إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - كلام ابن تيمية في الأسماء والصفاتللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مذهب الإمام ابن تيمية في الأسماء والصفات هو مذهب السلف الصالح، فهو يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من أسماء وصفات من غير تعطيل ولا تحريف ولا تبديل ولا تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل كما يليق بجلال الله تعالى. وقد وضع قواعد عظيمة لإثبات الأسماء والصفات لله تعالى، ورد فيها على أهل البدع والأهواء كالمعطلة والمجسمة.

    1.   

    مذهب الإمام ابن تيمية في الأسماء والصفات

    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في منهج أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بصفات الله عز وجل، وذلك في المجلد الخامس (صفحة 45) من مجموع الفتاوى:

    [ فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه ]. أي: إذا وصف الله نفسه بوصف، أو وصف رسوله الكريم ربه تبارك وتعالى بوصف أو سماه باسم سميناه كما سماه من غير زيادة ولا نقصان، ومن غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل.

    قال: [ ولم نتكلف منه صفة ما سواه ]. يعني: لا نتكلف من عند أنفسنا إثبات صفة لله عز وجل لم يثبتها لنفسه ولم يثبتها له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

    قال: [ لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف ].

    والجحود أنواع: الجحود بالتأويل، والجحود بالتحريف، والجحود بالتعطيل، والجحود بالتمثيل.

    فلا نجحد ما وصف الله به نفسه، كما أننا لا نتكلف وصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه، فإننا بين أمرين: أن نؤمن بما سمى الله تعالى به نفسه وما وصف به نفسه أو وصفه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ولا نجحد شيئاً مما ثبت في الكتاب والسنة، ولا نتكلف شيئاً من عند أنفسنا لم يكن له وجود في الكتاب والسنة.

    قال: [ اعلم رحمك الله أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك ]. يعني: أن تكون وقافاً عند حد الكتاب والسنة. [ ولا تجاوز ما قد حد لك ]. أي: لا تجاوز حدك، إما في الإثبات وإما في النفي. [ فإن من قوام الدين: معرفة المعروف وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارثت علمه الأمة فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيباً؛ ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدراً ]. وهو نفس معنى الكلام السابق.

    قال: [ وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ]. يعني: شيء لا أصل له في الكتاب ولا في السنة، وضم إلى ذلك أن نفسك قد أنكرت هذا.

    قال: [ وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث عن نبيك من ذكر صفة ربك فلا تكلفن علمه بعقلك ]. يعني: لا تثبتن شيئاً من ذلك بالعقل؛ لأن باب الصفات هو تماماً كباب الذات، فكما أنه يستحيل على آدمي أن يصف ذات الله تبارك وتعالى، يستحيل عليه كذلك أن يتكلم في باب الصفات؛ لأن أهل العلم يقولون: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، ولما كان الكل مجمعين على أن ذات الله تبارك وتعالى غيب لا يعلمها أحد فكذلك لابد وأن تكون الصفات تابعة لذلك، فلا يجوز لأحد أن يتكلم في صفة من صفات الله عز وجل، وفي كيفيتها. لا أقصد معناها، كما أني لا أقصد العلم بها.

    وقلنا من قبل: إن السلف إنما فوضوا الكيف ولم يفوضوا المعنى ولا العلم، فالصفة معلومة لله عز وجل، أثبت لنفسه العين، فلابد وأن يكون عندي علم بأن الله أثبت العين لنفسه، ومعنى العين معلوم لدي؛ لأن الله تبارك وتعالى يستحيل أن يخاطبني بشيء لا علم لي به، ثم يكلفني الإيمان به، ولذلك مخاطبة الخلق بالمحال محال. أي: مخاطبة الخلق بشيء لا يعرفونه ثم لزوم الإيمان به أمر محال، والله تبارك وتعالى لم يتعبد خلقه بأمر محال، فإذا أثبت لنفسه العين علمت أنها عين حقيقة لله تبارك وتعالى كما أن لي عين، ولكن لما اختلفت ذات الله عن ذات المخلوق، لابد بالتالي أن تختلف صفات الخالق عن صفات المخلوقين. ومعنى العين: أنها عين حقيقة كما يفهمها المستمع لها أولاً، والقائل بها أولاً، ولكنها عين تختلف عن أعين المخلوقين؛ لاختلاف الذات، فلابد بالتالي أن تختلف الصفات.

    قال: [ وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث نبيك من ذكر صفة ربك فلا تكلفن علمه بعقلك ]. يعني: إذا كان الله تبارك وتعالى نفى صفة عن نفسه، أو سكت عنها فلم يثبتها ولم ينفها فلا تتكلف إثبات ذلك أو نفيه بعقلك، ولكن الأمر كما قال أحمد بن حنبل : أصول الدين عندنا الالتزام بالكتاب والسنة. أي: أصول الدين عندنا أن نلتزم بالكتاب والسنة. ومعنى الالتزام بالكتاب والسنة: أن تقول بما قال الله عز وجل إثباتاً ونفياً، وأن تقول بما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام إثباتاً ونفياً. أي: ما كان مثبتاً في الكتاب والسنة أثبتناه، إذا كان هذا في حق الإله، فإنما نثبته على الوجه اللائق بالله عز وجل، وإذا كان في حقي فإن هذا أمر يحتمل الكمال البشري ويحتمل العين البشرية، كما أن الله عز وجل خلقني وأثبت أن لي عينين، فإن كانتا سليمتين فيكون كمالاً بشرياً في الرؤية أو في وجود العينين، وإما أن أكون أعور العين أو أعمى كفيفاً فهذا نقص في الرؤية، أما الله تبارك وتعالى فإنه ليس بأعور، كما ثبت في الحديث وسيأتي معنا.

    قال: [ ولا تصفه بلسانك ]. أي: ما سكت الله عنه وما سكت عنه رسوله لا تكلفن علمه بعقلك ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرب عنه بنفسه؛ لأن الله تعالى أعلم بنفسه منك، وأعلم الخلق بالله عز وجل هو رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، فإذا أثبت الله تبارك وتعالى لنفسه العين أو اليد أو الغضب أو الرضا أو السخط أو الأصابع أو غيرها من تلك الصفات فهو أعلم بنفسه، فإذا قال الله عز وجل: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، أثبت لنفسه اليد، فلا تقل: ليست هذه يد حقيقة، إذا كان الله تبارك وتعالى أثبتها مطلقاً فلم تجعلها أنت مجازاً؟ أثبتها الله لنفسه على الحقيقة فلم تصرفها أنت عن هذه الحقيقة، وتقول: اليد بمعنى القدرة، أو بمعنى النعمة؟ هذا تأويل لم يعرفه سلفنا رضي الله عنهم أجمعين.

    قال: [ واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل إنكار ما وصف منها ]. أي: هذه مثل تلك، الذي يجعلك تتكلف صفة لله عز وجل هو الذي يجعلك تجحد صفة أخرى أثبتها الله لنفسه، فالذي يقحمك في الإثبات هو الذي يحملك على الجحود، فهذه مثل تلك في النفي والإثبات، فإذا كنت مؤمناً حقاً في قضية الإثبات والنفي خاصة فيما يتعلق في صفات الرب تبارك وتعالى، فلا تثبت شيئاً إلا ما أثبته الكتاب والسنة، ولا تنفي شيئاً إلا ما نفاه الكتاب والسنة؛ لأنك إذا اجترأت على إثبات ما لم يكن في الكتاب والسنة اجترأت على جحد ما ورد في الكتاب والسنة.

    قال: [ فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف به الله تبارك وتعالى.

    فقد والله عز المسلمون -أي: قل وندر- الذين يعرفون المعروف وبهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما بلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن.

    وما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمي -أي: ما سمى الله- وما وصف الرب تعالى من نفسه وإن كان ذلك في خبر الآحاد ]. يعني: افرض أن هذه الصفة وردت في السنة فقط ولم ترد في الكتاب.

    أنتم تعلمون أن صفة الأصابع لله عز وجل لم ترد في كتاب الله، وإنما وردت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك صفة كف الله عز وجل، وصفة الأنامل لله عز وجل، إنما وردت في السنة، وأحاديثها آحاد، فشيخ الإسلام ابن تيمية يحسم في هذا الضبط: أن ما ذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام مما سمى به ربه أو وصفه به فهو كالذي سمى الله تبارك وتعالى به نفسه ووصف به نفسه في كتابه الكريم، فالسنة والقرآن سواء في قضية الإثبات والنفي، ولا يجوز لأحد أن يدعي بعد ذلك أن هذه الصفة لم ترد في كتاب الله، ولذلك أنا لا أثبتها.

    قال: [ والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم ]. الذين يحترمون عقولهم ولا يخوضون بها في بحار لا يعلم مداها إلا الله عز وجل، ولا يتكلفون علم الغيب إلا ما أطلعهم الله عز وجل على بعض العلم من كتابه الكريم.

    قال: [ الواصفون لربهم بما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها؛ لا ينكرون صفة ما سمي منها جحداً ]. أي: لا ينكرون ما وصف به نفسه. [ ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقاً ]. يعني: لا يتعمقون ويتحذقون ويتشدقون بإثبات شيء لله عز وجل من قبيل الأسماء والصفات، وأن الله لم يسم نفسه بهذا الاسم الذي تكلف به القوم ولا وصف نفسه بهذه الصفة.

    ثم يتكلم كلاماً من نور لا شك فيه، فيقول: [ لأن الحق ترك ما ترك -أي: ترك ما ترك الله تعالى- وتسمية ما سمى ]. أي: نفي ما نفاه وإثبات ما أثبته [ ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ].

    وذكر الإمام ابن تيمية أن هذا كلام ابن الماجشون ، فـابن تيمية لم يكن ليبتر هذا الكلام ثم ينسبه لقائله؛ لأن من أمانة العلم أن تنسب القول إلى قائله، وأعظم السرقة أن تسرق علم غيرك ثم لا تنسبه إليه.

    قال: [ وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام فتدبره ]. مع أنه كلام ابن تيمية الذي يلهج به في كل كتبه.

    قال: [ وانظر كيف أثبت الصفات ونفى علم الكيفية ]. أي: أثبت الصفات لأن الله أثبتها، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام أثبتها؛ وانف الكيفية لأن الكيفية غيب لم يطلع الله عز وجل عليه أحد.

    قال: [ وهو في ذلك وافق غيره من الأئمة، وكيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا كما تقوله الجهمية؛ أنه يلزم أن يكون جسماً أو عرضاً فيكون محدثاً ]. يعني: ابن تيمية يستنكر أشد الاستنكار على المشبهة أو الممثلة الذين يقولون: إذا ثبت أن لله تبارك وتعالى يد، يلزم أن تكون يداً كيدي، أو أن له قدماً كقدمي، أو أن له نفساً كنفسي إلى آخر الصفات. هل الذي يقول بلزوم هذا يقول بأن ذات الله كذاته؟

    الذي يقول: إن لله يداً كيدي، وساقاً كساقي، ونفساً كنفسي، وعيناً كعيني، يلزمه أن يقول: وذاتاً كذاتي، وهو لا يقول بهذا.

    إذاً: لابد وأن يقول في الصفات كما يقول في الذات؛ لأن الكلام في الصفات إنما هو فرع وتصور عن الكلام في الذات، فالذي تقوله وتعتقده في الذات لابد وأن تثبته في الصفات، وما ضرك لو أنك فعلت كما فعل الأنبياء والمرسلون والحواريون أصحاب الأنبياء والتابعون لهم بإحسان: أن تثبت الصفة لله تبارك وتعالى على الوجه اللائق به سبحانه!

    هذا الكلام الذي ذكره ابن الماجشون وذكره ابن تيمية كلام ينبغي أن يكتب بأحرف من نور؛ لأنه مجمل اعتقاد المسلم في ربه.

    إن أهل السنة والجماعة ذهبوا مذهباً وسطاً بين الممثلة والمعطلة؛ فقد قالوا بإثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله، ونفوا عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله، وسكتوا عما سكت الله عنه ورسوله.

    أما ما أثبتوه فإنهم يثبتونه على الوجه اللائق لله عز وجل، ولا يقولون: بأن الصفات الذاتية الخبرية لله عز وجل جارحة؛ والجارحة صفة عجز ونقص لا تليق إلا بالمخلوق، والله تبارك وتعالى هو الخالق.

    هذا معتقدهم في جهة الإثبات والنفي، فهم في مقابلة الممثلة والمعطلة؛ لأن الممثلة قالوا: إن هذه الصفات لا نثبتها لله على الحقيقة، لأن إثباتها يستلزم المشابهة والمماثلة بين الخالق والمخلوق. والمعطلة قالوا: نحن ننزه الله تعالى أن يكون شخصاً أو أن يكون مثل خلقه، ولذلك نفوا عن الله عز وجل جميع الصفات.

    فقوم مثلوا صفة الخالق بالمخلوق، وقوم ذهبوا بزعمهم إلى التنزيه، فعطلوا الصفات، ولذلك لا أمل من ذكر الكلام المضيء لشيخ الإسلام ابن تيمية: (من عبد الله بالتمثيل فإنما يعبد صنماً، ومن عبد الله بالتعطيل فإنما يعبد عدماً).

    1.   

    قواعد مهمة في إثبات الأسماء والصفات

    ومن القواعد التي تخدم الأسماء والصفات، ما يلي:

    التوسط في الألفاظ المجملة

    القاعدة الأولى: التوسط في الألفاظ المجملة التي لم يرد إثباتها ولا نفيها. أي: إذا كان اللفظ مجملاً أتوقف فيه؛ لأنني لو نظرت في هذا اللفظ لا أجده لا في الكتاب ولا في السنة، لأنه قد استحدث بعد ذلك، كلفظ الجهة والحد، أما الحد فلفظ منكر في غاية النكارة.

    يقولون: إن الله تعالى إذا أثبتنا وجوده في السماء فإنما أثبتنا وجود الجهة، وهذا أمر يحتمل مدحاً ويحتمل ذماً؛ ويحتمل كمالاً ويحتمل نقصاً. فإذا قال القائل: إن الله تعالى في جهة. قلنا له: ماذا تقصد بالجهة؟ فإذا قال: أقصد جهة العلو والفوقية والاستواء قلنا: هذا كلام حسن. وإذا قال: أقصد بالجهة أن السماء تحوطه. وأنه قد استقر على العرش والعرش يحمله. فنقول: إن هذا كلام سخيف بارد، وكلام ليس على بطلانه رد أفضل من السكوت عنه، وإن كان الأولى ترك هذه المصطلحات بخيرها وشرها؛ لأنها لم ترد على لسان السلف، وهذه الكلمات حمالة؛ يستخدمها المبتدعون لإثبات بدعتهم، فيدورون بها كما يدور الحمار برحاه، يثبتون فساد معتقدهم.

    وأما أهل السنة والجماعة إنما دخلوا في هذا الباب رغماً عنهم للرد على المبتدعة، فنقل على ألسنتهم بعض هذه المصطلحات.

    كما قالوا: إن الله تعالى في السماء بذاته، فكلمة بذاته اضطر السلف إليها وإلى ذكرها، وكما اضطروا كذلك إلى أن يقولوا: (القرآن كلام الله غير مخلوق)، فلفظ (غير مخلوق) ليس على لسان السلف، إلا ما ورد على لسان البعض منهم رداً على المبتدعة، وخاصة فيما يتعلق في صفات الله عز وجل، فهو أمر في غاية الحساسية.

    قال: [ فإذا أتاك لفظ مجمل فتوقف فيه، إذا لم يكن قد ورد إثباته أو نفيه في الكتاب والسنة، أما معنى هذه الألفاظ المجملة فيستفصل عنه ]. أي: تقول له: ماذا تقصد بهذا اللفظ؟ إذا قال: أقصد بالجهة العلو والفوقية لله عز وجل والاستواء على العرش، فهذا كلام جميل، لكن بدلاً من أن تقول: الجهة، قل: استوى على العرش، أو الله في السماء؛ لأن هذه هي الألفاظ التي وردت في الشرع، أما الجهة فلم يأت بهذا المصطلح النبي عليه الصلاة والسلام، ولا أبو بكر الصديق ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي ، ولا الشافعي ، ولا مالك ، ولا أبو حنيفة ، ولا أحمد بن حنبل ، فينبغي ألا تتكلم بكلمة إلا إذا تكلم بها سلفك.

    كل اسم ثبت لله فهو متضمن لصفة من غير عكس

    القاعدة الثانية: كل اسم ثبت لله عز وجل فهو متضمن لصفة من غير عكس، يعني: اشتقت الصفة من الاسم؛ لأن باب الصفات واسع جداً، وأوسع منه باب معاني الكمال اللائق بالله عز وجل، فإذا كان من أسماء الله: (الرحمن الرحيم الملك القدوس السميع البصير الرءوف)، فإنه تشتق من اسم الرحيم الرحمة، ومن الرءوف الرأفة، ومن السميع السمع، ومن القوي القوة، فباب الأسماء أدق وأقل من باب الصفات.

    إذاً: أنا بإمكاني أن أشتق صفة لكل اسم؛ لأنه ليس هناك اسم إلا ويدل على صفة، وليس بلازم في الصفات أن تدل على الأسماء، فإنه قد ورد قول الله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، وقوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، فالمخادعة والمكر في الإنسان صفتا نقص، لكنهما في حق الله عز وجل على سبيل المقابلة لأفعال العباد صفتي كمال، فمن كان من المخلوقين أشد مكراً وخداعاً فلا يستطيع أن يخادع الله عز وجل، أو أن يمكر على الله عز وجل؛ لأنه عالم الغيب والشهادة، فمهما يبطن المرء من شيء فإن الله يعلمه، بل ويكشف الله عز وجل عن عباده بما قد نووه من مخادعة ومكر وحيل.

    والله تبارك وتعالى قال: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22]، فلا يصح أن نسمي الله تبارك وتعالى (المنتقم)، لأن هذا ليس من أسمائه، وكذا ليس من أسمائه المخادع الماكر.

    إذاً: هذه الصفات التي تدل على النقص في حق البشر ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن على سبيل الكمال؛ لأنها في مقابلة صفات النقص عند المخلوقين، فما كان الله ليخادع إلا بعد أن خادع عبيده، وما كان الله ليمكر إلا بعد مكر عبيده، وما كان الله لينتقم إلا من المجرمين، وكلها صفات لله عز وجل تدل على كماله وإحاطته بخلقه.

    والذي يتعلق بهذه القاعدة: أنه لا يجوز أن أشتق أسماء من هذه الصفات؛ لأن الأسماء توقيفية، وكذلك الصفات توقيفية، فلا يصح أبداً أنني أصف الله تبارك وتعالى بوصف لم يصفه لنفسه، ولم يصفه به رسوله الكريم، فإذا كان الوصف قد ورد في الكتاب والسنة أثبتناه، ومن ذلك: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] هذا نفي يستلزم كمال الضد. يعني: إذا كنت تنفي عن الله الظلم، فيلزمك أن تثبت ضد الظلم وهو كمال العدل، وهذه قاعدة قد شرحناها قبل ذلك: وهي أنه يلزم من نفي الصفة عن الله عز وجل إثبات ضدها كمالاً، إذا كنت تقول: إن الله لا يظلم الناس شيئاً. إذاً: الله تبارك وتعالى متصف بكمال العدل، وإذا كان الله تعالى قال: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] هذا يدل على كمال القيومية والحياة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام). وإذا كان الله تبارك وتعالى موصوف بالجود والكرم والتفضل على عباده، فيلزم من ذلك أن ننفي عنه البخل والشح الذي يتصف به بعض خلقه.

    قال: [كل اسم ثبت لله عز وجل فهو متضمن لصفة من غير عكس] يعني: الصفات تشتق من الأسماء ولا تشتق الأسماء من الصفات؛ لأن باب الصفات أوسع من باب الأسماء، وكل من الاسم والصفة أمر توقيفي. يعني: لا نثبته إلا إذا كان ثابتاً في الكتاب والسنة.

    قال: [مثاله: اسم الله: الرحمن متضمن صفة الرحمة، والكريم يتضمن صفة الكرم، واللطيف يتضمن صفة اللطف.. وهكذا] كل الأسماء لها صفات، لكن من صفاته: الإرادة والمشيئة والاستواء، فالله تبارك وتعالى أثبت ذلك لنفسه في الكتاب، وأثبتها رسوله في السنة فلا يصح أنني آخذ من صفة الإرادة أو المشيئة أو الاستواء اسماً فأقول مثلاً: المشاء أو المريد أو المستوي، مع أن الله قد قال في الاستواء: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ؛ فهي قد ثبتت في الكتاب.

    دلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة قد تكون صريحة أو متضمنة

    القاعدة الثالثة: دلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة: إما أن تأتي صريحة، أو تأتي متضمنة، أو تأتي صريحة بفعل أو وصف دال عليها. يعني: ليس بلازم أن يصف الله تبارك وتعالى نفسه صراحة في الكتاب، بل ممكن تأتي صراحة وممكن تأتي متضمِنة أو متضمَنة، وممكن يأتي التصريح بها من باب الفعل أو الوصف.

    المثال الأول: الرحمة والعزة والقوة والوجه واليدين والأصابع.. كلها قد وردت صريحة في القرآن والسنة.

    ومثال التضمن: البصير، فإنه يتضمن صفة البصر لله عز وجل، وهذا كلام يرد به على المعتزلة الذين يقولون: بصير بلا بصر، سميع بلا سمع، رحيم بلا رحمة، قوي بلا قوة، قدير بلا قدرة.

    ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الصفة متضمنة، فإذا كان رحيماً فلابد أن يكون برحمة، وإذا كان سميعاً لابد أن يكون بسمع، وإذا كان بصيراً لابد أن يكون ببصر، فالصفة تثبت ضمناً للاسم.

    والمثال الثالث: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، هذه الصفة وردت للدلالة -دلالة الاستواء- أي: دلت على أن الله تعالى متصف بالاستواء، وهو العلو والفوقية.

    وقال تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22]، فالآية دالة على الانتقام، فهي صفة لم ترد صراحة في الكتاب، وإنما دلت على هذه الصفة.

    الكلام في الصفات كالكلام في الذات

    والقاعدة الرابعة: الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أن ذاته حقيقية لا تشبه الذوات؛ فهو متصف بصفات حقيقية لا تشبه الصفات، سواء كانت هذه الصفات ذاتية أو خبرية أو فعلية.

    فنثبت هذه الصفات لله تبارك وتعالى كما جاءت ولا نتأولها، ولا نقول فيها بأنها مجاز، لأن الذي يقول بالمجاز يصرف اللفظ عن حقيقته، فالذي يقول: اليد ليست يداً حقيقة إنما هي النعمة، أو هي القدرة، ففي النهاية يصف الله تبارك وتعالى بأنه ذات بلا صفات، ونحن قلنا باستحالة ذلك، فما من ذات إلا ولها صفات، حتى في الدنيا، وفي المخلوقات، فمثلاً: هذه السجادة خضراء طولها كذا عرضها كذا مستديرة مستطيلة مربعة مكعبة فيها ماء فيها هواء، وهذه كلها أوصاف، ولا يمكن قط بل يستحيل على أحد أن يثبت ذاتاً بلا صفات، فإذا كان المنكرون للصفات أو الذين صرفوها عن حقيقتها إلى المجاز لا يقولون بأن ذات الله ليست ذاتاً حقيقة أو أنها مجاز، فإذا قالوا ذلك فبالأولى أن يقولوا بالثانية.

    قال: [ فمن أقر بصفات الله كالسمع والبصر والإرادة، يلزمه أن يقر بمحبة الله ورضاه وغضبه وكراهيته ].

    يقول ابن تيمية عليه رحمة الله: [ومن فرق بين صفة وصفة مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز، كان متناقضاً في قوله، متهافتاً في مذهبه، مشابهاً لمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض].

    يعني: لا تقل: إن الله تعالى يغضب غضباً على الحقيقة، واليد ليست يداً حقيقة، فلا تحمل الغضب واليد على الحقيقة أو المجاز؛ فإن حملتهما على الحقيقة وأثبتهما على القدر اللائق لله عز وجل فهذا مذهب السلف، وإذا قلت بالمجاز فهذا مذهب الخلف وهو فاسد باطل.

    ما أضيف إلى الله تعالى مما هو غير بائن فهو صفة له غير مخلوقة

    القاعدة الخامسة: [ما أضيف إلى الله تعالى مما هو غير بائن عنه فهو صفة له غير مخلوقة]. ومعنى (غير بائن) يعني: غير مغاير ولا مختلف ولا منفصل، وأريد أن أقرب المعنى، وإن كنت أكره هذا اللفظ. فإذا قلنا: بإثبات اليد لله، فهل هذه اليد مباينة لله عز وجل، أم هي صفة ذات لازمة له؟ يعني: أنا ممكن أن أقول: يدك وإن كانت صفة لازمة لك إلا أنه يمكن مباينتها عنك بقطعها، عند أن يأتي شخص يقطع يدك، نقول: قد باين يده عن بدنه. يعني: باعد اليد عن البدن. فالمباينة في الأعمال والجوارح متصورة وواقعة وحادثة في المخلوقين، لكن هل يمكن أن أقول: إن يد الله تبارك وتعالى مباينة لله عز وجل. إذا قلنا: بأن صفات الله عز وجل ليست مباينة له فهذا يعني: أنها غير مخلوقة، فإذا كان الكلام صفة لله عز وجل فلا يتصور أن الله تعالى كان ساكتاً عاجزاً عن الكلام لا يعرف الكلام، ثم عرف فتكلم بعد ذلك؛ لأن من قال بهذا كفر بنص أهل السنة والجماعة، وعلى رأسهم أحمد بن حنبل.

    وإذا قلنا بإثبات العين لله، لا نقول: بأنها عين زائدة عن ذات الإله، بل هي صفة ذاتية خبرية لازمة لذاته لا تنفك عنه. ومعنى أنها ذاتية. أي: أنها غير مخلوقة، فكما أن الله تعالى غير مخلوق وهو الخالق لكل شيء فكذلك صفاته غير مخلوقة، بخلاف نسبة الأشياء البائنة عن الله عز وجل المنسوبة إليه فإنها مخلوقة، كما تقول: بيت الله وأمة الله وناقة الله، فالبيت مصنوع مخلوق، والناقة مخلوقة، ونسبتهما إلى الله عز وجل نسبة تشريف، فإذا كانت الصفة بائنة عن الله عز وجل منسوبة إليه فإنها مخلوقة، ونسبتها إلى الله نسبة تشريف، بخلاف صفات الله عز وجل غير البائنة عنه، فإنها صفات غير مخلوقة؛ كصفة اليد وصفة الساق والقدم والأصابع والأنامل والكف والغضب والرضا والسخط والفرح والسرور والرفع والخفض وغير ذلك؛ كل هذه الصفات لله تبارك وتعالى غير مخلوقة.

    صفات الله عز وجل وسائر مسائل الاعتقاد تثبت بما ثبت عن رسول الله ولو كان حديث آحاد

    القاعدة السادسة: صفات الله عز وجل وسائر مسائل الاعتقاد تثبت بما ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وإن كان حديثاً واحداً آحاداً، من أجل أن تعرف أن منهج أهل السنة والجماعة يختلف عن منهج من أتى بعدهم، فأهل السنة والجماعة وعلى رأسهم النبي عليه الصلاة والسلام، بل وعلى رأسهم جميع الأنبياء والمرسلين أثبتوا لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه، وأن الأمة ممن سلك منهج النبوة أثبتت لله تبارك وتعالى ما ورد في حديث النبي عليه الصلاة والسلام من أسماء وصفات، وإن كان الحديث الذي يحمل هذا الاسم أو هذه الصفة حديث آحاد، سواء كان هذا الحديث من طريق الواحد أو الاثنين أو الثلاثة.

    إذا علمت هذا لابد وأن تعلم أن قوم المعتزلة: (لا نحتج في باب الاعتقاد إلا بالخبر المتواتر) قول محدث، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    معاني صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة معلومة

    القاعدة السابعة: معاني صفات الله عز وجل الثابتة بالكتاب أو السنة معلومة، فلا يجوز مثلاً أن تقول: أنا لا أعلم معنى الاستواء، مع أن الاستواء معلوم، فهو الفوقية والارتفاع والعلو. ولا يجوز أن تقول: أنا لا أعلم صفة المجيء؛ لأنك تعلم ماذا يعني قولك: جاء فلان. أنا لو قلت لك: جاء زيد. فإنك تفهم كلامي، فإذا قلنا: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، فإنك تعلم معنى المجيء، ولكنك تجهل كيفية المجيء.

    إذاً: السلف لم يفوضوا علم الصفات ولا معاني الصفات، إنما فوضوا الكيف، وقد زلت بهذه المسألة أقدام كثير من أهل العلم.

    ومن المسائل التي زلت بها أقدام كثيرٍ من أهل العلم: مسألة العلو، قال الله تعالى: اسْتَوَى [طه:5]. فمن قال: لا أعلم معنى الاستواء، نقول له: إذاً: الله خاطبك بكلام غير مفهوم. وهذا محال، فإذا كنت تقوله في باب الاعتقاد فقله في باب الأحكام، فمثلاً قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، أنت لا تعلم معنى الصلاة، وبالتالي أنت لا تعلم ذات الصلاة، وبالتالي أنت لا تصلي؛ لأنك لا تفعل شيئاً أنت لا تعلمه ولا تعلم له معنى. فهل يتصور أن الله تبارك وتعالى خاطبنا بشيء لا نعلمه ولا نفهمه؟

    الجواب: لا. فإذا قلت ذلك في الأحكام والمعاملات فكذلك في الاعتقاد، فالله تعالى قد خاطبنا في باب الأسماء والصفات بما علمناه وعلمنا معانيه، فإذا ثبتت لله تبارك وتعالى صفة الرحمة فلا بد من إثباتها لله عز وجل؛ لأنه قد أثبتها في كتابه، وأثبتها له رسوله. ومن قال: لا أعلم معنى الرحمة! تقول له: هذا كلام سخيف وبارد، ومردود على قائله؛ ولذلك ورد عن بعض السلف أنه جادل رجلاً من أهل البدع، فجهل عليه بالعلم، فقام عليه ذلك العالم الرباني صفعاً وضرباً وركلاً، حتى قال له وهو يتضور تحت قدمه: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، وهو كان ينازع في أنه لا يعلم معناها، فلما ضرب وديس بالأقدام علم معنى الرحمة، فاحتج بدليل الرحمة في موضوع الرحمة؛ لأنه يعلم معناها.

    إذا قلت لك في رابعة النهار: أين الشمس؟ فأفضل جواب عليك السكوت، وإذا كان القمر في ليلة البدر ليس دونه سحاب وأنت تنظر إليه وتقول: أنا لا أرى القمر فأفضل جواب أن نسكت عنك؛ لأنك أعمى البصر والبصيرة، فكذلك الله عز وجل خاطبنا بالصفات التي لها علم عندنا من الكتاب والسنة ولها معان يعلمها جميع العرب، فإذا كان المسلم غير عربي فيجب عليه أن يتعلم العربية كما تتعلم أنت الإنجليزية إذا أردت أن تترجم كلمات كثيرة جداً تمر عليك في صفحات الكتاب الأعجمي تريد قراءتها، لكن لا تعلم معناها، فأنت معذور في هذا، كما أن العجمي إذا استطاع أن يقرأ في كتاب الله فأتى عند صفة من صفات الله عز وجل فيقول: أنا لا أعلم صفة السمع ولا أعرف معناها، قلنا له بالإنجليزية: معنى أن الله سميع، فبينت له بلسانه أنها تثبت صفة السمع لله، فإنه سيقر صفة السمع، فهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى خاطب جميع المخلوقين بما هو في مقدورهم أن يفهموه، فلا يدعي واحد بعد ذلك أن الله تبارك وتعالى خاطبه بما لا يفهم.

    إذاً: صفات الله عز وجل وسائر أمور الاعتقاد تثبت في خبر واحد، ومعاني الصفات الثابتة في الكتاب والسنة معلومة، وتفسر على الحقيقة، فالله سميع بسمع على الحقيقة، والله قدير بقدرة على الحقيقة، ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] على الحقيقة. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] على الحقيقة. فمن قال: العين مقصود منها الرؤية أو الرعاية أو الإحاطة أو كف الأذى، نقول له: المعنى هو إثبات العين الحقيقة لله عز وجل، لكن كيفية العين لا يعلمها إلا صاحب العين سبحانه وتعالى، فلا مجاز في الصفات ولا استعارة فيها البتة، وأما الكيفية فمجهولة.

    ما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن القول بموجبه والإيمان به وإن لم يفهم معناه

    القاعدة الثامنة: ما جاء في الكتاب أو السنة وجب على كل مؤمن القول بموجبه والإيمان به، وإن لم يفهم معناه. يعني: على فرض أنه خفي عليه معنى صفة، فلابد وأن يؤمن بها كما جاءت وكما قرأها، ويثبتها لله على الحقيقة وإن كان المعنى قد خفي عليه.

    فمثلاً: عدم العلم بمعنى الأسماء الثابتة كالودود أو الحنان أو القيوم، أو الصبور لا ينفي عنك لزوم العلم والإيمان بها، فلابد وأن تؤمن بأسماء الله وصفاته، وإن خفي عليك بعضها أو كلها.

    وصفات الله عز وجل لا يقاس عليها، فلا يقاس مثلاً السخاء على الجود، إذا كانت صفة الجود ثابتة لله عز وجل فلا أقول: الله تعالى سخي، وإن كان المعنى جميلاً، لأن باب الصفات توقيفي، فلا يصح في صفات الله الاجتهاد والقياس.

    والقياس إلحاق فرع بأصل، والذي يلحق الفرع بالأصل هم أهل العلم، فإذا كان المقيس والمقيس عليه متساويين في الدليل ومتحدين في العلة ألحقوا الفرع بالأصل، فإذا كان الأصل حراماً فالفرع حرام، وإذا كان الأصل حلالاً فالفرع حلال، فمثلاً: الله عز وجل حرم الخمر صراحة وهذا المقيس عليه، وهو الأصل والحشيش فرع، فهو حرام قياساً على الخمر؛ لأن أدلة الشرع في الأحكام وفضائل الأعمال: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس. فالحشيش حرام؛ لأنه متحد مع الخمر في العلة وهي ذهاب العقل والإسكار، وهذه العلة التي لأجلها حرم الله الخمر صراحة فألحقنا به الحشيش.

    والله تبارك وتعالى قد ثبت في صفاته أنه جواد، فلا أستطيع أن أقول: إنه سخي، مع أن السخاء هو الجود؛ لأن صفات الله لا يصح فيها الاجتهاد ولا القياس؛ لأنها توقيفية.

    وكذلك في بقية المعاني التي تدل على الجود إلا إذا كانت ثابتة، فالكرم كذلك من الجود، وباب من أبوابه، وشبيه ومثيل له، لكنه قد ورد في نصوص أخرى أنه كريم.

    والله تبارك وتعالى هو القوي، فهو قوي بقوة؛ فالصفات تؤخذ وتشتق من الأسماء. إذاً: لفظ القوة ثابت لله عز وجل.

    والجلد الذي هو تحمل المشاق والصعاب والقوة، لا يصح إثباته لله عز وجل في مقام القوة، أو قياساً عليها؛ لأن باب الصفات لا يقاس عليه؛ لأن الصفات توقيفية.

    ولفظ (القدير) ثابت لله، وهو قدير بقدرة. إذاً: الله تبارك وتعالى متصف بالقدرة، فلا يمكن أن أثبت لله عز وجل صفة الاستطاعة؛ لأنها لم تثبت في الكتاب ولم يثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام في السنة، إنما الصفة التي وردت تغني عن هذه الصفة وهي صفة القدرة.

    وصفة الرحمة ثابتة لله عز وجل، ومن معانيها: الرأفة والرقة، فممكن أن أثبت الرأفة؛ لأنها مشتقة من الرءوف، بخلاف الرقة وإن كانت مثل الرحمة، فلهذا يقال: فلان رقيق القلب. يعني: رحيم.

    وباب القياس في حق المخلوقين في الصفات حدث عنه ولا حرج، لكن في حق المولى تبارك وتعالى لا يجوز أن أقول: إن الله رقيق؛ مع أن الرقة بمعنى الرأفة والرحمة وغير ذلك.

    وكذلك (العلم) فالله تبارك وتعالى عليم بعلم؛ فعليم اسم وبعلم صفة، والمعرفة من معاني العلم، فلا يجوز أن أثبت صفة المعرفة لله عز وجل؛ لأن صفات الله عز وجل لا يتجاوز فيها التوقيف، فلا نذهب فيها أكثر مما ورد إلينا، كما مر في القواعد السابقة.

    أسماء الله وصفاته عز وجل لا حصر لها

    القاعدة التاسعة: صفات الله عز وجل لا حصر لها؛ لأن كل اسم يتضمن صفة، وأسماء الله لا حصر لها، أما حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) فتقديره: إن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً، فباب الأسماء واسع لا ينتهي؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبد الله بن مسعود : (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي..).

    الشاهد: (أو استأثرت به). فالضمير يعود على الله. أي: أو استأثرت أنت بهذا الاسم الذي أخفيته عن جميع المخلوقين في علم وغيب لا يطلع عليه أحد، فوحدك أنت الذي تعلمه.

    فباب الأسماء باب واسع جداً، وإذا قلنا: إن كل اسم يشتق منه صفة فلابد وأن يكون باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ لأن كل اسم يدل على صفة، وهناك صفات لا يشتق منها الأسماء.

    1.   

    إثبات صفة العين لله تعالى

    نريد أن نثبت لله عز وجل صفة العين، فصفة العين صفة ذاتية لله تبارك وتعالى، غير مباينة عنه، فكما أثبتنا اليد لله عز وجل وأن اليد غير مخلوقة، وأنها غير مباينة له سبحانه، بخلاف يد المخلوق فممكن مباينتها بقطعها. إذاً: الصفات الذاتية هي اللازمة لذات الإله تبارك وتعالى، كما أنها خبرية. أي: قد ورد الخبر بها، ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة.

    وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله تعالى يبصر ببصر، كما أنه يسمع بسمع، ويعلم بعلم، كما يعتقدون أن لله عز وجل عينين تليقان به لكنهما ليستا كعيون المخلوقين؛ لأن هذا يستلزم التمثيل، والتمثيل حرام، لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فكل شيء في الوجود لا يشبه ولا يماثل ولا يكافئ ولا يعدل الله تعالى، فإذا كان كذلك فلا يجوز لي أن أقول: إن الله تعالى له عيناً كعيني أو عينان كعيني؛ لأن هذا يستلزم التمثيل والمشابهة، وهو محال. كما أنني لا يجوز لي أن أقول: إن عين الله ليست على الحقيقة، بل هي مجاز والمقصود منها: الرعاية أو الرؤية أو غير ذلك؛ لأنني إذا قلت بالمجاز أو التأويل، لابد وأنني سأقع في التعطيل، وهو: نفي ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله الكريم.

    فالله تعالى قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو نفي للماثلة، وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، إثبات للأسماء والصفات على الوجه الحقيقي اللائق بالله عز وجل.

    أما دليل إثبات العين من الكتاب فقوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود:37]، أي: واصنع يا نوح السفينة ونحن ننظر إليك بأعيننا، وَوَحْيِنَا أي: وإلهامنا لك كيف تصنع السفينة، فالوحي هنا بمعنى الإلهام. والمعنى: أن الله تعالى أمر نوحاً عليه السلام أن يصنع السفينة من ألواح الخشب والمسامير والحبال يربط بها أطراف السفينة حتى يحمل فيها أهل الإيمان ويسير في البحر إلى أن يصل إلى بر الأمان والنجاة، فيغرق الله تبارك وتعالى من تخلف عنه.

    إذاً: نقول بإثبات العين الحقيقية لله عز وجل، وأن الله كان ينظر إلى نوح على الحقيقة بعينيه الحقيقتين وهو يصنع الفلك، ويوحي إليه كيف يصنع السفينة.

    وقال تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]. وهذا الخطاب موجه لموسى عليه السلام، فقد ألقى عليه محبة في قلوب الخلق، وكذا محبة الله عز وجل لموسى كلاهما يمكن القول به، ولا تناف بينهما؛ لأنه قد ورد في الحديث: (أن الله تعالى إذا أحب عبداً ألقى محبته في قلوب العباد، بل أمر الملائكة أن يحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) أي: المحبة.

    قال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] أي: ولتربى. فالصناعة هنا بمعنى التربية، ولذلك تختلف بحسب الحال، تقول: صناعة بيت، وصناعة الأخشاب، وصناعة الدروع، وصناعة الملابس، فكل صنعة من هذه الصنعات تختلف عن غيرها، فصناعة البيت. أي: بناؤه. وصناعة الثوب. أي: حياكته وخياطته. وصناعة الآدمي. أي: تربيته.

    ومعنى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي أي: ولتربى على عين الله عز وجل. أي: الله تبارك وتعالى يرعاك ويحفظك ويكلؤك وينظر إليك بعينيه الحقيقيتين، ولا غرابة في ذلك.

    ولذلك أهل البدع يقولون: إنكم تتأولون إذا أردتم أن تتأولون، وتنكرون على من يتأول إذا أردتم الإنكار عليه، فاثبتوا على قدم واحد؟ يوجهون هذا اللوم لأهل السنة.

    فنقول: إننا نعتقد في قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي أن الله تعالى يرعاه ويكلؤه ويحفظه ويربيه وينظر إليه وغير ذلك. فنحن نثبت الصفة ولازمها، فالفرق بيننا وبين أهل البدع أننا نثبت الصفة ولازمها بخلافهم؛ فإنهم يثبتون لزوم الصفة وينكرون الصفة، فمثلاً: قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، يقول أهل البدع: اليد بمعنى القدرة. وأرادوا من هذا الكلام نفي اليد الحقيقية عن الله عز وجل، بظنهم أن إثباتها إثبات للتمثيل، وهذا كلام باطل، وأهل السنة يثبتون اليد ولازم اليد، فيثبتون الصفة ولازمها، فيلزم من إثبات العين الرعاية والإحاطة والكلأ والحفظ.. وغير ذلك من المعاني.

    أما هم فإنهم يثبتون لوازم الصفة ولكنهم ينكرون الصفة، وبالتالي يقعون في التعطيل، أما نحن فلا نقع في التعطيل ولا في التمثيل؛ لأننا في جانب التمثيل نقول: إن لله يداً حقيقة ليست كأيدي المخلوقين، بل يداً تليق بجلاله. فلا ننفي الصفة، وإنما نثبتها ونثبت معها اللازم، فقوله سبحانه وتعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، أي: إن الله تعالى ينظر إليك بعينيه ويحفظك ويرعاك ويكلؤك.

    إذاً: بذلك نكون أثبتنا الصفة ولازمها، فأهل البدع يثبتون لازم الصفة فقط بخلاف الصفة، قال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48].

    والدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58]) والمعلوم أن الله كان سميعاً بسمع، بصيراً ببصر، يبصر بعين. (فوضع النبي عليه الصلاة والسلام إبهامه على أذنه والتي تلي الإبهام -وهي السبابة- وضعها على عينيه)، فوضع إبهامه في أذنيه لإثبات قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58] يعني: سميع بسمع، ثم وضع السبابة على العين، هذا الفعل من النبي عليه الصلاة والسلام لا يدل على الجارحة لله عز وجل، إنما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقرب المعنى إلى أصحابه، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: (أنه دخل عليها وعندها امرأة فقال: من هذه؟ قالت: فلانة -وهي الحولاء بنت تويت الأسدية -، وذكرت من عبادتها وأنها تصوم النهار وتقوم الليل كله، فقال عليه الصلاة والسلام: مه، -كلمة تعجب وزجر ولوم وتوبيخ- عليكم من الأعمال بما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل). فالملل في المخلوقين صفة نقص رغم أن المرء معرض للنقص والعجز والفتور، أما في حق الله فلا يصح ذلك، ولذلك التأويل السريع أن (حتى) بمعنى (إذا). فتقديرها: فإن الله لا يمل إذا مللتم. والتأويل بحتى بمعنى: إن الله لا يمل وأنتم تملون. والتأويل حتى بمعنى حين، فيقول: فإن الله لا يمل حين تملون، والتقدير على أصل وجود حتى في معناها اللغوي أنها تفيد الغاية، كما تقول: أكلت الطعام حتى آخره. يعني: لم يتبق شيء. وتقول: أكلت السمكة حتى ذيلها. يعني: لم يتبق منها شيء، تقول: توضأت حتى المرفقين. يعني: حتى أن الماء قد غطى المرفقين، فحتى هنا غائية، فيكون التقدير: (إن الله لا يمل حتى تملوا). أي: إن الله لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم الصالحة حتى تنقطعوا أنتم عن الأعمال الصالحة، فهنا يلزمنا التأويل، ولكننا نثبت الملل لله عز وجل على مراد الله، فإن الله لا يمل إذا مللتم حين تملون وأنتم تملون، ولا يقطع عنكم ثوابه حتى تنقطع عنكم أعمالكم، فلا بأس أن نثبت الملل لله عز وجل على واحد من هذه التفسيرات، فيكون هذا معنى الملل في حق الله عز وجل.

    قال: [ فقوله عليه الصلاة والسلام أو فعله أنه لما قرأ قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58]، وضع الإبهامين على الأذنين والسبابتين على العينين، ولا يعني هذا أن الله تعالى له سمع كسمعي وله بصر كبصري، ولو قلنا هذا الكلام قلنا بالمثلية. ويبطله قوله تبارك وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ]. وعمل النبي عليه الصلاة والسلام هكذا؛ لتقريب المعنى، وأن ذلك إمعان فيما يمكن أن يظهر في الأمة من قوم يقولون بالمجاز والتأويل، ويرد عليهم بهذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام وضع الإبهامين في الأذنين وقال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا ، ووضع السبابتين على العينين وقال: بَصِيرًا والنبي عليه الصلاة والسلام هو أعلم الخلق وأتقى الخلق بربه لا يمثل نفسه بربه، ولكنه أراد أن يقرب المعنى.

    وحديث أنس رضي الله عنه قال: (إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور وأشار إلى عينيه)؛ ليثبت أن لله تبارك وتعالى عينين، قال الله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] فيه إثبات للعين الواحدة. وقال: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، وقال: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود:37] وفي اللغة العربية تعدية الفعل بالباء أو بعلى في الجمع والإفراد، فلا يتصور أن لله تبارك وتعالى عيناً واحدة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وإن المسيح الدجال أعور وإن ربكم ليس بأعور)، والعور في البشر هو فقدان أحدهما، يعني: المسيح الدجال سيأتي ويقول: أنا ربكم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية فيقول: أنا ربكم)، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: احذروا أن تصدقوه فإنه كذاب ومكتوب على جبهته كافر يقرأها كل مؤمن القارئ وغير القارئ، حتى يعلم أنه المسيح الدجال ، فإذا قرأ هذه الكتابة، ومع فقدان إحدى عينيه، سيتبين له أنه كذاب، وأنه المسيح الدجال الذي حذرنا منه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ما من نبي بعث في أمته إلا وحذرهم الدجال .

    فقوله: (وإن ربكم ليس بأعور) يدل على أن له عينان، وإن كانتا حقيقتين إلا أنهما تليقان بالخالق تبارك وتعالى، ليستا كأعيننا وليستا بجارحتين، وإنما هما عينان حقيقتان تليقان بالله عز وجل.

    أما قوله تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، فهذا أمر قد اعتاده العرب من باب التعظيم والتشريف، ومن ذلك إذا أرسلت رسالة إلى فلان، تقول: حضرتكم وسعادتكم، وهذه كلها ألقاب للمخاطب بالجمع وهو مفرد.

    فالله تبارك وتعالى أحق بالكبرياء والعظمة من خلقه، فله أن يسمي عينيه أعيناً، أما الآية التي أثبتت عيناً واحدة فليست مقصودة، وكذلك لو قلت لك: يا فلان انتبه لابني. تقول: على عيني. أو تقول: ابنك في عيني، فهل يتصور أن لك عيناً واحدة؟ لا يتصور هذا.

    فالعرب يتمدحون بهذا الكلام ويذكرونه وله عندهم معنى، مثلما تقول: اذهب يا فلان ونفسي معك، ولو انقطع عنك النفس لمت، ولكن العرب تقولها من باب أنها كلمات دلت على معان معلومة لديهم.

    فلا يتصور في إثبات قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] أن له عيناً واحدة. ويردها حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بـالمسيح الدجال.

    كما أن السنة هي التي أثبتت أعيناً، لا يتصور منها إثبات التعددية للعين لأكثر من اثنتين؛ لأن ذلك غير مقصود، وإنما كلامه خرج على سبيل التعظيم والمكابرة والمكاثرة، فالله تبارك وتعالى أحق بالكبرياء والعظمة والفخر وغير ذلك.

    قال ابن خزيمة في كتاب التوحيد بعد أن ذكر جملة من الآيات تثبت صفة العين، وانظر إلى هذا الكلام الجميل من نور: [ فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما أثبت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد أثبته الله في محكم تنزيله ببيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله مبيناً عنه عز وجل في قوله: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] ].

    فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عينين، فكان بيانه موافقاً لبيان محكم التنزيل الذي هو مسطور بين الدفتين مقروء في المحاريب والكتاتيب.

    وقال: [ نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى وما في السماوات العلى ].

    وقال: (إن الله ليس بأعور) هذه الجملة هي المقصودة من الحديث في هذا الباب، وهي تدل على أن لله عينين حقيقة؛ لأن العور فقد إحدى العينين أو ذهاب نورهما.

    وقال ابن عثيمين في عقيدة أهل السنة والجماعة: [ وأجمع أهل السنة على أن العينين اثنتان ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال : (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور) ].

    وقال البيهقي عليه رحمة الله: [ من أصحابنا من حمل العين المذكورة في الكتاب على الرؤية، وهذا تأويل ]. يعني: قال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] أي: بمرأى مني، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]. أي: بمرأى منا.

    ومنهم من حملها على الحفظ والكلاءة -أي: الرعاية- وقال: إنها من صفات الفعل والجمع فيها شائع، ومن قال بأحد هذين، زعم أن المراد بالخبر نفي نقص العور عن الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يجوز عليه ما يجوز على المخلوقين من الآفات.

    لكن انظروا إلى قول البيهقي في الرد على هؤلاء حيث قال: [ والذي يدل عليه ظاهر الكتاب والسنة من إثبات العين له صفة لا من حيث الحدقة أولى ].

    يريد أن يقول لك: أثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه من صفة العين على الحقيقة ولا تتوهمن أن العين جارحة؛ لأن العين هي الحدقة، ولا تقولون بالحدقة في حق الله عز وجل، وهذا القول الذي اختاره البيهقي هو الذي عليه سلف الأمة.

    وأما محاولة بعض الناس حول الوقوف على الخلاف؛ لما يظهر من ألفاظها بمحاولة جهمية معروفة.

    وأما تقدير من قدر الآيات السابقة الثابتة في إثبات العين بالرؤية مع إنكار صفة العين فشبيه بقول الجهمية القائلين: إنه تعالى سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، وهو قول مردود شرعاً وعقلاً كما تقدم وذكرناه.

    وفي الحقيقة أن ابن الجوزي عليه رحمة الله وقع في هذا التأويل ورد على ابن خزيمة ، وأنتم تعلمون أن ابن خزيمة من أئمة السلف فـابن الجوزي مضطرب جداً في باب الاعتقاد خاصة في باب الأسماء والصفات، فتارة يثبتها وينافح ويجادل ويهاجم المبتدعة، وتارة يقول بقول المبتدعة ويهاجم أهل السنة ويسميهم مشبهة، فهو هنا أنكر على ابن خزيمة إثبات العينين لله تبارك وتعالى حقيقة وقال: هذا ليس كلام السلف.

    ثم قال: (وقد أتى ابن خزيمة بما لم يسبق به). مع أن كلام ابن خزيمة هو كلام أئمة المسلمين، فهذه زلة خطيرة وسقطة شنيعة وقع فيها ابن الجوزي عليه رحمة الله، والرد عليه أظن ما ذكرناه آنفاً يكفي للرد عليه.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    1.   

    الأسئلة

    حكم صيام أول رجب

    السؤال: هل وردت نصوص في صيام أول رجب؟

    الجواب: النصوص الواردة في صيام أول رجب كلها نصوص باطلة غير صحيحة، فمن خص فعليه الدليل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755772346