إسلام ويب

تفسير سورة الزخرف [46-54]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم عن رسالة موسى عليه السلام وحاله مع فرعون وقومه، وبين ما جاءهم به من الآيات البينات والأدلة الواضحات، فما زادهم ذلك إلا إعراضاً ونفوراً، وكفراً بالله وغروراً، فأخذهم الله بعد إطلاق، وعاقبهم بعد إمهال، فأغرقهم جميعاً ونجى فرعون بجسده ليكون آية وعبرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ...)

    قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزخرف:46].

    الله كثيراً ما ينظّر ويضرب الأمثال والأشكال في الرسالة المحمدية وفي الرسالات السابقة؛ كالرسالة العيسوية والرسالة الموسوية، فعندما جاء الإسلام وجماهير من الناس يدّعون أنهم أنصار عيسى، وآخرون يدّعون أنهم أنصار موسى، ولكنهم جميعاً قد بدّلوا وغيّروا وزيفوا وحرّفوا في كتبهم التوراة والإنجيل، أما المسلمون فما حاولوا التحريف والتبديل في القرآن، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

    لكن قد يكون التحريف في التفسير وفي الشرح وفي الفتوى وفي الاجتهاد عن نية سيئة أو عن جهل بالنصوص، ولا يحق للجاهل أن يفتي في دين الله ولا أن يتلاعب بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فكان اليهود الذين أذلهم الله وغضب عليهم، والنصارى الذين جهلوا دينهم وضلوا عن سواء السبيل، فاليهود هم الذين حاولوا قتل عيسى، وكانوا يقولون عنه الإفك في حياته وبعد أن رفعه الله إلى السماء وحاشاه من ذلك، وأخذوا بعد ذلك يضللون أتباعه ويقولون عنه أنه إله وهو ثالث ثلاثة تعالى الله عن كل ما يقولون علواً كبيراً.

    فكان القرآن يضرب المثل ليفهم المسلمين أنهم إذا فعلوا فعل اليهود يلعنهم الله كما لعن اليهود.

    وهذا فعل في عصرنا عندما بدّلوا وغيّروا وحرّفوا وتركوا كتاب الله وراءهم ظهيراً، وأخذوا يتبعون اليهودية بشيوعيتها وماسونيتها ويتبعون الملل الكافرة الملحدة، فعندما أخذوا يجرون وراءها سلّط الله عليهم النصارى أولاً ثم اليهود بعد ذلك، ثم الجميع عقوبة من الله، وقد أنذرهم قبل ذلك نبيهم والكتاب المنزل على نبيهم فما رعوه حق رعايته وما اتعظوا وما عادوا وما تابوا، ولن يرفع الله مقته وغضبه على المسلمين حتى يعودوا إلى ربهم وإلى كتابه فيحكّمونه فيما بينهم، وإلى نبيه فيلتزمون طاعته والعمل بشريعته وإلا فالأمر لا يزداد إلا شدة، والله جل جلاله ذكر ذلك في العشرات من السور والمئات من الآيات، وما من ذنب إلا بمعصية، ولذلك الله يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] فهذه المصائب نتيجة كسب اليد من الكفر بالله والجري وراء اليهود والنصارى والمنافقين من سكان البلاد.

    فقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا [الزخرف:46] أي: بما يصدّق رسالته من الآيات الواضحات والمعجزات الكاشفات إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [الزخرف:46] أي: إلى فرعون وقومه من أشرافهم وكبارهم وصغارهم، فجاء إليه موسى فقال: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزخرف:46] أي: جئتك يا فرعون ! ويا قومه، وأيها المستعبدين له من الأسباط رسولاً من رب العالمين، لأدعوكم إلى عبادة الله الواحد وأن تتركوا فرعون وتألهه ودجله وأكاذيبه وأباطيله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون ...)

    يقول ربنا: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف:47] لما جاء موسى بالآيات البينات آية بعد آية، إذا بالكفرة المتقدمين يفعلون ما يفعله الكفرة المتأخرون، يضحكون من دينهم ويضحكون من المعجزات التي أتى بها موسى فقالوا: هذا سحر، وهذه شعوذة، وهذا كذب، وقالوا: أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ [طه:57-58] فأتوا بالسحرة، فغلبهم موسى بمعجزته فآمن السحرة، قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70] ثم تتابعت الآيات والمعجزات من نبي الله موسى وهارون إلى فرعون وملئه وما زاده ذلك إلا طغياناً وتجبراً وهو يدّعي الألوهية، يتأله والله يكذّبه، فعندما جاءهم بالآيات المتتابعات من الضفادع ومن الدم ومن النقص في الأثمار وفي الأنفس وفي الخيرات، ومما أصابهم من الآيات التسع، كانوا يتضاحكون حتى إذا ابتلوا وأرادوا الطعام سبقتهم الضفادع وإذا أرادوا الشراب سبقهم الدم وسبقهم القمل، وغير ذلك من المعجزات التي وردت، قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:47-48] يقول ربنا جل جلاله: أتيناهم بالآيات المتتاليات المتتابعات، وما من آية أتت إلا والتي بعدها أكبر منها، (أكبر من أختها) أي: من قرينتها وسابقتها.

    أتاهم موسى بمعجزات وقال لهم: أسلموا وآمنوا بالله، فجميع خلق الله سيموت، وإلهكم واحد فوحدوه، ثم يهددهم بالعذاب إن هم رفضوا توحيد الله، فابتلاهم بالنقص في الأنفس، فأخذوا يموتون الآلاف بعد الآلاف ويأتون إليه مستجيرين مستغيثين وهم يجأرون إليه، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ [الزخرف:49] ويدعو الله أن يرفعه فيرفعه الله، فيعودون لنفس الأيمان ولنفس العهود فيسلط الله عليهم النقص في الثمرات، فتنتشر المجاعة في أرض مصر، وأخذ الناس يموتون جوعاً وعادوا إليه يجأرون، ودعا الله أن يرفع عنهم ذلك، ثم سلط عليهم الضفادع فكانوا إذا أكلوا سبقت الضفادع اللقمة قبل أن يلتقطها أحدهم، ويحاولون أن يبتعدوا عنها وإذا بهم يمضغونها ويبلعونها وهم على غاية من الضيق والضجر، ثم ارتفع هذا البلاء، وسلط عليهم القمّل وإذا به في شعورهم وفي ثيابهم وطعامهم وشرابهم وعادوا وجأروا وصاحوا ووعدوه بالإيمان فرفعه الله عنهم، ثم سلط عليهم الدم فكانوا إذا أكلوا أكلوا دماً وإذا شربوا شربوا دماً وإذا مشوا في الأرض مشوا على الدماء، وهكذا حتى كان الانتقام وكان قاصمة الظهر حيث أغرقهم الله جميعاً، فجعلهم الله سلفاً وعبرة للآخرين، وقضى على حياة فرعون ولم يقض على جسده فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92]، فأنجاه الله بالبدن ولم ينجه بالروح، ومن ذهب إلى مصر فسيجد في متاحفها تلك الجثث، وفرعون واحد منهم يقيناً بإخبار الله تعالى، وهم يقولون عن المجموعة أنها فراعنة فأخذوا يعتزون بها، وعادوا لرفع شأنها والتمسك بها.

    وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:48] أي: وأخذهم الله وعاقبهم بعذابه وانتقامه بمختلف الآيات البينات والمعجزات الواضحات التي أتى بها نبي الله موسى وهارون، فما زادهم ذلك إلا عناداً وجحوداً ولم يرجعوا للإيمان والتوحيد وطاعة موسى وهارون، ثم أخذوا بعد ذلك يجأرون ويضرعون فقالوا: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ [الزخرف:49] قال قوم: كلمة الساحر كانت عندهم بمثابة العالم والكبير والعظيم، فكأنهم قالوا له: يا أيها العالم والخبير! ارفع عنا هذا البلاء بما أعطاك الله من النبوة والرسالة التي أكرمت بهما، والمحبوبية التي زعمتها، فادع الله لنا أن يرفع عنا هذا البلاء وهذا الغضب إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ [الزخرف:49] أي: نعدك بأننا سنهتدي، و(مهتدون): اسم فاعل بمعنى الحال والمستقبل، أي: سنهتدي وسنؤمن لك وبرسالتك وسندين بدينك ونترك فرعون وتألهه وربوبيته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون)

    قال تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الزخرف:50] استجاب الله لموسى دعاءه فكشف عنهم العذاب، ولكنهم مع ذلك نكثوا العهد وغدروا فلم يهتدوا ولم يؤمنوا ولم يسلموا، وهكذا دواليك عند كل بينة وعند كل معجزة وعند كل آية وكل نقمة، والله نوع المعجزات على يد موسى، فيأتون جائرين طائعين باكين واعدين بأنهم سيعودون من الكفر والشرك إلى الإيمان والهداية، فما يكاد الله يرفع ذلك عنهم حتى يعودوا إلى الكفر والعصيان والجحود والطغيان.

    قال تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ .. [الزخرف:50-51]، ازداد فرعون تكالباً ونقمة وعناداً على موسى نبي الله؛ وذلك لأنه وصفه بأنه كافر وكاذب ومدع، فرأى فرعون أن هذا شيء عظيم لا يكاد يقبل فهو بجيوشه وبحكمه وبقصوره ويرى لنفسه مقاماً ودرجة ليس لموسى منها قليل ولا كثير.

    وهكذا تزعم العقول عندما ينتزع منها نورها وفهمها وإدراكها فتفسر الأشياء بالمقلوب، حيث تفسر الكفر إيماناً والإيمان كفراً، والضلالة هداية والهداية ضلالة، والنور ظلاماً والظلام نوراً.

    وإذا بـفرعون ينادي قومه بعد كل ذلك وأخذ يحتج على ألوهيته بالكذب والدجل، وفي الاستدلال على الألوهية بسخافات لا يقبلها ولا يقولها إلا مجنون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ونادى فرعون قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر ...)

    قال تعالى: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51]، فإحدى دلائل فرعون أنه يحكم مصر، وما مصر بالنسبة للعالم إلا كواحد في المليون، فهنالك قارة آسيا مع سعتها وعرضها وبقية قارات الأرض، ولكن فرعون لسخافة عقله ولجنونه ولكفره ولعناده ظن أنه بحكمه لمصر سيصبح إلهاً يرفع ويضع ويقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ومَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38].

    فنادى في قومه، أي: صاح وهو فاقد عقله ومنطقه بعد أن جاءه موسى بما جاء من البينات الواضحات والمعجزات الكاشفات، فنادى في قومه بعد أن جمعهم وخطب فيهم وادعى الألوهية كما يدعيها بعض حكام فارس.

    وكان الرشيد رحمه الله يقرأ هذه الآية وإذا به يضحك ويعجب كيف أن فرعون يدعي الألوهية لكونه يحكم مصر وما مصر بالنسبة لدولة هارون إلا جزءاً من الآلاف، فقد كان رحمه الله يحكم المشرق والمغرب وجميع الأقاليم، فقال: والله لا يحكمها إلا غلامي المكلف بأموري، فذهب هذا الغلام الخصي ليحكم مصر فوجد ما وجد فيها، ثم قال: والله لن أحكم بلداً حكمها فرعون ورفض عبد هارون أن يحكم مصر التي حكمها من ادعى الألوهية، وجعلها دليلاً على ألوهيته.

    ثم وليها كافور الأخشيدي مملوك أجعد الشعر أفطس الأنف لا يرى منه أبيض إلا أسنانه وبياض عينيه، فحكم مصر أحسن حكم عدلاً وعلماً وأمناً، وقضى على كل فتنة وفساد، حتى قال الناس: أين كافور من فرعون المتأله الكاذب على الله؟ الذي قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51]، أي: ألا ترون أني حاكم مصر، وهذا النيل يجري من تحت قصوري وبساتيني وأتحكم فيه وأحوله يميناً إن شئت ويساراً إن شئت، وكل إنسان يفعل ذلك.

    فـفرعون لم يخلق الناس ولم يخلق مصر ولم يخلق ما يدعيه.

    ثم زاد فتطاول على نبي الله موسى فقعد يقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، فنظرته نظرة الكافر المشرك إلى أحد أولي العزم من الرسل، ووصفه بالمهانة، ثم قال له من بعد: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف:53] فهذه الآية تبين أن فرعون مهين؛ لأن نبي الله موسى لا يلبس أساور النساء في يديه كما يلبسها فرعون ، ولا يضع أصناف اللؤلؤ والمرجان في عنقه كما يضعها فرعون ، وهل يعجز موسى ذلك؟ وماذا عسى أن يكون هذا الذهب واللؤلؤ؟ ولكن العقول الكافرة تكون قد تقذرت وتوسخت وصارت لا تقبل فهماً ولا نوراً، ولا ما يقبله ذوو العقول السليمة، ولذلك وصف الله هذه الطبقة بأنها كالأنعام بل هم أضل قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44]، فهم أضل من حميرهم ودوابهم وهوامهم.

    وقوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ [الزخرف:52]، فصفة فرعون كما جاء في كتبهم أنه كان أشبه بضب طوله كعرضه، وكانت عيونه بارزة وأسنانه بارزة وأنفه أكبر من شفتيه، وشفتاه تكاد تكون أكبر من يديه، وهو يمشي كمدحلة الأرض، ينطق صياحاً، ويتحرك تحركات المجانين، وتصرفاته تصرفات مجانين، فكيف يصف نفسه بالجميل والشريف وبأنه خير من أنبياء الله؟!

    ولماذا قال عن موسى ذلك، وهو لم يأت بالأساور في يديه، ولا بعقود اللؤلؤ في عنقه، وكان ذلك عندهم علامة الشرف والقيادة والإمارة؟

    وفسر بعض المفسرين قوله تعالى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ [الزخرف:52] بل أنا خير، ولا حاجة لذلك، ثم يتساءل ويقول: أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51] أي: أليس عندكم أبصار ترون بها الأنهار تجري من تحتي والوديان أمامي وأحكم على من أشاء بالقتل أو التعذيب ممن يتعرض لي؟ أليس هذا دليلاً على أنه إله ورب؟ هكذا خطر في بال هذا الأجدب الأبله الذي فقد عقله قبل أن يفقد دينه، ثم أراد أن يفعل موازنة ومقارنة بينه وبين نبي الله، فله في مصر حكم وسلطان وربوبية، وهو خير من موسى وأبهى منه وأجمل؛ لأن في يديه الأساور وفي عنقه إلى صدره عقود من الزبرجد والمرجان وتخيل نفسه أنه أنثى، فينتهي به الرياء والفخر إلى هذا الحد، فليست الأساور من شأن الأنبياء ولا من شأن الرجال.

    وقوله: وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، أي: لا يكاد يفصح؛ لأنه كان به لثغة، وكان فرعون سبب ذلك، فعندما ألقته أمه في النيل بأمر الله تعالى بعدما وضعته في الصندوق وإذا به يقع في يدي جواري زوجة فرعون فأخذته فإذا هو قمر عليه إشراق فتبنته، وقالت لـفرعون : عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً، وبعد إلحاح تركه لها، وقال: لا حاجة لي بنفعه، ولو قال ما قالته زوجته لانتفع به، ولذلك لم ينتفع به ولا بوجوده في داره فتربى في بيت من سيكون سبب هلاكه والقضاء عليه، وفي يوم من الأيام دخل فرعون القصر، فأخذ موسى وعمره سنة فوضعه في حجره فإذا به يمسك بلحيته فيجره إليه حتى نتف منها شعرات، وإذا بـفرعون يضج ويقول: هذا إسرائيلي وكاد يذبحه، فقالت له زوجته: يا فرعون كيف تقول هذا لصبي أرعن لا يفهم وإذا شئت أن تمتحنه فافعل، فائت بجمرة وتمرة فإن أخذ التمرة فهو عاقل، وإن أخذ الجمرة فهو طفل لا يدرك، فأخذ الجمرة فقذفها في فيه فحرقت لسانه فبقيت تلك اللثغة في لسانه، ولكنه دعا الله جل جلاله أن يرفعها عنه عندما كلفه بالرسالة فقال موسى لربه في طور سيناء: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:25-32].. إلى آخر الآيات.

    فاستجاب الله له وحل تلك العقدة وأعانه هارون بفصاحته وببيانه وبخطابته وبدعوته، فكل ما دعا الله به استجاب له فيه، قال له الله كما حكى لنا في القرآن الكريم: أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، أي: أجيبت دعوة موسى وهارون.

    ولكن مع هذا فإن موسى من بني إسرائيل واللغة القبطية دخيلة عليه، وقد يكون قد تعلمها تعلم الأجنبي للغة الأجنبية، فلم يكن يتقن النطق بها، إضافة إلى اللثغة التي بقيت في لسانه، فلا يكاد يجيد القول ولا يفصح الكلام لهذه اللثغة.

    وقوله: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف:53] يقول: لماذا لم تكن أساور الذهب في يد الرجل الذي ادعى النبوءة؟ وكيف سيكون حال هذا النبي عندما يكون في صورة هندي عليه الذهب والفضة؟ أيقبل هذا؟ ولكن عقل فرعون تصور أن يكون نبيه أشبه بأنثى والذهب في اليد والعقود في العنق، وأسورة: جمع سوار.

    وقوله: أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:53]، أي: لماذا لم تأت الملائكة تحرسه، وتحفظه، وتؤيده، وتصحبه؟ ومن أدراه أن الملائكة ليسوا معه؟ فهو أحقر من أن يراهم بدليل أنه عجز عن أن يصنع به شيئاً، فقد جاء موسى إلى فرعون وقومه وكلهم أعداء ألداء كفرة يؤمنون بـفرعون إلهاً، وموسى وحده بينهم، وقد هاجم فرعون وكذبه ودعاه إلى عبادة الإله الحق، وأنه ليس إلهاً، فلم لم يقتله؟ ولم لم يقم في وجهه؟ وهو قد هدده وقال لهم: دعوني أقتل موسى وليدع ربه، فلم لم يفعل؟ فلو حاول ذلك لانطبقت عليه السماء والأرض ولأصبح كالأمس الدابر، ولكنه أعجز من ذلك.

    وقد سبق أن جباراً من جبابرة قريش وهو أبو جهل أراد أن يضرب النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بالله تعالى يريه فحلاً من فحول الجمال بجانب النبي عليه الصلاة والسلام فاتحاً فاه وكأنه فم بئر يريد أن يفترس أبا جهل وإذا به يفر ويتراجع.

    فالله حفظه وصانه، والملائكة معه لا شك ولا ريب، ولذلك فإن فرعون لم يتجرأ عليه دون أن يرى الملائكة، وقوله: أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:53] أي: جاءوا أقراناً مماشين له بعضهم عن اليمين وبعضهم عن الشمال وبعضهم أمامه وبعضهم خلفه، فقد تصوره كملك من الملوك يحتاج إلى الجند يصاحبونه أماماً وخلفاً وعن اليمين وعن اليسار، فالنبوءة شيء آخر، وكل ما على الدنيا بالنسبة لمنصب النبوءة ومنصب الرسالة إنما هو كمنزلة العبد من السيد الكريم، ولذلك عندما قال أبو سفيان وقد كان قائد الكفر في حرب النبي عليه الصلاة والسلام، عندما قبض وهو خارج مكة والجيش النبوي داخل لمكة سلمه النبي عليه الصلاة والسلام للعباس وكان شريكه في الجاهلية وإذا العباس يقوم ويقف بجانبه، فرأى جيوش الله المظفرة وأخذ يسأل: من هؤلاء؟ من هؤلاء؟ فرأى الميمنة والميسرة والمقدمة والمؤخرة والقلب وفيه نبي الله عليه الصلاة والسلام وكل على غاية ما تطيب النفس له، فسأل العباس عن هؤلاء فأجابه، فقال أبو سفيان : لقد أصبح يا عباس ! ملك ابن أخيك عظيماً، قال: صدقت إنها النبوءة، قال: أما هذه فوالله لا يزال في قلبي منها شيء. وكلامه هذا نتيجة النزاع القبلي والذي كان قبل النبوءة، وأنه بعقله وبفهمه أصبح ملكاً، وهو أعظم من ذلك، وما الملوك بالنسبة إليه وللأنبياء أمثاله إلا تابعون له ولهم، ويقال: إنه ما كان يهاب الملوك والأمراء، فالملوك والأمراء يشرفون إذا أتيح لهم أن يمسحوا قدميه أو يغسلوا رجليه أو يحملوا نعليه، ومع أنه كان ملكاً وكان رئيس دولة ولكن الله أمرنا بأن نسميه بأشرف أسمائه، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] نقول لبعضنا: الملك والوزير والزعيم والحاكم ولكننا نقول للنبي عليه الصلاة والسلام: رسول الله، ونبي الله، وحبيب الله، ومع ذلك كان يأمر وينهى كما يأمر رؤساء الدول، فقد قتل وحد وجلد ورجم وفعل ما يفعله الرؤساء والمسئولون، وقاد الجيوش وولى الكبراء والأمراء وبطش بهذا وأدب هذا وذلك جزء من العمل العام للنبوءة الكاملة الشاملة التي يسير بها لتبليغها لجميع الخلق، وكان من تمام فضل الله عليه أن كانت جزيرة العرب خاضعة له لا للروم ولا للفرس، فعندما تم له الأمر أصبحت المدينة المنورة عاصمة للدولة الإسلامية، فالرسالة جديدة والدولة جديدة والنظام جديد ولم تكن المدينة المنورة كذلك قبل النبي عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين)

    قال ربنا: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54]، ادعاء الألوهية هو الهراء والكلام الساذج الذي لا ينطقه ذو عقل سليم؛ ألأنه يحكم مصر، وماذا عسى أن تكون مصر؟ فأنت لو حكمت الدنيا فإنك بعد ذلك ستموت ولا يموت الرب.

    لكن قومه صدقوه واتبعوه وأطاعوه؛ لأنهم كانوا خفيفي العقول، فأيما حاكم جاءهم أسرعوا للطاعة ولقبول كلامه، فمن ادعى الألوهية أو النبوءة أو الزعامة أو الصلاح صدقوه، ومن أتى باليهود وحكموا معه صدقوه، ومن حارب المسلمين وسجنهم وشنقهم وهاجمهم صدقوه وكانوا معه، فتلك خصلة من الخصال التي خلقها الله وما أشبه اليوم بالأمس، فـفرعون وجدهم ضعاف العقول خفيفي الأنفس قليلي الإدراك والفهم فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54]، قال تعالى عنهم مبيناً سبب ذلك: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756257653