إسلام ويب

أحوال القلوبللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد جعل الله تعالى من قلوب عباده القلب السليم، وهو قلب المؤمن الذي سلم من الشرك والبدعة والشهوة المحرمة والشبهة، وجعل منها القلب الميت، وهو قلب الكافر، وجعل منها القلب المريض، وهو الذي تمده مادة فيها حياته؛ وهي محبة الله، ومادة فيها هلاكه؛ وهي محبة سوى الله والتلوث بأوضار الشهوات والشبهات، وعلاج هذا البلاء هو القرآن الكريم تلاوة وعملاً.

    1.   

    أقسام القلوب

    الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين.

    ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ[الأنفال:42].

    فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً.

    أما بعد:

    عباد الله! أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ[الأنعام:134].

    لما كانت القلوب -عباد الله- توصف بالحياة وضدها، قسم العلماء القلوب إلى ثلاثة أقسام هي: القلب الصحيح أو السليم، والقلب المريض أو السقيم والقلب الميت.

    وقالوا في تعريف القلب السليم: هو القلب الذي قد صارت السلامة صفة له، فقد سلم مما سوى الله عز وجل، فإذا أحب أحب في الله، وإذا كره كره في الله، وإذا أعطى أعطى في الله، وإذا منع منع في الله، ولا تتم سلامة هذا القلب، حتى يعقد صاحبه مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عقداً محكماً مبرماً على الائتمام به في جميع أقواله وأفعاله، فسلم من عبودية غير الله عز وجل، ومن اتباع غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يدخل الجنة إلا من أتى الله عز وجل بقلب سليم، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

    القلب الميت: فهو الذي أخلص العبودية لهواه، فإذا أحب أحب لهواه، وإذا كره كره لهواه، وإذا أعطى أعطى لهواه، فهواه آثر عنده من رضا مولاه، والدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، ينادى إلى الله والدار الآخرة من مكان بعيد فلا يستجيب إلى الداعي، ويتبع كل شيطان مريد، فصاحب هذا القلب واقف مع حظوظه وشهواته، لا يبالي رضي الله عنه أم سخط، كما قال الله عز وجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ[الجاثية:23].

    قال بعض السلف: هو الذي كلما هوى شيئاً ركبه.

    كلما زينت له نفسه فعل شيء فإنه يفعله، لا يحجزه شيء من تقوى الله عز وجل، ولا يدفعه شيء إلى حب الله عز وجل.

    وبين القلب السليم والقلب الميت القلب السقيم: وهو الذي تمده مادتان، ففيه من محبة الله عز وجل والدار الآخرة ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها ما هو مادة هلاكه وعطبه، فقد يدعوه الداعي إلى الله عز وجل فيستجيب له، وقد يدعوه إلى غير الله عز وجل فيستجيب له.

    فالقلب الأول: حي مخبت واعٍ، والثاني: يابس ميت، والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى الموت أدنى.

    يقول حذيفة رضي الله عنه: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي فذلك قلب المنافق، وقلب تمده مادتان، مادة إيمان، ومادة نفاق فهو للغالب عليه منهما.

    ومعنى قلب أجرد، أي: متجرد مما سوى الله عز وجل، قد أخلص عبوديته ومحبته لله عز وجل.

    وفيه سراج يزهر: أي: فيه مصباح يضيء، وهو المؤمن الذي وصفه الله عز وجل بقوله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام:122].

    فالمؤمن في قلبه مصباح يضيء يميز به بين الشبهات والدلائل الواضحات، وبين البدعة والسنة، والهدى والضلال، ففي قلبه فرقان يفرق به بين الحق والباطل.

    وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وهو الذي قد دخل قلبه في غلاف فلا يخرج منه كفر ولا يدخله إيمان، كما قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ[البقرة:6].

    والقلب الثالث: قلب منكوس عرف ثم أنكر، عرف بعقله وقلبه، وأنكر المحبة والانقياد، فهو يعرف الحق، ولكنه يتنكره ولا يرضى به، فلا يستقر في قلبه، ولا يطمئن به، فيشبه قلبه بالإناء المنكوس الذي لا يستقر فيه شيء، فكلما وضع فيه شيء فإنه يسقط منه، وهكذا قلب المنافق، فهو منكوس يسقط منه كل خير، ولا يستقر فيه.

    وقلب تمده مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، فهو للغالب عليه منهما، وهو القلب المريض أو السقيم.

    فقد يقول قائل: هل ولدنا وكل عبد وحظه من أقسام القلوب، فمنا من ولد بقلبٍ حي سليم، ومنا من ولد بقلب ميت، ومنا من ولد بقلب مريض؟

    فالجواب: إن الله عز وجل خلق عباده حنفاء على فطرة سليمة، وعلى قلب أبيض قويم، حتى إذا بلغ العبد الحنث فإنه يتعرض للفتن وللشهوات وللشبهات، فتنقسم القلوب عند ذلك إلى قسمين: قلب كلما تعرض لفتنة فإنه يتشربها ويفتتن بها فيسود القلب وتذهب حياته، ويسقم أو يموت.

    وقلب يدفع الفتن والشبهات والشهوات لسلامته، فيزداد إشراقه وبياضه، وتزداد مناعته من الذنوب والمعاصي والشبهات والشهوات، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض).

    1.   

    آفات القلب إذا تشرب الفتن

    إن القلب الذي يشرب الفتن ينتكس حاله، ويصاب بآفتين عظيمتين متضامنتين إلى هلاكه وعطبه.

    اختلاط الحق بالباطل على القلب

    الآفة الأولى: أنه يختلط عليه الحق بالباطل، والهدى بالضلال، والطاعة بالمعصية، فلا يفرق بين طاعة ومعصية، ولا بين بدعة وسنة.

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً): أي: عليه ربدة، وهي: لون التراب.

    وقوله: (كالكوز مجخياً): كالكوز الذي قد علاه الصدى، المقلوب الذي لا ينتفع به وليس فيه خير وليس بحسن المنظر والمظهر.

    فانظروا -عباد الله- كيف تؤثر الذنوب والمعاصي في القلوب؟ والله! لو نظر العبد نظرة محرمة لوجد غبها وأثرها وشقاءها في قلبه، فكيف بمن يقارفون الزنا، وشرب الخمر، وقتل النفس التي حرم الله؟ أفلا يؤثر ذلك على القلوب؟! بلى والله إنها تؤثر، وينتكس القلب، ويشتد عطبه وهلاكه حتى لا يستطيع العبد أن يميز بين هدى وضلال، وبدعة وسنة، فيصير القلب قبيح المنظر والمخبر، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه.

    اتباع صاحب القلب لهواه

    والآفة الأخرى: أن صاحب هذا القلب يتبع هواه، وإذا أعرض العبد عن شرع الله عز وجل وقع في اتباع الهوى.

    فإما أن تكون متبعاً لشرع الله عز وجل؛ معظماً له، تتقيد بشرع الله، وتتكلم بشرع الله، وتعمل بشرع الله عز وجل، وإما أن تكون متبعاً للهوى، كما قال الله عز وجل: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى [ص:26].

    فاتباع الهوى يكون بعد الإعراض عن شرع الله عز وجل، قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، وأكثر الناس اليوم يتبعون أهواءهم، لا يقيدهم شرع الله عز وجل، ولا يقومون ولا يعملون به، سواء في ذلك الحكام أو المحكومين، الكل يتبع الهوى ويتخذ الهوى إلهاً من دون الله عز وجل، لا يعظمون الله عز وجل، ولا يعظمون شرع الله عز وجل، فخاض الناس في طريق الهوى، والهوى يهوي بصاحبه في الدنيا والآخرة؛ يهوي بصاحبة إلى قمة الرذائل والفواحش والمنكرات في الدنيا، ويهوي به في النار يوم القيامة.

    عباد الله: إن من اتبع الهوى ضاعت عليه مصالح الدنيا والآخرة، وخسر في الدنيا والآخرة: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، أي: ينفرط عليه أمره، وتذهب عليه مصالحه؛ فهذه آفة من الآفات التي تصيب القلب الذي يشرب الفتن، والذي يفتتن بالفتن يقع في اتباع الهوى إلا ما أشرب من هواه.

    أما القلب الذي لا يشرب الفتن والذي ينكر المنكر ولا يفتتن بالشبهات فإنه يزداد إشراقه وبياضه، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض.

    والقلوب -عباد الله- خلقت لمعرفة علام الغيوب وغفار الذنوب عز وجل، فلا حياة لها، ولا صلاح لها ولا سعادة لها إلا في ذلك، والصحابة أطباء للقلوب، أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، تربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، علماء في أحوال القلوب وفي أقسام القلوب، يقول عبد الله بن مسعود لرجل: داو قلبك، فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، أي: مراد الله عز وجل من العباد صلاح قلوبهم.

    والعمل الصالح يثمر صبغة وصلاحاً في القلوب، فقد تكون أعمال العبد كثيرة ولكن فيها رياء أو عجب، أو غير اتباع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالعمل الصالح هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي ينتج عن الإخلاص والذي لا يفعله صاحبه عجباً ولا رياء، ولذلك قال الله عز وجل: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]، ما قال: من أتى كذا وكذا من الأعمال، ولكن جعل الدخول إلى الجنة بالقلب السليم، ومدح إبراهيم إمام الحنفاء وأبي الأنبياء، بقوله عز وجل: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84]، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام سليم القلب من الشرك، والولاء لغير الله عز وجل، شديد المحبة لله عز وجل، مخلص الدين لله عز وجل، ألزمه الله عز وجل بملته وبشريعته، فقال: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، وقال: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123].

    1.   

    بعد الصحابة عن اتباع الهوى وصلاح قلوبهم

    إن العبد إذا أصيب قلبه باتباع الهوى فإنه يضل عن مصالحه في الدنيا والآخرة، فالصحابة كانوا يعلمون أن المدار على القلوب، وأن النجاة ببر القلوب، وأن العبد يسبق بقلبه وبأحواله الإيمانية أكثر مما يسبق به أصحاب الاجتهاد في الأعمال الظاهرة، كما قال ابن مسعود للتابعين: لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم كانوا خيراً منكم؛ كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة، فيخبر ابن مسعود رضي الله عنه التابعين أنهم أكثر اجتهاداً في العبادة؛ فهم أكثر صلاة وصياماً وقياماً، ولكن الصحابة سبقوا ببر القلوب، فقد تهيأت لهم أحوال، وصاحبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعاصروا التنزيل، فارتفعت أحوالهم الإيمانية، فلا يمكن أن يسبقهم من بعدهم، وإن اجتهد أكثر من اجتهادهم في الصلاة والقيام وتلاوة القرآن؛ لأن السبق سبق القلوب.

    من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول

    فآيات الصدق والبذل والتضحية في جيل الصحابة رضي الله عنهم كانت مجيدة؛ لأن قلوبهم وصلت إلى درجة عالية جداً من الأحوال الإيمانية من محبة الله، والإخلاص لدين الله عز وجل والرضا بالله عز وجل رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً، فلما انتفعت قلوبهم، وحسنت أحوالهم الإيمانية، وجدت مواقف إيمانية في البذل والتضحية لله عز وجل، ووجدت الأعمال التي تصدق ما في القلوب من إيمان.

    فلم يمكن للتابعين أو من بعدهم أن يلحقوا بهم أو يجدوا أثراً من غبارهم في ذلك، فقد سبقوا سبقاً بعيداً رضي الله عنهم، وذلك لأنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد العابدين، قال بعض الصحابة: إن الله عز وجل نظر في قلوب الخلق فرأى قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أنقى قلوب الخلق فاصطفاه الله عز وجل برسالته، ثم نظر في قلوب الخلق فرأى قلوب الصحابة رضي الله عنهم أنقى قلوب الخلق بعد قلب النبي صلى الله عليه وسلم فجعلهم وزراء نبيه، فارتضاهم الله عز وجل لصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إنهم ازدادوا صفاء، وإيماناً، ومحبة لله عز وجل وبذلاً لإعلاء دين الله عز وجل؛ لأنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    يقول أنس رضي الله عنه معبراً عن حال الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: ما نفضنا أيدينا من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا، أي: بمجرد أن دفنوا الجسد الشريف تغيرت قلوبهم؛ لأنهم فقدوا مصدراً عظيماً من مصادر الصفاء النفسي، والعلو الإيماني الذي كانوا يجدونه بمعاشرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    أما حساسيتهم من الذنوب: يقول أنس رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، وأنس رضي الله عنه لا يخاطب أمثالنا، ولكنه يخاطب الجيل المفضل الثاني بعد جيل الصحابة رضي الله عنهم، قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وقال أيضاً: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30].

    فالمدار على القلوب، فقد خلقت لمعرفة علام الغيوب، وغفار الذنوب عز وجل، فلا تسعد إلا بذلك؛ لا تسعد بالجاه ولا بشهوات ولا بدنيا ولا بأعراضها ولا شهرتها ولا زينتها، قال عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فلا تسعد إلا بالله، ولا تصلح إلا بالله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، فالعبد الذي في قلبه غير الله لابد أن يشقى بذلك، فإن القلب مثل السماوات والأرض: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، فكذلك قلوب العباد لو كان فيها آلهة إلا الله عز وجل لفسدت بذلك فساداً لا يرجى له صلاح، حتى تعرف ربها عز وجل وتوحده عز وجل.

    1.   

    مرض القلوب بالشبهات والشهوات

    والقلوب تمرض بنوعين من المرض، بأمراض الشبهات أو الشهوات، فأما أمراض الشهوات فكقول الله عز وجل لأمهات المؤمنين، وبالأولى جميع نساء الأمة: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، فإن المريض يضره ما لا يضره السليم، والسليم يدفع بصحته وسلامته كثيراً مما لا يتحمله المريض؛ فيأمر الله جل نساء بألا يخضعن بالقول؛ لأن هذا يؤثر في الذي في قلبه مرض الشهوة.

    وأمراض الشبهات، كقول الله عز وجل: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، قال مجاهد وغيره: في قلوبهم شك من لقاء الله، ومن وعد الله عز وجل، ومن صدق الله عز وجل.

    فالقلوب تمرض بالشبهات أو الشهوات، وعلاج ذلك كله في كتاب الله عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82].

    فعلاج الشبهات والشهوات في القرآن، فالقرآن فيه من الأدلة البصرية والبراهين الواضحة الساطعة، وفيه من الدلائل والبينات ما يزيل كل شبهة من قلب العبد، وفيه من التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن زينة الدنيا والاهتمام بالآخرة، ما يزهد العبد من الدنيا وشهواتها؛ فيزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة، فيعالج بذلك القرآن أمراض الشبهة والشهوة، وبذلك كان العلاج بالقرآن، وكانت تلاوة القرآن من أنفع العبادات للقلب، كما قال خباب بن الأرت : تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه.

    وكان ابن مسعود يقبل المصحف ويقول: كلام ربي كلام ربي.

    وقال عثمان رضي الله عنه: لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم.

    فلو سلمت القلوب لأحبت القرآن، ولانسجمت معه؛ لأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، وسبب انصراف الناس عن سماع القرآن وتلاوته لما في قلوبهم من شبهات وشهوات، فلو سلمت قلوبهم لأحبت القرآن، وتوافقت معه، وصار العبد لا يستغني عن سماعه وتلاوته ليل نهار.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    أهمية نعمة الوقت

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستعديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مع قدوم الإجازة الصيفية عباد الله لنا نصيحتان لإخواننا من الشباب ولعموم الناس.

    النصيحة الأولى: أن نحرص على الأوقات، وألا نضيعها في غير الطاعات، فإن عمر العبد رأس ماله، وإن من أعظم نعم الله عز وجل علينا نعمة العمر، ونعمة الوقت، ونعمة الليل والنهار، ونعمة الأنفاس، كما قال عز وجل: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:33-34]، وقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62].

    قال بعض السلف: من فاتته طاعة الله عز وجل في الليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن فاتته طاعة الله عز وجل بالنهار كان له من أول الليل مستعتب.

    فينبغي علينا -عباد الله- أن نعرف قيمة الوقت والنفَس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، والمغبون الذي باع شيئاً بأقل من ثمنه، أو اشترى شيئاً بأكثر من ثمنه، ويوم التغابن هو يوم القيامة؛ لكثرة المغبونين فيه، فأكثر الناس لا يعرفون نعمة الوقت والزمن والأنفاس، فلا يعمروا ذلك بطاعة الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه).

    فينبغي علينا -عباد الله- أن نعرف شرف الوقت وشرف النفَس، فمن علامة المقت أضاعت الوقت، وعلامة التوفيق أن تكون أنفاس العبد في طاعة الله عز وجل، وأن تكون أوقاته معمورة بطاعة الله عز وجل، قال الشافعي : صحبت الصوفية فما استفدت منهم إلا حرفين: الحرف الأول: الوقت كالسيف فإن لم تقطعه قطعك، والحرف الثاني: النفس إن لم تشعلها بالحق شغلتك بالباطل.

    وهذا كلام يكتب بماء الذهب، فالوقت كالسيف إن لم تقطعه بطاعة الله عز وجل قطعك أي: أنفقته في غير طاعة الله عز وجل، فكان هلاكك في ذلك، والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، فالذي لا يكون مشغولاً بالدعوة إلى الله عز وجل أو بطاعة الله عز وجل، فإن نفسه ستشغله بمعصية الله عز وجل، فتضيع عليه حياته في غير طاعة الله عز وجل فيهلك ولابد.

    1.   

    أهمية غض البصر

    النصيحة الثانية: وهي أننا وصلنا إلى موسم الصيف موسم البلايا، موسم التبرج والفجور والسفور، فننصح أنفسنا بغض البصر، كما قال الله عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:30-31].

    فأمر الله عز وجل المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وبين الله عز وجل أن شأن المؤمنين الامتثال لأمر الله عز وجل، فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، والتقدير: إن قلت للمؤمنين غضوا يغضوا؛ لأن شأن المؤمن أن يلتزم بأمر الله عز وجل، فهذا أزكى للعبد وأنفع له في الدنيا ولآخرة، فالعين رائد القلب؛ ولذلك قرن الله عز وجل بين الأمر بغض البصر وحفظ الفرج.

    كما قال بعضهم:

    وكنت متى ما أطلقت طرفك يوماً رائداً لقلبك أتعبتك المناظر

    رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

    فالعين عباد الله! رائد القلب، فإذا ألفت العين ألف القلب.

    ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: اصرف بصرك)، أي: إذا وقع بصر العبد على محرم من غير قصد ونية، فالواجب على المسلم أن يصرف بصره لله عز وجل، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق البصر زنا تنفيراً من هذه المعصية، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه)، فالنبي صلى الله عليه وسلم نفر من إطلاق البصر وسمى ذلك زنا.

    كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

    كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر

    والمرء مادام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر

    يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

    ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح

    وتظن ذاك دواء جرحك وهو في التحقيق تجريح على تجريح

    فقتلت قلبك باللحاظ وبالبكاء فالقلب منك ذبيح أي ذبيح

    الناظر يرمي بسهام غرضها قلبه، فكل نظرة كأنها سهم يوجه إلى قلبه، فينبغي على العبد عباد الله أن يغض بصره لله عز وجل، وأن يحفظ فرجه، وأن يشتغل بطاعة الله عز وجل، وأن يعرض عن أماكن الاختلاط والمجون، وأصحاب السوء وأهل الأسواق والملاهي، والأماكن التي هي مظنة كثرة التبرج والاختلاط بين الرجال والنساء.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا من مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

    اللهم عليك بالطواغيت والجبابرة يا رب العالمين!

    اللهم عليك بالذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً.

    اللهم عليك بالعلمانيين والمنافقين، والذين ينفذون مخططات الغرب والشرق الكافرة في بلاد المسلمين.

    اللهم دمرهم تدميراً، والعنهم لعناً كبيراً، وطهر منهم البلاد، وخلص منهم العباد يا رب العالمين!

    اللهم إنا نسألك أن ترزقنا توبة نصوحاً.

    اللهم اهد شباب المسلمين.. اللهم اهد أطفالنا وأطفال المسلمين.. اللهم اهد نساءنا ونساء المسلمين يا رب العالمين! وألزمهم بالعفة والحياء والحجاب يا رب العالمين!

    اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً.

    وصل اللهم وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756005255