهم قول القائل:

    أرى حللاً تصان على رجالٍ     وأعراضاً تُذلُّ فلا تصانُ

    يقولون الزمان به فسادٌ     وهم فسدوا وما فسد الزمانُ

    وكما أن التغيُّر حصل في انحراف كثير من الناس عن العقيدة الصحيحة، واتبعوا الأهواء ومضلات الفتن؛ فإنه أيضاً حصل التغيُّر في الأخلاق؛ فانحدر سلوك كثير من المسلمين، حتى والله لو قورن خُلُقَهم بأخلاق أهل الجاهلية لفَضُل أهل الجاهلية عليهم، مع ما أنعم الله عليهم من نعمة الإسلام، ولا سيما في أخلاق عظيمة مرتبط بعضها ببعض كالحمية، والمروءة، والغيرة على الأعراض، وحمايتها مما يدنسها أو ينالها بسوء، حتى قال بعضهم: وددت أن لنا مع إسلامنا كرم أخلاق آبائنا في الجاهلية.

    ألا ترى أن عنترة الفوارس جاهلي لا دين له، والحسن بن هانئ أبو نواس إسلامي له دين، فمنع عنترة كرمُه بينما يمنع الحسن بن هانئ دينُه، فقال عنترة في ذلك:

    وأغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي     حتى يواري جارتي مأواها

    وقال الحسن بن هانئ مع إسلامه:

    كان الشباب مطيةَ الجهلِ     ومَحْسِنَ الضحكات والهزلِ

    والباعثي والناس قد رقدوا     حتى أتيتُ حليلةَ البعلِ

    هذه المقدمة التي قدمتها بين أيديكم هي في الحقيقة تمثل مدخلاً لهذه المحاضرة التي سأتحدث فيها هذه الليلة حول موضوع الغيرة.

    1.   

    الغيرة وألم الفراق

    الغيرة: ذلك الصديق العزيز الذي كنا ننعم ونأنس بسكناه بين ظهرانينا، وقد عاش بيننا زمناً طويلاً، وارتحل عنه كثير من الناس، فبات حزيناً يشكو الوحدة وألم الفراق.

    إن الحديث حول هذا الموضوع نحتاج إليه في هذا الوقت بالذات أشد الحاجة، فقد تغير مسار الكثير دون إدراك ولا تفكير، صدقوني! الوضع خطير جداً، يحتاج إلى أناس يؤجِّجون نار الغيرة في قلوبهم؛ لاستدراك ما فات، ولإصلاح ما سيأتي.

    هل ننتظر تدهوراً أكثر مما نحن فيه؟!

    هل نتوقع مستقبلاً أكثر مما نحن فيه؟!

    انظر يمينك وشِمالك، أمامك وخلفك، كل شيء يدفع للخوف من المستقبل القادم الذي نجهل حوادثه.

    الوضع سيئ: انهيارُ أُسَر، تفسخ أخلاق، موتُ فضيلة، انتشارُ رذيلة، وانهدامُ مبادئ.

    أين القدوة الصالحة؟!

    أين الموجِّه؟!

    لقد فُقِدوا في زحمة الفتن:

    ومن عجبٍ أني أحن إليهمُ     وأسأل عنهم مَن لقيتُ وهم معي

    وتبكيهم عيني وهم في سوادهـا     ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي

    إن لم نُحْيِ جذوة الغيرة في قلوبنا فإننا سنحصد بذرة هذا التفكك والانسلاخ الذي نعيشه قريباً أقرب مما نتصور.

    الوضع في انحدار! عشر سنوات أنتجت عندنا مجتمعاً متغيراً ملوَّثاً، فكيف لو طال بنا الزمان؟!

    أين عقيدة الولاءِ للمسلمين والبراءةِ من المشركين؟!

    أين هويتنا الإسلامية؟!

    أين العباءات الفضفاضة؟!

    أين القفازات السوداء؟!

    أين الأغطية الساترة؟!

    أين السواد الذي يستر ما خلفه؟!

    واأسفاه! لقد أصبح عند كثير من الناس ماضٍ مشوهاً، أليست هذه فتنة أن يصبح الماضي الجميل الناصع ذكريات مشوهة؟!

    يجب أن يستيقظ مَن وَضَع رِجْله على بداية الطريق المظلم، ويتنبه قبل فوات الأوان، وضياع الفرصة، واندراس ما تبقى من المآثر، فيعيشُ الصراعُ الأبدي في داخله بين رغبته في العودة إلى الأصل وبين ما انفلت من زمامه، فلا يستطيع السيطرة عليه، ولعله لا يكتشف تلك الحقيقة إلا بعد أن ينجلي غبار المعركة؛ فيقوم ليبكي زماناً اغتر فيه، عاضَّاً أصابع الندم بسبب تفريطه.

    يجب أن نستدرك ما بقي، فالأجيال في خطر!

    نخشى أن يأتي الزمان الذي يبحث الرجل عن زوجة تحتضن المبادئ السامية في قلبها وظاهرها فلا يجد!

    نخشى أن يأتينا الزمان الذي تعتبر فيه المرأة التي ليس لها صديق متخلفةً، والرعب مخيمٌ على قلوبنا!

    نخاف أن يأتي الزمان الذي تنسلخ فيه البقية الباقية من أخلاق تلك المسلمة، فيسقط ذلك الفارس الغيور مضرجاً بدمائه، يضحك على فروسيته السابقة ويراها تخلفاً وجهالات، ويكون هو أكثر من يقف في وجوهنا سائلاً: وماذا في الأمر حين يكون لابنتي صديق؟!

    الوضع خطير مخيف، وكل ما ذكرتُه ليس ببعيد إن لم يتداركنا الله برحمة، فكم استبعدنا من الوقائع أن نراها بيننا فما لبثت حتى صارت واقعاً لنا تصعب مخالفته!

    لقد تغير الكثيرون في مجتمعاتنا المسكينة التي لا تعرف ما يراد بها.

    لا والذي حجت قريش بيتَه     مستقبلين الركن من بطحائها

    ما أبصَرَتْ عيني خيام قبيلةٍ     إلا بكيتُ أحبتي بفنائها

    أما الخيام فإنها كخيامهم     وأرى نساء الحي غير نسائها

    1.   

    صور من الغيرة عند الجاهليين

    صور من حياة أهل الجاهلية.

    في الحقيقة ما كنا لنتصور أننا سنكون بحاجة إلى أن نستدل بأخلاق أهل الجاهلية، وقد كرمنا الله بخير دينٍ وأفضل نبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن كان هذا من أجل أن يرى المسلم ما كان عليه العرب من الغيرة والحمية والعفة، على الرغم من جاهليتهم وشركهم، وبصراحة: إن المرء إذا سمع مثل هذه النوادر ليتمنى وجودها بين صفوف كثير من المسلمين الذين افتقدوها تفريطاً منهم، وفقدوا معها أهم ركائز الرجولة؛ فصاروا أشباه رجال ولا رجال.

    وأنا لم أستدل بعصر الصحابة؛ لأنه لا يُسْتَغرب أن يوجد فيه خير من هذه الصور؛ لأنهم تربوا على يدي خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، فالتزموا أوامره، وسارعوا إلى تطبيقها، فنالوا بذلك أعلى المنازل وأرفع الدرجات.

    ولكن الذي يُسْتَغرب أن توجد هذه الأخلاق في أهل الجاهلية الذين لا دين لهم! فمن أجل هذا أوردت هذه الصور، حتى يعرف المتأمل النبيه ما وصل إليه حالنا.

    الشنفرى ومدحه لزوجته بالطهر والعفاف

    كان الشنفرى وهو أحد شعراء الجاهلية يمدح زوجته أميمة ، ويفتخر بحيائها وعفتها فيقول:

    لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعُهـا     إذا ما مشت ولا بذات تلفُّتِ

    تحل بمنجاةٍ من اللوم بيتَها     إذا ما بيوتٌ بالمذمة حُلَّتِ

    كأن لهـا في الأرض نسياً تقصه     على أمها وإن تكلمْك تبلَّتِ

    أميمة لا يُخْزِي ثناها حليلَها     إذا ذُكِر النسوان عفت وجلتِ

    إذا هو أمسى آب قرة عينه     مآب السعيد لم يسل أين ضلتِ

    فهو يمدح زوجته، فزوجته وقور خجول، لا يسقط قناعها أثناء سيرها، ولا تلتفت حولها.

    وقد حصَّنت بيتها عن كل لوم وذم يلحقها.

    وهي شديدة الحياء؛ ومن أجل ذلك لا ترفع رأسها عن الأرض في سيرها، حتى لَيَظُنُّ مَن يبصرها أنها تبحث عن شيء ضاع منها، وهي امرأة من نساء أهل الجاهلية، وإذا اعترضها شخصٌ وكلمها أوجزت، ومضت لقصدها ولغرضها.

    وإن الحديث العطر عنها لَيَمْلأ زوجَها زهواً وخيلاء، إنها مثال العفة والجلال، وإنه ليرفعها عن كل شك وتهمة، فإذا أمسى وعاد إليها من المرعى أو بعد رحلته الطويلة، عاد قرير العين بها سعيداً، فلا يسألها أين كانت؛ لأنها موضع ثقته.

    ومما يدل على عفة نساء العرب في الجاهلية أن المرأة لا تُسأل أين كانت؛ لأنها موضع ثقة.

    الفاكه بن المغيرة وغيرته على زوجته هند بنت عتبة

    مما يدل على عفة نساء العرب في الجاهلية، وترفعهن عن أخلاق الرذيلة، وخوفهن من أن يلحق بهن العار، تلك القصة التي حصلت لـهند بنت عتبة قبل إسلامها:

    فإن هنداً كانت متزوجة بأحد فتيان قريش يقال له الفاكه بن المغيرة , وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس فيه بلا إذن، فنام يوماً في ذلك البيت وهند معه، ثم خرج عنها لحاجة وتركها نائمة، فجاء بعض مَن كان يغشى البيت، فلما وجد المرأة نائمة ولَّى عنها، فرآه الفاكه بن المغيرة ، فدخل على هند وأيقظها وقال: من هذا الخارج من عندك؟

    قالت: والله ما انتبهتُ حتى أنبهتَني، وما رأيتُ أحداً قط.

    قال: الحقي بأبيك.

    وخاض الناس في أمر هند ، فقال لها أبوها: يا بُنَية! العار عار وإن كان كذباً، أخبريني بأمرك، فإن كان الرجل صادقاً دسست عليه مَن يقتله، فيقطع عنك العار، وإن كان كاذباً حاكمته إلى بعض كهان اليمن .

    قالت: والله يا أبتِ! إنه لكاذب.

    فخرج عتبة وقال: إنكَ رميت ابنتي بشيء عظيم، فإما أن تبين ما قلتَ، وإلا فحاكمني إلى بعض كهان اليمن .

    قال: ذلك لك.

    فخرج الفاكه في جماعة من رجال قريش، ونسوة من بني مخزوم، وخرج عتبة في رجال ونسوة من بني عبد مناف، فلما شارفوا بلاد الكاهن تغير وجه هند وكسف بالها، فقال لها أبوها: أي بنية! ألا كان هذا قبل أن يشتهر في الناس خروجنا.

    قالت: يا أبتِ! والله ما ذلك لمكروهٍ فعلتُه، ولكنكم تأتون بشراً يخطئ ويصيب، ولعلَّه أن يسِمَني بسِمَة تبقى على ألسنة العرب.

    فقال لها أبوها: صدقتِ؛ ولكن سأختبره لكِ.

    فخبأ له حبة حنطة في مكانٍ ما في جسد الفرس، ثم كتم الأمر وسار إلى هذا الكاهن.

    فلما نزلوا إلى الساحر أكرمهم ونحر لهم، فقال له عتبة : إنا أتيناك في أمر، وقد خبأنا لك خبيئة فما هي؟

    قال: حبة حنطة في فرسك.

    قال: صدقت، فانظر في أمر هؤلاء النسوة.

    فجعل يمسح على رأس كل واحدة منهن ويقول: قومي لشأنك. حتى إذا بلغ إلى هند مسح بيده على رأسها فقال: قومي غير بطحاء ولا زانية.

    فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها، فنثرت يدها من يده وقالت: إليك عني. فطُلِّقت منه، فتزوجها أبو سفيان فولدت له معاوية .

    فتأمَّلْ حالَ هند وهي مشركة لم تكن أسلمت بعد، ومدى خوفها من العار والفضيحة التي تأنف النساء العفيفات منها، ولذا فإن هنداً عندما أسلمت جاءت لتبايع النبي عليه الصلاة والسلام (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء فيقرأ عليهن هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ... الممتحنة:12] إلى آخر الآية، فإذا أقررن قال: قد بايعتكن. حتى إذا جاءت هند امرأة أبي سفيان ، وقال لها: وَلا يَزْنِينَ [الممتحنة:12] قالت: أوَتزني الحرة؟! لقد كنا نستحي من ذلك في الجاهلية فكيف في الإسلام؟!) .

    ومن هذه الصور: قول عائشة رضي الله عنها: (جاءت هند بنت عتبة تبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها: أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ... [الممتحنة:12] إلى آخر الآية. قالت: فوضَعَت يدها على رأسها حياءً، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة : أقري أيتها المرأة، فوالله ما بايَعْنا إلا على هذا. فقالت: نعم إذاً. فبايَعَها) .

    الله أكبر! لقد اشتقنا كثيراً إلى رؤية هذه المناظر، وسماع تلك المآثر التي تحقق فيها قول حسان رضي الله عنه:

    أصون عرضي بمالي لا أدنسه     لا بارك الله بعد العرض في المالِ

    أحتال للمال إن أودى فـأكسبه     ولستُ للعرض إن أودى بمحتالِِ

    عقيل بن علفة وشدة غيرته

    ولقد بلغت الغيرة بالعرب منتهاها، حتى إنها لتوصِّل إلى القتل دون مساس بكرامتهم وأعراضهم ولو بكلمة، ومما يذكر في ذلك: أن بني عقيل بن عُلِّفة كانوا يتنقلون ويبحثون عن الغيث ومواطن القطر، كما هو عادة العرب في السابق من أهل البادية، فسمع عقيل بنتاً له ضَحِكَت فشهقت في آخر ضحكتها، فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول:

    فَرِقْتُ إني رجـلٌ فَرُوقُ     لضحكةٍ آخرُها شهيقُ

    وكان عقيل رجلاً غيوراً.

    كل ذلك بسبب المروءة التي سكنت سويداء قلوبهم، حتى صارت أغلى ما يملكون، ويهون على المرء منهم أن يفقد حياته ولا يفقد مروءته، ولذا عندما سئل عبد الملك بن مروان : أكان مصعب بن الزبير يشرب الخـمـر؟ -وكان عدواً له، وبينهما قتال- قال: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه.

    مروان القرض وغيرته على نساء العرب

    ولم تقتصر غيرة العرب ومروءتهم على أنفسهم، بل إنهم شملوا بها الآخرين، حتى قال قائلهم:

    وإني لأُغْضِي الطرف عنها تستراً     ولي نظر لولا الحياءُ شديدُ

    ومن أجل ذلك فقد كانت هذه الأخلاق العالية سبباً في ارتفاع أسمائهم، وعلو ذكرهم، ونجاتهم من المهالك.

    ومما يروى من قصص العرب في هذا الشأن: أنه لما مات ليث بن مالك أخذ بنو عبس فرسه وسلبه، ثم مالوا إلى خِبائه فأخذوا أهله، وسلبوا امرأته خماعة بنت عوف بن محلَّب، وكان الذي أصابها عمرو بن قارب وذوائب بن أسماء ، فسألها مروان القرض : من أنت؟

    فقالت: أنا خماعة بنت عوف بن محلَّب . فانتزعها من عمرو وذوائب ؛ لأنه كان رئيس الـقوم، وقـال لهـا -انظروا إلى غيرته-: غطي وجهكِ والله لا ينظر إليه عربي حتى أردك إلى أبيك. وضمها إلى أهله، حتى إذا دخل الشهر الحرام أحسن كسوتها وأخدمها وأكرمها، وحملها إلى عكاظ ، فلما انتهى بها إلى منازل بني شيبان قال لها: هل تعرفين منازل قومك ومنزل أبيكِ؟

    قالت: هذه منازل قومي، وهذه قبة أبي.

    قال: فانطلقي إلى أبيكِ.

    فانطلقت، فخبَّرته بصنيع مروان .

    ثم إن مروان غزا بكر بن وائل ، فقصوا أثَرَ جيشه، فأسره رجل منهم وهو لا يعرفه، فأتى به أمَّه، فلما دخل عليها قالت له أمه: إنك لتختال بأسيرك، كأنك جئت بـمروان القرض .

    فقال لها: وما ترغبين من مروان ؟

    قالت: عظيمٌ فداؤه .

    قال: وكم ترغبين من فدائه؟

    قالت: مائة بعير.

    فقال مروان : ذلك لك على أن تؤديني إلى خماعة بنت عوف .

    فمضت به إلى عوف بن محلَّب ، فسمع به عمرو بن هند وكان بينه وبين مروان خلاف، وكان وجد على مروان أمراً، فآلى ألا يعفو عنه حتى يضع يده في يده، فبعث إلى عوف بن محلَّب أن يأتيه بـمروان .

    فقال له عوف حينما جاءه الرسول: قد أجارته ابنتي خماعة وليس إليه سبيل.

    فقال عمرو بن هند : قد آليت ألا أعفو عنه، أو يضع يده في يدي.

    قال عوف : يضع يده في يدك على أن تكون يدي بينهما. فأجابه عمرو بن هند إلى ذلك.

    فجاء عوف بـمروان فأدخله عليه، فوضع يده في يده ووضع يده بينهما، فعفا عنه، فقال عمرو بن هند : لا حُرَّ بوادي عوف -أي: لا سيد به يناوره- فكان من حمية مروان وغيرته على تلك المرأة العربية وستره لها أن تسببت بعد ذلك في نجاته من القتل وسفك الدم.

    - ومما يصور ما كانت عليه نساء العرب في العصر الجاهلي من الستر والحشمة قول القائل:

    سقط النصيف ولم تُرِدْ إسقاطـه     فتناوَلَتْه واتَّقَتْنا باليدِ

    وهذا شاهد على ما كن يتمتعن به من ستر الوجه عن أعين الرجال في الوقت الذي تكشفت فيه بعض نساء المسلمين وللأسف، وألقين الحياء وراءهن ظِهرياً.

    وهذه صور من ذلك المجتمع الجاهلي الذي تمسك أهله بمكارم الأخلاق التي نفتقد كثيراً منها في وقتنا الحالي، فمن المؤسف أن نفقد أخلاقاً تمسك بها أهل الجاهلية، مع ما عندنا من الخير العظيم الذي خلَّفه لنا النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكننا غضضنا عنه، فَعَلَتْ بعضُ أخلاق الجاهلية على أخلاق كثير من المسلمين الذين اهتموا بأعمال دنياهم وتزيينها على حساب دينهم.

    مـا بال دينك ترضى أن تدنسه     يوماً وثوبك مغسولٌ من الدنسِ

    هذه قصة حزينة :-

    1.   

    بعض الصور المشرقة التي افتقدناها

    قبل زمن ليس بالبعيد كانت تتجلَّى في مجتمعاتنا صور جميلة مشرقة، تعكس مدى ما كان عليه الناس من التمسك بالأخلاق العالية، والآداب الرفيعة، ولو جلستَ مع مَن أدرك ذلك الزمان ولم ينسلخ من مبادئه الكريمة، وطلبتَ منه أن يحدثك عن أحوال الناس آنذاك، لحدثك حديثاً مصحوباً بالتنهدات والزفرات الحارة، هذا إن لم يعلُ صوته نشيجاً وبكاءً:

    لعل انحدارَ الدمع يعقب راحةً     من الوَجْد أو يشفي غليل البلابلِ

    لا تستغرب، ولا يأخذك العجب، فإن طهارة الماضي صحِبَتها رقةٌ في القلوب، وحنينٌ لا ينقطع، لقد كانت الغيرة والحياء والمروءة ومكارم الأخلاق هي السِّمَة العامة لأغلب أهل ذلك المجتمع، ورأس المال الذي لا يفرطون فيه، ولا يسمحون لأحدٍ أن يناله بسوء.

    وقد جمعني ذات مرة مع أحد كبار السن مجلس، ودار حديثي معه حول تلك الحقبة التاريخية الطيبة، وغَيرة الناس في ذلك الزمان، فكان مما قال:

    كانت الطفلة في السابق قبل سن العاشرة تخرج إلى الجيران، ترسل إليهم (النقصة)، فإذا بلغت العاشرة تُمْنع من الخروج وتسمى مخفرة.

    أما المرأة فكان لباسها يتكون من ثوبين فضفاضين، يغطيان كل جسمها، ويسحبان في الأرض، فتجرهما من خلفها، وتغطي وجهها باللثام، وتلبس العباءة فوق ذلك.

    وعادة الناس في ذلك الوقت أن المرأة يوم أن تزور فيه أهلها، تذهب إليهم مع ظلام الفجر قبل أن تشرق الشمس، ويبدو ضوء النهار واضحاً؛ حتى لا يكتشف الناس ملامحها، أو يأخذها زوجها فيذهب بها إلى أهلها، وعادةً ترجع بعد صلاة العشاء، حيث يكون الظلام أكثر فلا يراها الناس.

    وقد بلغت الغَيرة عند أولئك الناس في الزمن الماضي ذِروتها، ولم تقتصر غَيرتهم على أنفسهم فقط، بل كانوا يغارون على مجتمعهم مما أثر في تماسكه وترابطه؛ فقد كان الجار في الماضي له منزلته الرفيعة، وتقديرٌ من نوع خاص، ليس كما نعيش الآن من التفكك الذي لا يعرف فيه الجار أحوال جاره، حتى إن الرجل ليغار على محارم جاره كما يغار على محارمه، وربما يسافر الرجل الأيام المتوالية وجاره يقوم على خدمة أهله بكل مروءة وحياء دون أن يخالط قلبَه رياء أو طمع في رذيلة.

    وكانت المرأة في ذلك الوقت تسير محتشمة متسترة تخرج لقضاء حوائجها ولا يستطيع أحد أن يقربها، أو يتفوه عليها بكلمة؛ لأنه ما إن يفكر في ذلك حتى يرى الناس تلتف حوله من كل مكان، وقد يصل الأمر إلى ضربه.

    وفي الماضي القريب كان الرجل يتهيب أن يمر بين المنازل أكثر من مرة؛ لأنه ما إن يفعل ذلك حتى يستوقفه أهل الشارع ويسألونه عن حاجته، فإن كان له حاجة وإلا مُنِع من المرور. هذا إلى وقت قريب.

    ولكن مع الأسف الشديد ما لبثت هذه الصور المشرقة أن آلت إلى الغروب، وما لبثت تلك الصور الجميلة أن صارت مشوهة قاتمة، ليس إلى الوضوح فيها من سبيل.

    قف بالديار فهذه آثارهم     تبكي الأحبة حسرةً وتشوقا

    كـم قد وقفتُ بها أسائل أهلها     عن حالها مترحماً أو مشفقا

    فـأجابني داعي الهوى في رسمها     فارقتَ مَن تهوى وعز الملتقى

    1.   

    ظهور المشاهد المحزنة في عصر الحضارة

    فبدأنا نرى تلك المناظر الموحشة، والمشاهد المحزنة التي تنزه عنها أهل الجاهلية، والتي تدل على تغير الناس وتبدل أحوالهم، فانظر يا رعاك الله! كم من المسلمين وضع على منزله جهاز (الستلايت) بحجة أنه يريد الكُرَة أو الأخبار! يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ [النساء:108] وهو يعلم بما يعرضه هذا الجهاز المفسد، ثم يخرج من بيته ويترك الأسرة هملاً، ولك أن تتصور حينما تأتي إحدى نسائه وتدير هذا الجهاز بقصدٍ أو بغير قصد على إحدى القنوات اليهودية أو الفرنسية أو ما تبثه بعض الدول المسلمة التي تخلت عن مبادئ الإسلام، فتشاهد فيهن العُرْي والتفسخ، بل وتشاهد الرجل وهو يواقع المرأة، فمن هنا تبدأ المأساة وتبدأ المرأة تحولاً جديداً في حياتها، فهل يا ترى أن هذا الرجل الذي وضع (الستلايت) لا يعلم ما يعرض فيه؟! بل هو يعلم، ولعله كان ينتقد من يضعه فوق بيته؛ ولكن بعد أن وضعه هو غَشِيَتْه الغفلة، واستحكم عليه الهوى وحبُّ الشهوات، فلم يعد يتذكر حاله قبل ذلك.

    وبعض المسلمين لا يحلو له المقام في بلاده في فترة الصيف، فيسافر إلى بعض البلدان التي تكثر فيها الفواحش ومواخير الدعارة والمراقص والخمارات، ولا يكتفي أن يذهب إليها بنفسه، بل يزيد على ذلك أن يأخذ أسرته معه إلى تلك البلاد المنسلخة من الفضيلة، بحجة أنه يريد التصييف ليتخلص بذلك من لوم بعض الفضلاء.

    بل وصل الحال ببعضهم إلى أن يأخذ بيد زوجته فيدخلها معه إلى المرقص! أيُّ حال نحن فيه؟! يدخل إلى هذا المكان ليُرِي زوجته عورات النساء الراقصات العاهرات اللاتي لا تضع إحداهن على جسدها إلا ما يستر سوأتها، ولك أن تتصور حاله بعد أن يأخذ نصيبه من ذلك المسكر، حيث يكون كالحمار يدور حول الرحى، حتى لو فُعِل بزوجته ما فُعِل لا يدري.

    وبعض المسلمين يترك نساءه يعملن أو يدرُسن بين صفوف الرجال.

    بل ومن المحزن أن ترى امرأة ذات نسب عريق وأصل أصيل قد توظَّفت سكرتيرةً عند بعض المسئولين لتعرض مفاتنها أمامه، وتعطِّر المكتب قبل حضوره، وتنسِّق الزهور له، وتتفنن في أنواع اللباس، حتى تكون غاية في الأناقة، فيا للعجب! هل يُتَصَور أن يحدث مثل هذا؟! ولو رأيتَ والدها أو أخاها أو زوجها في المجالس لقلت: ليثاً غضنفراً، لا تقف في وجهه الرجال؛ ولكن مع الأسف الشديد مظهر فقط؛ لكنه خاوٍ من أدنى معاني الرجولة الحقيقية.

    ومن الأمور المحزنة أن هذا الداء قد انتشر بين أهل الخير، فدب فيهم التساهل والضعف، فإنك إذا رأيت أحدهم حين يأتي عليه الليل وجدته شهماً غيوراً ذا حميةٍ وإباء، وما إن يأتي عليه الصباح حتى ترى ما يهولك، فقد تغيَّر ذلك الشهم الغيور إلى إنسان منسلخ منحرف، حلَّ في قلبه الوهن والخور، وتساوت عنده الأمور، وانهار العملاق، فلم يعد يميز بين الفضيلة والرذيلة.

    والمِلحُ يُصلِح مـا يُخْشى تَغَيُّرُه     فكيف بالمِلح إنْ حلَّتْ به الْغِيَرُ؟!

    فتجد أن أحدهم يخرج معه زوجته وهي كاشفة لوجهها أو رأسها، أو لابسة النقاب الذي يظهر نصف الوجه، أو تَظْهَر من خلاله العينان، وقد وضعت عليها الكحل والزينة، فلا يتأثر.

    وبعضهم تخرج المرأة من نسائه وقد لبست البنطلون، أو (الجيبكلوت) فلا يغار، بحجة أنها لبست فوقه العباءة.

    وبعضهم تخرج المرأة من نسائه إلى حفلات الأعراس، متجملةً متبرجةً وحيدةً مع السائق إلى ساعات الصباح الأولى، فلا يهتم، بل قد لا يدري.

    وبعضهم تسافر المرأة من نسائه من بلدٍ إلى بلد، أو من مدينة إلى مدينة من غير محرم، فتركب الطائرة متعرضةً للأخطار والفتن ونظرات الرجال وهي وحيدة ليس معها من يحميها.

    وزد على ذلك أن بعض النساء إذا ركبت الطائرة وليس معها رجل فإنها لن تسلم من نظرة الركاب، وتليين الكلام معها؛ طمعاً للحصول على شيء منها؛ لأنه يراها صيداً سهلاً.

    وأدهى من ذلك وأمر: ما يندى له الجبين ويحزن القلب له، مما يحصل من بعض النساء حين تركب الطائرة، فإنها تكشف وجهها، أو تخلع عباءتها حيث لا يكون عليها رقيب ولا حسيب.

    ولا أظنه خافياً ما يحصل من بعض النساء من الضحك، والخلوة، والخضوع بالقول، مع الأطباء أو الباعة، أو مع بعض الموظفين في الدوائر الحكومية، ناهيك عن قيادة النساء للسيارات يمرحن يميناً وشمالاً.

    وهذا كله على سبيل التمثيل، وإلا فإن الهموم كثيرة والجروح نوازف:

    وما خشيتُ من المـاضي ونكبتِه     إني أخاف على قومي من الآتي

    نداء الفطرة :-

    لو نظرت بعين المتأمل إلى الوضع الذي نعيشه لأبصرت ما نحن فيه من الفساد الأخلاقي الذي طغى على كثير من بلداننا الإسلامية، فأصبح كثير من المسلمين لا يغار على محارمه، فتخرج الزوجة أو الابنة أو الأخت سافرة متبرجة، فلا يحرك ذلك قلبَه، ولا تهتز له جوارحُه، بل ولعله يفاخر بتلك المناظر، ويرى أنها مما تزيده تحضراً وحتى يقال عنه أنه إنسان انفتاحي.

    إن كثيراً من هؤلاء أعرض عن تعاليم هذا الدين العظيم الذي أعزنا الله به بعد الذلة، وأكرمنا به بعد المهانة، وأعرضوا عن اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وراحوا يقلدون الكفار شبراً بشبر وذراعاً بذراع، يظنون أن ذلك تقدماً ورقياً، وهو والله خسة ودناءة وسقوط إلى الهاوية.

    كما أن كثيراً منهم أثرت فيه الفتن والمغريات، واستسلم لها فتشرَّبها قلبُه حتى صار جزءاً منها، لا يستطيع عيشاً بدونها، ولا يأنس إلا بها، فانتكست فطرته، وأصبح يرى المنكر معروفاً والمعروف منكراً، ولو جاء من يبين له الطريق ويوضح له المحجة رأى أن نفسه هو المحق، وأن هذا المتكلم على خطأ، وأنه رجعي أو متخلف، لا يريد تقدماً ولا حضارة، وكأن التقدم والحضارة بتكشف النساء وتفسخهن، قاتل الله المفاهيم العوجاء.

    ولكن لا غرابة! فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وهو الصادق المصدوق فقال: (تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً، فأيُّ قلبٍِ أُشْرِبَها نُكِتَت فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نُكِتَت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى يصير القلب مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخَر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشْرِب مِن هواه) .

    ولو نظرت إلى بيوت أهل المعاصي وما يحصل من كبائر الذنوب لرأيت عجباً، ولوجدت أن أحدهم قد جاء بأنواع المنكرات التي كان يمارسها في الخارج فأدخلها جميعاً على أهله؛ لأنه قد اختلطت عليه الأمور، وفقد التمييز، وصارت هذه المنكرات روحاً لا تفارق جسده، ورآها من أعرف المعروف. فلِمَ لا يمارسها في بيته؟! فلم يكفِه أنه انحرف بل قاد أهله معه إلى الانحراف.

    فيا حسرتا على النساء اللاتي لا غيور لهن!

    وإنني لأرى مَن لا حياءَ له     ولا أمانة وسط القوم عرياناً

    1.   

    الرجال وسقوط الغيرة من قلوبهم

    مما جعل بعض الرجال تسقط غيرته وتهده إلى الحضيض: ظنه أن الحشمة والستر قد مضى زمانهما وانقضى، وأنه لا يريد أن ينغص على زوجته، وذلك حتى يدلل لها على أنه رجل متفهم، وأنه ضد الاحتكار! ولا يدري المسكين أنه بفعله هذا قد سقط، وأول ما سقط من عينها هي إلى الأبد؛ لأن المرأة تريد أن تعيش مع رجل تأوي إليه وقت الشدة، وتحس بخوفه عليها، ويحوطها برعايته.

    وحتى أبرهن على ما ذكرته لكم هنا، فهذه الكلمات من زوجات نطقن بالحقيقة التي قد تخفى على كثير من الناس:

    تقول إحداهن: لقد تزوجت منذ خمس سنوات، ولم يكن زوجي يمنعني من أي شيء عندما خطبني، فكنت أرتدي ما يحلو لي، وأرتاد الكثير من الأماكن المختلطة، وقد كان يلاحظ نظرات الرجال ولا يقول شيئاً، وبصراحة تمنيت أن أشعر بغيرته؛ ولكن مع مرور الأيام بدأتُ ألاحظ أنه لا يغار، فمهما فعلتُ ومهما حصل فهو لا يتأثر، وقد تشاجرت معه كثيراً بافتعال أسباب أخرى؛ ولكنني في حقيقة الأمر كنت أشعر بإحباط بسبب عدم غيرته، وما زلت أعاني من هذا الأمر، إلا أنني لم أعترف له بذلك حتى الآن، ولم أخبره بشيء، فهذا الأمر لا يقال، بل يجب أن يشعر به هو بنفسه.

    وتقول أخرى: يجب أن تشعر المرأة أن زوجها يغار عليها، فأنا أرى أن الزوج الذي لا يغار على زوجته لا يحبها، ولا يهتم بها، فأما أنا فإنني أرى السعادة عندما يرفض زوجي أمراً بسبب غيرته عليَّ.

    وأردفت ثالثة تقول: أعتقد أن عدم غيرة الزوج أخطر من غيرته الشديدة، فأنا أفضل أن يمنعني زوجي من الخروج، وأن يغار عليَّ لدرجة الشك، من ألا يغار على الإطلاق، فهذا يشعرني أنني مرفوضة، وأنه لا يهتم بي.

    إن في كلام هؤلاء النسوة توضيح جلي بنظرة المرأة للرجل الذي لا يغار؛ لأنها حينئذٍ ستحس بالنقص الذي سيكدر حياتها؛ لأنها فُطِرت على ذلك؛ ولكن يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس:26] هذه الحقيقة، فيستيقظوا من رقادهم الطويل، ويتنبهوا من غفلتهم التي أطبقت على قلوبهم فيستدركوا ما فاتهم.

    ومما أوصل الحالَ إلى ما هي عليه الآن من السوء والتدهور: أننا فقدنا أولئك الشباب الغيورين الذين كان أحدهم إذا بلغت أخته سن العاشرة حبسها في البيت، وعاملها معاملة النساء الكبيرات، فلا تخرج إلا بحدود ضيقة مغطية رأسها، والويل لها إن وقفت عند الباب أو نادت الباعة، فعند ذلك لا تتصور ما يأتيها من النكاية، ولذا تجد البنت تنشأ وقد تشربت الأخلاق الحسنة؛ ولكن مع الأسف الشديد فقدنا ذلك الصنف من الشباب، فصاروا أندر من النادر، فتجد المنزل يدخلُه كلُّ ما يُفسد الأخلاق ويدمرُها، فخرجت عندنا هذه الأصناف المنحرفة!

    فواأسفا مِن فقدهم وفراقهم     وواسوءتا من بُعد أهل الفضائل

    لقد بَخِلَت عينٌ تضن بمائها     على فقدهم أو دمع عين تهامل

    وإني أخص الشباب بالذكر؛ لأنهم أدركوا من سبل الانحراف ما لم يدركه من كان قبلهم، فكان الواجب عليهم أن يحصنوا بيوتهم منها، ويحذروا أن تداهمهم، لا أن يغفلوا كما غفل غيرهم حتى داهمهم الفساد على حين غِرَّة فأصابهم في مقتل، فسقطوا على إثره يتأوَّهون من الألم ويشتكون الإصابة:

    كفى حزناً ألا حياة هنيئة     ولا عملٌ يرضى به الله صالحُ

    1.   

    الغيرة بين الماضي والحاضر

    أيها الأفاضل! أيتها الفاضلات! انظروا كيف كان حالنا، وأي حال نحن فيه اليوم!

    ألا ترون أنه لم يعد للابتسامة الصادقة فوق شفاهنا مكان؟!

    ألا ترون أنه لم يعد للفرحة في قلوبنا مكان؟!

    لماذا كلما نظرت إلى وجه امرئ وجدت فيه هموماً مجتمعة؟!

    هل هو تحسُّرٌ على الماضي وطيبته؟!

    أم خوف من المستقبل وما يُخَبِّئه؟!

    أم هو التعب من مجاراة الواقع المفروض دون اقتناع؟!

    انظروا كيف كنا

    كيف أصبحنا وصرنا

    قد تلاشى حلمنا الغالي ولم نجني سوى دمعةٍ حرَّى

    وآهاةٍ وحزنا

    وابتساماتٍ بدت باهتة وجراحاتٍ وخفاقاً معنى

    حين كنا نعلن الحرب على أهل الرذيله

    في سمانا أشرقت شمس الفضيله

    وكتبنا مجدنا فوق الثريا

    وتخطينا حدوداً مستحيله

    هكذا كنا ولكن

    كيف صرنا؟

    كل شيء قد تغير

    وفقدنا مجدنا ما بين أفاكٍ ومفتَر

    يحسبون العز في قتل المبادئ

    ويرون الحق أوهاماً ومنكر

    انتبهوا لا تخدعنكم تلك الشعارات الزائفة، فإنما هي في الحقيقة فخٌ يراد اصطيادكم من خلاله.

    إننا قد ابتلينا في مجتمعاتنا بأناس قد تشربوا الأفكار الغربية النتنة بعدما عاشوا في أحضانها زمناً طويلاً، فعادوا إلينا محاولين نقل تلك الأفكار الغربية إلى بلادنا، أو نقل بلادنا إليهم.

    إن تلك الشعارات البراقة التي يرفعها هؤلاء لا تلبث أن تنكشف، وينكشف ما وراءها، اسمعوا إلى اعترافات هؤلاء الذين عملوا جاهدين لنقل أمتنا إلى تلك الحضارة الغربية الزائفة، فبعد عملهم الدءوب على تغيير مسار الأمة إذا بهم يرجعون بائسين، يضربون أكفهم ويعضون أناملهم ندماً على تلك الدعوة الفاجرة التي قادوا زمامها من أجل إغراق الأمة في حضيض الجاهلية الغربية.

    يجب أن نتنبه إلى هذه الدعوات الفاجرة التي يراد من خلالها قتل الغيرة في قلوبنا إلى الأبد، ويجب أن يتنبه شبابنا إلى أنفسهم لئلا ينجرفوا خلف هذه الدعوات الفاضحة.

    إن شبابنا مستهدفون محاربون بشتى الوسائل وكافة الطرق؛ ليخرج منهم جيل يحارب الفضيلة، ويسير في ركاب المدنية الغربية للانحراف بأمته نحو الهلاك!

    1.   

    قصة مؤلمة لأحد دعاة التحرر

    اسمعوا إلى هذه القصة المؤثرة التي تمثل نهاية رجل كان من أدعياء التحرر، حمل همَّ هذه القضية على عاتقه، وبعد طول أمد كان هو الضحية لتلك الدعوة؛ التي اجتهد في جعلها واقعاً ملموساً، فقد اكتشف خطأ دعوته ولكن بعد ماذا؟!

    يقول المنفلوطي في كتابه: العبرات ؛ يحكي قصة أحد أصدقائه من أدعياء التحرر:

    ذهب فلان إلى أوروبا ، وما ننكر من أمره شيئاً، فلبث فيها بضع سنين ثم عاد، وما بقي مما كنا نعرفه منه شيء، ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها، وعاد بوجهٍ كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة، وذهب بقلبٍ نقيٍ طاهر يأنس بالعفو، ويستريح إلى العذر وعاد بقلبٍ ملفق مدخول لا يفارقه السخط على الأرض وساكنيها، والنقمة على السماء وخالقها، وذهب برأسٍ مملوء حلماً ورأياً، وعاد برأسٍ كرأس التمثال المثقَّب لا يملؤها إلا الهواء المتردد، وذهب بنفْس غضة خاشعة ترى كل نفْسٍ فوقها، وعاد بنفْس ذهَّابة نزاعةٍ لا ترى شيئاً فوقها، ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها، وكنتُ أرى أن الصورة الغربية التي يتراءى فيها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغاً، لا تلبث أن تطبع عليها شمس المشرق حتى تتصل وتتطاير ذراتها في أجواء السماء، وأن مكان المدنية الغربية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة إذا انحرف عنها زال خياله منها.

    فلم أشأ أن أفارق ذلك الصديق، ولبسته على علاَّته وفاءً بعهده السابق، ورجاءً لغده المنتظر، محتملاً في سبيل ذلك حمقه ووسواسه، وفساد تصوراته وغرابة أطواره ما لا طاقة لمثلي احتمال مثله، حتى جاءني ذات ليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب فكانت آخر عهد به: دخلت عليه فرأيته واجماً مكتئباً، فحييته، فأومأ لي بالتحية إيماءً، فسألته: ما باله؟ فقال: ما زلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء، لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه، ولا أدري مصير أمري منه.

    قلت: وأيَّ امرأة تريد؟

    قال: تلك التي يسميها الناس زوجتي، وأسميها الصخرة العاتية في طريق مطالبي وآمالي.

    قلت: إنك كثيرُ الآمال يا صاحبي! فعلى أيِّ آمالِك تتحدث؟

    قال: ليس لي في الحياة إلا أمل واحد؛ وهو أن أغمض عيني ثم أفتحهما فلا أرى برقعاً على وجه امرأة في هذا البلد.

    قلت: ذلك لا تملكه ولا رأي لك فيه.

    قال: إن كثيراً من الناس يرون في الحجاب رأيي، ويتمنون في أمره ما أتمنى، ولا تحول بينهم وبين نزعه عن وجوه نسائهم، وإبرازهن إلى الرجال يجالسنهم كما يجلس بعضهن إلى بعض إلا العجزُ والضعفُ والهيبةُ التي لا تزال تَلُمُّ بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد.

    فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء القديم، الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائها دهراً طويلاً، وأن يتم على يديَّ، ما لم يتم على يدي أحد غيري من دعاة الحرية وأشياعها.

    فعرضت الأمر على زوجتي فأكْبَرَتْه وأعْظَمَتْه، وخُيِّل إليها أنني جئتها بالنكبات العظام والرزايا الجسام، وزعمت أنها إن برزت إلى الرجال فإنها لا تستطيع أن تبرز إلى النساء بعد ذلك حياءً منهن وخجلاً، ولا خجل هناك ولا حياء؛ ولكنه الجمود والموت والذل الذي ضربه الله على هؤلاء النسوة في هذا البلد أن يعشن في قبور مظلمة من خدورهن وخمرهن، حتى يأتيهن الموت فيُنقلن من مقبرة الدنيا إلى مقبرة الآخرة.

    فلا بد لي أن أبْلُغ أمنيتي، وأن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجاً ينتهي بإحدى الحسنيين:

    - إما بكسره أو شفائه.

    فورد عليَّ من حديثه ما ملأ نفسي هماً وحزناً، ونظرت إليه نظرة الراحم، وقلت: أعالِمٌ -أيها الصديق- أنت ما تقول؟

    قال: نعم. أقول الحقيقة التي أعتقدها، وأدين نفسي بها، واقعةً من نفسك ونفوس الناس جميعاً حيث وقَعَت.

    قلت: هل تأذن لي أن أقول لك: إنك عشت فترةً طويلة في ديار قومٍ لا حجاب بين رجالهم ونسائهم، فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوماً من الأيام، وأنت فيهم بالطمع في شيء مما لا تملك يمينك من أعراض نسائهم، فنلت ما تطمع فيه من حيث لا يشعر مالكه؟

    قال: ربما وقع لي شيءٌ من ذلك. فماذا تريد؟

    قال: أريد أن أقول لك: إني أخاف على عرضك أن يَلُمَّ به من الناس ما ألَمَّ بأعراض الناس منك.

    قال: إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال وهي من شرفها وعفتها في حصنٍ حصين لا تمتد عليه المطامع. وهذه شبهةُ الضعفاءِ فاقدي الغيرة في كل زمان وأوان.

    قلت: تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها الضعفاء، والثُّلْمة التي يعثر بها في زوايا رءوسكم، فينحدر منها إلى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم، إن النفس الإنسانية كالغدير الراكد، لا يزال صافياً رائعاً حتى يسقط فيه حجر، فإذا هو مستنقع كدر، والعفة لون من ألوان النفس، وقلَّما تثبت الألوان على أشعة الشمس المتساقطة.

    قال: أتنكر وجود العفة بين الناس؟

    قلت: لا؛ ولكني أنكر وجودها عند الرجل القادر المختلب، والمرأة الحاذقة المترفقة إذا سقط بينهما الحجاب، وخلا وجه كلٍّ منهما لصاحبه.

    فما زاد الفتى أن ابتسم في وجهي ابتسامة الهَزْء والسخرية، وقال: تلك حماقات ما جئنا إلا لمعالجتها، فلنصطبر عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها.

    فقلت له: لك أمرك في نفسك وأهلك فاصنع بهما ما تشاء، وأذن لي أن أقول لك: إني لا أستطيع أن أختلف إلى بيتك بعد اليوم إبقاءً عليك وعلى نفسك؛ لأني أعلم أن الساعة التي ينفرج لي جانب ستر من أستار بيتك على وجه امرأة من أهلك تقتلني حياءً وخجلاً.

    ثم انصرفت، وكان هذا فراق بيني وبينه، وما هي إلا أيام قلائل حتى سمعت أن الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله بين نسائه ورجاله، وإن بيته أصبح مغشياً لا تزال النعال خافقةً ببابه، فذرفت عيني دمعةًَ لا أعلم هل هي دمعة الغيرة على العرض المُذَل، أو الحزن على الصديق المفقود.

    مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا أزوره فيها ولا يزورني، ولا ألقاه في طريقي إلا قليلاً فأحييه تحية الغريب للغريب، ثم أنطلق في سبيلي. فإني لَعائدٌ إلى منزلي ذات ليلة وقد مضى الشطر الأول من الليل إذ رأيته خارجاً من منزله يمشي مشية الذاهل الحائر، وبجانبه جندي من جنود الشرطة كأنما هو يحرسه أو يقتاده، فأهمني أمره، ودنوت منه وسألت عن شأنه، فقال: لا علم لي بشيء سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة ببابي يدعوني إلى مخفر الشرطة، ولا أعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سبباً، وما أنا بالرجل المذنب ولا المريب، فأرجوك يا صديقي! بعد الذي كان بيني وبينك أن تصحبني الليلة؛ لعلي أحتاج إلى معونتك فيما يعرض لي هناك من الشئون.

    قلت: لا أحبَّ إليَّ من ذلك.

    ومشيت معه صامتاً لا أحدثه ولا يقول لي شيئاً، ثم شعرت كأنه يدور في نفسه كلاماً يريد أن يفضي به إليَّ فيمنعه الحياء والخجل، ففاتحته الحديث وقلت له: ألا تستطيع أن تتذكر لهذه الدعوى سبباً؟

    فنظر إليَّ نظرة حائرة وقال: إن أخوف ما أخافه أن يكون قد حصل لزوجتي الليلة حادث، فقد رابني من أمرها أنها لم تعد إلى المنزل حتى الساعة، وما كان ذاك شأنها من قبل.

    قلت: أما كان يصحبها أحد؟

    قال: لا.

    قلت: ألا تعلم المكان الذي ذهبت إليه؟

    قال: لا.

    قلت: ومم تخاف عليها؟

    قال: لا أخاف شيئاً سوى أنني أعلم أنها امرأة غيور، فلعلَّ بعض الناس حاول العبث بها في طريقها فشرست عليه، فوقعت بينهما واقعة انتهى أمرها إلى مخفر الشرطة.

    وكنا قد وصلنا إلى المخفر، فاقتادني الجندي إلى قاعة المأمور فوقفنا بين يديه، فأشار إلى جندي أمامه إشارة لم نفهمها، ثم استدنى الفتى إليه وقال له: يسوءني أن أقول لك: يا سيدي! إن رجال الشرطة قد عثروا في مكانٍ من أمكنة الريبة برجلٍ وامرأة في حالٍ غير صالحة، فاقتادوهما إلى المخفر، فزعمت المرأة أن لها بك صلة، فدعوناك لتكشف لنا الحقيقة في أمرها، فإن كانت صادقة أذنا لها بالانصراف معك إكراماً لك وإبقاءً على شرفك، وإلا فهي امرأة عاهرة لا نجاة لها من عقاب الفاجرات، وهما وراءك فانظرهما، وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى، فالتفت وراءه فإذا المرأة زوجته، وإذا الرجل أحد أصدقائه، فصرخ صرخة ردفت لها جوانب المخفر، وملأت نوافذَه وأبوابَه عيوناً، ثم سقط في مكانه مغشياً عليه.

    فحملناه في مركبةٍ إلى منزله، ودعونا له الطبيب، فقرر أنه مصاب بحمى دماغية شديدة، فلبثتُ بجانبه أرثي بحاله، وأنتظر قضاء الله فيه، حتى رأيته يتحرك في مضجعه، ثم فتح عينيه فرآني، فلبث شاخصاً إليَّ هنيهة كأنما يحاول أن يقول لي شيئاً فلا يستطيعه، فدنوت منه وقلت: هل لك من حاجة؟

    فرفع رأسه فإذا عيناه تذرفان بالدموع، فقلت: ما بكاؤك يا صاحبي؟!

    قال: أتعلم أين زوجتي الآن؟

    قلت: وماذا تريد بها؟

    قال: لا شيء، سوى أن أقول لها إني قد عفوت عنها.

    قلت: إنها في بيت أبيها.

    قال: وارحمتاه لها ولأبيها ولجميع قومها! فقد كانوا قبل أن يتصلوا بي شرفاء، أمجاداً فألبستهم مذ عرفوني ثوباً من العار لا تَبلُّه الأيام، لقد كنت أقسمت لأبيها يوم ضممتها إليَّ أن أصون عرضها صيانتي لحياتي، وأن أمنعها مما أمنع منه نفسي، فحنثت في يميني، نعم. إنها قتلتني؛ ولكن أنا الذي وضعت في يدها الخنجر الذي أغمده في صدري فلا يسألها أحد عمداً، البيت بيتي، والزوجة زوجتي، والصديق صديقي، وأنا الذي فتحت باب بيتي لصديقي إلى زوجتي، فلم يذنب إليَّ أحد سواي.

    ثم أمسك عن الكلام هنيهة، فنظرت إليه فإذا سحابة سوداء تنتشر فوق جبينه شيئاً فشيئاً، حتى لبست وجهه، فزفر زفرة شديدة تصورت أنها خرقت حجاب قلبه! ثم قال: آه! ما أشد الظلام أمام عيني! وما أضيق الدنيا في وجهي في هذه الغرفة على هذا المقعد تحت هذا السقف! كنت أراهما جالسين يتحدثان، فتمتلئ نفسي غبطة وسروراً، وأحمد الله على أن رزقني الله بصديقٍ وفيٍّ يؤنس زوجتي في وحشتها، وزوجةٍ سمحةٍ كريمةٍ تكرم صديقي في غيبتي، فقولوا للناس جميعاً: إن ذلك الرجل الذي كان يفخر بالأمس بذكائه وفطنته، ويزعم أنه أكيس الناس وأحزمهم، قد أصبح يعترف اليوم أنه أبله إلى الغاية من البلاهة، وغبي إلى الغاية التي لا غاية وراءها، لعلَّ الناس كانوا يعلمون من أمري ما كنت أجهل، ولعلهم إذا مررتُ بهم كانوا يتناظرون ويتغامزون ويبتسم بعضهم إلى بعض، أو يحدقون إليَّ ويطيلون النظر في وجهي ليروا كيف تتمثل البلاهة في وجوه البله والغباوة في وجوه الأغبياء، ولعلَّ الذين كانوا يتوددون إليَّ ويتمسحون بي من أصدقائي إنما كانوا يفعلون ذلك من أجلها لا من أجلي، ولعلهم كانوا يسمونني فيما بينهم قواداً، ويسمون زوجتي مومسة، وبيتي ماخوراً، وأنا عند نفسي أشرف الناس وأنبلهم، فوارحمتاه لي إن بقيت على ظهر الأرض بعد اليوم ساعة واحدة! ووالهفاً على زاوية منفردة في قبرٍ موحشٍ يُطْوَى لي ويطوي عاري معي.

    وأغمض عينه وعاد إلى ذهوله واستغراقه.

    وهنا دخلت الحجرة مرضعة ولده تحمله على يدها حتى وضعته بجانب فراشه، ثم تركته وانصرفت، فما زال الطفل يدب على أطرافه حتى وقف على صدر أبيه، فأحس به ففتح عينيه، فرآه فابتسم لمرآه وضمه إلى صدره ضمة الرفق والحنان، وأدنى فمه من وجهه ليقبله، ثم انتفض فجأةً ودفعه عنه بيده دفعةً شديدة وأخذ يصيح: أبعدوه عني، لا أعرفه، ليس لي أولاد ولا نساء، سلوا أمه عن أبيه من هو؟ واذهبوا به إليه، لا ألبس العار في حياتي وأتركه أثراً خالداً بعد مماتي.

    وكانت المرضعة قد سمعت صياح الطفل، فعادت إليه وحملته وذهبت به، فسمع صوتَه وهو يبتعد عنه شيئاً فشيئاً، فأنصت واستعبر باكياً وصاح: أرجعوه إليَّ. فرجعت به المرضعة فتناوله من يدها، وأنشأ يقلب نظره في وجهه ويقول: في سبيل الله يا بني! ما خلَّف لك أبوك من اليتم، وما خلَّفت لك أمك من العار، فاصفح عنهما، ثم احتضنه إليه وقبَّله في جبينه قبلةً لا أعلم هل هي قبلة الأب الرحيم، أو المحسن الكريم، وكان قد بلغ منه الجهد فعاوَدَته الحمى وغَلَت نارُها في رأسه، وما زال يذكر شيئاً فشيئاً حتى خِفْتُ عليه التلف، فأرسلتُ وراء الطبيب فجاء وألقى عليه نظرة طويلة، ثم استردها مملوءة يأساً وحزناً، ثم بدأ ينزع نزعاً شديداً، ويئن أنيناً مؤلماً، فلم تبقَ عين من العيون المحيطة به إلا أرخصت عما تستطيعه من مدامعهم، فإنا لَجُلوس حوله وقد بدأ الموت يسدل أستاره السوداء على سريره، وإذا بامرأة مؤتزرة بإزار أسود قد دخلت الحجرة وتقدمت نحوه ببطء، ثم أكبَّت على يده الموضوعة فوق صدره تقبِّلها، وأخذت تقول: لا تخرج من الدنيا وأنت مرتاب في ولدك، فإن أمه تعترف بين يديك وأنت ذاهب إلى ربك أنها وإن كانت قد دنت من الجريمة ولكنها لم ترتكبها، فاعفُ عني يا والد ولدي! وأسأل الله أن يلحقني بك، فلا خير لي في الحياة من بعدك، ثم انفجرت باكية، ففتح عينيه وألقى على وجهها نظرة باسمة كانت هي آخر عهده بالحياة.

    إن هذه القصة تمثل -باختصار- النتيجة الفعلية للدعوة نحو التحرر من مبادئ الإسلام وأخلاق الفضيلة، إن هذه القصة شهادةُ حقٍّ مِن رجل ذاق وبال فعله، واجتهد أن يكون قائداً لمعركة شرسة فكان أول قتيل فيها، هذه القصة المؤثرة أهديها لفضلاء الأمة حتى يعرفوا نتيجة الدعوة الشرسة إلى التحرر من الفضيلة، وأبعث بها رسالةً خاصة لمن انتهج نهج هذا الرجل المسكين الذي حمل أوزار أمةٍ بأكملها، إن هذا الرجل ما هو إلا مثل لصنف انتشر في مجتمعاتنا الطيبة، وإن لم يتنبه فضلاء الأمة لأمثالهم فإنهم سيقتلون غريزة الإباء والأنفة المتبقية في القلوب إلى الأبد، وسيقلبون واقعنا المحافظ إلى البهيمية الغربية بعينها.

    1.   

    دعوة للتأمل

    تأملوا كم أمامنا من صور! وكم حدث في واقعنا من عبر! أما كان لنا في ذلك معتبر؟!

    لقد كنا في مأمن من الفساد، حتى جاءنا أفراخ الغرب وأنصار العلمانية ؛ فغيروا ذلك الواقع الطيب إلى ما نرى، فكيف هو حالنا اليوم؟!

    إننا نعيش أنكى مكيدة لتذويب الدين في نفوس المؤمنين، وتحويل جماعة المسلمين إلى سائمة تُسام، وقطيعٍ مهزوزٌ اعتقادُه، غارقٍ في الشهوات، مُسْتَرَقٍّ في اللذات، متبلدٍ في إحساسه، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، حتى ينقلب منهم من غلبت عليه الشقاوةُ على عقبيه خاسراً، ويرتد منهم من يرتد عن دينه بالتدريج؛ كل هذا ينذر باقتحامِ الولاء والبراء، وتجريدِ الحب والبغض في الله، وإلجامِ الأقلام، وكفِّ الألسن عن قول كلمة الحق، وصناعةِ الاتهامات لمن بَقِيَتْ عنده بَقِيَّةٌ للخير، ورَمْيِه بلباس الإرهاب والتطرف والغلو والرجعية، إلى آخر ألقاب الذين كفروا للذين أسلموا، والذين استُغْرِبوا للذين آمنوا وثَبَتوا، والذين غَلبوا على أمرهم للذين استضْعِفوا.

    ومِن أشأم هذه المخاطر وأشدِّها نفوذاً في تمييع الأمة وإغراقها في شهواتها وانحلال أخلاقها: سعيُ دعاة الفتنة الذين تولوا عن حماية الفضائل الإسلامية في نسائهم ونساء المؤمنين إلى مدارجِ الفتنة، وإشاعةِ الفاحشة ونشرِها، وعدولهم عن حفظ نقاء الأعراض وحراستها إلى زلزلتها عن مكانها، وفتحِ باب الأطماع في اقتحامها؛ كل هذه من خلال الدعوات الآثمة، والشعارات المضلِّلة، باسم حقوق المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل، وهكذا مَن دعوا في قوائم يطول شرحها بعقول صغيرة، وأفكار مريضة، يترجلون بالمناداة إليها في بلاد الإسلام، وفي المجتمعات المستقيمة إلى إسقاط الحجاب وخلعه، ونشر التبرج والسفور والعري والخلاعة والاختلاط؛ حتى يقول لسان المرأة المتبرجة: هيتَ لكم أيها الإباحيون.

    وقد تلطفوا في المكيدة فبدءوا بوضع لبنة الاختلاط بين الجنسين في رياض الأطفال، وبرامج الأطفال في وسائل الإعلام، وركن التعارف بين الأطفال، وتقديم باقات الزهور بين الجنسين في الاحتفالات، وهكذا يُخْتَرق الحجاب، ويؤسَّس الاختلاط بمثل هذه البدايات التي يستسهلها كثير من الناس.

    وكثير من الناس تغيب عنهم مقاصد البدايات كما تغيب عنهم معرفة مصادرها كما في تجدد الأزياء؛ انظروا إلى الأزياء الفاضحة الهابطة فإنها من لدن البغايا اللائي خسرن أعراضهن، فأخذن يعرضن أنفسهن بأزياء متجددة هي غاية في العري والسفالة، وقد شُحِنت بها الأسواق، وتبارى الناس في السبق بشرائها، ولو علموا مصدرها المتعفن لتباعد الذين فيهم بقيةٌ من حياء.

    إن العفة حجاب يمزقه الاختلاط، ولهذا صار طريق الإسلام التفريق والمباعدة بين المرأة والرجل الأجنبي عنها، فالمجتمع الإسلامي مجتمع فردي لا زوجي، فللرجال مجتمعاتهم، وللنساء مجتمعاتهن، ولا تخرج المرأة إلى مجتمع الرجال إلا لضرورة أو حاجة بضوابط الخروج الشرعية؛ كل هذا لحفظ العرض والنسل، وحراسة الفضائل، والبعد عن الريب والرذائل، وعدم إشغال المرأة عن وظائفها الأساسية في بيتها، ولذا حرم الاختلاط سواء في التعليم أو العمل والمؤتمرات والندوات والاجتماعات العامة والخاصة وغيرها؛ لما يترتب عليه من هتك الأعراض، ومرض القلوب، وخطرات النفوس، وخنوثة الرجال، واسترجال النساء، وزوال الحياء، وتقلص العفة والحشمة، وانعدام الغيرة.

    إن بعض من في قلوبهم مرض يأبون إلا الخروج على تلك المبادئ بنداءاتهم المعلنة في ذلك، فمعاذ الله أن يمر على السمع والبصر إعلان المنكر والمناداة به، وهضم المعروف والصد عنه، ولا يكون للمصلحين منا في وجه هذا العدوان صوت جهير بإحسان يبلغ الحاضر والباد، إقامةً لشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي به ينافَح عن الدين، ويُنْصَح للمسلمين عن التردي في هوَّة صيحات العابثين، وبه تحرس الفضائل، وتكبد الرذائل ويؤخذ على أيدي السفهاء، ومعلومٌ أن فُشُوَّ المنكرات يكون بالسكوت عن الكبائر وتأويل الصغائر، ولا سيما ونحن نلاحظ كضيضاً من زحام المعدومين المجهولين من أهل الريب والفتن المستغربين المسيَّرين يحملون الأقلام المتلاعبة بدين الله وشرعه، يختالون في ثياب الصحافة والإعلام، وقد شرحوا بالمنكر صدراً، فانبسطت ألسنتهم بالسوء، وجرت أقلامهم بالسوء، وجميعها تلتئم على معنى واحد هو: التطرف الجنوني في مزاحمة الفطرة ومنابذة الشريعة، وجر أذيال الرذائل على لسان المسلمين، وتفريطهم من الفضائل بدعوتهم الفاجرة في بلاد الإسلام إلى حرية المرأة والمساواة بين المرأة والرجل في جميع الأحكام، للحصول على جريمة التبرج والاختلاط، وخلع الحجاب، ونداءاتهم الخاسرة من كل جانب بتفعيل الأسباب لخلعه من البقية الباقية في نساء المسلمين اللائي أسلمن الوجه لله تعالى، وسلَّمن القيادة لمحمد صلى الله عليه وسلم.

    نسأل الله لنا ولهن الثبات، ونبرأ إلى الله من الضلالة، ونعوذ به سبحانه من سوء المنقلب.

    وهؤلاء الرماة الغاشون لأمتهم، المشئومون على أهلهم وبني جنسهم، بل على أنفسهم قد عظمت جراءتهم، وتلون مكرهم بكلمات تخرج من أفواههم وتجري بها أقلامهم، إذ أخذوا يهدمون في الوسائل، ويخترقون سد الذرائع إلى الرذائل، ويتقحمون الفضائل، ويهولون من شأنها، ويسخرون منها ومن أهلها.

    نعم. قد كتب أولئك المستغرِبون في كل شئون المرأة الحياتية، وخاضوا في كل المجالات العملية إلا في أمومتها وفطرتها وحراسة فضيلتها، كل هذا البلاء المتناسل، واللغو الفارغ، وسقط القول المتآكل تفيض به الصحف وغيرها باسم الثبات والانتصار للمرأة في حقوقها وحريتها، ومساواتها بالرجل في كل الأحكام، حتى يصل ذوو السفالة والمستغرِبون إلى هذه الغاية الآثمة وهي: إنزال المرأة إلى جميع ميادين الحياة والاختلاط، وخلع الحجاب، بل لتمد المرأةُ يدها بطوعها إلى وجهها، فتـزيل عنه خمارها مع ما يتبعه من الفضائل، وإذا خُلِع الحجاب عن الوجه فلا تسأل عن انكسار عيون أهل الغيرة، وتقلص ظِل الفضيلة، وانتشار الرذيلة، والتحلل من الدين، وشيوع التبرج والسفور والتهتك والإباحية بين الزناة والزواني، وأن تهب المرأة نفسها لمن تشاء، قال الله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27].

    قال بعض السلف: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ [النساء:27] : هم الزناة، أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] : أي: يزني أهل الإسلام كما يزنون.

    1.   

    دعاة التغريب وقضية إفساد المرأة والمجتمع

    يتصاعد شأن قضية المرأة إلى قضية إفساد العالم الإسلامي، وهذه الخطة الضالة ليست وليدة اليوم، إنها هي جادَّة الذين مكروا السيئات مِن قبلُ في عدد من الأقطار الإسلامية، حتى آلت الحال إلى واقعٍ شاع فيه الزنا، وشُرِعت فيه أبواب بيوت الدعارة، ودور البغاء بأذون رسمية، وعُمِرت خشبات المسارح بالفن الهابط من الغناء والرقص، والتمثيل، وسُنَّت القوانين لإسقاط الحدود، وإلغاء التعزير عن رضا. وهكذا انتشرت آثار التدمير في الأعراض والأخلاق والآداب، ولا ينازع في هذا الواقع الإباحي الأثيم إلا مَن نزع الله البصيرة من قلبه! فهل يريد أُجَراء اليوم أن تصل الحال إلى ما وصلت إليه البلاد الأخرى من الحال الأخلاقية البائسة، والواقع المر الأثيم؟!

    إن في الساحة أُجَراء مستغرَبين، ولهم أتباعٌ أُجَراء مِن سَذَجة الفُسَّاق أتباع كل ناعق، يصوبون سهامهم لاستلاب الفضيلة من نساء المؤمنين، وإنزال الرذيلة بهن، ويجمع ذلك كله قول الله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] .

    يا أمتي كنا شعاعَ هدايةٍِ     للناس فالدنيا بنا أنوارُ

    كنا نسير فحيث سرنا أمة     تحكي بها الآمالُ والأعمارُ

    كنا على الأيام صوت مؤذن     فرِحَت به الأنصار والأسحارُ

    كنا هطيل الغيث مـا سقيت بنا     أرض فماتت بعدها الأزهارُ

    كنا حماة العدل فاسأل ضدنا     يخبرك أنا أمةٌ أبرارُ

    سل كل أرض قد وطئنا تربها     ستجيبك الأمجادُ والآثارُ

    سل سيف خالد عن مآثرنا التي     غنى بها سعد كذا عمار

    سل عن معاركنا التي ما صاغها     كذب وما حلمت بها أفكارُ

    سل عن حنين وسل عن اليرموك ما     دوى بها نذل ولا خوارُ

    لكن عار العار مزق صمتنا     فإلى متى يقضي علينا العارُ

    ما عدت أجزم أننا من أمةٍ     تاهت بها الأمجاد والأقمارُ

    الذل خيم فانهضي يا أمتي     إن الأسود تغير حين تثارُ

    يا أمتي! طـال السبات فأيقظي     معنى الرجولة إننا أحرارُ

    يا مسلمون! وضج في قلبي الأسى     وتقاتلت في داخلي الأمرارُ

    يا مسلمون! وفي فؤادي حسرة     لا يحتويها داخلي إضمارُ

    يا مسلمون! ودمعتي قـد فتقت     صبري وجرحي نازف موَّارُ

    يا مسلمون! وما عساي أقول في     عصر يسيرنا به التيارُ

    يا مسلمون! وألف بيتٍ في دمي     ما صغته ستصوغه الأشعارُ

    لو كان فينا مؤمن متوثب     ما ساد فينا الشر والأشرارُ

    لو كان فينا من بقايا خالد     بعض الأسود لهابنا الكفارُ

    يا ليل! حدث عن بقايا أمةٍ     مملوكةٍ يغتالها استعمارُ

    تجري بها الأيام حبلى بالمنى     في عالم أحلامه تنهارُ

    يا ليل! سوف تزول هذا وعدُنا     من ربنا وستورق الأشجارُ

    يا ربِّ إنا قد أتينا نشتكي     ظلماً وأنت الواحد القهارُ

    أيها الأكارم! الحذر .. الحذر ..! من الرحيل عن تعاليم الإسلام، إن الرفعة كل الرفعة في التمسك بهذا الدين العظيم.

    يجب أن نعرف أن رأس مال المسلم هو دينه، فإذا ذهب دينه لم يبق معه شيء، ستتبدل العزة إلى هوان، وتَخلفُ الذلةُ الأمان.

    والحذر .. الحذر ..! من التفريط في أمر الله، واعلموا أن هذه الدنيا بلاغٌ نتبلغ به إلى دار القرار.

    فيا ويح من وافى ربه بغير زاد! قال المزني رحمه الله تعالى: دخلت على الشافعي رحمه الله تعالى في علته التي مات منها، فقلت: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، ولسوء عملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، فلا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها. ثم بكى وأنشأ يقول:

    ولما قسا قلبي وضاقت مـذاهبي     جعلت الرجا مني لعفوك سُلَّما

    تعاظَمَني ذنبي فلما قرنته     بعفوك ربي كان عفوُك أعظما

    فما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزلْ     تجود وتعفو منةً وتكرُّما

    فهاهم رحمهم الله بالرغم من أعمالهم الصالحة تتقطع قلوبهم خوفاً من الله تعالى، فكيف بمن أقام على الذنب وعصى الرب؟!

    إخواني! إلى كم هذه الغفلة وأنتم مطالَبون بغير مهلة؟! تعاهدوا أيامكم بتحصيل العُدَد، وأصلحوا من أعمالكم ما فسد، وكونوا من آجالكم على رَصَد، فقد آذَنَتْكم الدنيا بالذهاب، وبين أيديكم يوم الحساب.

    فآهٍ من ثقل الحمل وسوء الرفيق! وآهٍ من قلة الزاد وبُعد الطريق!

    فيا أيها المغرور بإقباله، المفتون بكواذب آماله، الذي غاب عنه الصواب! إلى كم تؤخر التوبة، وما أنت في التأخير بمعذور؟! وإلى متى يقال عنك: مفتون ومغرور؟!

    يا مسكين! قد انقضت أشهر الخير وأنت تَعُد الشهور! أتُرَى مقبول أنت أم مطرود؟! أترى مواصَلٌ أنت أم مهجور؟!

    إخواني! السفر مكتوب علينا فما لنا نطلب الإقامة في دار ليست لنا دار إقامة؟!

    السنون منازل، والشهور مراحل، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والمعاصي قطاع، والربح الجنة، والخسران النار.

    فتزودوا من هذه الدنيا من الخير ما يكون سبباً في نجاتكم بين يدي العلي الكبير.

    نسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأن يهيئ لنا أمراً رشداً، يُعَزُّ فيه أهل طاعته، ويُذَلُّ فيه أهل معصيته، ويُؤْمَر فيه بالمعروف ويُنْهَى فيه عن المنكر.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أنفسنا، وثبت أقدامنا على الحق يا كريم!

    اللهم اغفر لنا ما أخرنا وما قدمنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.

    اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.

    اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا حي يا قيوم!

    اللهم أصلح أحوال المسلمين، وردهم إليك رداً جميلاً، وخذ بأيديهم إلى الخير والبر والتقوى.

    اللهم من أرادنا والمسلمين والمسلمات بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدميره في تدبيره، ورد كيده في نحره يا رب العالمين!

    اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

    اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، لا بطراً ولا رياء ولا سمعة، واجعل ما قلناه حجة لنا لا علينا.

    وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756359396