إسلام ويب

تفسير سورة الشورى [44 - 48]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله عز وجل في هذه الآيات من سورة الشورى أن من أضله الله فلا هادي له، كما ذكر حال الظالمين في يوم القيامة عندما يرون العذاب ولا محيص لهم منه، وأمر الله عز وجل عباده بأن يستجيبوا لأوامر الله وأوامر رسوله، وبين الله تعالى أن طبيعة الإنسان إن أصابته حسنة فرح بها، وإن أصابته سيئة فإنه يقنط من رحمة الله تعالى وييأس.

    1.   

    الإيمان بالقضاء والقدر

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد:

    قال الله عز وجل في سورة الشورى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ [الشورى:44-48].

    في هذه الآيات يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن قضائه وقدره، وأنه بيده مقاليد كل شيء، فيهدي من يشاء وهذا من فضله سبحانه، ويضل من يشاء بعدله سبحانه وتعالى، قال جل شأنه: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وقال أيضاً: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الإيمان بالقضاء والقدر، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله بيده مقاليد كل شيء، وكان صلى الله عليه وسلم يحمد ربه سبحانه ويقول: (اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما أبعدت ولا مباعد لما قربت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت).

    وإذا أراد الله شيئاً فيستحيل أن يكون على غير ما أراده سبحانه وتعالى، فالله قدر كل شيء، وكتب عنده كل شيء، وجعل العباد في هذه الدنيا يعملون ويجازيهم الله على أعمالهم، وهو أعلم بحالهم أيستحقون الجنة أو يستحقون النار؟ خلق خلقه فقال: (هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي).

    والصحابة رضوان الله عليهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الأمر قد فرغ منه، فهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ففيم العمل إذاً؟ فأرادوا أن يجادلوا في القضاء والقدر، فقطع عنهم هذا الأمر، فالقضاء والقدر ليس للجدل فيه مكان وإنما يجب الإيمان به، أن تؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه قدر مقادير كل شيء سبحانه وتعالى، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن مشيئته أن جعل للعباد مشيئة، قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] أي: ما تريدونه وما ستفعلونه قد علمه الله، ولكن جعلكم تكتسبون، فتجازون على ما اكتسبتم.

    وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:286] أي: من خير، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] من شر، فالإنسان يكسب ويكتسب، يكسب لنفسه الحسنات ويكتسب عليها السيئات، فاكتساب العبد محل الجزاء.

    فالإيمان بالقضاء والقدر عند أهل السنة وسط بين من يقول: العبد مجبور، ومن يقول: ليس هناك قدر والله لا يعلم إلا بعد عمل العبد، فأهل السنة وسط بين الاثنين، فهم يقولون: الله يشاء، والله يعلم سبحانه وتعالى، وما تشاءون إلا أن يشاء الله.

    والله كلف العباد وجعل لهم الاختيار فيما يكتسبون، وقد علم الله سبحانه ذلك وكتبه عنده وقدره، فيبقى على العبد أنه يكتسب بكامل حريته، فيكون مختاراً مريداً فاعلاً آخذاً تاركاً معطياً مانعاً، فيرى نفسه تفعل ذلك ولا أحد يجبره.

    فالعبد إذا أمسك كوباً من الماء فإنه مختار فيه، فإن شاء شرب الماء وإن شاء لم يشربه، وهذا الاختيار هو الذي يسأل الله عز وجل عنه ويحاسب عليه يوم القيامة، فشرب الماء قد يكون مباحاً أو واجباً عليه حتى لا يهلك نفسه، وقد يكون آثماً في وقت الصيام ويبطل صومه بذلك.

    فهنا ثلاث حالات في اختيار العبد في شرب الماء؛ ففي حالة يجب عليه، وفي حالة يباح له، وفي حالة يحرم عليه، ويبقى العبد مختاراً حين يفعل ذلك، فإذا قال العبد: الله أجبرني على ذلك، فإنه يكون كاذباً فيما يقول، فإن الله لم يجبره، وإنما شاء سبحانه وتعالى، وأعطاه مشيئة يختار بها ما يريد فيحاسبه الله على ما اختاره، فيحاسبه على كسبه من خير أو شر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده ...)

    قال الله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:44].

    قوله: (وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي: من يخذله الله سبحانه وتعالى فإنه في ضلال، فالإنسان المجرم الذي اتبع الشيطان وترك دين الله سبحانه وتعالى، فإنه مخذول قد خذله الله سبحانه، ومن يهده الله فلا مضل له، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [الأعراف:178] فهذا قد أنعم الله عز وجل عليه بذلك.

    فالله سبحانه بيّن لجميع عباده حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، أنزل الكتب من السماء، وأرسل الرسل يهدون الخلق إلى الله سبحانه، والإنسان المؤمن جعل الله عز وجل قلبه مفتوحاً وعقله مفتوحاً منيراً، فأبصر واختار وعرف الطريق الصواب، والإنسان الكافر أظلم قلبه بكفره وبجحوده بالله.

    فإن المعاصي تنكت على القلب نكتاً سوداء حتى يسود القلب، فلم يضئ له الله عز وجل ما أظلم من قلبه، فيبقى في ظلمة لا ينتفع بما جاءه من النور.

    والمؤمن أراد الطاعة وأحب ربه سبحانه فأنار الله له قلبه، فإذا به يبصر وينتفع بما جاء من عند الله، فالأول: لم يعطه الله عز وجل نوراً، والثاني: أعطاه الله عز وجل نوراً، فمن أظله الله من الذي يهديه بعد ذلك؟ فمن كان قلبه قد أظلم لم يجعل الله عز وجل فيه ما يضيء له بسبب ما اقترفت يداه.

    ومعنى قوله تعالى: (فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ) أي: من سيلي أمره؟ والولي القريب هو الذي يتكفل بأمور الإنسان ويقوم عليها ويدبر له حاله، فهذا من الذي يليه بعد الله سبحانه وتعالى إذا أضله الله فحجب عنه النور؟ فلا هادي لهذا الإنسان وليس له من يلي أمره فيدخله في الإيمان.

    ومعنى قوله تعالى: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أي: حين رأوا العذاب في قبورهم حين كانت قبورهم عليهم حفرة من حفر النار، وكذلك حين رأوا العذاب في يوم القيامة فهم يجأرون ويصرخون، قال تعالى: ويقولون هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:44]، أي: هل إلى مرد نرد مرة ثانية إلى الدنيا؟ وهل إلى مرجع إلى الدنيا من سبيل؟ وهل هنالك وسيلة نعتذر بها لنرجع إلى الدنيا؟

    فليس هنالك رجوع، فإن الحياة الدنيا مرة واحدة، ثم بعدها الوفاة ثم البعث والجزاء في دار الخلود إما جنة وإما نار، فهذه هي الحياة الباقية.

    والله عز وجل قضى أن لا رجوع إلى الدنيا، قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100] ولو أعاد الله الكفار إلى الدنيا فإنهم سيعملون ما حرم الله عليهم، فالله يعلم بتقلبات قلوب عباده، فيعلم جحود من جحد وكفر من كفر وإيمان من آمن، ويعلم أن الكفار لو عادوا إلى الدنيا فإنهم سيرجعون إلى الكفر والجحود، قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28] أي: لكاذبون فيما يدعون.

    وقوله تعالى: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أي: في وقت الوفاة، عندما تنزل عليهم ملائكة من نار جهنم والعياذ بالله، معهم مسوح من النار لتأخذ أرواحهم فيها، فعندما يرون هؤلاء الملائكة إذا بهم من شدة الرعب والذعر تتفرق أرواحهم في أجسادهم فتسحبها الملائكة وتخرجها بقوة، فيتمزق منها العروق والعصب كالشوك الكثير الشعب في الصوف المبلول.

    فإذا وضعت صوفاً مبلولاً وبداخله أشواك مختلفة ومتفرعة وحاولت أن تسحب الشوك فإن الصوف يتمزق، والشوك يتكسر، فهؤلاء تنزع أرواحهم بهذه الطريقة، تتفرق في أجسادهم من شدة الرعب فتسحب وتؤخذ بقوة، ويقال لها: أيتها النفس الخبيثة! كنت في غضب من الله فاخرجي إلى غضب من الله سبحانه وتعالى.

    فهذا في الفجار، وهذا أول ما يكون مما يرون من العذاب، ثم إذا حملوا على النعش وذهب بهم إلى قبورهم فإن روح كل منهم تقول: يا ويله! إلى أين تذهبون به؟ لا يريد أن يصل إلى القبر؛ لأنه يعرف ما الذي ينتظره هنالك، فسوف ينزل إلى القبر فيجده حفرة من حفر النيران والعياذ بالله.

    فهذا العبد يقول: (هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)، والجواب: لا، ليس هناك مرد مرة ثانية، فإذا قامت الساعة فإن الكافر أو الفاجر في قبره عندما يفتح له باب إلى النار فيرى ما ينتظره هنالك فإنه يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة.

    والمؤمن يرى النعيم الذي هو فيه وهو في القبر ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا منزلك من الجنة، فيقول: رب أقم الساعة، كي أعود إلى أهلي ومالي في الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته ورحمته سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ...)

    قال الله تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [الشورى:45] أي: إذا قامت القيامة فإنه يعرض الذين كفروا على النار، قال تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20] أي: ما أعطيناه لكم من طيبات الدنيا فإنكم ضيعتموها في معصية الله، وفي الكفر والشرك بالله، وفي طلب الملاذ المحرمة، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20] أي: الإهانة والتحقير والخلود في النار والسعير بسبب ما كنتم تصنعونه في الأرض من استكبار، فهذا الجزاء بسبب ما عملتم من معصية الله، واستحققتم هذا الذي نالكم، فيعرضون على النار ويعذبهم الله سبحانه وتعالى فيها ويقول لهم: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30].

    فتأمل منظر هؤلاء عندما يعرضون على النار، فلو أن إنساناً أوقد له نار وقيل له سنقذفك فيها، ثم يدفع إلى النار وهو ينظر إليها ويرى العذاب أمامه وسيدخل فيه، فهذا مثل هيئتهم التي يصورها القرآن العظيم.

    وقوله تعالى: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) أي: في غاية الذل وهم يساقون إلى نار جهنم، فلا ينفعهم الخشوع الآن فقد كانوا في الدنيا مستكبرين، واستعلوا بأنفسهم على خلق الله، وأفسدوا في الأرض وابتغوا فيها الفساد، فلا ينفعهم في هذا اليوم الخشوع.

    وقوله تعالى: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) انظر إلى منظر هؤلاء وهم ينظرون من طرف خفي، تأمل إنساناً مصبوراً موثوقاً مكتفاً يسوقونه للإعدام، والسياف آخذ بالسيف وسيضربه على رقبته، فهو ينظر إلى هذا السيف من طرف خفي، لا يقدر أن يفتح عينه بكاملها؛ لأنه مرعوب، فهو يسارق النظر إلى السيف متى سينزل عليه؟ وكذلك عندما توضع نار أمام إنسان ويدفع إليها فإنه من شدة الخوف ينظر إليها من طرف خفي، فلا يقدر أن يفتح عينيه لينظر إليها، فكيف به وقد أعماه الله عز وجل، قال تعالى: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:102] وهكذا الكفار قد أعمى الله عز وجل أعينهم فاستشعروا بهذه النار بقلوبهم وبأبدانهم، ومنهم من ينظر إليها ويسارقها ويراها، قد غارت أحداقهم بداخل محاجرها، واختفت من شدة الذل وما يرونه من العذاب أمامهم.

    الخسران الحقيقي هو يوم القيامة

    وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا) فالمؤمنون الآن يتكلمون، فقد كانوا في الدنيا مكتوماً على أنفاسهم لا يتكلمون من هؤلاء الفجرة الكفرة المجرمين، فلما أدخل المجرمون النار فرح المؤمنون برحمة رب العالمين عليهم وحمدوه على ذلك، (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: ذهب منهم كل شيء كان معهم في الدنيا، فقد كانوا ملوكاً وحكاماً وأمراء وكان معهم في الدنيا أشياء كثيرة، أما في يوم القيامة فلا يبقى معهم شيء من أشياء الدنيا، قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:22-26].

    أي: لا يقدر أن ينصر بعضهم بعضاً، فأين ذو الأكتاف الذي كان يقول: سنقف على باب جهنم؟ قال الله تعالى: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) أي: قد أذلهم الله سبحانه بما استكبروا في الدنيا على خالقهم، دعوا إلى دين الله فأبوا واستكبروا، ورفعوا أصواتهم على خلق الله سبحانه، فالآن يجزون عذاب الهون بما كانوا يستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كانوا يفسقون.

    قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) هذا هو الخسران الحقيقي، أما الخسران في الدنيا كخسارة الأموال، أو تعذيب الظلمة لنا ونحو ذلك فهذا ليس خسراناً حقيقي، والخسران الحقيقي هو أن هذا الإنسان لا يملك شيئاً، ويقاد إلى نار جهنم وقد غلت يداه إلى عنقه ولا يقدر على الفكاك، ويرى النار ولا يجرؤ أن يفتح نظره إليها والعياذ بالله، قال الله عز وجل في سورة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم:43].

    والناس في هذا اليوم منهم من أعماه الله فلا يرى شيئاً، ومنهم من يبصر ولكنه قد أغمض عينيه من شدة الرعب والخوف فلا يقدر أن ينظر في هذه النار.

    ومعنى قوله تعالى: (مُهْطِعِينَ) أي: مسرعين تدفعهم الملائكة وتسوقهم إلى النار وهم منقادون معهم.

    ومعنى قوله تعالى: (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) (قنع) من الكلمات التي لها معنيان متضادان، فهي بمعنى: رفع رأسه، وبمعنى: خفض رأسه، والصورتان في بعضهم البعض، فهم قد خفضوا رءوسهم من الذل أو قد رفعوها من الرعب ينظرون أمامهم إلى النار.

    ومعنى قوله تعالى: (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، أي: قد أحدقوا النظر إلى النار لا يرون غيرها والعياذ بالله.

    أما أفئدتهم فقد ذهبت من صدورهم إلى أعناقهم وحل محلها الهواء من شدة الرعب والخوف في هذا اليوم، قال تعالى: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، لقد كان يشغلهم في الدنيا المال والبنون والزوجة حتى صارت قلوبهم فارغة قد امتلأت بالغم والهم والرعب والخوف والجبن في هذا اليوم العظيم.

    أما المؤمنون فقد فرحوا برحمة الله فهم في حبور وسرور وفرح.

    والإنسان يجمع الدنيا كلها من أجل أن يخلد فيها، فهو يريد أن يعيش، أما في يوم القيامة فقد فقدَ نفسه التي يحميها ويدافع عنها، فهي تدخل الجحيم والعياذ بالله، فهذا الخسران هو أعظم الخسران عندما خسر نفسه التي كان يفديها بأي شيء في الدنيا.

    وكذلك خسر أهله، فقد كان في الدنيا له أولاد ونساء يستمتع بهم وكانوا كفاراً فكلهم يدخلون النار، فكل واحد له عذابه وله سجنه الذي هو فيه وإذا كانوا معه يتبرأ كل منهم من الآخر.

    فإذا كان أهله مؤمنين فاستحقوا الجنة كامرأة فرعون فمستحيل أن يراهم بعد ذلك، أو أن ينال منهم شيئاً، فإن كانت زوجته فقد ضاعت منه وورثها غيره من أهل الجنة فصارت له، فقد خسر أهله أعظم الخسران ويقاد إلى النيران، ويقال له: هذا منزلك في الجنة لو أنك آمنت بالله تعالى، فأننت محروم من دخول الجنة.

    والكفار لهم منزلة في الجنة وفيها الحور العين، فأورثها الله عز وجل للمؤمنين، فكان على هؤلاء أعظم الخسران والحرمان والندم والشقاء حين ضاعت الجنة وضاع كل هذا الجمال وكل هذا الذي فيها وأخذها المؤمنون.

    هؤلاء الذين كانوا ينظرون إليهم في الدنيا عبيداً وخدماً فيقول أهل النار: مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنْ الأَشْرَارِ [ص:62] كانوا معنا في الدنيا، وكنا نظنهم من الأشرار الحثالة الذين ما لهم قيمة أين هؤلاء؟ يبحثون عنهم في النار ولم يجدوهم.

    ثم عرفوا أن هؤلاء دخلوا الجنة: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72] فاز المؤمنون فأخذوا الجنة العظيمة، وخسر الكفار والفجار فدخلوا النار.

    قال سبحانه: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ) أي: الخسران الحقيقي (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ).

    روى ابن ماجه في الحديث الذي صححه الشيخ الألباني عن أبي هريرة قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا له منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار)، أي: كل إنسان له مكانان مكان في الجنة، ومكان في النار، فإن عمل صالحاً دخل الجنة، وإن عمل غير صالح دخل النار، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله)، أي: أخذوا نصيب الكفار من الجنة، قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11].

    والنار يملؤها الله عز وجل بالكفار فلا تمتلئ، وتظل هكذا وهي تقول: هل من مزيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط.. قط)، أي: يزجرها الله عز وجل فتقول: اكتفيت فتسكت.

    والجنة واسعة عظيمة لا تمتلئ بأهلها وكلما أعطاها الله عز وجل من أهلها فهي لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقاً آخر، أي: يخلق لها خلقاً لم يذنبوا قط ويجعلهم في الجنة ينعمون فيها.

    يقول ربنا سبحانه: (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) (إن) للتحقيق والتأكيد، فالظالمون يقيناً في عذاب مقيم خالد لا يفنى ولا يزول عنهم، ويظلون في نار جهنم، كما قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] أي: يبدل الله عز وجل جلودهم، وهذا أصعب ما يكون من العذاب، وكذلك إذا اخترقت أمعاؤه ومعدته كأن يحصل للمعدة قرحة فيتألم الإنسان ألماً شديداً جداً، ولو أن القرحة فتحت المعدة وخرقتها لكان الألم مثل الموت تماماً.

    فهؤلاء تتمزق أمعاؤهم في النار، قال تعالى: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:20-22].

    فعذابهم في النار كلما نضجت جلودهم وتفحمت وظنوا أنهم سيموتون ويرتاحون من العذاب، فإذا بجلودهم تتبدل مرة ثانية وثالثة وهكذا أبداً، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] ويقال لهم: ذوقوا عذاب السعير والعياذ بالله وهم في عذاب مقيم دائم لا ينقطع.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ...)

    قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:46] أي: من الذي يتولى أمرهم ويدافع عنهم؟ فإن ذهبوا إلى الشرق أو إلى الغرب من أجل أن ينصروا من دون الله، فليس لهم أحد يجيرهم من عذاب الله سبحانه.

    قال تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ)، وسبق قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ [الشورى:44] وختم بقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي: ليس له طريق للهداية يصل بها إليه، لأن الله قد أعمى بصره وبصيرته فلا ينتفع بما جاءه من عند الله سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ...)

    ينادي ربنا سبحانه خلقه فيقول: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [الشورى:47].

    قوله: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي: الحقوا أنفسكم فقد أعذر الله وأنذر خلقه وبصرهم وبين لهم، فلا عذر لأحد بعد البيان؛ لأنهم يؤمنون أنه الرب، وكان الكفار إذا سئلوا: من ربكم وخالقكم؟ قالوا: الله، ولكنهم لا يؤمنون.

    فيقول لهم: استجيبوا للرب الخالق سبحانه الذي يدعوكم إلى توحيده وعدم الشرك به: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) ونكر اليوم تعظيماً له، أي: يوم فضيع وعظيم وهو يوم القيامة لا مرد له من الله، وقوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ)، أي: مستحيل أن يُرّد هذا اليوم، فلا يقدر أحد أن يؤخره يوماً ولا ساعة.

    وقرأ حمزة هذه الآية بمد (لا) النافية متوسطاً فيها للمبالغة في النفي، وليس هنا همزة حتى تمد، وإنما هذا النوع من المد يسمى للمبالغة في النفي، أي: أنه مستحيل أن يرد هذا اليوم، كما قرأ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] بمد مبالغة في النفي، أي: أنه مستحيل أن يشك في هذا أنه من عند الله سبحانه وتعالى.

    وقوله تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي: إلى أين تلجئون؟ قال تعالى: لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة:118] أي: ما لكم حصن تتحصنون فيه من عذابه، والإنسان يلجأ إلى الشيء الذي يجيره ويعيذه ويعصمه، وهذا الملجأ يوم القيامة لا يكون إلا إلى الله.

    ومعنى قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي: لا تقدرون على الإنكار؛ لأنه تشهد عليكم جلودكم وأيديكم وأرجلكم وأنفسكم وأبدانكم فلا تقدرون على الإنكار أمام الله سبحانه، ولا تجدون من ينكر على الله ما يصنع بكم، أما في الدنيا فقد ينكر على فلان ما هو فيه من شر، كأن يضرب خادمه، فمن هذا الذي ينكر على الله أن يعذب هؤلاء في النار؟ لا أحد، فهو القائل جل شأنه: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16] فلا يستطيع أحد أن يجيب، فيجيب نفسه ويقول: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً ...)

    قال الله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ [الشورى:48].

    قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي: أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم ظهورهم، ورفضوا أن يدخلوا في دينه صلوات الله وسلامه عليه، (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن حزناً شديداً لعدم إيمان هؤلاء الكفار، وكان كلما دعاهم إلى الإسلام ازدادوا عتواً واستكباراً، ونفروا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتولوا عنه وأعطوه أدبارهم، فكان يحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، قال تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6] أي: إنك ستهلك نفسك من أجل أن يؤمنوا، فلست عليهم بوكيل، قال تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22].. فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80].

    والحفيظ هو الذي يحفظ عليهم أعمالهم ويحاسبهم بها، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي سوف يحاسبهم وإنما هو الله، فهو الحفيظ الذي يحيطهم فيحفظهم ويمنعهم من الوقوع في الكفر، ولا يقدر على ذلك عليه الصلاة والسلام.

    قال تعالى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ).

    فوظيفته أن يبلغ رسالة الله سبحانه فقط ولا يكرههم على هذا الدين، قال تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256].

    وقوله تعالى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ) (إن) بمعنى ما، فهنا أسلوب قصر، أي: ما عليك إلا البلاغ، فليس النبي مسيطراً على الخلق، فلا يملك قلوبهم فيحولها من شيء إلى شيء آخر، إنما الله عز وجل هو القادر على كل شيء.

    وقوله تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) (إنا) هنا أتى بنون العظمة فهو الخالق القادر سبحانه وعادة الإنسان كما قال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:6-8].

    ومعنى كنود أي: جحود.

    وقوله تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ) أي: جنس الإنسان، وكل إنسان فيه من ذلك بحسبه، فالمؤمن يعصمه الله فإذا وقع في المعاصي كان له نصيب من ذلك فتأتيه رحمة الله فلا يغتر الإنسان بها.

    أما إذا وقعت عليه المصيبة فإنه يقع في اليأس، قال تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا) أي: إذا أتاه مال أو صحة أو عافية أو منصب أو زوجة حسناء أو أولاد أو بيت حسن فإنه يفرح بهذا الشيء.

    قال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) فالسيئة جاءت بما كسبت أيديهم فاستحقوا ذلك بذنوبهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى الشوكة يشاكها يكتب له بها أجر)، أي: يكون ذلك بما كسبت يداه فيكون له أجر من الله عز وجل على ذلك.

    قال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ) أي: جحود، يقول: لماذا يا رب في كل وقت تأتي لي بمصيبة؟ ونسي أن الله أعطاه الزوجة الحسناء والأولاد والبيت الواسع والوظيفة المناسبة، فينسى كل هذا بمجرد أن جاءت له مصيبة من المصائب، فهذا ينكر النعم فيجحدها.

    قال تعالى: (فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ) أي: يكفر بربه ويكفر بنعم ربه سبحانه فيسترها ولا يذكرها، ولا يحمد ربه سبحانه وتعالى عليها، قال الله عز وجل: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:189] فإن الله سبحانه وتعالى يملك السماوات والأرض ويملك كل شيء سبحانه وتعالى.

    وعنده ملائكته يحمدونه ويشكرونه سبحانه وهو الغني الملك، وهو قادر على أن يعطي وأن يمنع، فإذا شكرتم فلأنفسكم، وإذا كفرتم فإنما تضرون أنفسكم.

    فشكر الله على نعمه سبب لدوامها، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] والكفر بنعم الله سبحانه وجحدها كمن يقول: الله ما أعطاني شيئاً! فهذا سبب لمنع رزقه وفضله سبحانه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755938815