إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة البقرة [18]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن القرآن الكريم جاء بلسان عربي فصيح، يصعب على من لم يتمعن في معانيه أن يفهمه، ولهذا اهتم جمع كبير من سلف الأمة وعلمائها بتأويل آيات القرآن، وتفسير كلماته، وتوضيح عباراته..

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ...)

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فهذا لقاء من لقاءاتنا الموسومة بمحاسن التأويل، وهي تأملات في كلام ربنا رب العزة والجلال جل جلاله، وتذكيراً للإخوة الذين يكتبون معنا نبين ما يلي:

    كنا في اللقاء الماضي أو الذي قبله نتحدث في سورة الأحزاب، ثم انتقلنا إلى الحديث في سورة البقرة؛ حتى يتيسر لنا الحديث عن آيات الحج التي كنا قد توقفنا عندها في العام الماضي، ومن هذا اللقاء إن شاء الله تعالى إلى أن نختم القرآن سنمضي تدريجياً، أي: أننا وقفنا في اللقاء الماضي عند قول الله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204].

    وتكلمنا عنها إجمالاً، ولم نفصل بسببين: الأول: ضيق الوقت، والثاني: أنها كانت مرتبطة بآيات الحج فعرجنا عليها بما يتناسب مع ما تبقى.

    وأما الآن: فنفرد لها الحديث، ونستمر في الشرح إلى ما شاء الله، نسأل الله أن ييسر لنا أن نختم تفسير كتابه.

    قال ربنا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204].

    فيما مضى أيها المبارك مر تقسيم الناس إلى قسمين في الحج، فقال الله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] فهذا قسم، ويقابله قسم آخر، يقول الله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، فهذان القسمان كان الرب جل وعلا يتكلم عنهما حال كونهما في الحج، ثم إن الآيات التي ستأتي تتحدث عن قسمين آخرين عامين في الحج وفي غير الحج، بل إن الأصل أنهما في غير الحج، فقال ربنا: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:204] (من) هذه تبعيضية والمعنى: بعض الناس، مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204].

    أكثر المفسرين على أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، فقد كان فصيحاً بليغاً يظهر الإيمان ويبطن النفاق، والصواب: أنها -أي: الآية- عامة في كل من هو مبطن كذب أو نفاق أو كفر أو حسد أو غل على أهل الإيمان، هذا الصواب.

    يقول ربنا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204] الإعجاب: هو استحسان الشيء والميل إليه مع التعظيم، وإذ لم يكن هناك شيء من التعظيم ولو يسير فلا يسمى هذا إعجاباً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204]، وهذا يعجبك قوله بسبب جرأته على الله، ومن جرأته على الله أنه يشهد الله على ما في قلبه وهو يعلم أن الله يطلع على غير الذي يقوله، فالذي يقوله شيء يستخدم فيه فصاحته وبلاغته ورونق كلامه، ومع ذلك حتى يقنعك يشهد الله على ما في قلبه، وهذه جرأة على الله؛ لأنه يعلم أن ما يقوله ليس هو الذي يبطنه، ثم يقول الله جل وعلا: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] أي: شديد الخصومة، مع هذا الذي يظهره، وإذا قدر فإنه كما قال الله: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205].

    وسنقف وقفة مع الفعل (سعى) وقفة لغوية في معانيه، قال ربنا: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ [البقرة:205]، فحقيقة السعي المشي الحثيث، ومن هنا: سمي المشي بين الصفا والمروة سعياً؛ لأنه مشي حثيث، ثم إن الفعل (سعى) يستخدم في اللغة بحسب تعبير القرآن وتعبير اللغة في أمور عدة: منها ما يلي:

    يطلق السعي على كسب الإنسان وعمله، قال ربنا جل جلاله: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا [الإسراء:19] أي: قام بالعمل والكسب الذي يؤدي إلى الآخرة، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا [الإسراء:19]، وهذا دليل على أن السعي يكون بمعنى: الكسب والعمل.

    كما يأتي السعي بمعنى الإصلاح بين الناس، ورفع الإضرار، قال عمرو بن كلثوم :

    وأنا منا الساعي كليب

    ومقصوده بالساعي كليب أن كليباً كان يسعى في الصلح بين الناس، ورفع الإضرار عنهم.

    كما يأتي السعي بمعنى: العزم على تحصيل الشيء، ومنه قول الله جل وعلا في حق فرعون : ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى [النازعات:22] أي: يعزم على تحقيق مراده.

    وهنا يقول الله تعالى عن هذا وأضرابه: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205] الحرث: هو الزرع، وسمي الحرث زرعاً لأنه بعد أن يحصد يحرث من جديد، والنسل يطلق على كل الأولاد سواء أولاد بني آدم، أو أولاد الحيوانات؛ لأنه ينسل من بطن أمه، والمقصود هنا: أولاد الحيوانات في المقام الأول؛ لارتباط أولاد الحيوانات بالحرث، ثم قال الله جل وعلا: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].

    والقرآن في المقام الأول كتاب موعظة وهدى، فينبغي على المؤمن أن يتجنب الفساد؛ لأن الله لا يحبه، ومن الفساد في الأرض: سفك الدماء، ورفع السيف على المسلمين، أو إنشاء قنوات تبث الأذى والشرور، أو تبني التجارة بملابس ينجم عنها الخلق إذهاب القويم في الأمة، فهذه وأضرابها كلها تسمى فساداً في الأرض، والفساد لا يحبه الله، قال الله جل وعلا: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ...)

    وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:206] قرنت كلمة العزة هنا بكلمة الإثم، وهذا يسمى في عرف البلاغيين الاحتراس، فليست العزة على إطلاقها مذمومة، فهناك عزة محمودة، قال الله جل وعلا: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، فالعزة المحمودة هي العزة التي ينالها المرء بالدين وباعتصامه بربه، والعزة المذمومة التي تكون مصحوبة بالإثم، فلهذا جعلها الله جل وعلا مصحوبة بالإثم هنا حتى يكون هناك احتراس من أنه ليس كل عزة مذمومة، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ [البقرة:206] أي: هذا الذي يبطن ما لا يظهر، ويظهر ما لا يبطن، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [البقرة:206] والعزة هنا بمعنى: حمية الجاهلية، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206].

    وهنا ينبغي للمرء أن تتواضع نفسه، ويطمئن قلبه، وتستكين جوارحه إذا قيل له: اتق الله، ولهذا قيل: إن من أبغض الخلق إلى الله رجل يقال له: اتق الله، فيقول: عليك نفسك، ولا ينبغي لأحد أن يستكبر عن هذه الكلمة، وقد قيل: إن الخليفة العباسي هارون الرشيد وقف أحد اليهود عند بابه يريد أن يرفع مظلمة إليه عاماً ويرده الحجاب، وهارون لا يدري، فرصد هذا اليهودي لـهارون في بعض طرقه، فلما قابله على عنفوان هارون المعروف، قال له: يا أمير المؤمنين اتق الله، فنزل هارون من فرسه وأرخى نفسه، أي: تطامن وتواضع وأخذ يسمع لليهودي، فلما فرغ من هذا قيل له: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: إنني خفت أن أدخل فيمن قال الله فيهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206].

    (حسبه جهنم) أي: تكفيه جهنم، وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206] هذا عند العرب أسلوب ذم، فبئس للذم، ويقابلها في المدح نعم، وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206]، فهذه طائفة من الناس.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ...)

    ويقابل هذه الطائفة قول الله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207] ويشري هنا: بمعنى: يبيع، والأظهر: أن الفعل يشري في القرآن لم يرد إلا بمعنى يبيع، قال الله جل وعلا في خبر نبيه يوسف : وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف:20] أي: وباعوه بثمن بخس، فهنا قول الله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي [البقرة:207] أي: من يبيع نفسه، وهذه الآية اختلف فيمن هو المراد فيها، وأكثر أهل العلم على أنها تنصرف أول ما تنصرف إلى صهيب بن سنان المعروف بـصهيب الرومي ، وكنيته أبو يحيى رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان في أول أمره أسيراً، ثم نشأ صعلوكاً في مكة، وصعلوك بمعنى: فقير قليل الحال رث المال، ثم ما لبث أن اغتنى، فلما جاء الإسلام كان صهيب من السابقين الأولين، فلما أراد الهجرة منعته قريش، ومما احتجت به في منعه أن يخرج أنهم قالوا له: إنك أتيتنا صعلوكاً لا مال لك، فوالله لن تخرج وقد جمعت المال، فتنازل عن أمواله مع الاختلاف كيف تنازل عن أمواله: هل دلهم على أماكنها، أو أعطاهم إياها، وهذا كله ليس له علاقة في تحقيق المناط في القضية، لكن المقصود: أنه أراد أن يبيع ذلك كله من أجل أن يفوز برضوان الله، وهذا من أعلا المقامات، وأرفع الدرجات، قال الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207].

    والرأفة: أرق الرحمة وألطفها، وصهيب رضي الله عنه كان في زمن ما عبداً لقريش، فلما باع نفسه لله رأف به الرءوف الرحيم رب العباد جل جلاله، وقد ذكر الله هنا اسمه رءوف دون أسمائه الحسنى الأخرى، وكل أسماء الله حسنى، ومن مظاهر رأفته جل وعلا بعباده أمور نذكر منها اثنتين، ثم نذكر الثالثة المتعلقة بـصهيب ، فغير المتعلقة بـصهيب من مظاهر رأفة الله التي هي أرق الرحمة وألطفها: أنه يضاعف الحسنات ولا يضاعف السيئات.

    ومن مظاهر رأفة الله: أنه لو قدر أن أحداً أذنب وكفر مائة عام أو أقل أو أكثر، ثم تاب وصدق مع ربه أسقط الله عنه كل ما مضى، فهذان اثنان غير مرتبطين ارتباطاً مباشراً بموضوع صهيب ، لكن موضوع صهيب يتعلق بالمظهر الثالث، وقد قلنا: إن صهيباً أخبر الله عنه، وهذا قلنا إنه ينطبق على صهيب وعلى غير صهيب ، هذا على القول إنها نازلة في صهيب ؛ أن أخبر الله عن هذه الطائفة التي يمثلها صهيب هنا بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ [البقرة:207] أي: يبيع نفسه (ابتغاء مرضات الله) فعندما يبيع المرء نفسه فإن المشتري هو الله، والثمن هو الجنة، فهذه النفس وهذا المال الذي ضحى به صاحبه في أصله هو ملك لله، وهذه الجنة التي يدخلها الله من باع نفسه من أجله هي ملك لله، فمن مظاهر رأفة الله: أنه يشتري ملكه بملكه؛ رأفة ورحمة بعباده، والله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، فالمشتري الله، والمشترى: النفس والمال، والثمن: الجنة، وينطبق هذا على حال صهيب هنا، لكننا نلحظ ونعلم يقيناً أن النفس والمال والجنة كلها خلق لله، وملك لله، فمن مظاهر رأفته جل جلاله وعظم خيره: أنه يشتري ملكه بملكه؛ رحمة بعباده، ورأفة بهم، وهذا من أعظم مظاهر رأفة الله، ولهذا فهذه الآية التي صدرت بقول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207] ذيلت بقول الله: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ...)

    ثم قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:209].

    السلم هنا بمعنى: الإسلام والمسالمة، وأهل العلم رحمة الله تعالى عليهم اختلفوا في المخاطب أصلاً بهذه الآية، فقال بعضهم: إن المخاطب بها المنافقون، فهذه دعوة لهم في أن يدخلوا في جميع شرائع الدين، وهذا عندي أضعف الأقوال؛ لأن الآية صدرت بقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:208].

    القول الثاني: أن المخاطب بالآية أولاً هم أولئك الذين اسلموا من اليهود كـعبد الله بن سلام وأضرابه، فنقل بعضهم -ولا أعلم لهذا دليلاً قوياً سنداً-: أن عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم من اليهود شق عليهم في الدين أمران: الرضاء بعدم محبة يوم السبت؛ لأن اليهود تعظم السبت، فشق عليهم ألا يعظموا يوم السبت، وشق عليهم أن يحبوا الإبل، ويأكلوا من لحومها؛ لأن الإبل محرمة في ملة بني إسرائيل، قال الله جل وعلا: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [آل عمران:93] وإسرائيل هو يعقوب، والذي حرمه إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها، فاليهود لا تأكل لحوم الإبل، ولا تشرب ألبانها، وهذا القول في ظني ضعيف أن يقال: إن عبد الله بن سلام كان يعظم يوم السبت، وكان لا يحب الإبل؛ إبقاءً على شيء من اليهودية، هذا لا يتفق مع ما جاء في سيرته العامة رضوان الله تعالى عليه، خاصة إذا حملنا آية: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف:10] أن المقصود به: عبد الله بن سلام .

    والصواب والعلم عند الله: أن هذا خطاب لكل مؤمن أن يقبل شرائع الدين كلها، ولا يفرق بين شيء منها، (كافة) أي: في الإسلام جميعاً في الإسلام كله، هذا هو معنى قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208].

    وَلا تَتَّبِعُوا [البقرة:208] (لا) ناهية، والقرينة على أنها ناهية حذف النون، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]، وهذا يسوقنا إلى مسألة وهي: أن من قواعد الترجيح أنه إذا اختلف النحاة في شيء فينظر إلى رسم القرآن، فيكون رسم القرآن مرجحاً إن وافق قول أحدهما، والمثال على هذا قول الله جل وعلا: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6]، فـ (لا) هنا اختلف فيها هل هي ناهية أو نافية، والفرق بين (لا) الناهية و(لا) النافية من حيث الأثر: أن (لا) الناهية تجزم، و(لا) النافية لا تجزم ولا تنصب فليس لها أثر نحوي على الفعل، في حين أن (لا) الناهية تجزم، قال بعض العلماء: إن (لا) هنا: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6] إنها ناهية، بمعنى: أن الله جل وعلا يقول لنبيه: أنا سأقرئك القرآن ويجب عليك ألا تنسى، فنهاه عن النسيان.

    وقال آخرون: إن (لا) هنا نافية، والمعنى: أن الله جل وعلا تكفل بإقرائه لك، وتكفل بألا تنساه، إذاً: تنازع النحويون هنا: هل هي (لا) الناهية، أو (لا) النافية، ومن المتفق عليه: أن تنسى جاءت مختومة بالألف المقصورة، فوجود الألف المقصورة يدل على أن (لا) ليست ناهية؛ لأنها لو كانت ناهية لما وجدت هذه الألف، فيصبح مجزوماً بحذف حرف العلة، فبقاء حرف العلة في رسم المصحف دليل على أن (لا) هذه نافية وليست ناهية، وهذا من قواعد الترجيح أن ينظر إلى رسم المصحف إذا اختلف النحاة.

    والكلام هنا على قول الله جل وعلا: وَلا تَتَّبِعُوا [البقرة:208]، لكنني جعلت منها طريقاً لتبيين مسألة مهمة وهي معرفة بعض قواعد الترجيح، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208].

    هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، ونكمل في اللقاء القادم بعون الله تعالى الآية هذه والتي تليها: (فإن زللتم من بعدما جاءتكم البينات) وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755989769