إسلام ويب

أما بعدللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الداعية المسلم لا يعرف الكسل والخمول، ولا يعرف التوقف عن تبليغ دعوته مهما سجن أو عذب، إنما هو كالنخلة يثمر وينتج في كل زمان ومكان؛ ينشر دعوة ربه ويُعبِّد الناس لخالقهم.

    وهو يتصف بالأسلوب الدعوي المعروف عن سيد الدعاة محمد صلى الله عليه وسلم ويتصف بصفات الداعية الحق.

    1.   

    لله الأمر من قبل ومن بعد

    الحمد لله، أحمده تعالى على جميل إنعامه وإفضاله، وأشكره على جليل إحسانه ونواله، له الحمد على أسمائه الحسنى وصفات كماله ونعوت جلاله، وله الحمد على عدله قدراً وشرعاً، وله الحمد في الآخرة والأولى وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق العلي الكبير، تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، تعالى في أحكامه وأفعاله عن الشريك والوزير، وتقدس في أحديته وصمديته عن الصحاحبة والولد والولي والنصير، وتنزه في صفات كماله ونعوت جلاله عن الكُفُؤ والنظير، عز جاهه وتقدست عظمته، عظم شأنه عن المنازع والمغالب والمعين والمشير، جل في بقائه وغناه عن المطعم والمجير، فسبحانه ما أعظمه وأحلمه وأجله! وما أكمله! وما أقواه! وما أغناه! عليه توكلت وإليه أنيب وهو حسبي ونعم الوكيل.

    من أين أبدأ؟!

    من أين أبدأ والمحامد كلها     لك يا مهيمن يا مصور يا صمد

    من أين أبدأ وهو الذي مدح نفسه قبل أن يمدحه المادحون، ووصف نفسه قبل أن يصفه الواصفون، وأثنى على نفسه قبل أن يثني عليه المثنون، كيف أبدأ؟

    من أين أبدأ والمحامد كلها     لك يا مهيمن يا مصور يا صمد

    احترت في أبهى المعاني أن تفي      بجلال قدرك فاعتذرت ولم أزد

    الحمد لله جزيل العطاء، مسدي النعماء، كاشف الضراء، معطي السراء، الحمد لله عالم السر والجهر، الحمد لله عالي القهر والقدر، الحمد لله المتكفل بالأقوات، المدعو في الملمات والمدلهمات، كاشف الكربات، المرجو في الأزمات، الحمد لله على كل نعمة أنعم بها، وعلى كل بلية صرفها، وعلى كل أمر يسره، وعلى كل قضاء قدره، وكل مكروه كفاه، وكل حادث لطف فيه، الحمد لله كم أعطى من النعيم، كم منح من الخير العميم، كم تفضل به من النوال الجسيم، عمت نعمه، وانصرفت نقمه، تضاعف كرمه، الحمد لله على تمام المنة، الحمد لله بالكتاب والسنة، الحمد لله على نعمة الإسلام، وتواتر الإنعام، توالت فضائله وعم نواله، وحسنت أفعاله وتمت أقواله، الحمد لله نور الجميل، واهب العطاء الجزيل، شافي العليل، المبارك في القليل، أجود من أعطى، وأشرف من أوفى.

    يا غافلاً عن إله الكون يا لاهي     تعيش عمرك كالحيران كالساهي

    ارجع إلى الله واقصد بابه كرماً     والله والله لن تلقى سوى الله

    من قبله فهو المقبول، من حاربه فهو المخذول، من التجأ إليه عز، من توكل عليه كفاه، من أطاعه تولاه، من عاداه قصمه، من بارزه حطمه، من أشرك به أحرقه.

    فوالله لو صغنا من الدمع قصة     وصار كتاب الحب بالدم يكتب

    وسرنا على الأجفان نمشي محبةً     على النار نشوى أو على الجمر نسحب

    لما بلغت ما تستحق جهودنا     فكل ولو نال المشقة مذنب

    الكل مذنب ومقصر، الكل معترف وأنا أول المعترفين: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، النبي الخاتم، والإمام المعصوم، والأسوة الحسنة، والقدوة المثلى، شرف الحواضر والبوادي، زينة النوادي، أعظم هادي، وأفضل حادي.

    يا طريداً ملأ الدنيا اسمه     وغدا لحناً على كل الشفاه

    وغدت سيرته أسطورة     يتلقاها رواة عن رواه

    ليت شعري هل درى من طاردوا     عابدو اللات وأتباع مناة

    هل درت من طاردته أمة     هبل معبودها شاهت وشاه

    أما بعد:

    فعنوان محاضرتي "أما بعد" وأما بعد وأما قبل فلله الأمر من قبل ومن بعد، ليس لنا من الأمر شيء، وليس لنا مع قدرته حول، وليس عندنا لأمره رد، وما لنا لقضائه حيلة، وما لدينا مع قدرته تدبير، هو الفعال لما يريد ونحن العبيد، إن تشرفنا فالطين أصلنا، وإن افتخرنا فالتراب مردنا، وما لمن خلق من ماء مهين أن يشمخ بأنفه أو يزهو بعلمه، أو يعجب برأيه، سبحانك! اعترفت بذنبي وتقصيري أمامك.

    يا أنت يا أحسن الأسماء في خلدي     ماذا أعرف من متن ومن سند

    تقاصرت كلم الأوصاف عندكم     لما سمعنا ثناء الواحد الأحد

    والله لو أن أقلام الورى بريت     من العروق لمدح السيد الصمد

    لم نبلغ العشر مما يستحق ولا     عُشر العشير وهذا غاية الأمد

    يا رب! يا حي يا قيوم! يا لطيف! أنت الكامل وأنا الناقص، أنت الغني وأنا الفقير، أنت القوي وأنا الضعيف، أنت الحي وأنا الميت، أصابع المذنب تشير إلى الغفار، ألسنة الفقر تدعو الغني، أكف الضعف ترفع للقوي، الميت يمدح الحي القيوم، الغريق ينادي يا ذا الجلال والإكرام! الكلمات والإشارات عاجزات، البلاغة والبيان والتعبير تعلن التبشير، لا يعلم ما يستحق إلا هو، ولا يحيط بعلمه سواه، لا يقدر قدره إلا إياه، لا يحسن الثناء عليه غيره، إن قدسته أو سبحته أو مجدته فهو الذي علمني، إن حمدته أو كبرته أو وحدته، فهو الذي ألهمني، إن عبدته أو شكرته أو ذكرته فهو الذي أكرمني، صفات المدح في الكاملين ذرة من كماله، نعوت الفضل في الأبرار نفحة من أفضاله، ألسنة المادحين، وأقلام الواصفين، حائرة في جلاله، من أنا حتى أمدحه؟! من أنا حتى أمجده؟! من أنا حتى أثني عليه؟! أنا الذي خلقت من تراب أصف الملك الوهاب؟! أنا الذي صور من طين أذكر جلال رب العالمين؟! إن الخجل يملأ فؤاد من خلق من ماء مهين، إذا قام يشدوا بأوصاف أحكم الحاكمين.

    اللهم إن أشرف تاج نحمله تمريغ الأنف على التراب لجلالك، اللهم إن أعظم وسام نحمله وضع الجباه على الأرض لعبوديتك، أنا الظالم لنفسه، المعترف بتقصيره، المقر بذنبه، أنت الواجد الماجد الغني الحميد، عز جاهك، جل ثناؤك، تقدست أسماؤك، لا إله غيرك.

    قد كنت أشفق من دمعي على بصري     فاليوم كل عزيز بعدكم هانا

    يا ألله! سجد وجهي لك، يا ألله! خشع سمعي وبصري لك، يا ألله! رغم أنفي لك، يا ألله! ذلت رقبتي لك، يا ألله! وجل قلبي منك، يا ألله! التجأت نفسي إليك، يا ألله! حسن ظني فيك، يا ألله! طاب الحديث عنك، يا ألله! كمل التوكل عليك.

    إليك وإلا لا تشد الركائب     ومنك وإلا فالمؤمل خائب

    وفيك وإلا فالغرام مضيع     وعنك وإلا فالمحدث كاذب

    1.   

    الوصايا العشر

    أما بعد:

    فقد وقفت عشراً واستفدت عشراً:

    أولاها: اللجوء إلى الله في الملمات، وقصده في الكربات، وسؤاله في الأزمات.

    ثانيها: أن مع العسر يسراً، ومع الكرب فرجاً، ومع الضيق سعة، وبعد الشدة رخاء.

    ثالثها: أنه ليس لك في المصائب إلا الله، وما لك عند الدواهي إلا الله، وما معك في الخطوب إلا الله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] فوحدوه وأخلصوا له العبادة، وأطيعوه واهتفوا بولائه، وادعوه، والتجئوا إليه، واسجدوا له، واشكروه.

    رابعها: أن العلماء يصيبون ويخطئون، والدعاة يحسنون ويغلطون، والمصلحون يسددون ويعثرون، إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، فهو المصيب بلا خطأ، والمسدد بلا غلط، والمصلح بلا عثرة: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

    خامسها: أن الكتب تعرف منها وتنكر، وتقبل وترد، وتوافق وتخالف، إلا الوحي كتاب وسنة، ففيه الصحة كلها، والصواب أجمعه، والحق أتمه وأكمله، والعدل أوله وآخره.

    سادسها: أنه ليس لأحد أن يدّعي أنه المخول وحده لنصرة الدين، ولا التكلم باسمه، فدين الله منصور، شاء من شاء، وأبى من أبى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89].

    نصر محمداً العربي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وصلاح الدين الكردي، ونور الدين التركماني، وإقبال الهندي.

    سابعها: أن الرفق هو الطريق الأمثل للدعوة، وأن الكلمة اللينة هي السحر الحلال، وأن الأسلوب السهل هو مصيدة الرجال، فاسأل الله أن يصلح النية والذرية، وأن يوفق الراعي والرعية.

    ثامنها: أن غالب محاضرات الدعاة، وندوات العلماء، حسن وصواب، وحق وعدل، والقليل النادر غلط وخطأ؛ لعنصر البشرية وضعف الإنسانية، وانتفاء العصمة وانقطاع الوحي.

    تاسعها: وجدت أن الأمة لايشفي عليلها ولا يروي غليلها، مقطوعة من فنان، ولا طرح من علماني، ولا هيام من شاعر، ولا خيال من فيلسوف، إنما يحييها ويرفعها ميراث من نبوة، وتركة من رسالة، وأثارة من وحي: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].

    عاشرها: وجدت أن الأمة قد تكون غير منتجة، ولا مخترعة، ولا مكتشفة، ولا مصنعة، ولكنها لا تعيش بلا إيمان، ولا تحيا بلا رسالة، ولا تشرف بلا منهج: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

    تلك عشرة كاملة، أهديها لمحبي النصح وعاشقي الفضيلة وطلاب الحقيقة، وشباب الإصلاح ورواد المعرفة: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].

    دعها كما شاءها الرحمن جارية     الله يحفظها والله يرعاها

    لها من الوحي نور تستضيء به     وبهجة الغار تبدو في محياها

    1.   

    أسلوب الداعية في الدعوة

    أما بعد:

    فهذه عشر سنوات طويلات قصيرات، فيها حسنات وسيئات، ومضحكات ومبكيات، مرت بسرورها وحزنها، ونعيمها وبؤسها، وغناها وفقرها، ولذتها ومعاناتها.

    فتصرمت تلك السنون وأهلها      فكأنها وكأنهم أيام

    ثم انبرت أيام هجر أعقبت صبري أسىً فكأنها أعوام

    ثم انقضت تلك السنون وأهلها      فكأنها وكأنهم أحلام

    انتهت هذه العشر عندنا، ولكن ما انتهت عند الله: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52].

    أما بعد:

    فإن الداعية ليس له حقل واحد لا يعمل إلا فيه، بل حقول متعددة، وميادين مختلفة، ومنابر شتى، فالدعوة لا يحدها حد، ولا يحصرها حصر، ولا يقيدها قيد.

    إن الدعوة تجري في دم الداعية، يقولها كلمة، يصوغها عبارة، ينشدها قصيدة، يدبجها خطبة، ينقلها فكرة، يؤلفها كتاباً، يلقيها محاضرة.

    إنها قد تكون مع النفس محاسبة ومراقبة، وتكون مع الأم براً وحناناً، ومع الأب شفقة ورحمة، ومع الابن تربية وأدباً، ومع الجار إحساناً وبراً، ومع المسلم مصافاة ومودة، ومع الكافر دعوة وحواراً، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يتلطف بأبيه، يا أبتي! يا أبتي! يا أبتي!

    وهذا نوح ينوح على ابنه: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا [هود:42]

    وهذا لقمان يترفق بابنه وفلذة كبده، يا بني! يا بني! يا بني!

    وهذا موسى يعطف على فرعون، وهذا مؤمن آل فرعون يقول لقومه: يا قومي! يا قومي! وهذا مؤمن آل ياسين، ينادي وهو في الجنة: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس:26]

    إن الدعوة هم لازم، وواجب دائم، فهي معك في السيارة والطيارة والسفينة، وفي النادي والجامعة والمزرعة والمتجر، قد تدعو بسيرتك أكثر من كلامك، وتدعو بصفاتك أعظم من خطبك، وتدعو بخلقك أحسن من محاضراتك، ليس للداعية وقوف.

    سجن يوسف فدعا في السجن، وطرد نوح فدعا في السفينة، وحوصر محمد صلى الله عليه وسلم فدعا في الشعب، وطوق فدعا في الغار، وطرد فأنشأ دولة.

    قيل لشيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره: إن السلطان أمر بإخراجك إلى قبرص، قال: والله إن بي من السرور والفرح ما لو وزع على أهل الشام لوسعهم، والله إني كالغنمة -هذا لفظه- لا تنام إلا على صوف، إن خرجت إلى قبرص دعوتهم إلى لا إله إلا الله فأسلموا، وإن سجنت خلوت بعبادة ربي، وإن قتلت فأنا شهيد.

    ليس من المهم عند الداعية، أن يكون له جمهور حاشد أو حفل بهيج أو مستمعون كثر، المهم أن يقول الحق، وأن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر، وأن يحمل الميثاق بأمانة، وأن يبلغ الشريعة بصدق: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] بعض الأنبياء لم يستجب له أحد، والبعض استجاب له واحد أو اثنان، والبعض جماعة، وبعضهم دعا عمره كله ثم قتل ولم يطعه بشر، وأنبياء آخرون مكثوا السنون الطويلة يدعون ثم نشروا بالمناشير.

    سيدي علل الفؤاد العليلا     أحيني قبل أن تراني قتيلا

    إن تكن عازماً على قتل روحي     فترفق بها قليلاً قليلا

    1.   

    صفات الداعية

    الداعية تابع محمد صلى الله عليه وسلم

    إن الداعية ليس فناناً يداعب العواطف ويلعب بالمشاعر، ويتفقد مكامن التأثير في النفس، وليس شاعراً يسلب الألباب ويسافر مع الخيال، ويهيم في أودية الضلال، وليس فيلسوفاً يقنن القوانين ويضرب الأقيسة، ويحدد المقدمات، ويخلص إلى النتائج، وليس سلطاناً يفرض كلمته، ويؤدب أمته، ويحشد جنوده، ويرفع بنوده.

    وليس تاجراً يجمع الدراهم، ويكنز القناطير المقنطرة، ويرصد الشيكات، ويضارب بالأسهم.

    الداعية شيء آخر، إنه تابع لمحمد عليه الصلاة والسلام، ابن بار برعيته، وتلميذ نجيب في مدرسته، طالب متفوق في جامعته، يسري حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم في دمه، ويشع في قلبه، ويضيء طريقه، ويملأ وجدانه، ويلهب ضميره.

    الحب ليس رواية شرقية     بأريجها يتروج الأبطال

    لكنه الإبحار دون سفينة     ومرادنا أن المحال محال

    الداعية لا يعرف التوقف عن الدعوة

    الداعية ليس له إجازة ولا انتداب ولا مخصصات ولا عادات، الداعية ليس له حفل مولد، ولا مهرجان تخرج ولا حفل وداع، ولا مناسبة استقبال، بل هو مع الأنبياء؛ تلقاه على الرصيف، وفي الدكان، ومع أهل الحرف، مع النجار والخباز، والنساج والبناء، مع الناس باختلاف أذواقهم، ومشاعرهم وطبقاتهم، وألوانهم وأجناسهم، داعياً للملك والمملوك، داعياً للأمير والوزير، داعياً للكبير والصغير، داعياً للأنثى والذكر، داعياً للأبيض والأسود، الداعية باع نفسه من الله، فلا يطالب ولا يضارب ولا يعاتب ولا يحاسب، فاتورة تعبه مدفوعة في الآخرة: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]. شيك أجرته مصروف من بنك: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52] وسند أمواله موقع عليه: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود:79].

    بعنا النفوس فلا خيار ببيعنا     أعظم بقوم بايعوا المختارا

    فأعاضنا ثمناً أجل من المنى     جنات عدن تتحف الأبرار

    الداعية لا ينتظر مكافأة من أحد

    الداعية لا ينتظر شهادة حسن سيرة وسلوك من البشر، ولا نياشين يعلقها على صدره، ولا نجوم يضعها على أكتافه، ولا صورة ذكرى يرفها في مجلسه، إنه يريد تاج: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119].

    ويطمع في نجوم: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] ويرغب في نياشين: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257] الداعية لا يعين بقرار جمهوري، ولا بوثيقة حكومية، ولا بانتخاب من الجمهور، الداعية لا يأتي عن طريق صناديق الاقتراع، ولا المجلس النيابي، ولا الهيئات البرلمانية، فهو فوق الكنجرس، واللوردات والشيوخ، إن الله عينه، والواحد الأحد هيأه، والرحمن استأمنه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] الداعية مولاه الله، وإمامه محمد، وبيته المسجد، ومذكرته القرآن، وزاده التقوى، وعصاه التوكل، ولباسه الزهد، ومركبه اليقين، وطريقه الهدى، ومراده الجنة: {دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها}

    أنا ربي الله والدين أبي     ورسول الله دوماً قدوتي

    ولي القرآن نور ساطعٌ     وإلى الكعبة دوماً قبلتي

    الداعية لا تتوقف دعوته مع التخرج من المدرسة الليلية، ولا من مكافحة الأمية، ولا من الجامعة، ولا من المجالس الفقهية، ولا من المجامع العلمية، جامعة الداعية: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33] وشهادته: {بلغوا عني ولو آية} ووثيقة تخرجه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94] الداعية لا ينتظر راتباً شهرياً، ولا مكافأة سنوية، ولا إكرامية مالية، ولا هتافاً جماهيرياً، ولا شكراً من الوزير، ولا ترقية من الفريق، ولا ثناء من مدير المدرسة، راتبه: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ [فاطر:30] مكافأته: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً [الحشر:8] إكراميته: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]. هتافه: لا إله إلا الله، شكره سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [الرعد:24] ترقيته: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55].

    الداعية لا ترفع له أقواس النصر، ولا تعلق صوره، ولا ينتظر قصائد مدح، ولا ملحمات ثناء، ولا مقامات تبجيل، أقواس نصره: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1]. صوره المعلقة: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1] مديحه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] مقامات تبجيله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].

    وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت     آياتها فاقرءوا يا قوم قرآني

    والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا      تاريخ عمري وميلادي وعرفاني

    اللين وحسن الخلق

    أما بعد:

    فالداعية رحيم رفيق، قريب حبيب، سهل لين، صبور شكور رحيم؛ لأن الرحماء يرحمهم الرحمن؛ ولأن إمامه محمد صلى الله عليه وسلم أرسله الله رحمة للعالمين وهو يقول: {من لا يَرحم لا يُرحم} يقول أحد العلماء: ينبغي للمسلم إذا رأى الكافر أن يتمنى إسلام هذا الكافر رحمة به وشفقة عليه أن يدخل النار.

    رفيق؛ لأن الله رفيق يحب الرفق، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه} والرفق يسهل الصعاب، ويقرب البعيد، ويلين القاسي، ويطوع العاصي، ويجذب القلوب.

    قريب: فهو يدنو من النفوس، وتحبه الأرواح وتعشقه الضمائر، وتهفو إليه البشر، قريب منهم متواضع كما كان قدوته ورسوله عليه الصلاة والسلام.

    حبيب؛ تحبه القلوب، تفرح إليه، تشتاق لقدومه، تأنس بطلعته: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96].يقول أحد الفضلاء: إذا سافرت ولم يبك عليك أصحابك، فراجع أخلاقك.

    سهل لين؛ فهو كمعلمه صلى الله عليه وسلم، سهل في كلامه، فلا يتفيهق، ولا يتنطع، ولا يتشدق، ولا يتعمق، ولا يتكلف، سهل في أفعاله، فلا شطط، ولا يحملهم العبء ولا يجشمهم مشقة، صبور على الملمات والأزمات، صبور على الكربات والفواجع والحوادث والكوارث، يجوع فيصبر، يُسَب فيصبر، يُجلد فيصبر، يُحبس فيصبر، يُبكت فيصبر، يُكذّب فيصبر، يُؤذى فيصبر.

    وانظروا إلى الأنبياء، أما نوح فازدجر، وأما صالح فقيل له: كذاب أشر، وأما هود فقُهِر، وأما زكريا فنشر، وأما يحيى فنحر، وأما موسى فضاق به المفر، وأما عيسى فافتقر، وأما محمد فابتلي فصبر، وأعطي فشكر، فعليهم الصلاة والسلام جميعاً، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127] وقال: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً [المعارج:5] وقال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [المزمل:10] فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85] فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134] ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون:96].

    والداعية شكور؛ شكور على النعمة، يُعطى فيشكر، يُسدد فيشكر، يُفتح عليه فيشكر، يأكل فيشكر، يلبس فيشكر، ينام فيشكر، يصح فيشكر، يمرض فيشكر، يعافى فيشكر، يبتلى فيشكر، يغتني فيشكر، يفتقر فيشكر: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5] لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].

    لك الحمد يا رحمان ما هلَّ صيب     وما تاب يا من يقبل التوب مذنبُ

    لك الحمد ما هاج الغرام وما همى     الغمام وما غنى الحمام المطربُ

    معرفة قيمة الزمن

    أما بعد:

    فإن الداعية يعلم أن الحياة ليست فرصة لتقلد منصب، ولا الظفر بإمارة، ولا العثور على وزارة، ولا جمع تجارة، ولا التشرف بسفارة، وليست الحياة عنده متعة يقضيها في اللهو واللعب، ليس عنده إجازة يقضيها على ضفاف الأنهار، ولا في قمم الهملايا، ولا عند شلالات نياجرا، ولا في أبراج كوالالمبور، ولا في حضور عيد الأم، وليس عند الداعية أرصدة في البنوك الربوية، وليس له هم في مراقبة البورصة العالمية، ولا الاهتمام بأسواق الذهب ولا بأسعار البترول، فكنزه وماله وغناه ومستقبله في جنات تجري من تحتها الأنهار، فلا يجهزه إلا: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن:54] ولا يفرحه إلا: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:24] ولا يسره إلا: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ [المطففين:25] ولا يسعده إلا: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24] ولا يطربه إلا: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72] ولا ينعشه إلا: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان:20].

    الداعية ليس له سفر مع ألف ليلة وليلة، ولا أنس بـأبي نواس، ولا خلوة مع بدائع الزهور، ولا توثيق من الزير سالم، ولا سند من شمس المعارف.

    سهره مع صحيح البخاري، أنسه مع ابن تيمية، خلوته مع رياض الصالحين، توثيقه من يحيى بن معين، سنده من سفيان الثوري:

    هيهات رحلة مسرانا جحافلنا     كما عهدت وعزمات الورى أنفُ

    في كفك الشهم من حبل الهدى طرف     على الصراط وفي أرواحنا طرفُ

    الداعية لا يفتخر بصداقات المشاهير، ولا نجوم الكرة، ولا نجوم الفن، ولا كواكب المسرح، ولا الساسة العمالقة، ولا الفلاسفة العباقرة، ولا رموز الثقافات، فله صداقات ومودات، مع نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد، عليهم الصلاة والسلام، وله علاقة بـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وله اتصال بـأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب.

    الداعية ليس منهمكاً في زوايا الغرام، ولا مع قصاصات الهيام، ولا مع آهات الهجر، ولا زفرات الجوى، وأوجاع العيون السود، زفراته من: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] وآهاته من: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا [النساء:56] وأوجاعه من: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:27-29].

    أما بعد:

    فإن الداعية تتقلب به الأيام، وتتغاير عليه الليالي، وتختلف عليه الساعات، وتتعاقب عليه السنون، رضاً وغضباً، وسروراً وحزناً، شبعاً وجوعاً، منبر وحبس، شكر وشق، إقبال وإدبار، منحة ومحنة، عطية وبلية، أمل وألم، وهو مع ذلك عبد الله، ينزل مع القرآن أينما نزل، ويهبط مع الوحي أينما هبط، ويسافر مع الرسالة الخالدة أينما سافرت، ويرتحل مع القرآن أينما ارتحل، يصلي في القصر والحبس، في الجماعة والمزرعة، في الحاضرة والبادية، يسبح في النادي والمنتزه، يكبر في المسجد والسوق.

    الداعية عنده شهادة أكبر من شهادات الأرض، ولديه وثيقة أعظم من وثائق أهل المعمورة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وعنده تزكية أجل من كل تزكية: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173].

    أيها الداعي الذي عبد الله     طريق النجاة فيك قويم

    أدعياء الضلال سُحار فرعون     وأنت العصا وأنت الكليم

    العيش مع القرآن والسنة

    أما بعد:

    فقد قرأت عشرات المجلدات والمصنفات والمؤلفات، فما وجدت كالقرآن حسناً وجمالاً، بهجة ونظرة، قوة وفخامة، صدقاً وعدلاً، سادةً وإشراقاً.

    وطالعت مئات المجلات والجرائد والدوريات والصحف، فما رأيت كالسنة عطاءً وبركة، سلوة وعزاءً، توعية وتربية، إرشاداً ونصحاً، تعليماً وتقويماً.

    وسمعت آلاف الكلمات والأبيات، واللطائف والنكات، فما وجدت كذكر الله إيماناً ويقيناً، وروحاً وطمأنينة، وأنساً ورحمة، وثواباً وأجراً.

    الداعية متعدد المواهب

    أما بعد:

    فإن الداعية قد يكون غنياً كسليمان، وقد يكون فقيراً كعيسى، وقد يكون صحيحاً كإبراهيم، وقد يكون مريضاً كأيوب، وقد يطول عمره كنوح، وقد يقصر عمره كيوشع، وقد يكون ملكاً كداود، وقد يكون خياطاً كإدريس، وقد يكون راعياً للغنم كموسى، وقد تمر به الحالات جمعياً من غنى وفقر، ونصر وهزيمة، ونعيم وبؤس، وصحة ومرض، وعافية وبلاء، كمحمد صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم.

    لأجل دينك ذاق القتل من قتلوا     كأنما الموت في ساح الوغى عسلُ

    ترى المحبين صرعى في ديارهم     كفتية الكهف للرضوان قد نقلوا

    وقد يكون الداعية واسع الخير، متعدد المواهب، كثير الإحسان، عظيم البر، كـأبي بكر الصديق، يدعى من أبواب الجنة الثمانية، فلله دره، ما أجمله! ما أقواه! ما أصدقه!

    وقد يكون صارماً حازماً قوياً شديداً في الحق، ذا صولة في الدين، ذا هيبة في الملة، كـعمر بن الخطاب.

    وقد يكون هيناً ليناً، سهلاً قريباً حيياً حليماً سخياً كـعثمان بن عفان.

    وقد يكون مقداماً شجاعاً، أبياً مضحياً فدائياً بطلاً كـعلي بن أبي طالب.

    وقد يكون الداعية بحراً في العلم، دائرة معارف، موسوعة في الشريعة كـابن عباس.

    وقد يكون خطيباً لوذعياً يرسل الكلمة كالقذيفة، ويبعث الحرف كالشهاب، ويطلق الجملة كالبركان، كـثابت بن قيس بن شماس.

    وقد يكون الداعية شاعراً، يرسم الحرف في القلب، ويصنع البيت كالضياء، وينشد القصيدة كقطعة الماس كـحسان بن ثابت.

    وقد يكون للداعية حشم وخدم، ومال وجمال، وعيال كـعبد الرحمن بن عوف.

    وقد يكون الداعية فقيراً معدماً مملقاً، لا بيت ولا قصر ولا دار ولا عقار، ولا دينار كـأبي ذر.

    وقد يتولى الإمامة كـمعاذ، ويتولى القضاء كـعلي، والأذان كـبلال والمواريث كـزيد، والقيادة كـخالد، والإمارة كـأبي عبيدة، وقد يتكلم الداعية من بلاط السلطان كـالزهري، وقد يتكلم من تحت الأرض من القبر كـالزركشي، وقد يبجل ويحتفل به كـمالك بن أنس، وقد يذهب دمه هدراً ورأسه شذراً كـأحمد بن نصر الخزاعي.

    الداعية كالهدهد، قطع الفيافي والقفار، ليبلغ رسالة الواحد القهار، العظيم الغفار، جلّ في علاه، يقول أبو معاذ الرازي: ويل لمن كان الهدهد خيراً منه، فكيف يبلغ الهدهد التوحيد وأنت ما بلغت التوحيد: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النمل:25] وقد يكون الداعية كالنملة، يحذر قومه، وينذر بني جنسه: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18] وكالنحلة يجمع أطايب الحديث ويكنز أحسن المعرفة: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً [النحل:69].

    فيا حب زدني في هواك صبابة ويا قلب زدني في هوى مهجتي حبا

    لعلي إذا جئت المحصب من منى      نحرت فؤادي كي أفوز به قربا

    الثبات على المبادئ

    إن أهم صفة من صفات الداعية، أنه صاحب مبدأ، وحامل رسالة، وله منهج، قد يغلظ أو يرفق، يقسو أو يلين، يقبل أو يدبر، يواجه أو يهادن، لكنه صاحب مبدأ، قد يحاور ويفاوض، ويرد ويقبل، ويأخذ ويعطي، ويغضب ويرضى، لكنه صاحب مبدأ، له ثوابت لا يتخلى عنها، وربما تنازل عن الحواشي ليبقى الأصل، وربما ترك التعليق ليبقى المتن، وربما تخلى عن الإطار لتبقى الصورة.

    وقفة:

    اللهم إن أجل ما نملك دماؤنا، اللهم فاسفكها في سبيلك، أسألك أن تسفك دماءنا لترتفع لا إله إلا الله محمد رسول الله ولينتصر المنهج الحق، منهج السلف، منهج أهل السنة والجماعة في الأرض.

    الداعية هو الناطق الرسمي للملة: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الكهف:29] والسفير الأول للشريعة: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب:45] والمندوب الدائم لمحمد صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع} الأمين العام للقيم: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26].

    الداعية له في كل قلب سفارة، وفي كل عقل محطة، وفي كل مجلس قناة، الداعية تقرؤه في الصحيفة، وقد تطالعه في المجلة، وقد تنظر إليه في الشاشة، تصلي وراءه في المحراب، تسمعه على المنبر، تلقاه في السوق، تصافحه في الحديقة، تجلس بجانبه في الحافلة، تعانقه في الطائرة، تقاتل وراءه في المعركة، تراه في العرس، تشاهده في الجنازة، يصافح الملك، يمسح رأس اليتيم، يرفق بالرئيس، يعطف على الأرملة، يمازح الشاب، يقود العجوز.

    الداعية يرسل كلمته على ذبذبة طولها الحق، وعرضها الصدق، على هوى الإبداع، وعبر أثير المحبة، لتستقبل كلمته أطباق القلوب، وتنقل عبارته موجات الأرواح. والدعاة درجات عند الله، منهم من يحبو، ومنهم من يمشي، ومنهم من يهرول، ومنهم من يمر مر السحاب، ومنهم من يشبه سرعة الريح، ومنهم من يحلق في سماء الإبداع، فيرتفع عن سطح الدنيا سبعة وثلاثين ألف قدم من الصدق والرفق والحق والعدل والعلم والإيمان.

    إن كنت أنت بكيت من حر الجوى     وسكبت في نيل الفراق دموعا

    فنفوسنا ذبحت على ساح الوغى     يا من يرى صرع السيوف وجوعا

    إصلاح الناس وتعبيد البشر لله

    أما بعد:

    فإن هم الداعية إصلاح الناس وتعبيد البشر لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فليس همه المال ولا الجمال، ولا الجاه ولا المنصب؛ لأنه مكلف بمهمة محددة: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:3].

    وعنده رسالة طابعها: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ [الذاريات:57] وعنوانها: {قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} يوزعها في كل قلب: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] الداعية حبيبه من أحب الله، ووليه من تولى الله، وصديقه من احترم الشرع، وعدوه من عادى الإسلام، ليس عند الداعية وقت للعداوات الشخصية، ولا فراغ لتوافه الأمور، فكل دقيقة من عمره حسنات، وكل ثانية من وقته قربات.

    أعد الليالي ليلة بعد ليلة      وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا

    فإما حياة نظم الوحي سيرها     وإلا فموت لا يسر الأعاديا

    الداعية ينهمر بالآيات والأبيات، والسير والعبر، والقصص والأخبار، والفوائد والقصائد، والشوارد والفرائد، يدعو بها كلها إلى الله الواحد الأحد، ليعبد الله وحده لا إله إلا هو، مرجع الداعية قلبه النابض، ومصدره نفسه المشفقة، وحبره دمه، ومادته دموعه، وورقه حصير الخير.

    الداعية لا ينسى دعوته، وهل ينسى المريض مرضه، والجائع جوعه، والمحموم حماه، وكيف يترك الداعية دعوته، وهل يترك الرسام رشيته، والنجار فأسه، والفلاح مسحاته، والكاتب قلمه.

    أما واعدتني يا قلب أني     إذا ما تبت عن ليلى تتوب

    فهأنا تائب عن حب ليلى     فما لك كلما ذكرت تذوب

    ولا حرج للداعية أن يضحي بنفسه في سبيل مولاه، بل هو الحق، فليبع وقته ودمه ودموعه، وكتبه وأوراقه، وليله، ونهاره: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود:79].

    لكل شيء إذا ما تم نقصان

    إلا الإيمان في قلب حامله.

    لكل امرئ من دهره ما تعودا     وعادة أهل الحق يا صاحبي الهدى

    ما مضى فات، والمؤمل غيب إلا عند الداعية، فالماضي عنده ما فات ولا مات: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] والمؤمل عنده حاصل لا محالة، قادم بلا شك: ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر:7].

    نشيد اللاهين:

    قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

    ونشيد الدعاة:

    قفا نبك من ذكرى الكتاب المنزل

    أغنية الغافلين:

    أخبروها إذا أتيتم حماها     أنني ذبت في الغرام فداها

    وملحمة الصالحين:

    يا عابد الحرمين لو أبصرتنا     لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ

    من كان يخضب خده بدموعه     فنحورنا بدمائنا تتخضبُ

    1.   

    وقفة إجلال لذي الجلال والكمال

    أيها الناس! أيها البشر! وقفة إجلال لذي الجلال والجمال والكمال، تقدس في علاه، لا إله إلا هو، ولا نعبد إلا إياه، ولا نرجو سواه، قال موسى لربه: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] أي همة يحملها هذا النبي! أشرقت نفسه بحب الواحد الأحد، اصطفاه بالكلام على البشر، فلما أعطاه الله الكلام، تاقت نفسه ليرى الواحد الأحد، ما أعظم الله! لا يُرى في الدنيا، ما أجل الله! لا يبصره المخلوق، ما أجله وما أشرفه! وما أرقى مكانه! لا نراه نحن في الدنيا، نحن أذل وأقل، وأكثر ذنباً وحقارة وهزالاً، وحاجة من أن نرى الله، قال الله: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] لن تستطيع رؤيتي في الدنيا، أنت بشر والبشر لا ينظر إلي في الدنيا، أنت مخلوق والمخلوق لا يراني في الدنيا، أنا أعظم من أن يراني الناس، أنا أعظم من أن يراني البشر في هذه الحياة الدنيا، تعالى الله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]. لن تراني يا موسى أبداً في الدنيا، فالجليل الكبير العظيم المتفرد بالكمال والجلال والجمال لا يراه البشر في الدنيا، على العرش استوى وعلى الملك احتوى، يعلم ما في السموات والأرض، وما بينهما وما تحت الثرى، قال: قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] إن كان الجبل يصمد لرؤيتي فسوف تراني، إن كان الجبل يستطيع أن يقف مكانه فسوف تنظر إلي، إن كانت أحجار الجبل فيها من القوة والصلابة والمناعة والجدارة أن تثبت فلتثبت: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] قال أهل العلم: جبل طور سيناء، من أعظم الجبال صخوراً وحجارة، وصلابة وشدة وقوة، لكنه الواحد الأحد، أقوى من كل قوي، أغنى من كل غني، أمنع من كل ملك، أشرف من كل شريف، أعز من كل عزيز: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] إن كان الجبل يثبت مكانه فسوف تثبت أنت، إن كان الجبل بصخوره وحجارته وعروقه وأوتاده يثبت للنظر فسوف تثبت: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً [الأعراف:143] قال سفيان: [[ساخ الجبل في البحر]] تجلى الله سبحانه تجلياً يليق بجلاله، لانكيفه ولا نشبهه ولا نمثله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

    تجلى للجبل العظيم المدلهم الآخذ طولاً وعرضاً، الشامخ بأوتاده وقوته وجذوره وصلابته وحجاره، وصخوره فاندك الجبل وساخ، ذاب للواحد الملك الوهاب، إليه المناب والمتاب: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً [الأعراف:143] قالوا: ساخ الجبل، وقيل: انغمس في الأرض، وقيل: وقع في البحر: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً [الأعراف:143] قالوا: إنه مات، والصحيح أنه أغشي عليه، وفارق وعيه، من هول المشهد، يوم رأى الجبل يتناثر، والصخرة تدك، ورأى الحجارة تذوب فخر صعقاً عليه السلام، وغشي عليه، ثم أيقظه الواحد الأحد الذي يحيي العظام وهي رميم: فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ [الأعراف:143] لا أكرر هذا الطلب، سبحانك! أتأدب بين يديك، سبحانك تعاليت، يقول أهل التفسير: تقدست أن يراك الناس في الدنيا، سبحانك تعاظمت أن يراك المخلوق في هذه الحياة، سبحانك لا أسألك مسألة لا تليق بي! سبحانك أنت أعظم من أن تراك العيون! أو تدركك الأبصار، تعاليت في عليائك، ما أحسن الكلمة! وقع موسى مرمياً مغشياً عليه فلما أفاق، نفثت شفته، ونطقت لسانه: وقَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف:143] لا أكررها مرة ثانية، أتأدب على بساط الربوبية، وفي محراب العظمة، وفي إيوان القدسية، وفي دار الوحدانية، والألوهية، وأنا أول المؤمنين، هذه وقفة عظمة، للعظيم جل في علاه.

    1.   

    دعاء وتأمين

    أيها الناس! إني داع فأمنوا: اللهم أبرد لاعج القلب بثلج اليقين، واطفئ جمر الأرواح بماء الإيمان، يا رب! ألقِ على العين الساهرة نعاساً أمنة منك، وعلى النفوس المضطربة سكينة، وأثـبها فتحاً قريباً، يا رب اهد حيارى البصائر إلى نورك، وضلاّل المناهج إلى صراطك، والزائغين عن السبيل إلى هداك، يا رب أزل الهموم والوساوس بفجر صادق من النور، وأفق باطن الضمائر بفيلق من الحق، ورد كيد الشيطان بمدد من جنود عونك مسومين.

    اللهم أذهب عنا الحزن، وأزل عنا الهم، واطرد من نفوسنا القلق، نعوذ بك من الخوف إلا منك، والركون إلا إليك، والتوكل إلا عليك، والسؤال إلا منك، والاستعانة إلا بك، أنت ولينا، نعم المولى ونعم النصير، اللهم حقق الآمال، وأصلح الأعمال، وحسن الأحوال، وسدد الأقوال.

    اللهم اجمع شمل الأمة، واكشف الغمة، وانصر الدين وأتمه، اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، اللهم اجعلهم عوناً على طاعتك للمسلمين، ودرعاً للموحدين، وإنصافاً لملة المستقيمين على منهجك يا رب العالمين، ونصرة للدعاة والعلماء والمصلحين.

    اللهم أصلح القلوب، واغفر الذنوب، واستر العيوب، اللهم اقبل توبة من يتوب، اللهم أجزل العطية، واغفر الخطية، وأحينا حياة رضية، ونسألك الميتة السوية.

    اللهم ألهمنا الحجة وثبتنا على المحجة، اللهم يمن كتابنا، ويسر حسابنا، اللهم اشفِ منا العلل، واغفر الزلل، وادرأ عنا الكوارث واحمنا من الحوادث.

    اللهم أذهب الشك باليقين، وألبسنا ثوب الدين، وانصر إسلامنا، وارفع أعلامنا، وثبت أقدامنا، وسدد سهامنا.

    اللهم بلغ رسولنا عنا الصلاة والسلام، ما غيث همع، وبرق لمع، وظبي سنح، وبلبل صدح، اللهم آته الوسيلة، وامنحه الفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً، واعطه حوضاً موروداً، وأجب شفاعته، وأكرم وفادته.

    يا رب! إن البشر اعتزوا بأنسابهم، وافتخروا بأحسابهم وعزنا وفخرنا بك، فلا نكون أشقى منهم بك، يا رب إنهم جمعوا الأموال، وادخروا الكنوز، واحتاطوا بالذهب والفضة، ومالنا وكنزنا، وميراثنا دينك وذكرك.

    اللهم فأغننا يوم الفقر الأكبر حتى نكون بك أغنى منهم بأموالهم، يا رب! إن البشر مدح بعضهم بعضاً، وأطرى بعضهم بعضاً، ورفع بعضهم بعضاً، ومدحنا وثناؤنا وتبجيلنا لك وحدك، اللهم إنهم أَمَّلوا من ممدوحهم جوائز وأوسمة، وعطايا وهدايا، اللهم فاجعلنا أكثر منهم حظاً بجوائزك، وأوسمتك وعطاياك وهداياك، اللهم إنا رأينا من ركن إلى محبوبه، وأنس بمرغوبه، وفزع إلى قريبه، واعتمد على صاحبه، اللهم إليك فزعنا، وعليك ركنا، وبك وثقنا، وعليك اعتمدنا، اللهم اجعلنا أسعد بك من القريب بقريبه، ومن الصاحب بصاحبه، ومن المولى بسيده، اللهم إنا رأينا الرءوس تخضع لسواك، والجباه تسجد لغيرك، والألسنة تقدس البشر، فغضبنا لذلك، وأزعجنا ذاك، فلك خضعت رءوسنا وسجدت جباهنا، وذلت رقابنا، اللهم إن نسألك الغنى يوم الفقر، والعز يوم الذل، والنجاة يوم التغابن.

    يا رب حمداً ليس غيرك يحمد     يا من له كل الخلائق تصمدُ

    أبواب كل مملك قد أوصدت     ورأيت بابك واسعاً لا يوصد

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756188934