إسلام ويب

العقيدة الواسطية [4]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أثنى الله تعالى على نفسه في كتابه الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا, ومن جملة ذلك وصفه تعالى لنفسه في آية سورة الحديد بكونه الأول والآخر والظاهر والباطن, وكل ذلك مما يدل على صفات كماله ونعوت جماله, كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وبينه, ومن جملته وصفه تعالى نفسه بصفة العلم الشامل لكل شيء, وما تضمنته هذه الآية العظيمة هو ما يعتقده أهل السنة خلافًا للمنحرفين من الفلاسفة ونحوهم.

    1.   

    ما تضمنه قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) من صفات الله عز وجل

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    يقول الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3].

    هذه الآية تشتمل على خمس صفات: الصفة الأولى: الأولية، الصفة الثانية: الآخرية، الصفة الثالثة: الظاهرية، الصفة الرابعة: الباطنية، الصفة الخامسة: العلم.

    معنى اسم الله تعالى (الأول) وما يؤخذ منه من الصفات

    قوله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، هذه من أسماء الله سبحانه وتعالى، وأحسن تفسير لها هو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم أنه قال: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء).

    فهذا الحديث مفسر للآية، فاسم الله عز وجل الأول يؤخذ منه صفة الأولية، وقد سبق أن قررنا قاعدة مشهورة عند أهل العلم وهي: أن كل اسم من أسماء الله عز وجل متضمن لصفة من الصفات.

    والدليل هو: قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، ووجه الدلالة من هذه الآية على أن كل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة: أن الحسنى هي البالغة الغاية في الحسن، ولا يمكن أن تبلغ الغاية في الحسن إلا إذا كان لها معان حسنة ومدلولات عظيمة، فلو كانت أسماء مجردة لا معاني لها، وأعلاماً محضة؛ فإنها لا تكون حسنة ولا توصف بالحسن، فلما وصفت بالحسن علمنا أن هذه الأسماء تتضمن معان وصفات، فإذا جئنا نطبقها على آية الحديد: هُوَ الأَوَّلُ نأخذ من اسمه الأول صفة الأولية، ومعناه كما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) ففسره بأنه الذي لا شيء قبله، ومعنى الأول: الذي لا يوجد له بداية يبتدئ منها.

    خطأ أهل الكلام في تسمية الله عز وجل بالقديم

    وأهل الكلام جعلوا لله عز وجل اسماً وهو القديم، وهذا الاسم الذي يرددونه دائماً: القديم والأزلي لا يصح أن يكون اسماً لله سبحانه وتعالى؛ لأن القِدم نوعان: قدم مطلق وقدم نسبي، فالقدم المطلق هو الذي ليس له بداية، وهذا هو معنى الأول، وأما القدم النسبي فإنه الذي مضى عليه زمن طويل في القدم، ولهذا يقول الله عز وجل: حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] يعني: من طول المكث وطول الزمان.

    وهناك قاعدة ذكرها ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد: أن الصفة التي تنقسم إلى معنيين أحدهما حسن والآخر غير حسن فإنه لا يصح أن تطلق على الله عز وجل، ولهذا لا يصح أن يسمى الله عز وجل بالقديم، وإن كان يصح أن يخبر عنه بالقديم والأزلي، وسبق أن باب أسماء الله عز وجل وصفاته توقيفي، وأما باب الإخبار عنه فإنه يصح بكل معنى صحيح عن الله سبحانه وتعالى، بشرط أن يكون هذا المعنى قد دلت عليه الأدلة.

    إذاً: الأول هو الذي ليس قبله شيء، وليس له بداية سبحانه وتعالى.

    معنى أسماء الله: الآخر والظاهر والباطن

    (( وَالآخِرُ)) هو الذي ليس بعده شيء، وليست له نهاية هذا من جهة الزمان.

    قوله: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء)، وهذا يدل على صفة العلو، وسيأتي الحديث عن صفة العلو في حديث مستقل.

    (وأنت الباطن فليس دونك شيء) ، ومعنى الباطن: القريب من كل شيء في علمه وقدرته سبحانه وتعالى، وسيأتي أيضاً الكلام بإذن الله تعالى عن صفة القرب لله سبحانه وتعالى.

    ونلاحظ أن هذه الأسماء الأربعة زمانية ومكانية، فأما الزمانية فهي: الأول والآخر، وأما المكانية فهي: الظاهر والباطن.

    ضلال الفلاسفة ومن وافقهم في قولهم بقدم العالم

    لا توجد طائفة من الطوائف تنكر أن الله عز وجل هو الأول، لكن يوجد من الطوائف من يجعل مع الله سبحانه وتعالى من مخلوقاته قريناً له في الأولية، فيشرك في هذه الصفة، وهم الفلاسفة -قبحهم الله- الذين يقولون بقدم العالم، فإنهم يقولون: إن الإله علة موجبة تقتضي معلوله، فلما كان الإله لا أول له ولا بداية، وهو علة موجبة تقتضي معلولها، كان معلولها أيضاً لا بداية له، فاعتقدوا أن هذا الخلق قديم أزلي أول، كما أن الله عز وجل هو الأول، ويقولون: إنها نتجت عن الله عز وجل وصدرت عنه صدور المعلول عن علته بدون إرادة، ولهذا كفرهم السلف رضوان الله عليهم.

    وممن يقول بهذا القول: ابن سينا -قبحه الله- وهو من الفلاسفة، فإن الفلاسفة ينقسمون إلى قسمين: الفلاسفة اليونانيون، والفلاسفة الإسلاميون، وهم ليسوا بمسلمين، لكن ينسبونهم إلى الإسلام؛ لأنهم ينتسبون إليه.

    فالفلاسفة اليونانيون هم أرسطو وأفلاطون وبعضهم من الأطباء مثل أبقراط وجالينوس وغيرهم من الفلاسفة المتقدمين، وقد تكلموا عن شيء سموه الميتافيزيقيا، وهو ما وراء الطبيعة.

    والفلاسفة كانوا يتكلمون عن الكون والإله بالظن، وليس عندهم أدلة من الرسل الكرام، ولذا فإن الفلاسفة لم يتبعوا نبياً من الأنبياء، وإنما أرادوا التوصل إلى الإله بمجرد عقولهم، فاخترعوا هذه المقولات التي من ضمنها أن هذا العالم قديم قدم الإله الذي صدر عنه، وهذا كفر بالله رب العالمين؛ لأن الأولية المطلقة هي لله سبحانه وتعالى.

    ثم إنهم جعلوا في العالم نفس خصائص الإله، وهذا شرك بكل الاعتبارات.. شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية، وشرك في الأسماء والصفات، ولهذا قابلهم المشتغلون بعلم الكلام فقالوا: إن الحوادث لها أول، ويقصدون بالحوادث: المخلوقات التي حدثت بعد أن لم تكن موجودة، فقالوا: إن لها بداية ولها منشأ، وقالوا: إن الله عز وجل قبل أن يخلق هذه المخلوقات كان معطلاً عن العمل ثم عمل، فجاءوا ببدعة جديدة، وهكذا أهل البدعة يردون البدعة ببدعة مثلها.

    لما ظهرت الخوارج وكفروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن سار على نهجهم ظهر الإرجاء كرد فعل للخوارج، وهكذا لما ظهرت القدرية الذين يمحون القدر جاءت الجبرية كرد فعل لهم فجعلوا العبد كالريشة في مهب الريح.

    ولما ظهرت المعطلة الذين ينفون الصفات ظهر من المثبتة من يشبه الله عز وجل بخلقه، وهكذا أهل البدع يبنون عقائدهم على ردود الأفعال، ولا يميزون العقائد بالنصوص الشرعية كما هي طريقة أهل السنة والاتباع.

    أقول: لما جاء الفلاسفة بهذه المقالة الكفرية، وهي: أن العالم أول مع الله عز وجل، وأنه قديم مع الله عز وجل؛ ظهر أهل الكلام كرد فعل للفلاسفة، وقالوا: إن الحوادث لها أول، فلما قيل: إذا كانت الحوادث لها أول هل الله عز وجل كان يعمل قبل هذه الحوادث؟

    قالوا: ما كان يعمل قبل هذه الحوادث، وهو معطل عن الفعل والعياذ بالله، وهذا لا شك أنه ضلال وانحراف.

    والصحيح: أن الله سبحانه وتعالى هو الأول ليس له بداية، وهو فعال لما يريد، فهو سبحانه وتعالى ليست له بداية، وهو يخلق سبحانه وتعالى في أي وقت، ولم تتعطل صفاته كما يزعم أهل الكلام.

    ولا يعني هذا أن العالم قديم؛ لأنه مخلوق، ولا يمكن للمخلوق أن يكون مثل الخالق، وأولئك سووا بين المخلوق والخالق، فلاشك أنهم كفار.

    وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح هذه القضية في منهاج السنة النبوية.

    الفرق بين آخرية الله وآخرية الجنة وأهلها

    (وهو الآخر فليس بعده شيء)، ومع أن الجنة والنار تبقيان ولا تفنيان، ومع أن العباد في الجنة يبقون ولا يفنون، لكن آخرية الرب سبحانه وتعالى تختلف عن آخرية الجنة، وآخرية العباد الذين فيها.

    ووجه الاختلاف:

    أولاً: أن الله سبحانه وتعالى هو الآخر، وهو كامل في آخريته، وأما الجنة ومن في الجنة فإن آخريتهم مخلوقة بفعل الله عز وجل، وأنتم تعلمون أن هناك فرقاً بين الخالق والمخلوق. هذا من جهة.

    ومن جهة أخرى: فإن آخريتهم ناقصة بما يتضمنه المخلوق من النقص المعتاد المعروف، فإنه ناقص حتى ولو كان ليس له نهاية كما هو حال الجنة وحال من فيها.

    وبهذا يتضح أن الله عز وجل ليس كمثله شيء، وأنه الأول ولا بداية له، وأنه الآخر ولا نهاية له سبحانه وتعالى، وهذا من كماله سبحانه وتعالى، ومن كمال صفاته.

    1.   

    إثبات صفة العلم وبيان أدلتها وما يتعلق بها

    أما قوله: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فهذه هي صفة العلم، وقد ذكر الشيخ مجموعة من الآيات تدل على هذه الصفة، منها قوله: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2]، ومنها: قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2]، ومنها: قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، ومنها قوله تعالى: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]، وأيضاً قوله تعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12].

    فهذه الآيات وغيرها الكثير في القرآن الكريم تدل على صفة العلم لله سبحانه وتعالى، والله عز وجل اسمه العليم، والعالم، والعلام.

    والعليم ورد في القرآن أكثر من مائة وخمسين مرة، وأسماؤه: العليم والعالم والعلام تتضمن صفة العلم له سبحانه وتعالى.

    الأدلة العقلية على إثبات صفة العلم

    ويدل على صفة العلم العقل والشرع، وقد بين الشرع كيفية الاستدلال العقلي على هذه الصفة العظيمة، وهي صفة ذاتية عقلية لا تنفك عن الله عز وجل، وليست متعلقة بالمشيئة، وعقلية لدلالة العقل عليها، وقد بين الشرع كيفية الاستدلال العقلي عليها.

    مثال ذلك: قول الله عز وجل: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فهذه الآية تدل دلالة عقلية على أن الله سبحانه وتعالى عليم، ووجه الدلالة من هذه الآية هو أن الله عز وجل خلق الخلق، وهذا أمر متفق عليه، ولا يمكن أبداً أن يخلق الخلق إلا بعلم؛ لأن الخلق تقدير وترتيب للمخلوقات وترتيب لأجزاء المخلوق، ولا يمكن أن يكون هذا إلا عن علم.

    ولهذا لو قيل: إن إنساناً صنع سيارة وهو لا يعرفها، أو ليس له علم بها، أو وهو جاهل لا يعرف شيئاً. لما صُدَّق هذا، فكيف يركب السيارة وينظمها ويجعلها بهذه الطريقة وهو لا يعلم شيئاً؟ فلهذا المخلوقات الموجودة في الكون دليل واضح على علم الله عز وجل.

    ومن جهة أخرى: فإن الخلق لا يكون إلا عن إرادة، والإرادة مستلزمة للعلم؛ لأنه لا يريد الخلق إلا عالم به.

    ومن هنا يتضح أن الشرع استعمل أدلة عقلية صحيحة ليس فيها شيء من اللوازم الباطلة، أو العقائد الفاسدة، كما هي أدلة المشتغلين بعلم الكلام؛ فإن المشتغلين بعلم الكلام استدلوا بأدلة غير الأدلة القرآنية، ولهذا لما استدلوا بها ألزمهم الخصوم بلوازم؛ فلما التزموها أضرت بالعقيدة إضراراً كبيراً، وصار منها نفي الصفات الفعلية، وصار منها القول بفناء الجنة والنار.

    إذاً: الشرع استخدم الدليل العقلي على هذه الصفة، وهذه الصفة واضحة ليست بحاجة إلى استدلال، فلا يمكن أن يكون إلهاً ورباً وخالقاً ومدبراً إلا وهو عالم.

    وقد سبق أن من المناهج الشرعية في الاستدلال العقلي: الاستدلال بنقيض الشيء، ونقيض العلم هو الجهل، ولا يمكن أن يوصف الإله بأنه جاهل، ولهذا لما ناقش بعض العلماء بشر المريسي وقالوا له: هل تثبت العلم؟ قال: أقول لا يجهل. قالوا له: إما أن تثبت العلم وإما أن تنفيه.

    وأهل البدع يعظمون النفي، مع أن المنهج الشرعي الإثبات المفصل لأسماء الله عز وجل وصفاته، والنفي المجمل المتضمن لكمال الضد.

    الأدلة السمعية على إثبات صفة العلم

    والأدلة النقلية الشرعية على صفة العلم ثلاثة أنواع:

    النوع الأول: ما يدل على علم الله عز وجل الشامل الواسع لكل شيء.

    من أمثلة هذا النوع: قول الله عز وجل: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98] ، فهذا يشمل الماضي والمستقبل، ويشمل أفعال العباد ومفعولاتهم، ويشمل جميع المخلوقات، عالم الغيب والشهادة.

    وكذلك من الأمثلة: قول الله عز وجل: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]، وهذه في الدلالة على العلم أصرح، كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح البخاري في كتاب التوحيد، وهو آخر كتاب من كتب صحيح البخاري ، لما جاء عند هذه الآية: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]، قال: هذه أصرح في الدلالة على علم الله عز وجل من الآية التي قبلها؛ وذلك لوجود النفي والإثبات فيها، وهو يدل على الاختصاص، كما سبق أن أشرنا أن النفي والإثبات يدل على الاختصاص.

    ومما يدل على هذا النوع أيضاً: قول الله عز وجل: وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12] ، فعلم الله عز وجل محيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية سبحانه وتعالى.

    يلاحظ في قول الله عز وجل: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، أن هذه الأشياء جميعاً من مخلوقات الله، ومن الطبيعي أن الخالق يعلم تفصيلات مخلوقاته.

    النوع الثاني: ما يدل على علمه بما سيكون قبل أن يكون.

    هناك أدلة تدل على أن الله عز وجل يعلم الشيء قبل أن يكون، ولهذا من قواعد أهل السنة: أن الله عز وجل يعلم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. يعني: حتى المستحيل يعلمه الله سبحانه وتعالى.

    يقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان:34]، وكذلك أفعال العباد، ومن منهم يدخل الجنة، ومن منهم يدخل النار، وجميع ذلك في علم الله عز وجل.

    جاء في صحيح البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! الله يعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم. قال: ففيم يعمل العاملون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ميسر لما خلق له).

    وهذا من الأمور المستقبلية، وهو يعلم أفعال العباد على التفصيل سبحانه وتعالى، وهذه من الأمور المستقبلية.

    النوع الثالث: ما يدل على علمه بالشيء بعد وجوده.

    مثال ذلك: قول الله عز وجل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وهذا يدل على أن الله عز وجل يعلم الشيء بعد وجوده بعلم ثان غير العلم الأول.

    الفرق بين علم الله بالأشياء قبل وجودها وعلمه بها بعد وجودها

    علم الله سبحانه وتعالى للأشياء يكون قبل وجودها وبعد وجودها؛ فهل علمه بالأشياء بعد وجودها هو نفسه علمه بالأشياء قبل وجودها، أم أنهما علمان اثنان؟

    الحق في هذه المسألة هو: أن الله عز وجل يعلم الشيء قبل وقوعه، وهو يعلمه على حقيقته تماماً، فإذا وقع علمه بعلم ثان؛ لأنه رآه أو سمعه سبحانه وتعالى كما قال: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، فالله عز وجل يعلم الشيء قبل أن يكون، ثم يعلمه بعد ذلك بعلم ثان، ويمكن أن نذكر عبارة لـشيخ الإسلام رحمه الله في كتابه الرد على المنطقيين، يقول رحمه الله تعالى: [وقد ذكر الله علمه بما سيكون بعد أن يكون في بضعة عشر موضعاً في القرآن، مع إخباره في مواضع أكثر من ذلك أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون، وقد أخبر في القرآن من المستقبلات التي لم تكن بعد ما شاء الله، بل أخبر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم وغير نبيه لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، بل هو سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لو كان كيف يكون، كقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28] ، فهم لم يردوا، ومع هذا علم أنهم لو ردوا لعادوا.

    بل وقد يعلم بعض عباده بما شاء أن يعلمه من هذا وهذا وهذا لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]، وقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، وقال: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] مع أنه يعرفهم قبل حدوث المعركة، ولكن قوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] يعني وجود الفعل بعد ذلك.

    وقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166] مع أنه يعلم المؤمنين قبل التقاء الجمعين وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167] مع أنه يعلمهم قبل التقاء الجمعين، وقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [التوبة:16]، وقوله: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12]، وقوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3] مع أنه يعلم الصادقين من الكاذبين قبل هذه الفتنة التي قال تعالى عنها: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت:3] إلى قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11]، وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد:31] هو يعلم المجاهدين والصابرين قبل الابتلاء، ومع ذلك قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وغير ذلك من المواضع.

    وروي عن ابن عباس في قوله: إلا لنعلم. أي: لنرى، وروي: لنميز، وهكذا قال عامة المفسرين: إلا لنرى ونميز، وكذلك قال جماعة من أهل العلم قالوا: لنعلمه موجوداً واقعاً بعد أن كان قد علم أنه سيكون].

    وهذا يوضح هذه القضية: أن علم الله عز وجل بالشيء قبل أن يكون وهو معدوم، غير علمه بالشيء بعد أن يكون وهو موجود.

    ولهذا يقول: وكذلك قال جماعة من أهل العلم: لنعلمه موجوداً واقعاً بعد أن كان قد علم أنه سيكون.

    ولفظ بعضهم قال: العلم على منزلتين: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده، والحكم للعلم به بعد وجوده؛ لأنه يوجب الثواب والعقاب.

    فمثلاً: يعلم الله عز وجل أن فلان بن فلان سيعصي الله عز وجل، ثم يموت على معصية الله، ثم يدخله النار، هذا العلم قبل أن يوجد، فإذا وجد العبد، وفعل الفعل، ومات عليه؛ علمه أيضاً بعد وجوده، فالعلم الأول قبل وجوده والعلم الثاني بعد وجوده، والثواب والعقاب يترتب على الشيء بعد الوجود وليس قبل الوجود.

    قال: [فمعنى قوله: (لنعلم) أي: لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب، ولا ريب أنه كان عالماً سبحانه بأنه سيكون].

    فقوله: (لنعلم) ليس المقصود: أن الله عز وجل قبل ذلك لم يكن عالماً، بل قد كان عالماً سبحانه وتعالى، لكن هذا العلم الثاني بعد الوجود الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، وليس هناك اختلاف بين العلمين من جهة الموضوع؛ فالله عز وجل يعلم أن هذا العبد سيفعل هذه المعصية قبل أن يوجد، وبعد أن يوجد ويفعل المعصية يعلم أنه فعلها، فالموضوع واحد، وهو: أن فلان بن فلان سيعمل المعصية، لكن العلم يختلف. هذا علم قبل الفعل، وذاك علم بعد الفعل.

    قال: [ولا ريب أنه كان عالماً سبحانه بأنه سيكون، لكن لم يكن المعلوم قد وجد، وهذا كقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [يونس:18]، أي: بما لا يوجد فإنه لو وجد لعلمه، قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ [يونس:18] يعني: ليس موجوداً؛ لأنه لو كان من علم الله عز وجل فإنه سيوجد، فعلمه بأنه موجود ووجوده متلازمان يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه، والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر].

    هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذه المسألة، وهو موجود ضمن كتاب الرد على المنطقيين، ويمكن أن يراجع في الصفحة أربعمائة وخمس وستين إلى صفحة أربعمائة وسبع وستين.

    شمولية علم الله تعالى

    علم الله سبحانه وتعالى شامل وعام للأشياء جميعاً، فهو سبحانه وتعالى يعلم كل شيء بما في ذلك أفعال العباد، ولهذا كان الإيمان بالعلم من مراتب القدر، فإن للقدر أربع مراتب:

    الأولى: إثبات علم الله عز وجل الشامل بكل شيء، ومن ذلك أفعال العباد.

    المرتبة الثانية: كتابة ذلك في اللوح المحفوظ.

    الثالثة: مشيئة الله عز وجل وإرادته العامة.

    الرابعة: الخلق العام لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد، فعلمه سبحانه وتعالى شامل لكل شيء. هذا من مراتب الإيمان بالقدر؛ لأن من الضالين في باب العلم القدرية الذين نفوا علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء.

    ولهذا يقول الشافعي رحمه الله وغير واحد من السلف: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أجابوا -يعني: أقروا بالعلم- خصموا، وإن أنكروا كفروا.

    إن أجابوا وقالوا: نعم، الله عز وجل عالم بكل شيء قبل أن يكون خصموا؛ لأنه مادام أنه عالم بكل شيء، فقد كتب هذا العلم، وليس في الكتابة زيادة، إنما هي مقتضى علمه سبحانه وتعالى، وهو خلق ما علم سبحانه وتعالى، ولم يجبر أحداً على ذلك، فقالوا: خاصموهم بالعلم فإن أجابوا خصموا، وإن أنكروا كفروا.

    فعلم الله إذاً شامل لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد، فالله عز وجل يعلم قبل أن يوجد أي شيء من مخلوقاته؛ فإنه سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، ويعلم كل شيء مهما دق وصغر، أو مهما عظم وكبر، أو مهما خفي؛ فالله عز وجل علمه واسع لكل شيء، بكل ما لكلمة (كل) من أفراد، فليس هناك شيء لا يعلمه الله عز وجل أبداً، فهو يعلمه قبل أن يوجده سبحانه وتعالى، فلما أوجده علمه أيضاً، بمعنى: أوجده وقد علمه بهذا الوجود.

    الطوائف المنحرفة في صفة العلم

    وهناك طائفة من الطوائف منحرفة في هذا الباب، مع أن صفة علم الله عز وجل من أوضح الصفات الشرعية التي أخبر عنها القرآن الكريم ومنهم الفلاسفة، مثل: ابن سينا الذي يقول: إن الله عز وجل لا يعلم الجزئيات وإنما يعلم الكليات، فهو يعلم أن هناك إنساناً، لكن أفراد الإنسان فلان وفلان وفلان وفلان لا يعرفها، ويعلم أن هناك حيواناً، لكن أفرادها وأنواعها لا يعرفها.

    ويقولون: يعلم أن هناك مخلوقات لكن أفراد المخلوقات لا يعرفها، ويقولون: يعرف الأشياء الكلية العامة لكن الأفراد والجزئيات لا يعلمها، وقد كفرهم العلماء بذلك.

    وكفرهم أبو حامد الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة بثلاثة أشياء:

    أولاً: بهذه المقالة التي سبقت، وهي: إنكار علم الله عز وجل بالجزئيات، فقالوا: إن الله عز وجل لا يعلم الجزئيات، وإنما يعلم الكليات، فهم كفار بهذا السبب.

    ثانياً: إنكار المعاد الجسماني، فهم يقولون: إن الناس لا يبعثون يوم القيامة بأجسامهم، وإنما يكون العذاب على أرواحهم فقط، وينكرون أن الجسد إذا تحلل يعود مرة أخرى، فهم مثل كفار قريش.

    ثالثاً: قولهم إن النبوة تكتسب، يعني: يمكن للإنسان أن يكتسبها بالتمرين والرياضة الروحية، فيعتقدون أن الشخص لو روض نفسه على عزائم الأمور، ومعالي الأشياء لأمكنه أن يصير نبياً، وأن النبوة مثل الأخلاق التي عند الناس، عندما يدرب نفسه على الصدق وكظم الغيظ أو نحو ذلك. هذا لا شك أنه كفر مخرج عن الملة.

    ورد على الغزالي أحد الفلاسفة وهو ابن رشد في كتاب سماه تهافت التهافت، وكلام ابن رشد في تهافت التهافت باطل.

    الطائفة الثانية المنحرفة في علم الله عز وجل: الرافضة: فإن الرافضة من أعجب الطوائف، فعندهم غرائب؛ فمن ذلك: أن الشيعة الرافضة يعتقدون أن أسماء الله عز وجل وصفاته هي أئمتهم، فمثلاً: يروي الكليني في أصول الكافي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: أنا الأول والآخر والظاهر والباطن، وأنا وجه الله، وعلم الله وإرادة الله. وهم يكذبون في هذا على علي بن أبي طالب .

    وكذلك يروون عن أبي عبد الله جعفر الصادق -وهم يكذبون عليه أيضاً- بعض هذا، وهذه من غرائب البدع أنهم يعتبرون صفات الله عز وجل هي أئمتهم، وهذا موجود في أصول الكافي وبحار الأنوار للمجلسي .

    وأنتم تعلمون أن الرافضة من أضل الطوائف عن سواء السبيل.

    الطائفة الثالثة: القدرية الأوائل فهم ينكرون علم الله عز وجل بأفعال العباد، ويقولون: إن الله عز وجل لا يعلم أفعال العباد قبل أن يفعلوها، فإذا فعلوها علمها، أما قبل أن يفعلوها فهو لا يعلمها، ولا يدري ماذا سيعملون.

    ومن هؤلاء: معبد الجهني ، فقد جاء في قصة حديث جبريل الطويل: أن يحيى بن يعمر انطلق هو وحميد بن عبد الرحمن حاجين إلى مكة فقالا: لعلنا نلقى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنسأله عن هؤلاء -يعني: عن القدرية الذين ظهروا في البصرة- فلقوا عبد الله بن عمر فاكتنفاه، فسأل يحيى بن يعمر وقال: إنه ظهر عندنا قوم ينتسبون إلى العلم، ويقولون إن الأمر أنف -يعني: أفعال العباد التي يترتب عليها الثواب والعقاب مستأنفة لا يعلمها الله عز وجل- فغضب عبد الله بن عمر وقال: أخبروا من لقيتموه بأنني منهم بريء وأنهم مني برآء حتى يؤمنوا بالقدر، فإن أحدهم لو أنفق مثل أحد ذهباً لا يقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم ذكر لهم حديث جبريل عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة.

    وهذا يدل على تكفير ابن عمر رضي الله عنه لهؤلاء القدرية الغلاة، وهكذا كفرهم الأئمة كـالشافعي وأحمد وغيرهم من العلماء.

    وهذه الطائفة انقرضت كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري؛ فإنه عند شرحه لحديث جبريل عندما ذكر القدر، وذكر الطائفة التي أنكرت علم الله عز وجل، نص على أنها انقرضت وانتهت قبل زمن الحافظ رحمه الله تعالى، ولم يبق من القدرية إلا المعتزلة الذين سيأتي الحديث عنهم عند حديثنا عن القدر.

    الطائفة الرابعة: المعتزلة: فإن المعتزلة لا يثبتون صفة العلم، بل يقولون: إن الله عالم، فإذا قيل لهم: عالم بعلم؟ قالوا: لا عالم بلا علم، أو يقولون: عالم بعلم هو ذاته.

    وهذا هو أصلهم في نفي صفات الله عز وجل جميعاً، وإثباتهم لأسماء الله عز وجل على أنها أعلاماً محضة لا صفات فيها.

    الطائفة الخامسة والسادسة: الأشاعرة والماتريدية، مع أن هذه الصفة في الظاهر مما يثبتها الأشاعرة، فهم يدندنون على أنهم يثبتون سبع صفات يسمونها صفات المعاني، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر.

    وعند التحقيق فهم لا يثبتون إلا أسماء هذه الصفات، وأما حقائقها ومفهومها الشرعي فإنهم لا يثبتون إلا صفة الحياة فقط.

    أما صفة العلم والإرادة فسيأتي نقاشنا معهم حول تجدد العلم والإرادة بحسب تجدد المعلومات والمخلوقات.

    وأما صفة الكلام فإنهم يقولون: كلام الله عز وجل نفسي بغير حرف ولا صوت، وستأتي مناقشتنا لهم.

    وأما السمع والبصر فإنهم لا يثبتون تعلق السمع بالمسموعات والبصر بالمبصرات، ولهذا يجوز بعضهم أن البصر يدرك المسموعات، وأن السمع يدرك المبصرات؛ لأنه لا فرق بين السمع والبصر عندهم في إدراك المسموعات والمبصرات.

    ويستدلون على ذلك بالأدلة العقلية والشرعية، إلا أنهم يخالفون منهج السلف رحمهم الله تعالى في مسألة مشهورة وهي: هل المخلوقات التي يخلقها الله عز وجل يعلمها بعلم سابق، فإذا خلقها وكانت هل يعلمها بعلم جديد أو لا يعلمها بعلم جديد؟

    فقالت الأشاعرة: لا يعلمها بعلم جديد، وإنما علم الله عز وجل علم واحد، والمعلومات والمخلوقات تتعدد.

    ويمثلون لذلك بالسارية، فيقولون: إن السارية التي يكون عن يمينها رجل وعن شمالها رجل، ثم يتحرك الذي عن اليمين إلى الشمال، والذي عن الشمال لليمين فتنسب الحركة والتغير إلى هؤلاء المتحركين، أما السارية فإنها في مكانها، ولهذا يقولون: إن علم الله عز وجل قديم، والمعلومات هي التي تتغير، ولا يتجدد لله عز وجل علم بحسب المعلومات أو المخلوقات الجديدة.

    وكما سبق في كلام شيخ الإسلام رحمه الله في الرد على المنطقيين، وهو: أن الله عز وجل يعلم الأشياء قبل وقوعها بعلمه الشامل لكل شيء، وبعد وقوعها يعلمها بعلم آخر، وسبق ذكر الأدلة على ذلك كقوله: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد:31] مع أنه كان يعلم، ومع ذلك عبر بقوله: حَتَّى نَعْلَمَ.

    وسبق ذكر جملة من الآيات التي تدل على هذا، فقوله: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ [محمد:31] مع أنه يعلم المجاهدين، وهذا يدل على أن العلم الذي قال فيه حتى نعلم المجاهدين منكم أنه علم ثان يكون بعد تبين المجاهدين وتميزهم، لكن العلم هذا الجديد ليس مخالفاً للعلم السابق الذي يكون بعد وجود المخلوق؛ فإن العلم بالشيء قبل وقوعه يختلف عن العلم بالشيء بعد وقوعه، ولو لم ترد هذه الأدلة لما احتجنا لبحث هذا الموضوع، فمثل قوله تعالى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ [محمد:31] ، استغله بعض الفلاسفة أو بعض القدرية وقالوا: إن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه، فهو يقول: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ [محمد:31] يعني: قبل أن يبتليهم ما كان يعلم، وهذا كلام باطل؛ فإن الله عز وجل وسع علمه كل شيء، وعلمه شامل لكل شيء، لكنه قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ [محمد:31] يعني: أن الفعل بعد وجوده له علم غير العلم به قبل وجوده، وإن كان المعنى واحد، لكن الله عز وجل يقول: حَتَّى نَعْلَمَ، فأثبت لنفسه علماً آخر بالشيء بعد وجوده، كما أنه أخبر في آيات أخرى أن علمه شامل لكل شيء.

    أما الأشاعرة فإن عندهم شبهة، وهي التي نفوا بسببها أفعال الله عز وجل جميعاً، فنفوا النزول والمجيء والإتيان والضحك والغضب والرضا ونحو ذلك من الصفات الفعلية بشبهة؛ فهم يعتقدون أن هذه الصفات كانت بعد أن لم تكن موجودة من قبل، وأن هذا يستلزم التغير، وأن هذا يستلزم حلول الحوادث بذات الله عز وجل. هكذا يقولون.

    وهذا كلام باطل نشأ عندهم من الأدلة البدعية التي استدلوا بها على وجود الله عز وجل، كدليل حدوث الأجسام، فإنهم لما استدلوا على وجود الله أثناء مخاصمتهم للفلاسفة بدليل حدوث الأجسام -وهو دليل بدعي مخترع لا يدل عليه شيء من الشرع- ألزمهم الفلاسفة بأن أي صفة متعلقة بمشيئة الله عز وجل فهي متأولة أو منفية عن الله عز وجل؛ لأن الصفة إذا كانت متعلقة بالمشيئة يفعلها اليوم ثم بعد عشرين يوماً يفعلها مثلاً، ثم بعد ألف عام يفعلها، يلزم منه التجدد والتغير، وهذا مخالف للقدم، والله عز وجل قديم، وهذا كلام باطل؛ لأن الشرع دل على هذه الصفات ونص عليها، والله عز وجل أعلم بنفسه من هؤلاء، فالله عز وجل أخبر أنه ينزل ويجيء، وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ينزل، وأخبر هو عن نفسه بأنه مستو على عرشه بعد أن لم يكن مستو من قبل؛ لأنه قال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، يعني: لم يكن مستوياً على العرش ثم استوى، وهذه كلها تليق بجلال الله عز وجل، وقولهم بأن هذا يستلزم التغير باطل لا قيمة له؛ لأن الله عز وجل أثبت هذه الصفات لنفسه.

    وكما سبق في كلام شيخ الإسلام قال: (فإنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من خلقه).

    ولا شك أن الله عز وجل أخبر عن نفسه بهذه الصفات الفعلية، وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بها.

    1.   

    الآثار التربوية والسلوكية لأسماء الله عز وجل وصفاته

    لكل صفة من صفات الله عز وجل آثار تربوية وسلوكية على أخلاق الإنسان وآدابه، ويستطيع الإنسان أن يربي نفسه من خلال هذه الصفة.

    فمثلاً عندما يؤمن الإنسان بأن الله عز وجل عليم، وعندما يتمكن هذا الإيمان من قلبه؛ فإنه سيورث في قلبه مقام المراقبة، وهو مقام عظيم جداً من مقامات الإيمان، فإذا علم العبد أن الله عز وجل يعلم أفعاله، وأنه عليم بذات الصدور، وأنه يعلم السر وأخفى، وأنه يعلم كل شيء؛ فإنه يعلم أنه مهما استتر بمعصيته فإن الله عز وجل يراه، ومطلع عليه.

    والواجب أن يستحي الإنسان من ربه، فالله عز وجل عظيم وكبير سبحانه وتعالى، ولو أراد أن يذهب العباد بكلمة واحدة لأذهبهم جميعاً.

    ولهذا ينبغي على الإنسان أن يأخذ من صفات الله عز وجل آثاراً تربوية يستفيد منها لنفسه وفي أخلاقه وآدابه.

    وقد سبق أن منهج دراسة العقيدة على نوعين:

    الأول: منهج تصحيح الاعتقاد، وهو تصفيته من شوائب البدع وشوائب الانحرافات الفكرية، والإيمان بالله تعالى كما آمن به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

    والثاني: منهج تعميق العقيدة في النفوس، وذلك بالاستفادة من موضوعات العقائد في الأخلاق والآداب والصفات والدعوة إلى الله عز وجل ونحو ذلك.

    فمن فوائد الإيمان بأن الله عز وجل عليم: أن يعلم الإنسان أن الله عز وجل مطلع على فعل الفساق والفجار والكفار، وما يقومون به من إيذاء للمؤمنين، ويعلم العبد أن الله عز وجل مطلع عليه، وأنه غير مهمل له، وأنه سبحانه وتعالى يراه، وأنه يرى فعله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجاهدة مثل هؤلاء، والدعوة إلى الله عز وجل؛ فإيمانه بهذه الصفة يبعثه على النشاط في الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعبادة لله عز وجل، ولهذا فإن للإيمان بصفات الله عز وجل آثار عظيمة جداً في النفوس.

    وقد سبق أن أشرت إلى قصة لقيط بن صبرة لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره. فقال لقيط : يا رسول الله! أو يضحك الرب؟ -ما كان يعلم أنه يضحك- قال: نعم. قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً)، يعني: الخير لن نعدمه من الرب الذي يضحك، وسيرحمنا وسيعطينا الخير.

    هذا مسلك تربوي أخلاقي من هذه الصفة العظيمة وهي صفة الضحك.

    أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح.

    1.   

    الأسئلة

    الفرق بين علم الله قبل وقوع الشيء وبعد وقوعه

    السؤال: ما الفرق بين علم الله قبل وقوع الشيء وبعد وقوعه؟

    الجواب: معناهما وموضوعهما واحد، ولكن العلم بالشيء قبل وقوعه يعني أنه يعلمه وهو معدوم، وعلمه بالشيء بعد وقوعه يعني أنه يعلمه وهو موجود، وهناك فرق بين المعدوم والموجود، وبالتالي يكون هناك فرق بين علمه بالشيء وهو معدوم وبين علمه بالشيء وهو موجود، هذا هو الفرق.

    أما الغيب والشهادة فهما مصطلح شرعي يراد به الغيب عن العباد، ويقسمونه إلى غيب مطلق وغيب نسبي، فالغيب الشرعي بالنسبة لله عز وجل شهادة، فلا يصح استخدام مثل هذا المصطلح، لكن يقال: علمه بالشيء قبل وقوعه وعلمه بالشيء بعد وقوعه.

    وسبق ذكر الأدلة من كتاب الرد على المنطقيين.

    وبعض الأحيان لا يكون هناك ثواب وعقاب متعلق بأفعال العباد، مثلاً: زلزال سيحصل لأمة من الأمم، قبل الزلزال يعلم الله عز وجل أنه سيحصل، وبعد أن يحصل يعلم أنه حصل. هذا هو الفرق.

    والحاجة التي دعت للكلام في هذا الموضوع هو ورود بعض الآيات التي استدل بها الفلاسفة استدلالاً باطلاً ووجهها الأشاعرة توجيهاً باطلاً، فاحتجنا للحديث عنها فقط، وإلا فإن المسألة واضحة أن علم الله عز وجل شامل للشيء قبل وقوعه وبعد وقوعه، لكن احتجنا لهذا التمييز وهذا التفريق لوجود منحرفين فيه، وإلا فمن المعلوم عندنا جميعاً أن علم الله شامل للأشياء قبل أن توجد وبعد أن توجد، والأشياء التي لم توجد لو جدت كيف يكون حالها، مثل قول الله عز وجل: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا [الأنعام:28]، لن يردوا أصلاً، لكن لو ردوا لعادوا، فالمفترض يعلمه الله عز وجل.

    ونحن أشرنا لهذه المسألة لوجود من وجَّه هذه المسائل توجيهاً باطلاً، مثل الأشاعرة الذين يقولون: إن علم الله عز وجل واحد قديم ليس له تعلق بالمخلوقات، وإن كانت المخلوقات تتغير في ذاتها، فالتغير يكون في المخلوقات ولا تعلق لها بعلم الله عز وجل، وأصله ناشئ عن شبهة عقلية انحرفوا بها في أكثر من صفة وليس في مجرد صفة علم الله عز وجل، فهم انحرفوا في جميع الصفات الفعلية.

    الفرق بين القديم والأزلي

    السؤال: ما الفرق بين قولنا قديم وأزلي؟

    الجواب: متقاربان في المعنى.

    معنى دلالة الاسم على معناه بالمطابقة وعلى الذات بالتضمن وعلى الصفة الأخرى بالالتزام

    السؤال: ما معنى قول العلماء: للاسم من أسمائه تعالى ثلاث دلالات: دلالة بالمطابقة، ودلالة على الذات بالتضمن، وعلى الصفة الأخرى بالالتزام، مع المثال؟

    الجواب: نأخذ المثال في اسم الله عز وجل العليم؛ فإن العليم يدل على اسمه العليم، وهذه هي دلالة المطابقة، ويدل على ذاته الموصوفة بالعلم بدلالة التضمن، وهو فرد من أفراد المطابقة، وعلى الصفة الأخرى وهي الحياة بالالتزام، فإنه لا يمكن أن يكون عليماً وهو غير حي، والالتزام خارج المسألة نفسها، لكن يلزم منها عندما أثبتنا أنه عليم أنه حي؛ لأنه لا يمكن أن يكون العليم غير حي.

    وجه الفرق بين آخرية الله تعالى وآخرية الجنة

    السؤال: هل يعني قولك: إن آخرية الجنة ليست كآخرية الله عز وجل أن الجنة لها آخرية ثم تنتهي؟

    الجواب: لا، فهي لا تنتهي، لكن قد يقول قائل: ما هو الفرق إذا كانت آخرية الجنة لا تنتهي، والله عز وجل ليس له نهاية، فما هو الفرق؟ الفرق أن هذا خالق وهذا مخلوق، والفرق بين الخالق والمخلوق واضح، الخالق بصفاته الكاملة التامة، والمخلوق بصفات العجز والنقص الموجودة فيه.

    شروح العقيدة الواسطية

    السؤال: يريد الأخ أن أدله على كتاب في شرح العقيدة الواسطية؟

    الجواب: هناك كتب كثيرة منها كتاب الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وهناك أيضاً كتاب للشيخ صالح الفوزان شرح فيه العقيدة الواسطية، وكتاب للشيخ زيد بن فياض اسمه الروضة الندية، وأيضاً كتب أخرى سبق أن أشرت إليها.

    وجوب العمل على العبد مع سبق كتابة السعادة والشقاوة

    السؤال: الإنسان إن كان قد قدر الله عز جل وكتب له أنه في الجنة أو في النار فلماذا العمل؟

    الجواب: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، لكن أنت الآن ما تعلم ماذا كتب لك، لعله كتب لك أن تكون سعيداً، فلماذا لا تعمل بالسعادة؟ اعمل بالسعادة، بعض الناس الذين يتركون العمل بالشرع ويحتجون بالقدر، يقول لك: احتمال أني مكتوب شقي، وكيف تعلم؟ كيف علمت ذلك؟ قال: لأني أنا الآن أمارس المحرمات. هل أنت تمارسها عن رغبة، أم مجبور عليها؟ يعني: هل تتصورون أحداً لا يريد المعصية وتأتيه الملائكة وتجره إليها جراً؟! فهو مختار.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756264045