إسلام ويب

تفسير سورة الملك [1-30]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    بين يدي سورة الملك

    سورة الملك هي السورة السابعة والستون في ترتيب المصحف الشريف، وسميت بالملك لاشتمالها على كثير من آثار المُلك، من كثرة الخيرات وعموم القدرة والإحياء والإماتة، واختبار أعمال الناس، والغلبة، والغفران، وعدم التفاوت في رعاياه، وتزيين بلاده، والقهر على الأعداء، والترحم على الأولياء، والأمن ورخص الأسعار، وألا يقدر أحد على نصر من عاداه، فهذه كلها من آثار الملك، وهذه المعاني في عامتها مما تناولته هذه السورة الكريمة؛ فمن ثم سميت سورة الملك، وتسمى أيضاً سورة تبارك. وهي سورة مكية، وآيها ثلاثون آية. وقد صح في فضلها على الخصوص أحاديث، ولا توجد سورة في القرآن ليس لها فضل، فكل السور لها فضل، ويدل على هذا العمومات الواردة في ثواب وفضيلة من قرأ حرفاً من كتاب الله أو من قرأ القرآن كله، لكن قد ثبتت بعض الأحاديث في فضيلة بعض السور بخصوصها، وهذا تماماً كما في شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: فهل الصحابي الذي لم يثبت بخصوصه حديث ليس له فضائل؟ معاذ الله! وإنما له فضل، وهو يدخل في عموم الآيات والأحاديث التي تثني على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهذه فضائلهم أجمعين، لكن يأتي في شأن بعض الصحابة فضائل خاصة، وكذلك هذه السورة ثبت في فضلها بخصوصها بعض الأحاديث، منها: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي (تبارك الذي بيده الملك)). وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة، (تبارك الذي بيده الملك)). وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ضرب بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر) قال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه. وقوله: (خباءه) يعني: خيمته. قوله: (على قبر) يعني: على موضع قبر. قوله: (وهو لا يحسب أنه قبر) يعني: لا يظن أنه قبر. قوله: (فإذا قبر إنسان) فإذا هذه للمفاجأة يعني: إذا مكان قبر لإنسان. قوله: (يقرأ سورة الملك حتى ختمها) يعني: أن هذا الصحابي سمع صوت الميت المدفون في هذا القبر يقرأ سورة الملك حتى ختمها، وهذا قد يقع، أن يُكشف شيء من هذه الغيبيات أحياناً لبعض الناس بإذن الله تبارك وتعالى. قوله: (فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر)، ولذلك سميت هذه السورة بالمانعة يعني: أنها تمنع من يحفظها من عذاب القبر، وسميت المنجية؛ لأنها تنجيه من عذاب القبر، وهذا أمر معروف ومشهور، فمن الأسباب التي تقي الإنسان عذاب القبر أن يكون قارئاً وحافظاً لسورة الملك. وورد في بعض الأحاديث الضعيفة قوله عليه الصلاة والسلام: (وددت أنها في قلب كل مؤمن). فعلى أي الأحوال هذه السورة لها هذا الفضل العظيم، فنوصي كل من يسمع هذا الكلام ألا يقصر أبداً في حفظ سورة (تبارك الذي بيده الملك)، خاصة الذي تقدم سنه أو مرض أو نحو ذلك، فللسورة فضائل عظيمة جداً، ومن أكثر قراءتها فيرجى أنها تنفعه في قبره وفي الآخرة، وقد ثبت: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الم * تَنزِيلُ [السجدة:1-2] -يعني: سورة السجدة- وتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]) فمن وظيفة هذه السورة أنها تتلى عند النوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ هاتين السورتين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير)

    قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]. قال ابن جرير : أي تعاظم الذي بيده ملك الدنيا والآخرة وسلطانهما، نافذ فيهما أمره وقضاؤه، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة؛ لا يمنعه مانع ولا يحول بينه وبينهم عجز، فلله عز وجل الملك التام، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، فهذا كقوله تعالى: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83] فمعنى تبارك: تعالى وتعاظم، فهو الذي يتصرف في جميع المخلوقات كما يشاء، وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات أن يوجدها على ما يشاء. ولفظة (تبارك) بحسب اللغة والاشتقاق هي: تَفاعل من البركة، أي: تكاثرت البركات والخيرات من قبله عز وجل، وهذا يستلزم تعظيمه وتقديسه سبحانه وتعالى. قوله: (الذي بيده الملك) أي: كل شيء يتصرف فيه بما يشاء لا معقب لحكمه. ونلاحظ هنا تقديم الموصول وصلته بـ(تبارك)، لم يقل: تبارك الله وإنما قال: (تبارك الذي)، فتقديم الموصول بصفة خاصة لله تبارك وتعالى -وهي تبارك- يدل على عظمة الموصول، ويدل له قوله تبارك وتعالى: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83]؛ لأن التقديم للتسبيح -وهو التنزيه- يساوي التقديم للبركة في قوله: (تبارك الذي بيده الملك).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم...)

    قال تبارك وتعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]. قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) أي: قدر الموت والحياة، فأمات من شاء وما شاء، وأحيا من أراد وما أراد إلى أجل معلوم، أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدَّر. قوله: (( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا )) يعني: ليختبركم فيعلم أيكم أحسن عملاً، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد:31]، فيقدر هنا (فيعلم) أي: علم وقوع، علم مكاشفة وليس علم غيب؛ لأن مثل هذا يتعلق بالأشياء بعد وجودها، وهي تقع موافقة لما سبق في علم الله تبارك وتعالى من المقادير. قوله: (( وَهُوَ الْعَزِيزُ )) أي: الغالب الذي يقهر من أساء العمل. قوله: (الغفور) أي: لذنوب من أناب إليه وأحسن العمل. وقد قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال هنا في سورة الملك: (( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ))، فهذا دليل على الحكمة من خلق الموت والحياة. أما تقديم الموت على الحياة فهو كما قدم الإناث في قوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]، وقيل: إن تقديم الموت هنا؛ لأن الأصل العدم، ثم بعد ذلك جاءت الحياة، والله تعالى أعلم. وقال سبحانه: (( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا )) ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملاً؛ لأن العبرة بالإحسان في العمل لا بكثرته، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم معنى الإحسان في حديث جبريل المشهور حينما سأله: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو معنى الإحسان المذكور في قوله: (( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا )). قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: جعل للعالم موتتين وإحياءتين، وبينه بقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28]، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الموت أمر وجودي لا عدمي كما زعم الفلاسفة؛ لأنه لو كان عدمياً لما تعلق به الخلق، فالموت مخلوق، ودليله قوله تعالى: (( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ )) يعني: أن الله خلق هذا الموت.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقاً...)

    قال تبارك وتعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [الملك:3]. قوله: (الذي خلق سبع سموات طباقاً) قال ابن جرير : طبقاً فوق طبق بعضها فوق بعض. وقال بعض علماء الفلك: اعلم أن لفظ السماء يطلق لغة على كل ما علا الإنسان. فالسماء من السمو وهو العلو، فسقف البيت سماء، ومنه قوله تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15] فقوله: (فليمدد بسبب) أي: يمدد بحبل إلى سقف بيته. أما قول علماء الفلك: وهذا الفضاء اللانهائي سماء، فهم لا يدققون في ألفاظهم، فهو في الحقيقة ليس فضاء بل هو مليء بالملائكة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فيها موضع شبر إلا وملك ساجد يسبح الله تبارك وتعالى). وقولهم: وهذا الفضاء اللانهائي سماء! فيه نوع من التجاوز؛ لأنه ما دام مخلوقاً فله حد وله نهائية وله غاية، وليس ممتداً إلى ما لا نهاية، فهذا كلام من يطلق الكلام دون أي حساب. يقول ابن جرير : ومنه قوله تعالى: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24]. ومنه قوله تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الأنعام:99] السماء هنا هو السحاب. كذلك تسمى الكواكب سماء؛ لأنها تعلونا. إذاً: سقف الحجرة سماء، والسحاب سماء، والكواكب سماء، وما يسمى بالفضاء إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى يطلق عليه سماء. يقول القاسمي : والكواكب سموات، تلاحظون أن في أيام القاسمي لم يكن قد حصل تقدم علمي كالذي وصلوا إليه الآن من اكتشاف الأفلاك، فبعضهم كان يزعم أن السماوات السبع هي الكواكب السبعة السيارة! يقول: وهي طباق بعضها فوق بعض؛ لأن فلك كل منها فوق فلك غيره، ومعنى هذا القول في قوله تبارك وتعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [الصافات:6-7] فواضح من هذا أن السماء الدنيا هي التي فيها هذه الكواكب؛ لأن السماء الدنيا هي فقط التي نراها الآن والتي فيها هذه الكواكب، أما بقية السماوات السبع الأخرى فإننا لا ندرك ما فيها. قوله: (( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ))[الملك:3] أي: تخالف وعدم تناسب في رعاية الحكمة، بل راعاها في كل خلقه. قوله: (( فَارْجِعِ الْبَصَرَ )) يعني: إن شككت فكرر النظر. قوله: (( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ )) أي: من خلل. وأصل الفطور الصدوع والشقوق أريد به لازمه كذا قالوا، والصحيح أنه على حقيقته، فمعنى قوله: (( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ )) أي: هل ترى من انشقاق وانفطار بين السماوات، بحيث تذهب من هذا الانشقاق، وتقطع علاقاتها وأحبال سببها؟ كلا، بل هي متماسكة، ومرتبط بعضها ببعض من كل جهة، كما تقدم في سورة (ق) في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]، وهذا يفسر قوله هنا: (( فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ )). وقرأها حمزة والكسائي : (ما ترى في خلق الرحمن من تفوّت).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين ...)

    قال تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4]. قوله: (( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ )) أي: كرره مرة بعد مرة. قوله: (( يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا )) (خاسئاً) يعني: مبعداً، من قولك: خسأت الكلب، يعني: باعدته. يقول القاسمي : (ثم ارجع البصر كرتين) أي: رجعتين أخريين؛ ابتغاء الخلل والفساد والعبث، تدبر وانظر وفكر: هل تجد عبثاً أو خللاً أو تفاوتاً في خلق السماوات؟ والمراد بالتثنية في قوله: ((كَرَّتَيْنِ)) التكرار. قوله: (( يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ )) أي: يرجع إليك البصر. قوله: (( خَاسِئًا )) يعني: مطروداً عن أن يصيب ويجد الخلل أو الفساد أو العبث في هذا المخلوق العظيم. قوله: (( وَهُوَ حَسِيرٌ )) أي: منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه، فيصيبه هذا الكلل والتعب والإرهاق؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يرجع ويرى في خلق الله سبحانه وتعالى تفاوتاً أو خللاً أو فساداً أو عبثاً. وقال الزجاج في تفسير قوله تعالى: (( وَهُوَ حَسِيرٌ )): قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللاً. ومعنى كلام الزجاج: أن الذي ينظر ويتأمل ويتدبر ويبحث في هذه السماء بنية أن يعثر على خلل فسوف يعيا، ويكون حسيراً متعباً كالاً مرهقاً، ويرجع خاسئاً خائباً، فلن يجد على الإطلاق خللاً، ولن يرى في السماء خللاً. يقول الزمخشري : نهاية كمال عالم الملك في خلق السماوات، لا ترى أحسن خلقاً وأحسن نظاماً وطباقاً منها، وأضاف خلق السماوات إلى الرحمن عز وجل؛ لأنها من أصول النعم الظاهرة، ومبادئ سائر النعم الدنيوية، وسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضاً، وحسن انتظامها وتناسبها، وإنما قال: (( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ))؛ لأن تكرار النظر وتجوال الفكر مما يفيد تحقق الحقائق، وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق لا يفيد إلا الخسوء والحسور تحقق الامتناع. فالشخص الذي يريد أن يفتش عن الخلل في خلق السماوات، هل سيعود بتحقيق شيء من بغيته؟ لا يمكن أبداً أن يحقق شيئاً من ذلك. وقال الله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة:7]، وقال تبارك وتعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] تبارك وتعالى. يقول الناصر في قول الله تبارك وتعالى: (( يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا )): وضع للظاهر موضع المضمر، لم يقل: ثم ارجعه مرتين، وإنما قال: (( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ )). ثم قال: وفيه من الفائدة: التنبيه على أن الذي يرجع خاسئاً حسيراً غير مدرك. والنظر هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يُدرك شيء دل على أنه لا شيء. إذاً: ما الذي يستعمل في النظر وفي الاطلاع والرؤية؟ العين، فلذلك قال: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:3-4]، فالذي يرجع خاسئاً حسيراً غير مدرك الخلل هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يُدرك شيء دل على أنه لا يوجد خلل ولا فطور في خلق الله تبارك وتعالى. وهذا الإتقان العظيم في خلق السماوات والأرض -كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]- إنما هو في الدنيا فقط، أما يوم القيامة فلا شك أن السماء سوف تنفطر، كما قال الله تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، وقال: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1]، وقال: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [الفرقان:25]، فالمقصود بهذا الإحكام والإتقان إنما هو في الحياة الدنيا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ...)

    قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك:5]. قال ابن جرير : وهي النجوم، وجعلها مصابيح لإضاءتها، وكذلك الصبح إنما قيل له: صبح للضوء الذي يضيء للناس في النهار. قوله: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5]. قال ابن كثير : عاد الضمير في قوله تعالى: (( وَجَعَلْنَاهَا )) على جنس المصابيح لا على عينها؛ لأنه لا يرمى بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها. جزى الله الإمام الحافظ الجليل ابن كثير خيراً، فالمستوى العلمي البشري يتفاوت عند العلماء، لقد كان العلماء قديماً في علوم الشريعة في القمة، لكن كانوا مواكبين لعصورهم في ناحية العلوم الاستكشافية حسب المستوى العلمي البشري، وقد ترك الله للبشر هذا القسم من العلوم ليكتشفوه ويتطوروا ويتقدموا فيه. لو تأملنا هنا قول الله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) هل يحتمل أن تكون المصابيح هي الكواكب؟ لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)، والذي ترجم به الشياطين الشهب، وهذه الشهب طبيعتها نفس طبيعة النجوم، فالشمس مثلاً نجم، أما الأرض والزهرة والمشتري وزحل ونحوها كواكب. إذاً: الأشياء المتوهجة بالكتل الغازية الضخمة الملتهبة كالشهب والنجوم هي المصابيح، ولذلك الله سبحانه وتعالى قال في الشمس: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [النبأ:13]، لكن في القمر قال: وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان:61]، ولم يقل في القمر: وهاجاً، بل قال: (قمراً منيراً)؛ لأنه مثل المرآة ينعكس عليه ضوء الشمس فنراه بهذه الإضاءة، لكن الشمس نفسها نجم، النجوم والشهب كذلك. إذاً: هنا يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) ما هي هذه المصابيح؟ النجوم، بدليل قوله: (( وَجَعَلْنَاهَا )) أي: هذه المصابيح. قوله: (( رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ )) أي: يرجم بها مسترق السمع من الشياطين. وقوله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك:5] أي: في الآخرة، هذه الآية تكشف عن حكمتين من خلق النجوم: الأولى: أنها زينة: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ). الثانية: أنها يرجم بها الشياطين الذين هم أعداء البشر بانقضاض الشهب عليهم. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: (( وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا )): يعني: وجعلناها رجوماً وظنوناً لشياطين الإنس وهم المنجمون، والصواب أنها بمعنى آية الصافات وهي قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [الصافات:6-7] زينة وحفظاً، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:8-10]، فالذي يرجم به هو شهاب ثاقب.

    1.   

    موقف العلماء من المخترعات والنظريات الحديثة

    فضيلة الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله تعالى كان أقرب تلامذة الإمام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى، وهو الذي أتم أضواء البيان بعد وفاة الشيخ رحمه الله؛ لأن الشيخ الشنقيطي رحمه الله كان آخر آية فسرها هي قوله تعالى: أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]، فلعلها بشرى في كونه من حزب الله المفلحين إن شاء الله تعالى. وشيخ الإسلام ابن تيمية كان آخر ما قرأه من الآيات قبل موته: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55]. وعمر بن عبد العزيز آخر آية قرأها عند الاحتضار: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] ثم قبض رحمه الله تعالى. والشيخ محمد رشيد رضا آخر آية فسرها هي قوله تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]. والشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى ممن لحق بربه في عام الحزن، هذا العام الذي شهد موت كواكب أئمة المسلمين أمثال الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى. يقول الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله: ظهرت تلك المخترعات الحديثة، ونادى أصحاب النظريات الجديدة، والناس ينقسمون إلى قسمين: قسم يبادر بالإنكار، وآخر يسارع بالتصديق، وقد يستدل كل من الفريقين بنصوص من القرآن والسنة، ولعل الأولى أن يقال: إن النظريات الحديثة قسمان: نظرية تتعارض مع صريح القرآن، فهذه مردودة بلا نزاع، كنظرية ثبوت الشمس مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38]، وقال سبحانه: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، في هذه الحالة قطعاً لابد أن نرد هذه النظرية؛ لأنها قائمة على رأي بشري قاصر، ومتعارضة تعارضاً صريحاً مع كلام خالق السماوات والأرض: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] سبحانه وتعالى. ثم إذا بنفس النظرية تتطور بعد ذلك ويعلنون أن الشمس بكل الأجرام السماوية المحيطة بها -أي: المجموعة الشمسية- تَسْبَحُ إلى حيث شاء الله سبحانه وتعالى في الفضاء، وحركة الأفلاك السماوية شيء ملاحظ ومحسوس، وكلها تتحرك بحكمة وبحساب، قال تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الحجر:19]، فالشمس بالنسبة لما يدور حولها من الأجرام السماوية ثابتة والله أعلم، لكن نفس الشمس مع المجموعة الشمسية كلها تدور بقدرة الله سبحانه وتعالى. وقول الله تبارك وتعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) هذه الآية من إعجاز القرآن الكريم، بل أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في صورة أوضح وأشهر، وذلك عندما بين أن الشمس حينما تغيب تذهب وتسجد تحت عرش الرحمن تبارك وتعالى، ثم تستأذن في الشروق فيؤذن لها، إلى آخر الحديث المعروف. على أي حال فأي شيء من النظريات العلمية يتعارض مع نص صحيح أو مقطوع به من آيات القرآن الكريم أو حديث نبوي واضح، وكان هذا التعارض صريحاً؛ ففي هذه الحالة لابد أن نرد هذه النظرية؛ لأنها صادرة عن علم بشري خاطئ، أما إذا كانت هذه النظرية قد وصلت إلى مرتبة الحقيقة ولا يمكن الطعن فيها، مثل: كروية الأرض، فهذه حقيقة ما ينبغي أبداً أن يأتي إنسان الآن ويدعي أن الأرض غير كروية؛ لأن كون الأرض كروية هذا شيء محسوس، ولماذا نستغرب كون الأرض كروية؟ فكل الأجسام كروية، فالقمر كروي، والشمس كروية، وقوله عز وجل: (( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ )) قالوا: عدم التفاوت أقوى ما يكون في الشكل الكروي. ثم يقول: ونظرية لا تتعارض مع نص القرآن ولم ينص القرآن عليها، وليس عندنا من وسائل العلم ما يؤيدها ولا ما يرفضها، فالأولى أن يكون موقفنا منها موقف التثبت، ولا نبادر بحكم قاطع إيجاباً أو نفياً. وذلك لأن القرآن الكريم ليس كتاب تكنولوجيا وإنما هو كتاب هداية، صحيح أتت بعض الإشارات تتضمن ما يسمى الآن بالإعجاز العلمي في القرآن، لكن هذا يصح الاستدلال به فيما وصل إلى مرتبة الحقيقة العلمية التي توافق ما جاء في القرآن، أما إذا كان هناك شيء ليس عندنا ما يرده ولا عندنا أيضاً ما يقبله، فهذه تترك للخبرة البشرية والعلم البشري، ولا ينبغي ربطها أبداً بالقرآن الكريم؛ لأن بعض الناس غلا في هذا الأمر غلواً مستقبحاً، حتى إن بعض الناس أراد أن يلصق نظرية داروين بالإسلام، فادعى في تفسيره أن نظرية داروين أشار إلى صحتها القرآن، وذلك في قول الله تبارك وتعالى في أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] قال: هي هذه النفس الواحدة وقوله: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]. وهذا من الإلحاد في آيات الله ومن تحريف كلام الله عن موضعه؛ لأن نظرية داروين نظرية فاشلة وخائبة ومزيفة، فلا يجوز أبداً أن يربط نصوص القرآن الكريم بنظريات تروح وتجيء وتخطئ وتصيب، وإنما الذي يجوز ربط القرآن به هو ما وصل إلى مرحلة الحقيقة العلمية. إذاً: ينبغي أن نتثبت ولا نتهور بحكم قاطع إيجاباً أو نفياً، ونأخذ ذلك من قصة الهدهد مع نبي الله سليمان لما جاء يخبره عن قوم سبأ، يقول الله تبارك وتعالى: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:22-23]، فلما أخبر الهدهد سليمان بذلك، ولم يكن سليمان عليه السلام يعلم عنهم شيئاً، فسليمان لم يكذب الخبر الذي ورد من الهدهد ولم يصدقه؛ لأنه لم يعلم عنهم شيئاً، مع أن الهدهد وصف حالهم وصفاً دقيقاً، لكن كان موقف سليمان عليه السلام هو موقف المتثبت؛ مع ما لديه من إمكانات الكشف والتحقيق من الريح والطير والجن، فقال للمخبر -وهو الهدهد-: سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27]، هذا هو النموذج الذي ينبغي أن يحتذى فيما لا يعلم الإنسان صدقه من كذبه، أن يتريث ويتثبت ولا يتهور في الجانب السلبي أو الإيجابي. ثم يقول الشيخ رحمه الله: ونحن في هذه الآونة لسنا أشد أو أعظم إمكانيات من نبي الله سليمان عليه السلام آنذاك، وليس المخبرون عن مثل هذه النظريات أقل من الهدهد، فليكن موقفنا على الأقل موقف من سينظر أيصدق الخبر أم يظهر كذبه، والغرض من هذا التنبيه هو ألا نحمل لفظ القرآن فيما هو ليس فيه صريحاً فيه، ونحمّله ما لا يحتمله، ثم يظهر كذب النظرية فنجعل القرآن في معرض المقارنة مع النظريات الحديثة؛ لأن النظريات الحديثة يهدم بعضها بعضاً، فإذا ربطنا القرآن بالنظرية ثم ثبت بطلانها ففي هذه الحال نفتح باب فتنة على الناس، والخطأ منا نحن حينما نربط القرآن بهذه المتغيرات؛ لأن القرآن فوق ذلك كله، القرآن أعلى وأسمى من هذا كله، يقول الله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. ويقول أيضاً في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4]: المنصوص عليه هنا في هذه الآية هو إرجاع البصر كرتين، ولكن حقيقة النظر أنه أربع مرات، الأولى في قوله تعالى: (( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ))، والثانية في قوله: (( فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ )) والثالثة والرابعة في قوله: (( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ))، وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد. والحسير هو العيي الكليل العاجز المنقطع دون غاية، كما في قول الشاعر: من مد طرفاً إلى ما فوق غايته ارتد خسآن منه من الطرف قد حسرا قال القرطبي : يقال: قد حسر بصره يحسر حسوراً، أي: كل وانقطع نظره من طول مداه وما أشبه ذلك فهو حسير ومحسور أيضاً. قال الشاعر: نظرت إليها بالمحصب من منى فعاد إليّ الطرف وهو حسير

    1.   

    الحكمة من خلق النجوم

    قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك:5] قوله: (الدنيا) تأنيث الأدنى، أي: السماء الموالية للأرض، ومفهومه أن بقية السماوات ليس فيها مصابيح، أي: النجوم والكواكب، كما قال الله: بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [الصافات:6]، ويدل لهذا المفهوم قول قتادة: إن الله جعل النجوم لثلاثة أمور: زينة للسماء الدنيا، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر، كما قال عز وجل: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا؛ لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى؛ لأنها أجرام محفوظة، كما ذكر في حديث الإسراء أن لها أبواباً فلا يدخل منها إلا بإذن، يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]، وهذا ليس صريحاً، وإنما هو استدلال بمفهوم قوله تعالى: (( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ))، فيفهم منها أن ما عدا السماء الدنيا ليس فيه نجوم ولا كواكب ولا شياطين ترجم. وقوله تعالى: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5] الرجوم هي الشهب من النار، والدليل على أن الشهب هي النار قوله تعالى: أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل:7]، فالشهب هي التي يرجم بها الشياطين عند استراق السمع، كما في قوله تعالى: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9]، وقوله تعالى أيضاً: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:10].

    1.   

    الرد على شبهة امتناع تعذيب العصاة من الجن بالنار لكونهم خلقوا منها

    هنا سؤال وهو: إذا كان الجن من نار، كما في قوله تعالى: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15] فكيف تحرقهم النار؟ الجواب: أن الله سبحانه وتعالى جعل أصل خلقتنا من الماء ومن التراب، لكن كون أصل الخلقة من شيء فإنه يختلف تماماً عن كينونة هذا الشيء وصيرورته فيما بعد، فنحن البشر بما أنا خلقنا من طين، فهل إذا ابتللنا بالماء نصير طيناً؟! لا يكون هذا، كذلك أصل خلق الجن من النار كما في قوله: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)، لكن ما هي الصورة التي عليها الجن الآن؟ لا ندري: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] فكون أصلهم من نار لا يستلزم أنهم الآن نار، وقد أجاب بعض العلماء عن هذه الشبهة بجواب آخر: أجاب عنها الفخر الرازي بقوله: إن النار يكون بعضها أقوى من بعض، فالأقوى يؤثر على الأضعف، ومما يشهد لما ذهب إليه قوله تعالى بعده: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك:5] والسعير هو أشد النار وأقوى النار، ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض، وهذا أمر ملموس، فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد وتسلط عليها آلة من حديد أيضاً أقوى منها فتكسرها، أو يسلط معدن على معدن آخر فيخدشه أو يؤثر فيه، وهذا ما يعرف بخاصية الصلادة، وكما قال العرب: لا يفل الحديد إلا الحديد. إذاً: لا يمنع كون أصل الجني من نار ألا يتعذب بالنار، كما أن أصل الإنسان من طين من حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار، وبعد خلقه فإنه لا يحتمل التعذيب بالصلصال ولا بالفخار، فلو أحضرت إنساناً وأحضرت كمية كبيرة من الفخار والطوب الفخار وظللت تضربه أو ترجمه بهذه الأشياء فسوف تقتله، وقد يموت الإنسان بضربة بقطعة واحدة من الفخار، مع أنه خلق من الفخار، والعلم عند الله تعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير)

    قال الله تبارك وتعالى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الملك:6]. قوله: (وبئس المصير) أي: بئس المرجع ذلك العذاب، وهذا من الاستطراد؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر وعيد الشياطين، ثم استطرد في وعيد الكافرين عموماً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور)

    قال تعالى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ [الملك:7]. الشهيق صوت مثل صوت الحمار. يقول: القاسمي : إن المقصود أنهم سمعوا لأهلها الذين سبقوهم إلى النيران -والعياذ بالله- الأصوات المنكرة المنافية لأصوات الأناسي أو لأنفسهم، فإنهم يصطرخون فيها بأصوات الحيوانات المنكرة، كما في قوله تعالى: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود:106] هذا الاحتمال الأول في تفسير قوله: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ). الاحتمال الثاني في تفسير هذه الآية: أنهم سمعوا للنار أو للسعير أو لجهنم شهيقاً وصوتاً منكراً فظيعاً، أي: تغلي بهم كغلي المرجل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تكاد تميز من الغيظ...)

    قال الله تعالى: (( تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ )) يعني: تكاد تتقطع من تغيظها عليهم، أو تكاد تتفرق أجزاؤها من الغيظ، على الذين أغضبوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وللأسف الشديد أورد القاسمي هنا قول من ادعى المجاز في هذه الآية فقال: شبهت في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره مبالغ في إيصال الضرر إليه، فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية، وهي الغضب الباعث على ذلك، واستعير لتلك الحالة المتوهمة الغيظ، وأما ثبوت الغيظ الحقيقي لها بحيث يخلق الله فيها إدراكاً فبحث آخر، لكنه قد قيل هنا: إنه لا حاجة إلى ادعاء التجوز فيه. أما استبعاد المجاز في قوله تعالى: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) فنقول: إن كلمة (تكاد) من أفعال المقاربة، أي: أنها تقارب أنها تتقطع من شدة غيظها على الكافرين، فيمتنع هنا وجود المجاز، كما في قوله تعالى: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ [النور:35] وجوز بعضهم أن المراد بالغيظ غيظ الزبانية. يقول العلامة الشنقيطي : النار لها حس وإدراك وإرادة، والقرآن أثبت للنار أنها تغتاظ وتبصر وتتكلم وتقصد المجيء، كما قال عز وجل: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، وكما في الحديث: (تقول النار: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين) فهذه حقيقة. كذلك قوله: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12]، وقال عز وجل هنا: (( تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا )) أي: كلما ألقي فيها جماعة من الكفرة، وليس المراد بالفوج عصاة الموحدين الذين يدخلون النار ولا يخلدون فيها؛ لأن سياق الآية واضح جداً أنها في الكفار كفر أكبر؛ لأن تكذيب الرسل لا يكون إلا من الكفار. قوله: (( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ )) جماعة من الكفرة. قوله: (( سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا )) سؤال توبيخ، أي: في الدنيا ينذركم هذا العذاب. واستدل بعضهم بهذه الآية على أنه لا تكليف قبل البعثة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بلى قد جاءنا نذير فكذبنا...)

    قال تعالى: قَالُوا بَلَى [الملك:9] (بلى) هذه إثبات؛ لأن جواب السؤال المنفي بأداة نفي يكون ببلى في الإثبات، أما لو قلت: نعم، فهو جواب بالنفي، كما لو قال لك المدرس: ألم تفهم ما قلت لك؟ فإن قلت: نعم فمعناه: أنك لم تفهم؛ لأن بعد أداة الاستفهام أداة نفي وهي ألم ومثلها أليس، فإذا أردت الإثبات فتقول: بلى. أما قوله: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [الأعراف:44] فالسؤال هنا جاء بعد أداة الاستفهام، لكن لا يوجد نفي، فالجواب هنا في الإثبات يكون بنعم، وعندما أقول لك: هل أنت متوضئ؟ تقول: نعم أو لا. قوله: (قَالُوا بَلَى) انظر إلى الاعتراف، يعني: بلى قد جاءتنا الرسل، المصيبة الكبرى ليس فقط في اعترافهم بمجيء الرسل إليهم، وليس فقط بتكذيبهم الرسل، بل قالوا: نحن أفرطنا في التكذيب، ونفينا التنزيل والإرسال والنبوة. قوله: وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك:9] (من) هنا قطعاً تدل على العموم، يعني: ما أنزل الله من شيء على الإطلاق، زيادة على هذا فقد بالغوا في نسبة الرسل إلى الضلال، وذلك بقولهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك:9] وليس في ضلال فقط بل (كَبِيرٍ)!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)

    قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]. يقول القاسمي : قوله: (( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ )) أي: لو كنا نسمع من النذر ما جاءت به. يعني: لو كنا نتفكر في كلام الله الذي جاء به المرسلون سماع طالب للحق وعقلنا ذلك (( مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ )) أي: ما كنا في عداد أهل النار. ودل قوله تعالى: (( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ )) على أن الكافر لم يعط من العقل شيئاً، ولذلك القرآن الكريم ينفي عنهم أحياناً العقل، مع أنه في مواضع أخرى يثبته، فما الجمع بينهما؟ الجواب: أن العقل موجود، لكن لما كانت الحكمة من خلق الإنسان وتكريمه بالعقل أساساً هي أن يتفكر به في توحيد الله، ويتوصل به إلى إثبات الإسلام والتوحيد والنبوة، فلما عطل عقله عن هذه الوظيفة التي خلق من أجلها أساساً، فبالتالي صار مستوياً مع من لا عقل له من البهائم والجمادات ونحوها، فلذلك بعض الآيات تثبت له العقل وبعضها تنفيه، وكذلك السمع والبصر، يقول تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] يعني: عندهم قلوب لكنهم لا يستعملونها فيما خلقت من أجله وكذلك السمع والبصر. وهذا الآية أيضاً تشير إلى أن الوصول إلى الحق لا يكون إلا عن طريق السمع أو العقل، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) السمع هو الآيات والآثار والروايات، والعقل هو الدليل الثاني. قال الناصر : لو تفطن نبيه لهذه الآية لعدها دليلاً على تفضيل السمع على البصر، فإنه قد استدل على ذلك بأخفى منها. وقال ابن السمعاني : استدل بها من قال بتحكيم العقل في موضعه. وقال الزمخشري : قيل: إنما جمع بين السمع والعقل؛ لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل. قال تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:11]. (( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ )) يعني فأقروا بجحدهم الحق، وتكذيبهم الرسل. (( فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ )) أي: بعداً لهم سواء اعترفوا أو أنكروا فإن ذلك لا ينفعهم، ولا يفيدهم شيئاً. قوله تعالى: (فَسُحْقًا) هذا منصوب على المصدر، يعني: أسحقهم الله سحقاً، ومعناه باعدهم الله من رحمته مباعدة، والسحيق هو البعيد.

    تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل)

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]: أي: قال أهل النار: لو كنا نسمع أو نعقل عن الله حججه ما كنا في أصحاب السعير، فهم يسمعون، ولكن لا يسمعون ما ينفعهم في الآخرة، ويعقلون ولكن لا يعقلون ما ينفعهم في الآخرة؛ لأن الله تعالى قال: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7]، وقال: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الكهف:57]. قال الله تبارك وتعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2] فهذه إثبات لحاستي السمع والبصر، فهو عنده الآلة لكن لم يستعملها فيما خلقت لأجله، فهذه من الآيات التي تثبت حاستي السمع والبصر، (( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا )) في حين يقول في آيات أخرى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]. وقال أيضاً في آخر سورة الملك: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23] هذا إثبات لوجود هذه الآلات، لكنهم سمعوا وعصوا، كما في قوله: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93] وهذا وإن كان في بني إسرائيل، إلا أنه تعالى قال لهذه الأمة: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأنفال:21] هم يسمعون الحروف لكن دون أن يعقلوها، تماماً كما قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: (( كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ ))، قوله: (( كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ )) أي: يرفع صوته. قوله: (( بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً )) أي: يعني لا يسمع إلا أصوات، مثله مثل البقرة أو الجاموسة أو الحمار أو غيرها من الحيوانات التي لا تعقل، إذا وقفت أمام الحمار وقرأت عليه المعلقات السبع مثلاً هل سيفهمها؟ هو يسمع أم لا يسمع؟ هو يسمع، لكن لا يفهم؛ لأنه ليس عنده عقل. والحمار يسمع الأصوات، ولذلك يسير ببعض الأصوات المعينة ليتجه إلى اليمين أو الشمال، أصوات معينة يصدرها له سائقه فيستجيب، لكن هو لا يفهم هذا الكلام، فكذلك الكفار، فهذا معنى قوله تعالى: (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً). والله سبحانه وتعالى خاطب هذه الأمة قائلاً: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأنفال:21] قوله: (وهم لا يسمعون) أي: سماعاً ينفعهم، وإلا فقد قال تعالى عنهم: قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [الأنفال:31]، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26]، وقد بين تعالى سبب عدم استفادتهم بما يسمعون في قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الجاثية:7-9]، وقال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [لقمان:7]، فقول الكفار هنا: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10] يعني: لو كنا نسمع سماع تعقل وتفهم ما كنا في أصحاب السعير.

    الاعتراف والتوبة والإيمان عند معاينة العذاب

    قوله تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:11] أي: أقروا حيث لا ينفع الإقرار ولا الندم، فاعتراف الكفار وإيمانهم بعد فوات الأوان بالمعاينة لا ينفعهم، وهذا المعنى كررناه كثيراً، ولا نمل من تكراره؛ لأن التوبة أو الإيمان والإقرار والاعتراف بالحق بعد فوات أوانه لا ينفع الإنسان شيئاً، كأن يتوب عند الغرغرة؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فإذا فاجأه الموت فلا تنفعه التوبة عند الموت. وكذلك في الدنيا إذا طلعت الشمس من المغرب يغلق باب التوبة، وذلك لقوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]. وكذلك عند نزول العذاب من الله سبحانه وتعالى لا ينفعهم الإقرار، كما قال تعالى عن فرعون: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] فبماذا أجيب؟ أجيب بقوله: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91]. إذاً: لا تنفع التوبة ولا الإقرار بالذنب عندما يصير الغيب شهادة، وعندما يرى المرء الملائكة أتت لقبض روحه، أو حينما يلقون في النار يوم القيامة: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]، فاليقين الذي ينفع هو اليقين في الدنيا في دار العمل، أما اليقين والإيمان في الآخرة عند نزول العذاب فهو يقين وإيمان رغم أنف الإنسان، ففيه نوع من الإكراه له، فلا يقبل الإيمان الذي يقع تحت الإكراه، قال الله: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، وإنما الإيمان واليقين الذي له قيمة هو الذي يقع هنا في دار التكليف في مجلس الامتحان، لكن هناك تظهر النتيجة فقط؛ لأنه ليس هناك عمل، ولذلك كانت أول صفات المؤمنين في القرآن الكريم: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] فالإيمان بالغيب يتوصل إليه الإنسان عن طريق التفكر والتدبر في آيات الله وتحري الحق والبحث عنه والجهاد، قال عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، هذا الإيمان الذي له قيمة، لكن بعد معاينة العذاب لا يفيد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب...)

    قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]. الخشية: هي شدة الخوف، كما في قوله تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:49]، أما محل تلك الخشية فهي أهل العلم كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]؛ لأنهم يعرفون حق الله تعالى ويراقبونه. وحقيقة خشية الله سبحانه قد بينها الله في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74] وهذه حقيقة ليست مجازاً، من الحجار ومن الجبال ما يتفطر من شدة خشيته لله، قال تبارك وتعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، فالذين يخشون ربهم بالغيب هم الذين يعرفون حق الله عليهم ومراقبته إياهم في السر والعلن، ويعلمون أنه مطلع عليهم مهما تخفوا وتستروا، وهم دائماً منيبون إلى الله، كما قال تعالى: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:32-33]، فهذه منزلة العلماء، وهي أعلى درجات السلوك مع الله تبارك وتعالى، وهي أيضاً منزلة الأنبياء: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39]، والعرب تمدح من يكون في خلوته كمشهده مع الناس، ومنه قول مسلم بن الوليد : يتجنب الهفوات في خلواته عف السريرة غيبه كالمشهد فقوله تبارك وتعالى هنا: (( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ )) أي: يخافونه ويخافون عذابه، مع أنهم لم يروا الله تبارك وتعالى. ما جزاؤهم؟ قال عز وجل: (( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به...)

    عاد الخطاب إلى الكفار، فقال تبارك وتعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك:13] يعني: هو عليم بضمائرها، فكيف بما نطق به الإنسان؟! والمعنى: فاتقوه واخشوه، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: إن هذه الآية نزلت في المشركين الذين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخبره جبريل بما قالوا، فيقول بعضهم: أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمد!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)

    قال تبارك وتعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] يعني: ألا يعلم السر والجهر من خلق الأشياء؟ بلى، فإن الخلق يستلزم العلم. قوله تعالى: (( وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )) أي: اللطيف بعباده، الخبير بأعمالهم. وقيل: معنى الآية: ألا يعلم الله من خلقهم وهو بهذه المثابة. قال الغزالي : إنما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق الأمور وغوامضها وما خفي منها، ثم يسلك في إيصال ما يصلحها سبيل الرفق دون العنف، والخبير هو الذي لا يعزب عن علمه الأمور الباطنة، فلا تتحرك في الملك ولا الملكوت ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفس إلا وعنده خبرها، وهو بمعنى العليم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً...)

    قال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] الذلول بمعنى: مذللة سهلة لم يجعلها ممتنعة. أي: جعل الأرض لينة سهلة المسالك. قوله: (( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا )) أي: في نواحيها وجوانبها، قال ابن جرير: نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه. وفي قوله تعالى: (( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا )) ثلاثة أقوال: القول الأول: مناكبها يعني: طرقها. القول الثاني: جبالها؛ لأنه إذا أمكن كون السلوك والمشي في الجبال فهذا أبلغ في تسهيلها وتسخيرها. القول الثالث: جوانبها ونواحيها. وقوله: (( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ )) لما ندبهم الله عز وجل إلى البحث عن الرزق استعمل الله لفظ المشي فقال: (( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ))، لكن في العبادة قال عز وجل: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، وقال سبحانه: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] وقال: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] وقال عز وجل: سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، وهذا من أجل أن يترفق الإنسان في طلب الرزق. قوله: (( وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ )) أي: التمسوا من نعمه سبحانه وتعالى، فالأكل والرزق أريد به طلب النعم مطلقاً، وتحصيلها أكلاً وغيره، وهو اقتصار على الأهم الأعم. وأنت إذا تأملت نعيم الدنيا وما فيها، لم تجد شيئاً منها أحوج إلى المرء غير ما أكله، وما سواه فهو متمم له أو دافع للضرر عنه. قوله: (( وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )) أي: إليه نشوركم من قبوركم للجزاء. قال في الإكليل في قوله تعالى: (( فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )): فيه الأمر بالتسبب والكسب، يعني: أخذ أسباب طلب الرزق. وقال ابن كثير : في الآية تذكير بنعمته تعالى على خلقه في تسخيره لهم الأرض، وتذليله إياها لهم، بأن جعلها قارة ساكنة لا تميد ولا تضطرب؛ بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار. والمعنى سافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور)

    خوف الله تعالى الكفار فقال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16] هذا خطاب للكافرين أي: أأمنتم العلي الأعلى أن يخسف بكم الأرض، فيغيبكم إلى أسفل سافلين؟ قوله: (( فَإِذَا هِيَ تَمُورُ )) أي: تضطرب وتهتز هزاً شديداً بكم، وترتفع فوقكم، وتنقلب عليكم. قوله تعالى: أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [الملك:17] وهو التراب الذي فيه الحصباء الصغار. قوله: فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:17] أي: ستعلمون عاقبة نذيري لكم إذا كذبتم به، ورددتموه على رسولي. وقد بين تعالى نذيره لهم في غير ما آية، وهو زهوق باطلهم إذا أصروا، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم وغلبة جنده، كما قال تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد كذب الذين من قبلهم...)

    قال تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الملك:18] يعني: مع كونهم أشد منهم عَدَدَاً وعُدَدَاً، فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الملك:18] أي: كيف كان نكيري على تكذيبهم؟ وذلك بإنزال العذاب بهم، ودحر باطلهم، وهذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتقوية عزيمته في الاستمرار في الدعوة والجهاد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات...)

    قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ [الملك:19] أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها. قوله: وَيَقْبِضْنَ [الملك:19] أي: ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن وقتاً بعد وقت للاستظهار به على التحريك، ولتجدده عبر عنه بالفعل؛ لأن هذا شيء مستمر، وفيه إشارة إلى أن القبض أمر طارئ على الصف، تفعله الطير في بعض الأحيان للتقوي على التحريك كما يفعله السابح في الماء، يقيم بدنه أحياناً، والبسط أو الصف هو الأصل الثابت في حالة الطيران، ولذا اختير له الاسم، فقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ)، على أنها الصفة الثابتة المستمرة لهذه الطيور، وأنهن يبسطن أجنحتهن. وقال: (وَيَقْبِضْنَ)، ولم يقل: قابضات، يعني: أحياناً يقبضن الأجنحة، لكن الأصل والأغلب أنها صافات. إذاً: فمعنى قوله تعالى: (( صَافَّاتٍ )) أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها. قوله: مَا يُمْسِكُهُنَّ [الملك:19] يعني: ما يمسكهن أن يقعن من الجو إِلَّا الرَّحْمَنُ [الملك:19] بقدرته، وما دبر لها من بنية يتأتى منها الجري في الجو، ولو ذهبنا للتفاصيل في معرفة كيف يسر الله سبحانه وتعالى الطيران للطيور لطال الكلام جداً! حتى إن فكرة الطائرات إنما أُخذت من الطيور! هذا خلق الله، فالطائرات كلها مقتبسة من خلق الله سبحانه وتعالى للطيور، نجد مثلاً أن عظام الطيور كثيرة وخفيفة جداً، حتى تستطيع أن تطير، وكذلك عضلاتها وريشها ونحو ذلك. قوله: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [الملك:19] فيعطيه ما يليق به، ويسويه بحسب مشيئته، ويودع فيه ما يريده بمقتضى حكمته، ثم يهديه إليه بتوفيقه ورحمته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أمن هذا الذي هو جند لكم...)

    لقد بكت تعالى المشركين بنفي أن يكون لهم ناصر غيره سبحانه وتعالى، فقال: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ [الملك:20] هذا استفهام إنكار، والمقصود: ليس لكم جند. ولفظة (جند) هنا موحدة؛ لأنه قال: (( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي ))ولم يقل: هؤلاء. قوله: (( جُندٌ لَكُمْ )) أي: يا معشر المشركين. قوله: يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ [الملك:20] يعني: إن أراد الله بكم سوءاً فيدفع عنكم بأسه. قوله: إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الملك:20] أي: من ظنهم أن أربابهم تنفع أو تضر، أو أنها تقربهم إلى الله زلفى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه...)

    قال تعالى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [الملك:21] يعني: بالمطر ونحوه. قوله: بَلْ لَجُّوا أي: تمادوا. قوله: فِي عُتُوٍّ أي: في عناد وطغيان. قوله: وَنُفُورٍ [الملك:21] أي: شراد عن الحق واستكبار مع وضوح براهينه، حيث أصروا على اعتقاد أنهم يحفظون من النوائب، ويرزقون ببركة آلهتهم، وأنهم الجند الناصر الرازق؛ مكابرة وعناداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفمن يمشي مكباً على وجهه...)

    لقد ضرب الله مثلاً للمؤمن والكافر فقال: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22] هذا تمثيل للضالين والمهتدين. والمكب: هو المتعثر الذي يخر على وجهه؛ لوعورة طريقه، واختلاف سطحه ارتفاعاً وانخفاضاً. وأما الذي يمشي سوياً فهو القائم المعتدل السالم من التعثر؛ لاستواء طريقه واستقامة سطحه. قال قتادة : يحشر الله الكافر مكباً على وجهه، والمؤمن يمشي سوياً. وقال البيضاوي : والمراد تمثيل المشرك والموحد بالسالكين، والدينين بالمسلكين، يعني: الموحد يمشي على طريق الإسلام، والمشرك يمشي على طريق الكفران، ثم يقول: ولعل الاكتفاء بما في الكب من الدلالة على حال المسلك للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستحق أن يسمى طريقاً. يعني: لم يقل الله تبارك وتعالى: أفمن يمشي مكباً على وجهه على طريق وعر فيه كذا وكذا من الآفات والحفر والارتفاع والانخفاض والتفاوت؛ لأن ما عليه الكافر من الضلال والانحراف لا يستحق أصلاً أن يوصف بأنه طريق؛ لأنه وهم وضلال، فاكتفى عن التعبير عن وعورة الطريق بوصف من يمشي عليه، وهذا ملمح مهم جداً من إعجاز القرآن الكريم وبلاغته، وهذا من عجائب القرآن الكريم، حيث ذكر المسلك في الثاني دون الأول، قال سبحانه: (( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى )) ثم قال: (( أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا )) أي: ليس منكباً مخراً على وجهه؟ لا، بل يمشي سوياً معتدلاً يرى الطريق (( عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) أي: على طريق واضح، في حين أنه لما وصف حال الكافر لم يثبت له الطريق، فكأن ما عليه الكافر لا يستحق أن يسمى طريقاً أو منهجاً، فأهمله واكتفى بالدلالة على وعورة الطريق بذكر صفة من يمشي عليه ويعاني من حزونته وصعوبته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل هو الذي أنشأكم...)

    قال تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ [الملك:23] أي: الذي خلقكم هو المستحق للعبادة وحده وسلوك صراطه. قوله: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [الملك:23] أي: العقول والإدراكات. قوله: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23] يعني: في استعمال هذه النعم فيما خلقت له.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل هو الذي ذرأكم في الأرض...)

    قال تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ [الملك:24] أي: خلقكم فيها؛ لتعبدوه وتقوموا بالقسط الذي أمر به. قوله: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الملك:24] للجزاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)

    قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [الملك:25] الوعد المقصود به هنا العذاب، وقيل: الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور دينه. قوله: إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الملك:25] أي: إن كنتم صادقين في الإنذار به والترهيب منه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إنما العلم عند الله...)

    قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الملك:26] أي: أبين الحجة على ما أنذركم به من زهوق باطلكم إذا جاء أجله، وأما تعيين وقته فليس إلي؛ لأن العلم عند الله سبحانه. قوله: (( وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ )) أي: معي البينة ومعي الحجة، فالذي يعنيكم ويهمكم أن تكون النذارة بينة ومعها دلائلها، أما متى فهذا ليس إلي، هذا إلى الله وحده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا...)

    قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ [الملك:27]. قوله: فَلَمَّا رَأَوْهُ الهاء تعود إلى العذاب، أي: فلما رأوا ما وعدوا به من العذاب وزهوق باطلهم. قوله: زُلْفَةً يعني: قريباً منهم. قوله: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: ظهر عليها آثار الاستياء من الكآبة والغم والانكسار والحزن، وتبين فيها السوء، وقيل: قبحت بالسوء. قوله: (وقيل) أي: لهم تبكيتاً. قوله: هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي: تطلبون وتستعجلون به. قوله: (تَدَّعُونَ) إما من الدعاء أو من الادعاء. وفي الصعيد توجد ألفاظ يستعملونها هي في غاية الفصاحة، ويبدو أنهم تأثروا بمجيء الصحابة إبان الجهاد الإسلامي وتواجدهم في الصعيد، أو لوجود قبائل أصلها قرشية عربية قديمة في الصعيد، ولذلك في لهجة الصعيد توجد كلمات عربية فصيحة، مثل قولهم: (ادْعِي لي) وهذا كلام فصيح، ومثل قولهم: (ادّلي) يعني: انزل، وهكذا تجد كثيراً من تعبيراتهم عربية فصيحة.

    الأقوال في معنى قوله: (تدعون)

    تدعون في معناها قولان: القول الأول: يقال: دعوت وادعيت، مثل: خبرت واختبرت فالمعنى: هذا الذي كنتم به تدعون وتطلبونه، ألم يكونوا يقولوا كما حكى الله عنهم: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص:16]؟ أليسوا هم القائلين ما حكى الله عنهم: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]؟ إذاً: المعنى: هذا الذي كنتم تطلبونه وتدعوننا وتسألوننا إياه وتستعجلون نزوله بكم وهو العذاب. القول الثاني: هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات:14] أي: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأكاذيب، حيث كنتم تدعون أنكم إذا متم لا تبعثون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي ...)

    قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الملك:28]. قوله: (( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ )) أي: بعذابه. قوله: (( وَمَنْ مَعِيَ )) يعني: من المؤمنين. قوله: (( أَوْ رَحِمَنَا )) أي: فلم يعذبنا. قوله: (( فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ )) أي: من يمنعهم ويؤمنهم من عذاب أليم. أي: أننا مع إيماننا بين الخوف والرجاء، ومع أننا مؤمنون، لكننا لا نأمن مكر الله سبحانه وتعالى ونخشى عذابه. فكيف يكون حالكم أنتم أيها الكفار، وقد جمعتم بين الكفر والتكذيب واستحققتم العذاب؟! فمن يمنعكم من العذاب مع كفركم؟! لا رجاء لكم كرجاء المؤمنين. المؤمنون يرجون الله سبحانه وتعالى، ولهم حق في هذا الرجاء، أما الكافرون فمن أين يأتيهم الرجاء وهم قد كذبوا وكفروا؟! كان كفار مكة يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم ريب المنون، يتمنون له الموت تخلصاً من دعوته وانتشارها، فأُمر أن يقول لهم ذلك، أي: أخبروني إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا بتأجيل آجالنا، فمن يجيركم من عذاب أليم أراد الله وقوعه بكم بسبب كفركم؟! وقال ابن كثير : أي: خلصوا أنفسكم فإنه لا منقذ لكم من الله إلا بالتوبة والإنابة والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال، فسواء عذبنا الله أو رحمنا فلا مناص لكم من عذابه ونكاله الواقع بكم، سواء كان ذلك العذاب في الدنيا أو الآخرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل هو الرحمن آمنا به...)

    قال تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الملك:29]. قوله: (( قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ )) أي: إلهنا الذي نعبده هو الرحمن عز وجل. قوله: (( آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا )) أي: بعد إيماننا به اعتمدنا عليه في أمورنا كلها، لا على ما تتكلون عليه من رجالكم وأموالكم. قوله: (فَسَتَعْلَمُونَ) أي: عند معاينة العذاب من الضال نحن أم أنتم؟ قوله: (( مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )) أي: في ذهاب عن الحق وانحراف عن طريقه نحن أم أنتم؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً...)

    قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30]. قوله: (( قُلْ أَرَأَيْتُمْ )) يعني أخبروني. قوله: (( إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا )) يعني: غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء، والدلاء جمع دلو، وهو الذي يستقى به الماء. قوله: (( فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ )) أي: من سوى الله سبحانه وتعالى يأتيكم بماء معين جار ظاهر سهل التناول تراه العيون؟ قال الرازي : المقصود تقريرهم ببعض نعمه تعالى؛ ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. أي: أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباً في الأرض فمن يأتيكم بماء معين؟ فلابد أن يقولوا: هو الله؛ ولذلك من الأدب عند تلاوة هذه الآية أن يقول الإنسان: الله رب العالمين، أي: الله هو الذي يأتينا بهذا الماء إن حصل هذا الغوران. وقد روي أن بعض الناس سمع هذه الآية: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ فقال: تأتينا به المعاول والفئوس؛ فغارت عيناه والعياذ بالله! إذاً: إذا سئلوا: (( فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ))؟ لابد أن يقولوا: هو الله سبحانه وتعالى، فيقال لهم حينئذ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في العبودية؟! وهذا كقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ [الواقعة:68-69] أي: بل هو أنزله وسلكه ينابيع رحمة بالعباد، فلله الحمد والمنة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755956375