إسلام ويب

تفسير سورة النور [1 - 2]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة النور من أعظم سور القرآن، وقد ابتدأها الله بذكر بيان شرفها وأهميتها، وذكر أنه أنزلها وفرضها، وأنه أنزل فيها آيات واضحات وموضحات لما نحتاج إليه، والمقصود منها أن نتذكر بها ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، وقد اشتملت على أحكام كثيرة لم تذكر إلا فيها؛ ولذا اهتم أهل العلم بتفسيرها قديماً وحديثاً، وأفردوها بالتصنيف.

    1.   

    مقدمة عن سورة النور

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة النور: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:1-3].

    هذه السورة هي الرابعة والعشرون من كتاب الله سبحانه وتعالى، واسمها سورة النور؛ لما ذكر الله عز وجل فيها من قوله سبحانه: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35]، الآية.

    وهذه السورة من السور المدنية اتفاقاً، فكلها نزلت بالمدينة، ونزلت في أسباب، وسيأتي البعض من هذه الأسباب، والآيات عددها اثنتان وستون آية على العد الحجازي، وعلى العد الحمصي ثلاث وستون آية، وعلى عد باقي القراء أربع وستون آية.

    والخلاف في هذا العد مبني على مكان وقف النبي صلى الله عليه وسلم، فيعتبر أنه رأس آية، أو تكون الآية مكملة للآية التي قبلها، وأما الآيات فهي نفسها.

    1.   

    مجمل الأحكام التي ذكرت في سورة النور

    لقد بدأها الله سبحانه وتعالى بقوله: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]، وإن كان القرآن قد نزل من عند الله سبحانه، وكل القرآن قد فرض علينا ربنا سبحانه أن نعمل بما فيه من شرعه سبحانه، لكن اختصت هذه السورة بكونها ذكر فيها أحكام عظيمة يحتاج إليها الناس: من العفاف والستر، فذكر الله عز وجل فيها الأحكام الشرعية في أمر العورات، وأنه ينبغي على الإنسان أن يحفظ عورته ولا يحل له أن يقع في الزنا، فإذا وقع الإنسان في الزنا فهو يستحق الحد الشرعي على ذلك.

    وفيها التحذير من مصايد الشيطان ومكايده للإنسان، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]، فالشيطان يدعو الإنسان لأن يقع في الفواحش، ويزين له الفاحشة حتى إذا وقع فيها صار الإنسان في كبيرة من المعاصي إلا أن يتوب الله عز وجل عليه.

    وفيها: ذكر الزاني والزانية، وكيف أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج بامرأة زانية مشهورة بذلك إلا أن تتوب إلى الله عز وجل، والعكس كذلك، فالمرأة العفيفة لا يجوز لها أن تتزوج برجل عاهر زان مشتهر بذلك، فمن تاب تاب الله عز وجل عليه، وجاز له أن يتزوج من المرأة بعد التوبة، وكذلك المرأة.

    وفيها أيضاً: أن الإنسان الذي يقذف غيره بهذه الفاحشة ولم يأتِ بالبينة فإنه يحد، إذ الأصل أن الإنسان لا يتكلم في أعراض الغير، فإذا تكلم فيها فإنه يتكلم بخير أو يسكت، فإذا وقع في أعراض الناس ورماهم بهذه الفاحشة استحق أن يعاقب عقاباً يردعه ويردع أمثاله ممن يتكلمون في ذلك، فيجلد هذا الإنسان ثمانين جلدة على كونه يقذف إنساناً بأنه زنى، أو أنه وقع في هذه الجريمة.

    وقد يرمي الرجل امرأته بهذه الجريمة، ويصعب على الرجل أن يأتي بشهود، ويصعب عليه أن يداوم العشرة مع امرأة قد رآها وقعت في هذه الجريمة، لذا أنزل الله عز وجل شريعة في هذا الأمر: بأن الرجل يتلاعن هو وامرأته على ما يأتي تفصيله في هذه السورة الكريمة.

    وذكر الله عز وجل فيها أيضاً كيف يتعامل الإنسان مع ربه سبحانه وتعالى، حيث قال: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، وكيف يواظب على صلته بربه سبحانه وتعالى، وعلى طاعته لله عز وجل التي تكسبه نوراً في قلبه، وزيادة في إيمانه على ما يأتي فيها.

    فهذه السورة ذكر الله عز وجل فيها هذه الأحكام وغيرها، وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة يأمرهم بأن يعلموا نساءهم سورة النور، وكان الصحابة يهتمون بهذه السورة جداً، فيتعلمونها ويعلمونها أزواجهم وأولادهم، فكان عمر يكتب إلى أهل الكوفة: علموا نساءكم -يعني: أزواجكم وبناتكم- سورة النور، وكذلك جاء عن عائشة رضي الله عنها مثل ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها ...)

    قال سبحانه: سُورَةٌ [النور:1] أي: هذه سورة عظيمة، أَنزَلْنَاهَا [النور:1] أي: نزلت من عند رب العالمين، وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] أي: فرضنا عليكم الأحكام التي فيها أن تعملوا بها، وأن تتعلموها، وأن تأمروا بها أنفسكم وغيركم، وغيرها من القرآن مفروض علينا أن نعلم به، ولكن اختصت هذه السورة بهذا التصريح لما فيها من أحكام عظيمة يحتاجها كل الناس، من أحكام الستر والعفاف.

    قرأ الجمهور سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]، وقرأ ابن كثير المكي وأبي عمرو البصري (وفرّضناها) أي: نزلنا هذه السورة من عندنا مقطعة في الإنزال، فلم تنزل كلها مرة واحدة، وكأنها مأخوذة من الفريضة، ومنها علم الفرائض والمواريث، بمعنى: تقطيع الأنصباء، فهذا له النصف وهذا له الربع، وهذا له كذا، ففيه تقطيع الأنصباء، ومنها: فرضة القوس التي تكون في آخر القوس ويربط فيها الوتر، فالفريضة كأنها القطعة من الأحكام المأمور أن نعمل بها.

    فـ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] أي: قطعناها في الإنزال فنزلت من عند الله عز وجل آيات آيات حتى اكتملت السورة.

    وكلمة سورة معناها في اللغة: المنزلة الشريفة، فالسورة مأخوذة من ذلك، أنها جاءت بمنزلة عظيمة، ووقع عظيم في قلوب المؤمنين، ولها القدر العظيم عند الله عز وجل وعند المؤمنين، فسميت السورة سورة لشرفها، وأنها نزلت من عند رب العالمين سبحانه.

    قال: وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [النور:1] أي: واضحات في دلالتها لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]، وكأن المعنى: تتذكرون ما نزل من عند الله، فتعملون بهذا الذي ذكركم به، وكلمة تَذَكَّرُونَ [النور:1] فيها القراءتان: قراءة حفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف (تذكَّرون)، وقراءة باقي القراء: (تذَّكَّرون)، وأصلها: تتذكرون ما نزل من الأحكام فلا تنسوا ذلك؛ لعلكم تعملون بما جاء من عند الله سبحانه.

    والتذكر عكس النسيان، والنسيان قد يكون طبيعة في الإنسان، وقد يكون عمداً، فالأول يعذر فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، والنسيان قد يكون بمعنى: معاملة الشيء معاملة المتغافل عنه، وهذا فيه عقوبة على الإنسان، والنسيان يأتي بمعنى الترك كما قدمنا قبل ذلك.

    وفي الآية: مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا [طه:124-126]، فالنسيان هنا بمعنى: ترك العمل بما فيها، فالذي يتعامل مع آيات القرآن بتغافل عنها، فيرى الآيات أمامه ومع ذلك لا يعمل بما فيها، فقد تعمد الترك، وهو أحد معاني النسيان لكتاب الله عز وجل، وهو الذي يستحق يوم القيامة أن يعامل معاملة المنسي فقال الله عز وجل: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126] أي: تترك في نار جهنم كالمنسي، وإن كان ربنا لا ينسى شيئاً سبحانه.

    1.   

    بيان بعض الحدود الموجودة في كتاب الله

    ثم ذكر الله تعالى حكماً من الأحكام فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، وهذا حد من الحدود الشرعية التي جعلها الله عز وجل حاجزاً بينك وبين الوقوع في الفاحشة والمعصية، فإذا وقعت في هذه الفاحشة والعياذ بالله فإنه يقام عليك الحد الشرعي فيها.

    فحد الزاني حد من الحدود، وسيأتي في السورة نفسها حد آخر وهو حد القاذف، وهو في الذي يقذف غيره بجريمة الزنا ونحوها.

    وفي القرآن حدود أخرى مثل حد السارق في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، وفي القرآن أيضاً حد الحرابة، وذلك في قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:33]، فأمر الله عز وجل بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، فقال: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33].

    وكذلك جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حد آخر وهو حد شار الخمر، وهو أن يجلد ثمانين جلدة أو أربعين جلدة على الخلاف في ذلك، وكذلك جاء في السنة حد الساحر وهو القتل بالسيف، فهذه حدود من الحدود التي ذكر الله عز وجل في كتابه أو جاءت في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    ومنها: حد من يقع في اللواط، وهل هو ملحق بالزنا فيكون مثله أو أن له حكم آخر: وهو أن يرجم هذا الإنسان؟ على كلام يذكره العلماء فيه، فهذه الحدود الشرعية هي التي تمنع الإنسان من الوقوع في المعاصي، فالشريعة جاءت لنفع البشر ودفع الضرر عنهم، فالأحكام والحدود الشرعية تعزير وتخويف للإنسان أن يقع في ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة...)

    قال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، قراءة الجمهور (مائة جلدة)، ويقرأها أبو جعفر (مية جلدة)، ويقف حمزة على (مائة).

    قال تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، قوله: رَأْفَةٌ [النور:2] بسكون الهمزة هي قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير بالفتح (ولا تأخذكم بهما رَأَفَة في دين الله) على خلاف فيها.

    والزنا كان معروفاً عندهم في الجاهلية، وكان مشهوراً جداً، وكان في أهل البدو بغايا لهن بيوت معروفة، وعليها رايات وأعلام معروفة، فهذا بيت فلانة، وهذا بيت فلانة، ولذلك كان العرب يقتلون البنات خوفاً من هذا العار، فإذا كان الإنسان لا يربى بناته في بيته تربية صحيحة على دين الله عز وجل فمن الممكن أن تقع البنت في هذه الجريمة.

    تعريف الزنا وحد مرتكبه

    الزنا شرعاً قالوا: هو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح لمطاوعتها.

    فإن طاوعته اشتركت معه في الجريمة، وأما إذا كانت مكرهة على ذلك بأن اغتصبها فهو وحده الذي يقام عليه الحد، سواء حد الزنا، أو يقام عليه حد الحرابة في ذلك.

    ويعرف الزنا بأنه: إدخال فرج في فرج مشتهىً طبعاً، محرم شرعاً، وتعريف الزنا بهذا يدخل تحته اللواط، وإتيان البهائم والعياذ بالله.

    قال تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، هذا الحد في الزاني البكر الذي لم يتزوج، والزانية البكر التي لم تتزوج، وأما الذي تزوج فهذا له حد آخر وهو الرجم، سواء قال العلماء بأنه يجلد أولاً بهذه الآية ثم يرجم بعد ذلك، أو أنه يرجم مباشرة على ما في ذلك من تفصيل.

    فالزانية والزاني البكران أمر الله عز وجل بجلد كل واحد من الاثنين مائة جلدة، أما في أمر الثيب الزاني فجاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وفرق الله عز وجل بين الاثنين فجعل الحد في البكر أخف وفي الثيب أشد؛ لأن الإنسان الذي تزوج ثم وقع في الزنا لا فائدة فيه؛ إذ أنه ترك ما أحل الله له، وقضى شهوته فيما حرم الله عليه، مع تمكنه من قضائها في الحلال فجعل الحد فيه حداً شديداً وهو أن يرجم حتى الموت؛ تأديباً وتكفيراً لسيئته، ولأجل كل من يسمع هذا فيمتنع من الجريمة خوفاً من العقوبة.

    ومهما ادعى الناس أن مثل هذه العقوبات فيها قسوة وشدة، فهؤلاء الكفار لا قيمة لقولهم، فهم يهربون من دين الله سبحانه، فما إن يجدوا مفاسد ما ذهبوا إليه إلا ويبدءون بالرجوع إلى الأحكام الشرعية، لكن من غير أن ينسبوها إلى الله عز وجل، وانظر إلى الكفار عندما يتكلمون عن الختان، وأن الختان هذا جريمة، وأما اليهود حين يفعلون الختان فليست بجريمة، وهم يريدون بذلك أن تشييع الفاحشة بين المسلمين، حيث إن الختان يهذب شهوة الرجل وشهوة المرأة، فإذا ترك هذا الأمر ثارت شهوة الاثنين فشاع الزنا بين المسلمين، ومن ثم تأتي أبحاثهم وتقول: إن الختان أمر جيد، ويتمنون تطبيقه بينهم، وأما عند المسلمين فهم يتهمونهم بهذا، ويرونه خطأ، وأما عندهم فيبدءون بطرح مسألة الختان؛ وذلك لمنع ثوران شهوة المرأة وتقليل جرائم الزنا، ومن أجل تقليل وجود السرطانات الموجودة عندهم، فهم يفكرون في بلادهم بهذا الشيء، وأما عند المسلمين فيريدون إخراب ديار المسلمين، وأكثر شيء يخرب على المسلمين ديارهم هو الوقوع في الفواحش والعياذ بالله.

    الحكمة من ذكر الزاني والزانية في هذه الآية وعدم الإتيان بلفظ يشملهما

    قال الله عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2]، ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الزانية والزاني، وكان يكفي أن يقال الزاني أو الزناة، ومثل هذه الآية آية السرقة حيث قال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، ولو ذكر سبحانه وتعالى واحداً فقط فقال: الزاني لدخلت فيه أيضاً المرأة من باب التغليب، وهذا كما يقال: المؤمنين، فيدخل معهم المؤمنات أيضاً، ويقال: المسلمون، فيدخل معهم أيضاً المسلمات، ولكن في هذه الآية حتى لا يقع الإشكال فيؤخذ الرجل فقط دون المرأة ذُكرا معاً.

    ومثل ذلك ما جاء في أمر الذي وقع على امرأته في نهار رمضان، فقد جاء في الحديث: (أن رجلاً جامع امرأته في نهار رمضان، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة بعتق رقبة، فقال: لا أملك غيرها -يعني: رقبته-، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصوم شهرين متتابعين، قال: وهل فعلت الذي فعلت إلا في رمضان -أي: في الصيام-؟ فأمره أن يطعم ستين مسكيناً).

    فهنا الكلام مع الرجل الذي واقع امرأته، ولم يسأل عن حكم المرأة، ولذلك اختلف العلماء هنا حيث إنه لم تذكر المرأة: هل الكفارة هذه على الرجل فقط، أو على الرجل والمرأة؟ فأكثر العلماء على أنها على الرجل فقط، والبعض يقول: لو أن المرأة هي التي دعته لذلك لكانت على الرجل والمرأة، ولكن الخلاف موجود، فلو أن الله عز وجل قال: (الزاني يجلد مائة) لجاء نفس الخلاف هنا في هذه المسألة، ولأتى البعض من الناس يقول: المقصود بالزاني هنا الرجل فقط والمرأة لا تجلد، ولو قال: (السارق اقطعوا يده) لأتى البعض من الناس يقول: إذاً القطع يكون على الرجل فقط؛ إذ المرأة ليس من عادتها أنها تسرق، فحتى يرفع الإشكال ولا يوجد مثل هذا الخلاف قال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2]، وقال: السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ [المائدة:38].

    وأما وجه التفريق بين الآيتين فبدأ بالسارق فقال: السَّارِقُ [المائدة:38]، ثم ثنى بالمرأة فقال: وَالسَّارِقَةُ [المائدة:38]، وأما في هذه الآية فبدأ بالمرأة فقال: الزَّانِيَةُ [النور:2]، ثم ثنى بالرجل فقال: وَالزَّانِي [النور:2]، وذلك أن الطمع في المال موجود في الرجال والنساء ولكن في الرجال أكثر؛ لأن الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، فالرجل عليه النفقة، فلعل من عليه النفقة تدفعه نفسه أن يأخذها من حل أو من حرام، وفي الرجال أمر السرقة أكثر.

    وأما الزنا فالمرأة سببه، فعندما تتبرج المرأة للرجل ويراها فإنه يشتهي مواقعتها، فلما كانت هي السبب بدأ الله عز وجل بها، وقد كان الزنا في الجاهلية منتشراً، وكانت النساء فتنة للرجال، وكن سبب ذلك فبدأ بهن، وكان إماء العرب وبغاياه مجاهرات بذلك.

    وقالوا أيضاً: بدأ بالمرأة؛ لأن الزنا في المرأة أشد وأقبح، فإنه عار عليها وعلى أهلها.

    وقالوا أيضاً: لأن المرأة شهوتها أشد من الرجل، وإن كان الله عز وجل قد هذب ذلك بأن ركب في المرأة حياء، فجعلها أكثر حياء من الرجل، فإذا وقعت في هذه الجريمة نزع منها الحياء فصارت مصيبة بين الناس.

    وجاء في الحديث عند أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زنا العبد خرج منه الإيمان، وكان فوقه كالظلة) يعني: كالسحابة فوق رأسه، (فإذا انقلع منها -يعني: رجع عن هذه المعصية وتاب إلى ربه- رجع إليه الإيمان)، فالمعاصي سبب لنزع الإيمان الواجب من قلب الإنسان، ولذلك جاء في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن).

    فالإنسان وقت وقوعه في المعصية لو أن عنده الإيمان الواجب الذي يمنعه منها لما وقع فيها، ولكنه في هذه الحالة ينزع منه القدر من الإيمان الذي يمنعه من هذه المعصية، فيقع في هذه المعصية.

    صفة السوط الذي يجلد به الزناة

    قال الله عز وجل هنا: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فأمر بالجلد، والجلد: هو ضرب الإنسان على جلده، والضرب أو الجلد يكون بالجريد، والجريدة لها صورة معينة، فليست جريدة قصيرة ضعيفة بحيث لا تؤثر فيه، ولا هي طويلة شديدة بأشواك فتقتل الإنسان، ولكن المقصود التهذيب والتأديب لهذا الإنسان، فهي وسط بين الاثنين.

    وجاء حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاء له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط)، يعني: عصا أو جريدة، (فأتي بسوط مكسور، فقال: فوق هذا، فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته) أي: سوط جديد قطع تواً من الشجرة، وفيه شوك، ومثل هذا سيؤذي الإنسان، (فقال: ولا هذا، فأتي بسوط قد ركب به ولان) يعني: ليس فيه أشواك وصار فيه شيء من اللين، (فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد)، وهذا مرسل، ولكن عليه العمل.

    حكم تجريد الزناة من ثيابهم عند الجلد

    هل يجرد الإنسان الذي يجلد من ملابسه ويضرب على جلده؟ اختلف العلماء في ذلك: فذهب مالك وأبو حنيفة وغيرهما إلى أنه يجب أن يعرى ظهره ويضرب على جلده، وكأن الجَلد مأخوذ من ذلك، وأما المرأة فقالوا: نترك عليها ما يسترها ولا يقيها، يعني: لا تكون ثياباً غليظة بحيث تحميها من الضرب، ولكن تكون ثياباً ينفذ منها الضرب إلى جلد المضروبة.

    وذكر الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام أن القاضي أو الإمام مخير، فإن شاء جرد وإن شاء لم يفعل.

    وقال الشعبي والنخعي : لا يجرد، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه، ولعل هذا هو الأولى، فإذا كان الإنسان لابساً ثياباً لا تعوق ضربه، وتجعل الضرب ينفذ إليه فلا تنزع، والله أعلم.

    أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756192978