اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
تكلمنا عن أحكام الصيام وهذا شق مما يكون في رمضان؛ فرمضان صيام بالنهار وقيام بالليل, وقراءة للقرآن بالليل والنهار.
روى الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم, وهو قربة إلى ربكم, ومكفرة للسيئات, ومنهاة عن الإثم), قوله: (عليكم بقيام الليل) أي: الزموا قيام الليل.
وقوله: (فإنه دأب الصالحين قبلكم) أي: عادة وسنة الصالحين قبلكم.
وقوله: (وهو قربة إلى ربكم) أي: أنكم تتقربون به إلى الله عز وجل.
والإنسان يحب أن يرضى الله سبحانه وتعالى عنه.
فقيام الليل عادة الصالحين دائماً، وكل الصالحين من عهد آدم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- عادتهم قيام الليل, وأن يصلوا لله عز وجل في الليل.
قوله: (ومكفرة للسيئات) مكفرة مصدر كفَّر، يعني: يكفر الله عز وجل عنكم السيئات تكفيراً عظيماً, وكفر الشيء بمعنى ستره وغطاه, كأن الله عز وجل يمحو عنكم هذه السيئات, وذلك بأن غطاها وألغاها وسترها وجعلها هباءً.
قوله: (ومنهاة عن الإثم) أي: ينهى نهياً عن الإثم, ومنهاة: مصدر نهى.
إذاً من فضل قيام الليل أنه تشبه بالصالحين, ومن تشبه بقوم فهو منهم، وهو تقرب إلى الله عز وجل، وهو مكفر للسيئات، وهو سبب في البعد عن الآثام، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, أي: صلاة الفريضة الصحيحة الخالصة لله سبحانه، وزيادة على ذلك: قيام الليل فإنه ينهى عن الآثام.
ومن الأحاديث الصحيحة أيضاً ما رواه الترمذي عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر), فالله قريب من عباده سبحانه, وهو مستوٍ على عرشه يقرب من العبد كما يشاء سبحانه وتعالى, فالله يقرب عبده إليه، وهو قريب من عبده؛ يسمعه ويبصره ويعطيه ويرحمه سبحانه وتعالى, فأقرب ساعة إجابة يستجيب الله عز وجل فيها الدعاء يكون معه بعونه وبركته ورحمته ومعيته سبحانه, قريب منه وهو يصلي له في جوف الليل الآخر.
جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) وذكر الله أعم من أن تقوم للصلاة، فلعلك تقدر على الصلاة، ولعلك تكون مريضاً في هذا الوقت ونائماً على سريرك, ولك عادة أن تقوم الليل, فإذا بك وأنت على سريرك في هذه اللحظات تقوم من الليل ذاكراً الله عز وجل بلسانك, فالحديث هنا لم يخصص الصلاة ولا غيرها ولكنه عامٌّ يشمل ذكر الله وغيره، فذكر الله يكون في الصلاة, كذلك يكون بالاستغفار والدعاء، فأنت في هذه اللحظات في الثلث الأخير من الليل أقرب ما تكون من ربك، وأقرب ما يكون الله عز وجل منك في هذا الوقت، فاحرص عليه.
ومن الأخذ بالأسباب: أنْ تتواصى أنت وأهل بيتك أن من استيقظ في الليل يوقظ صاحبه, فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للرجل والمرأة اللذيْنِ يفعلان ذلك، فقال: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى فأيقظ امرأته فصليا جميعاً, فإن أبت نضح في وجهها الماء, ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها, فإن أبى نضحت في وجهه الماء) فكل منهما يعين الآخر على أنه يقوم ويستيقظ؛ ليصلي لله عز وجل من الليل, فاستحق الاثنان أن يدعو لهما النبي صلى الله عليه وسلم برحمة الله سبحانه وتعالى.
قالت: (فلما كثر لحمه صلى جالساً) ليس معناه: أنه سمن عليه الصلاة والسلام, ولكن المعنى: أنَّه كَبُر في السن وصار عظمه لا يقدر على أن يحمل جسمه, فهذا معنى قول السيدة عائشة رضي الله عنها: (فلما كثر لحمه) فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن سميناً، بل كان يذم السمن عليه الصلاة والسلام, إنما المعنى أنه ثقل جسده صلى الله عليه وسلم على عظمه, فلا يستطيع عظمه أن يحمل جسده في هذا القيام الطويل الذي كان يقومه, فقد كان يقوم الليل أحياناً بالسبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والأعراف والأنعام والأنفال وبراءة، فقد كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم ليلهُ لله عز وجل بهذه السور جميعها، قالت: (فلما كثر لحمه صلى جالساً عليه الصلاة والسلام, فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع) أي: كان يستمر ليلاً طويلاً قائماً, ثم يجلس ويصلي صلاة طويلة وهو جالس, فإذا بقي له أربعون أو ثلاثون آية, قام فقرأها وهو قائم, ونحن نقرأ في الصلاة ثلاثين آية أو أربعين آية ثم نتعب, والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي السبع الطوال يعني: كان يقرأ, ألف آية, ونحن إذا أردنا أن نصلي بألف آية نبدأ من (تبارك) إلى آخر المصحف؛ لأنَّ ذلك أسهل, وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يأخذ من أول القرآن إلى أن يصل إلى براءة والأنفال صلوات الله وسلامه عليه, فيقرأ قراءة متأنية ومرتَّلة, ويستمتع بها, ويتقرب بها إلى الله عز وجل, وإذا مر بآية رحمة وقف وسأل الله من رحمته, وإذا مر بآية عذاب وقف وتعوذ بالله من عذابه.
فقوله: (أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار)، أي: ما هو العمل الذي إذا عملته أدخلني الجنة, ونجاني من النار فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً)، أي: تأتي بكلمة التوحيد وتأتي بحقها, فتقول: لا إله إلا الله بلسانك, ويصدق ذلك قلبك وعملك، إذا قلت: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله, فلا أتوجه بعبادة إلا إلى الله وحده لا شريك له, ولن أتوسل إلى أحد بعمل سوى الله تعالى, ولن يكون دعائي إلا إلى الله عز وجل, ولن تكون عبادتي متوجهة إلا إلى الله, ولن أرائي ولن أشرك بالله ولن أوجه عملي لغير الله سبحانه, فتعبد الله بشرعه وبدينه، متابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم ومقتدياً به، وتعمل صالحاً وتخلص لله سبحانه. ثمَّ خصص صلى الله عليه وسلم أشياء فقال: (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، وهذه هي أركان الإسلام الخمسة، وكأنه قال: اعبد الله بما شرع وخاصة بأركان الإسلام.
ثم قال: (ألا أدلك على أبواب الخير -أي: بعد أن عرفت أركان الإسلام لا بد أن أدلك على أبواب الخير- قال: الصوم جنة -أي: وقاية- والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) فتصدق، فإذا كانت عليك خطيئة, وكأن الخطيئة توقد على صاحبها النار, وليست أي نار وإنما هي نار جهنم والعياذ بالله, فكأنه أطفأ هذه النار بماء الصدقة.
ثم قال: (وصلاة الرجل من جوف الليل، وتلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
[السجدة:16-17]) فلا تعلم نفوس الناس مهما حاولت أن تعرف قدر صلاة الليل وقدر هذا الثواب, فهو أعظم من أن تتخيله، وما يخفيه الله سبحانه أعظم.
ثم قال: (ألا أخبرك برأس الأمر كله -أي: أعظم شيء في هذا الدين- وعموده وذروة سنامه, قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام), فكل عبد في هذه الدنيا أعظم ما يتمسك به هو الإسلام, فهو رأس الأمر, (وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) فكأنه يقول: أعظم ما يكون أنْ تتمسك بالإسلام شريعة وعملاً, وأن تأخذ بأعظم ما فيه وهو الصلاة, والجهاد في سبيل الله عز وجل.
ثم قال: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله) أي: الذي يملك عليك هذا كله، فتستطيع أن تصلي صلاة صحيحة, وتجاهد جهاداً صحيحاً، وتفعل الخير بطريقة صحيحة، قال: (أمسك عليك هذا، قال: فأخذ بلسانه) كأن الإنسان إذا أراد أن يعمل طاعة ثم وقع في الإثم بسبب لسانه لا يستطيع أن يعمل تلك الطاعة, فلسان الإنسان قد يكون شؤماً على صاحبه؛ لأنه يتكلم في الحرام, ويتكلم في الزور والكذب، فكلما وقع في آفة من آفات اللسان فإن شؤمها يكون عليه, فيريد أنْ يقوم الليل فلا يستطيع, وبذلك يكون لسانه قد أخره عن أن يقوم لله عز وجل في الصلاة, ويريد أن يجاهد في سبيل الله ولسانه يؤخره عن ذلك بما جره عليه من ويلات وما جره عليه من معاصٍ.
إذاً: إذا أردت أن تصلي, وتجاهد جهاداً صحيحاً, وتصوم صياماً صحيحاً وأنْ يتقبل الله منك أعمالك فلا تفسد ذلك بآفات لسانك.
قال: (فقلت: يا نبي الله! إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ -يعني: أي شيء نقوله ربنا سيكتبه علينا؟- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ) والأم الثكلى: هي الأم التي فقدت ولدها، فهي تنوح وتبكي عليه, كأنه يقول: فقدتك أمك, وهذه الكلمة لا يقصد معناها, وإنما تقال على سبيل الترحم أو التودع لعدم فهمه, أي: ألم تفهم الذي أقصده والذي أقوله من هذا الكلام؟ ألا تعقل ذلك؟
ثم قال: (وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) حصائد اللسان هي الآفات التي توقع الإنسان في النار والعياذ بالله، والنبي صلى الله عليه وسلم ينصح أحد أصحابه ويقول: (أمسك عليك لسانك, وليسعك بيتك, وابك على خطيئتك) فأمسك عليك لسانك حتى تنتفع بعباداتك لله سبحانه وتعالى.
ومعنى الغبطة: أن تتمنى أن يكون لك مثل ما لأخيك من نعمة، فتقول: بارك الله لك في نعمتك وأسأل الله أنْ يرزقني مثل ما رزقك، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الغبطة بهذا الوصف، فكونك تحسد إنساناً على شيء لا يجوز لك، ولكن في أمرين اثنين يجوز لك أن تغبطه, وهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (رجل آتاه الله الكتاب فقام به آناء الليل) أي: رجل آتاه الله القرآن بأن حفظه وقام يصلي به في الليل, وليس شرطاً أن يكون حفظ القرآن كله؛ لأن الدرجات يوم القيامة عظيمة وكثيرة، وحسب ما تحفظ يقال لك: (اقرأ وارتق) فتصل إلى مرتبة بحسب ما تحفظ, فإذا وجدت إنساناً يحفظ القرآن ويعمل به تقول في نفسك: يا ليتني أعمل مثل هذا الإنسان، ويا ليتني أحفظ مثله، فتتمنى أن تكون مثل هذا الإنسان وتأخذ بالأسباب, وقد تصل أو لا تصل، ولكن الله يعلم من نيتك أنك تريد ذلك فيعطيك؛ لأن الله كريم وعظيم سبحانه وتعالى, فالعبد الذي يتمنى الخير لا يحرمه الله الخير؛ لأن الله أكرم من أن يحرم عبداً من عبيده, فالغبطة هي أن تتمنى منزلة إنسان وتحبُّ أن يبقى على ما هو عليه من المنزلة، هذا الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أعددت لها؟) أي: ما هو الذي أعددته للساعة حتى تسأل عنها, فالرجل رجع على نفسه وشعر بشيء من الأسف على نفسه، فقال (والله ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة, ولكني أحب الله ورسوله, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب، قال
فينبغي للمسلم أن يحب الصالحين؛ لعل الله أن يجعله معهم.
ففي الحديث السابق: (رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل) فإذا رأيت هذا الإنسان فقد تعمل مثله, أو لعله يقوم بعملٍ أكثر منك فتحاول أنْ تفعل ما يفعله، فيعطيك الله الأجر على ذلك.
أما الثاني: (ورجل آتاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل والنهار) أي: أنه يتصدق في الليل والنهار، فإذا رأيته قلت: ليت الله يعطيني مالاً فأتصدق مثل هذا الإنسان, فلا حرج أن تتمنى على الله ذلك، ثم تحاول وتعمل, وليس مطلوباً منك أن تحقق هذه الأمنية؛ لأن النتيجة ليست عليك أبداً وإنما عليك السبب فقط, فقد تحاول أن تبحث عن عملٍ لعل الله يرزقك فتتصدق؛ فتذهب فلا تلقى عملاً فترجع، فنيتك هذه لن يضيعها الله عز وجل أبداً؛ لأنك نويت أن تعمل ثم تتصدق، فالله يحفظ ذلك لك وكأنك فعلت.
وقد روى أبو داوود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ تكون له صلاة بليل ويغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة) فانظر إلى كرم الله عز وجل, فالمرء إذا كان دائماً يقوم يصلي في الليل فنام وما قام الليل، فإن الله يكتب له أجر صلاته كأنه قام الليل، ونومه عليه صدقة.
إن الله كريم سبحانه, فاسألوه من فضله ومن رحمته, وأحسنوا الظن به, ومن أحسن الظن فليحسن العمل.
نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكهما إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر