إسلام ويب

تفسير سورة الفتح [3-6]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وينصرك الله نصراً عزيزاً)

    قال تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:3]. قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: وينصرك على سائر أعدائك ومن ناوأك نصراً لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، بالبأس الذي يؤيدك الله به وبالظفر الذي يؤيدك به؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينصرك، وهو الذي يعلي بك. وقال القرطبي : (( نَصْرًا عَزِيزًا )) أي: غالباً منيعاً لا يتبعه ذل، وعن ابن جريج في قوله: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا يريد بذلك فتح مكة وخيبر والطائف. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا أي: بسبب خضوعك لأمر الله يرفعك وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) يعني: لأن النبي عليه السلام خضع لأمر الله، وحقق أعلى مراتب العبودية التي لم يصل إليها بشر قبله صلى الله عليه وسلم، فكافأه الله سبحانه وتعالى بأن رفعه على العالمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ..)

    قال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح:4]. قوله: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) هذا يدل على أن المقصود بالسكينة في هذه الآية الكريمة السكينة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، أما مكانها فهو في قلوب المؤمنين، يقول ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) أي: جعل الطمأنينة، وهذا قاله ابن عباس ، وعنه: السكنية: الرحمة، وقال قتادة : الوقار في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله، وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم. وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب، يعني: بقوله تعالى: (( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ))، فهذه الآية من أدلة القرآن الكريم على أن الإيمان يزيد، وبالتالي ينقص؛ لأن ما كان قابلاً للزيادة يكون قابلاً للنقصان، وهذه عقيدة أهل السنة، ومسألة من أمهات المسائل في الإيمان، فعند أهل السنة: أن الإيمان تصديق بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأنه قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وقال القرطبي رحمه الله تعالى: السكينة: السكون والطمأنينة، وقال ابن عباس : كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في البقرة. يشير بذلك إلى قول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248]، فما عدا هذا الموضع في سورة البقرة فإن السكنية تعني السكون والطمأنينة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم فذلك قوله تعالى: ( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ) يعني: بما يصدقون به من شعب الإيمان المتجددة باستمرار، والتي كانت تضاف إلى الدين بين وقت وآخر عن طريق الوحي، فهم بذلك يزدادون إيماناً مع السابق، فإيماناً يعني: تصديقاً بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان، وقال الربيع بن أنس : (ليزدادوا إيماناً) خشية مع خشيتهم، وقال الضحاك : يقيناً مع يقينهم، وقال الخشني : السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن، وهو من مبادئ عين اليقين، يعني: أن مرتبة السكينة أعلى من مرتبة علم اليقين، ومن أوائل درجات مرتبة عين اليقين بعد علم اليقين، كأنه وجدان يقيني معه لذة وسرور. وقال الشوكاني : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) أي: السكون والطمأنينة بما يسره لهم من الفتح؛ لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم. ( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ) (ليزدادوا) هذا ضمير يعود إلى أهل الحديبية رضي الله تعالى عنهم أي: ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيماناً منضماً إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل. قال الكلبي : كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم يعني: كما أن المؤمن كلما آمن وتعلم شيئاً جديداً أو عمل بشيء جديد يزداد إيماناً مع إيمانه الأصلي السابق، كذلك الكافر أيضاً على الجهة الأخرى كلما كذب بشيء من الحق فإنه يزداد كفراً؛ لذلك قال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية قال: إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، فأكمل لهم دينهم فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] ). وعنه أيضاً قال: فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله.

    كلام ابن القيم حول السكينة وأنواعها وآثارها وأسبابها

    تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلاماً موسعاً عن معاني السكينة في مصنفين: الأول مدارج السالكين، والثاني: إعلام الموقعين عن رب العالمين، فتكلم في إعلام الموقعين أثناء شرحه لقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيما يشترط في المسلم، وهو أن يكون له حلم ووقار وسكينة، يقول: فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار، فإنها كسوة علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالجبل العاري من اللباس، وقال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم، والناس هاهنا أربعة أقسام: فخيارهم من أوتي الحلم والعلم -والحلم هي السكينة والوقار-، وشرارهم من عدمهما لا حلم ولا علم، الثالث: من أوتي علماً بلا حلم، والرابع: عكسه، يعني: من يؤتى حلماً، لكن لا علم له، فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله، وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات، فالحليم لا يستفزه البداوات أي: بداءات الأمور، لا يستفزه المبتدأ بل ينظر إلى الخبر كما قال الشاعر: مبتدأ حلو لمن ذاقه ولكن انظر خبر المبتدأ فالحليم دائماً ينظر فيما بعد ولا ينظر إلى بداءات الأمور: فلا تخدع بأول ما تراه فأول طالع فجر كذوب فلابد أن يتحلم الإنسان ويتصبر، يقول: فالحليم لا يستفزه البداوات، ولا يستفزه الذين لا يعلمون، ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل، بل هو وقور ثابت ذو أناة، يملك نفسه عند ورود أوائل الأمور عليه، ولا تملكه أوائلها، وملاحظته للعواقب تمنعه من أن تستخفه دواعي الغضب والشهوة، فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير، فيؤثره ويصبر عليه، وعند الشر فيصبر عنه، فالعلم يعرفه رشده، والحلم يثبته عليه، وإذا شئت أن ترى بصيراً بالخير والشر لا صبر له على هذا ولا عن هذا رأيته، وإذا شئت أن ترى صابراً على المشاق لا بصيرة له رأيته، وإذا شئت أن ترى من لا صبر له ولا بصيرة رأيته، وإذا شئت أن ترى بصيراً صابراً لم تكد، وإذا رأيته فقد رأيت إمام هدى فاستمسك بغرزه، والوقار والسكينة ثمرة الحلم ونتيجته. يقول: ولشدة الحاجة إلى السكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير إلى ذلك بحسب علومنا القاصرة، وأذهاننا الجامدة، وعباراتنا الناقصة، ولكن نحن أبناء الزمان، والناس في زمانهم أشبه منهم بآبائهم، ولكل زمان دولة ورجال. فالسكينة فعِيْلة من السكون، وهو طمأنينة القلب واستقراره، وأصلها في القلب، ويظهر أثرها على الجوارح، وهي عامة وخاصة، فسكينة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أخص مراتبها وأعلى أقسامها يعني: أعلى درجات السكينة حازها الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. يقول: فالسكينة حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى الله لما أضرم له أعداء الله من النار، فلله تلك السكنية التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وتعبير السفر هنا هو تعبير مجازي؛ لأن السفر معروف معناه في اللغة، وهنا إبراهيم عليه السلام ما أدخلوه من الباب، لا، بل بنوا له بنياناً مغلقاً عالياً، وأضرموا فيه النيران، ثم وضعوه على المنجنيق -وهو شيء مثل المدفع-، ثم رموه في الهواء حتى يسقط في هذه النار، بحيث لا يستطيع الفرار من مثل هذا البناء المحكم فإبراهيم عليه السلام في أشد لحظات الابتلاء وهو في هذه المرحلة العصيبة التي قطعها من ساعة انطلاقه بالمنجنيق إلى أن دخل في هذه النيران يطلق عليه الإمام ابن القيم اسم المسافر، أي: السفر من المنجنيق إلى النار، فإبراهيم عليه السلام في هذه اللحظات كان في أعلى درجات السكينة والطمأنينة والوقار والثقة بالله عز وجل، فما كان له من قول إلا أن قال: حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل! ففوض أمره إلى الله، وتوكل على الله، وتحمل في سبيل الله هذا العمل وهذا العذاب، وقد صح في الحديث أن هذه الكلمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها المؤمنون حين قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]. ويروى في بعض الآثار عند تفسير قوله تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] أن إبراهيم عليه السلام في تلك اللحظة وهو في هذا السفر الذي استغرق ثواني معدودات عرض له جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا -يعني: لأنك مخلوق-، وإنما حاجتي إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: حسبي الله -يعني وحده- ونعم الوكيل. والتوكل لا يكون إلا على الله وحده، فإن بعض الناس يخطئون حيث يظنون في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] أن معناها: حسبك وكافيك الله والمؤمنون معه يكفونك، لا، هذا التفسير غير مقبول على الإطلاق، وإنما: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه ) الله كافيك وكافي المؤمنين، فهو حسبك وحسب المؤمنين أيضاً، وليس المعنى: حسبك الله والمؤمنون أيضاً حسبك؛ لأن الحسب -الذي هو بمعنى التوكل والتفويض إلى الله- عبادة كالسجود والركوع، ولا يجوز أن تقول لشخص: توكلت على الله ثم عليك، حتى لو قلت (ثم)؛ لأنها بالضبط كأنك تقول: سجدت لله ثم لك! فالتوكل لا يكون إلا على الله وحده سبحانه وتعالى، فتقول: توكلت على الله وحده، أما توكلت على الله ثم عليك حتى لو استعملت (ثم) فليس هذا موضعها؛ لأن التوكل عبادة مثل السجود والركوع، والتعبد إنما يكون لوجه الله سبحانه وتعالى. الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام أنزل الله في قلبه في هذا الوقت العصيب أعلى درجات السكنية، يقول: فالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى ما أضرم له أعداء الله من النار فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد أدركه فرعون وجنوده من ورائهم، والبحر أمامهم، وقد ناداه بنو إسرائيل: يا موسى! أين تذهب بنا؟ هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا! قال الله: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فأجاب موسى بكل ثقة وبكل طمأنينة ووقار وسكينة: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]؛ لأنه واثق بوعد الله سبحانه وتعالى أن يجعل له مخرجاً، وأن ينصره ويمكنه وينجيه من فرعون وجنوده، فتأملوا هذا الموقف! فرعون بجنوده وعساكره يطاردهم، ثم هم يجرون حتى انتهى بهم الأمر عند البحر: فـ((قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)) وإن هنا للتوكيد، وأيضاً التوكيد باللام: (( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ))، والجواب من موسى عليه السلام: (( قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ))، فهذا بلا شك غاية الطمأنينة والوقار. والثقة بالله سبحانه وتعالى. وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكريم الله له نداء ونجاءً، كلاماً سمعه حقيقة بأذنه، وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعباناً مبيناً. وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً [طه:67]، وهذا الخوف ليس بخوف مذموم، فهو الخوف الجبلي الموجود في البشر، كما يخاف الإنسان من الأسد إذا رآه أو من النار أن تحرقه، وغير ذلك من الخوف الفطري الجبلي الذي لا يخلو منه بشر، وقيل: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67] خاف أن يفتن الناس قبل أن يلقي هو عصاه، وقيل: ألقى: (( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى )) خاف حين أبطأ عليه الوحي كإبطاء العصا أن يفترق الناس قبل المعجزة. وكذلك السكينة التي حصلت لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار، فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما! وللمناسبة فإن قصة العنكبوت والحمامة والبيض ونحو هذا الكلام لم يثبت وهذا يصدم عواطف كثير من الناس، ويعز عليهم جداً أن يعرفوا أن هذه القصة غير صحيحة وضعيفة السند، ولكن لا شك أن عدم وجودها هو أقوى لوجود هذه السكينة؛ لأن عدم وجود هذه الأشياء يكون أدعى أنهم دخلوا يستخفون، ولكن مع ذلك صدقهم الله سبحانه وتعالى، وبعض الناس تصطدم عواطفهم إذا علموا بذلك، لكن نقول: ليس بأمانيكم ولا أماني الوضاعين، وإنما الحكم هنا لأهل الحديث وعلماء الحديث. يقول: كما قال تبارك وتعالى: (( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ )) قال بعض السلف: هذه الآية فيها عتاب لكل الأمة إلا أبي بكر رضي الله عنه: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة:40] قال: (يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما): فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:40] إلى آخر الآية. وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة، وأعداء الله قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره، فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم عند أرباب البصائر، فإن الكذاب ولاسيما الذي يكذب على الله سبحانه وتعالى أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطراباً في مثل هذه المواقف، فلو لم يكن للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم. فالرسل لهم أعلى مراتب السكينة وأخصها على الإطلاق، وهي مرتبة سكينة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أما الخاصة التي هي دونها فهي تكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم، وهي سفينة الإيمان، فهي

    معنى قوله تعالى: (ولله جنود السماوات والأرض ...)

    قوله تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح:4] يقول شيخ المفسرين رحمه الله: يقول تعالى ذكره: (( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه. وجنود السماوات والأرض موضوع مستقل لوحده، ولا نريد أن نخرج مع كل كلمة عن سياق التفسير، ولكن جنود الله عز وجل كثيرة في السماوات والأرض، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] وهي لا تعد ولا تحصى، ولا ينبغي أن نحصر جنود الله فقط في الملائكة، فالملائكة أحد جنود الله عز وجل، فبجانب الملائكة المؤمنون من البشر كما قال تعالى: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173] فجنود الله تتنوع مثل الرياح.. الأمطار.. الأمواج.. كل هذه الأشياء هي جنود من جند الله عز وجل، تستجيب لأمره، وينزل الله بها بأسه على من يشاء، أو ينصر ويؤيد بها من يشاء، ويرزق بها من يشاء، كلها جنود مسخرة لأمر الله. ومن أعاجيب جنود الله سبحانه وتعالى ما نسمع عنه في هذا الزمان من الأمراض التي تنشأ بسبب الفيروسات، وهي أدق بكثير جداً جداً من البكتيريا التي يمكن أن ترى بالميكروسكوب، لكن الفيروس لا يرى إلا بالميكروسكوبات الألكترونية، التي تكبره ملايين المرات حتى يمكن رؤيته! وهذا عالم بحد ذاته مستقل، وله أخباره العجيبة، فهذه إشارة عابرة نستدل بها على أن جنود الله سبحانه وتعالى كثيرون جداً، يعملون بأمر الله سبحانه وتعالى وينفذونه. يقول: (( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ))، أي: أن الله تعالى لم يزل عالماً بما هو كائن قبل كونه، وما خلقه عاملوه، حكيماً في تدبيره. وقال ابن عباس : (( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس. وقال الشوكاني : يعني: الملائكة والإنس والجن والشياطين، يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض، ويحوك بعضهم ببعض، ((وكان الله عليماً)) كثير العلم ((حكيماً)) في أفعله وأقواله. وقال القاسمي : أي: أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه. وقال ابن كثير : ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، يعني: هذه إشارة إلى نفس الحكمة التي سبق الكلام عنها في سورة القتال في قوله تبارك وتعالى ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4] يعني: لابد أن نستخضر هذا الأمر: (( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ )) يعني: هذا الذي يعادي الله ورسوله، ويحارب دين الله من كفار والمنافقين وغيرهم، وهذا الذي يشكوه المؤمنون من الضعف والاستضعاف والإذلال وغير ذلك من هذا العناء، ينبغي أن نستحضر دائماً أن الله سبحانه وتعالى قادر على إزالته، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فالله سبحانه وتعالى قادر على أنه بكلمة مكونة من حرفين (كن) يصبح جميع من على الأرض على أتقى قلب رجل واحد منهم، وهو قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أليس الله بقادر على ذلك؟ بلى، لو أن الله قال لجميع البشر: كونوا مثل محمد عليه السلام لكانوا، أو لو قال لجميع البشر: كونوا مثل إبليس لعنه الله على أفجر قلب رجل واحد منهم؛ لحصل ذلك، ولا يضر الله شيئاً، لكن هذا ينافي حكمة الخلق والابتلاء، فالناس الذين يقهرون المسلمين ويحاربون دين الله سبحانه وتعالى لو نزل ملك واحد ينفخ فيهم على شكل صيحة -كما صاح جبريل على قوم لوط- لأبادهم جميعاً من صيحة واحدة، فالله تعالى قادر على ذلك، لكن الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل؛ لأن هناك أجلاً قد كتبه الله، ولأن الإيمان هنا في هذه الحالة سيكون إيماناً اضطرارياً بالإكراه، ولا إكراه في الدين، فالعبرة بالخضوع والانقياد الناتج عن تفكر وتدبر وإيمان كسبي، أما الاضطرار للإيمان فهذا معناه أنك تتبع ديناً مكرهاً كيوم القيامة؛ بدليل أن جميع الناس يوم القيامة يؤمنون، وجميعهم يكونون على يقين، لكنه يقين غير مكتسب، بسبب أنهم بعثوا ورأوا آيات الله سبحانه وتعالى، قال الله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] لكنه يقين لا ينفع؛ لأن العبرة باليقين في الدنيا حتى يكون هناك إيمان بالغيب: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]، أما أن يصير الغيب عياناً، فنرى الملائكة تنزل على الذين يحاربون الدين، فتقصم ظهورهم، أو تمزقهم إرباً، وكل هذا الله قادر عليه، لكنه ينافي حكمة خلق الدنيا للابتلاء؛ لأنه هذا لو حصل فسينتهي التكليف؛ لأن الناس إذا رأوا هذه الخوارق عياناً فكلهم سوف يؤمنون، وتنتهي الحكمة من خلق الدنيا، فإذاً لابد أن نستحضر هذا قال تعالى: ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ))[محمد:4] حتى يستمر الابتلاء والامتحان، كذلك أشار تعالى هنا بعدما قال: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ، وبعد قوله: (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )) يعني: أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لانتصر من الكافرين؛ لأن لله جنود السماوات والأرض، ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم، ولكنه شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال؛ لما في ذلك من الحكمة البالغة، والبراهين الدامغة، ولهذا قال: (( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )) مع أن له جنود السماوات والأرض، وهو قادر على إهلاك جميع الكافرين في لحظة واحدة، لكنه مع ذلك عليم حكيم لحكمة يعلمها، وهي استمرار الابتلاء في هذه الدار التي هي دار البلاء في الدنيا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ... )

    قال تبارك وتعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا [الفتح:5]. يقول شيخ المفسرين وإمامهم رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) لتذكر ربك وتحمده على ذلك؛ فيغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وليحمد المؤمنون ربهم، فيذكروه على إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من الفتح الذي فتحه وقضاه بينهم وبين أعدائهم من المشركين لإظهاره عليهم، فيدخلهم بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها إلى غير نهاية، ويكفر عنهم سيئ أعمالهم بالحسنات التي يعملونها؛ شكراً منهم لربهم على ما قضى وأنعم عليهم به. قوله: (( وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا )) يقول تعالى ذكره: وكان ما وعدهم الله به من هذه العدة -وذلك إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وتكفيره سيئاتهم بحسنات أعمالهم التي يعملونها عند الله لهم- ((فوزاً عظيماً)) أي: ظفراً منهم بما كانوا يأملوه ويسعون له، ونجاة مما كانوا يحذرونه من عذاب الله. وهذه الآية نزلت لما تلا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام قول الله عز وجل: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:1-2] قالوا: هذا لك يا رسول الله فماذا لنا؟ تبييناً من الله لهم ما هو فاعل بهم، فنزل قوله تعالى: (( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ))[الفتح:5]. قوله: (( وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ )) أي: يسترها ولا يظهرها، ولا يعذبهم بها، وقدم الإدخال على التكفير؛ لأن الآية: (( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ )) ثم قال بعد ذلك: (( وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ))، والأصل أنه يكفر السيئات أولاً ثم بعد ذلك يدخلهم الجنات، لكن هنا ذكر أولاً إدخال الجنات، ثم ذكر بعدها التفكير عن السيئات، فقال: (( وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ )) أي: يسترها ولا يظهرها، ولا يعذبهم بها، وقدم الإدخال على التكفير مع أن الأمر بالعكس، للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى والمقصد الأسمى، فبدأ بذكر الأهم وهو دخول الجنة؛ لأن هذه هي الغاية العظمى. (( وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا )) أي: كان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند الله وفي حكمه فوزاً عظيماً أي: ظفراً بكل مطلوب، ونجاة من كل غم، وجلباً لكل نفع، ودفعاً لكل ضر. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: أظهر الأقوال وأصحها في الآية أن اللام في قوله: (( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ )) متعلقة بقوله: (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ )) لماذا؟ (( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ )) وكذا.. وكذا.. ثم قال: (( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )). وقال الألوسي في تفسير هذه الآية: (( وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ )) يعني: يغطيها ولا يظهرها، والمراد: يمحوها سبحانه ولا يؤاخذهم بها. يقول: ويجوز عندي أن يكون التكفير في الجنة، على أن المعنى يدخلهم الجنة، ويغطي سيئاتهم ويسترها عنهم، فلا تمر لهم ببال، ولا يذكرونها أصلاً؛ لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم؛ لأن ذكرها في حال الصفاء جفا، فيسترها عنهم، فلا تمر لهم ببال، ولا يذكرونها أصلاً، فينسيهم سيئاتهم ولا يذكرونها أصلاً؛ لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم في الجنة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات..)

    قال تبارك وتعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6]. يقول الألوسي : تقديم المنافقين على المشركين؛ لأنهم أكثر ضرراً على المسلمين، فكان في تقديم تعذيبهم تعجيل المسرة؛ لأن المراد إدخال السرور على المؤمنين بما يبشرهم الله به من إدخال الجنات، وتكفير السيئات، والفوز العظيم، ثم يقول: (( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ )) يعني: تعجيلاً للخبر بالمسرة، وتبشير المؤمنين بأن المنافقين أشد ضرراً وحرباً على الإسلام من المشركين؛ ولذلك فهم في الدرك الأسفل من النار. يقول شيخ المفسرين: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ))، وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار، ويعذب المنافقين والمنافقات لفتح الله لك يا محمد ما فتح لك، من نصرك على مشركي قريش؛ فيكبتوا بذلك؛ ويحزنوا ويخيب رجاؤهم الذي كانوا يرجونه من رؤيتهم في أهل الإيمان بك من الضعف والوهن، والتولي عنك في عاجل الدنيا. قوله: (( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ )) يعني: وليعذب كذلك أيضاً المشركين والمشركات. وقال القرطبي : قوله تعالى: (( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ )) أي: بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبأن يسلط النبي صلى الله عليه وسلم عليهم قتلاً وأسراً واسترقاقاً. وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: ثم لما فرغ مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم، فقال: (( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ )) وهو معطوف على (يدخل) أي: يعذبهم في الدنيا لما يصل إليهم من الهموم والغموم. وهذا شيء طبيعي جداً أن نتوقعه من أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، أنهم يسوءهم عزة الإسلام، ونصرة المسلمين، فإن الله سبحانه وتعالى قال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، وقال: وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32] إذاً: قوله: (( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ )) يعذبهم في الدنيا بأن يدخل عليهم الهموم والغموم؛ بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام، وقهر المخالفين له، وبما يصابون من القهر والقتل والأسر، وفي الآخرة بعذاب جهنم، ولذلك قال: (( وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ )). وفي تقديم المنافقين على المشركين دلالة على أنهم أشد منهم عذاباً، وأحق منهم بما وعدهم الله به: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6].

    معنى ظن السوء في الآية

    قوله تعالى: (( الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ )) هذه الصفة للفريقين: للمنافقين والمنافقات، وللمشركين والمشركات، فمن صفات أهل النفاق وأهل الشرك أنهم يظنون بالله ظن السوء، وإذا كانت هذه الصفة من خصائص المنافقين والمشركين فالواجب على أهل الإيمان أن يتنزهوا عن هذا الخلق وعن هذا الوصف. يقول شيخ المفسرين رحمه الله: (( الظانين بالله )) أن لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين بك؛ وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع. فظن السوء: أن الإسلام يظل دائماً في اندحار، ولن ترتفع كلمة الله سبحانه وتعالى على كلمة الكفر، يقول الله تبارك وتعالى أيضاً في نفس هذا المعنى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15] في سورة الحج ( مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ ) الضمير هنا يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يسبق له ذكر في السياق، لكن هذا مفهوم، من كان يظن بالله أنه لن ينصر عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ماذا يعمل؟ يموت نفسه؛ لأنه لن يضر إلا نفسه، فالله معز دينه، وناصر نبيه صلى الله عليه وسلم، فالذي يظن فعلاً هذا الظن السيئ بالله ليس له إلا أن يكيد نفسه، فإن هذا الظن لن يضر الله ورسوله شيئاً، فإن كلمة الله غالبة، فمعنى الآية: من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء، يدله على طريقة من طرق الانتحار، يربط حبلاً في سقف البيت أو الحجرة، ويقف على شيء مرتفع، ويربط الحبل على رقبته، ومن ثم يزيحه برجليه ويخنق نفسه، هذا هو معنى الآية، (( ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ )) هل هذا الكيد يذهب عنه الذي يغيظه من نصرة الله لنبيه عليه السلام؟! لن يكيد إلا نفسه، فهذا معنى الآية. وقال ابن كثير في قوله تعالى: (( الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ )) أي: يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال: (( عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )) قوله: (( وَلَعَنَهُمْ )) يعني: أبعدهم من رحمته. وقال القاسمي : (( الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ )) أي: ظن الأمر السوء، وهو أن لن ينصر الله تعالى رسوله والمؤمنين. وقال القرطبي : يعني: ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى المدينة، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية، وأن المشركين يستأصلونهم كما قال: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12]. وقال الشوكاني : ثم وصف الفريقين أي: المنافقين والمشركين، فقال: (( الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ )) ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله: (( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا )).

    كلام ابن القيم في بيان أن الظن السيء من أخلاق المنافقين والمشركين

    قوله تبارك وتعالى: (( الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ )) هذا مما يبين لنا أن هذا الظن السيئ بالله سبحانه وتعالى من أخلاق المنافقين والمشركين، وقد وضح الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى في أثناء كلامه في كتابه الرائع: (زاد المعاد) هذا المعنى حينما كان يذكر الحكم والغايات المحمودة التي كانت في غزوة أحد، فيقول: وأنهم -أي: بعض المنافقين- يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، ولم يهمهم أمر دين الله، ولا نبيه، ولا أصحابه، فهؤلاء أهمتهم أنفسهم لا أمر الدين، ولا أمر النبي عليه السلام، ولا أمر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كان من شأنهم أنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يصيبهم القتل، فهذا هو معنى (( يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ))، وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة والقدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله ويظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح، حيث يقول: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6]، وإنما كان هذا ظن السوء وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل وظنهم غير الحق، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ [آل عمران:154] يعني: غير ظن الحق ظن الجاهلية؛ لأنهم ظنوا غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء؛ لأن هذا سوء الظن بالله، كأن يظن أحد أن الإسلام يظل دائماً في اندحار، وأن المسلمين سيستأصلون تماماً ويقضى على دينهم ودعوتهم، فهذا سوء ظن بالله عز وجل، وفيه نسبة ما لا يليق بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، بخلاف ما يليق بحكمه، وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، ولكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون، فمن ظن أنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً؛ فقد ظن بالله ظن السوء! تأملوا الكلام هنا على من يظن هذا الظن، ظن أن الإسلام يقضى عليه تماماً إلى الأبد، ولا ترتفع له كلمة؛ هذا من ظن السوء بالله، وهو الظن اللائق بالمنافقين والمشركين وأعداء الدين، أما المؤمنون فلا يمكن أن ينسبوا إلى الله ما لا يليق به، لكن لا يعكر على هذا أن الأيام دول كما قال تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، يوم لك ويوم عليك، الصراع بين الحق والباطل من سنن الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، أما أن يظن أن الباطل يتمكن ويقهر الإسلام إلى الأبد، بحيث يضمحل الإسلام، ويقضى على الدعوة تماماً؛ فهذا سوء ظن بالله عز وجل، ونسبة ما لا يليق به إليه. يقول: وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً؛ فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة مستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله. وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته. وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدر من ذلك وغيره لحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى، ولا أنشأها عبثاً، ولا خلقها باطلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]. وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص به، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء. فهذه بعض من صور الظن السيئ بالله سبحانه وتعالى، والقنوط واليأس من روح الله عز وجل كما سنبين ذلك تفصيلاً. يقول: فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه؛ فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أن يترك خلقه سدىً معطلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه لن يجمع عبده بعد موته للثواب والعقاب، في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويتبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، من لم يعتقد بذلك كله فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه، ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويجريها على أيديهم يضلون بها عباده، وأنه يحصل منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين عنده في الحكم سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقدر قبح أحدهما وحسن الآخر؛ فقد ظن به ظن السوء. وهذا رد على الأشاعرة وغيرهم في موضوع التحسين والتقبيح العقلي. قال: ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة، وأشار إليه إشارات خفية لم يصرح بها، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير مراده، ويتطلبون له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم ألا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان؛ فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز. وإن قال: إنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان والتصريح بالحق إلى ما يوهم ما يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد؛ فقد ظن بحكمه ورحمته ظن السوء، وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بطريقة دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله فإنما يقصد من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال -هذا كله رد على من يلحدون في الأسماء والصفات- وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق، فهذا من أسوأ الظن بالله. فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية. ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه؛ فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً؛ فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات ولا عدد السماوات والأرض ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات في الأعيان؛ فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر، ولا علم له ولا إرادة، ولا كلام يقوم به، وأنه لم يكلم أحداً من الخلق ولا يتكلم أبداً، ولا قال ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه، بائناً من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، ومن قال: سبحان ربي الأسفل كمن قال: سبحان ربي الأعلى؛ فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه. ومن ظن به أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان، ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح؛ فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة والمقربين وأوليائه المصلحين؛ فقد ظن به ظن السوء. الإمام ابن القيم استعرض كل الفرق المنحرفة في باب العقائد في هذا الفصل الرائع من كتابه المبارك: (زاد المعاد)، ونكتفي بهذا الاقتباس من الكتاب، ونختم بقوله: فليعتن اللبيب الناصح نفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله، ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بسوء الظن من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل

    حاجة المؤمن إلى الأمل وانتظار الفرج

    نريد أن نلفت النظر إلى حاجتنا الماسة -خاصة في الظروف التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام- إلى الأمل، وانتظار الفرج من الله سبحانه وتعالى، وأن يتعلق الإنسان بالرجاء؛ لأن مقتضى الإيمان حسن الظن بالله، وتنزيه الله عن سوء الظن به عز وجل، كما يقول الشاعر: أعلل النفس بالآمال أرشدها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل وبدلاً من أن نقول: قال الشاعر، نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) فنحن أمرنا بالتبشير، وأن نوقظ في قلوب الناس الأمل وحسن الظن بالله عز وجل، وانتظار الخير والتفاؤل بالمستقبل. وفي الحديث الذي رواه الترمذي -وهو حديث حسن- يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا) (أنا أول الناس خروجاً) يعني: من القبور (إذا بعثوا). (وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مذكرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر) صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه من خصائص رسولنا عليه السلام: (وأنا مبشرهم إذا أيسوا)، فهو فعلاً مبشر الأمة إذا أيسوا، سواء في الدنيا أو في الآخرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (بشروا ولا تنفروا)، فكان من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دائماً بعث الأمل في النفوس؛ لأن هذا أقوى سلاح تهزم به عدوك حتى لو كنت في أقصى درجات الاستضعاف، ولن نذهب بعيداً، لكننا سنأتي بالدليل من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لنهتدي بهدي من هديه في هذه المحنة. يقول خباب بن الأَرَت رضي الله تعالى عنه: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض، ثم يوضع فيها، ثم يوضع المنشار على رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، لا يصده ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) وفي حديث آخر لـخباب قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يفتنا) وهذا الحديث له تفسيران: التفسير الأول: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء) يعني: صلاة الظهر في الحر الشديد (فلم يفتنا) يعني: لم يجز شكوانا، ولم يأذن لنا في أن نؤخر صلاة الظهر إلى أن تبرد الأرض ويتكون الظل، وهذا كان أولاً، ثم نسخ بعد ذلك بجواز الإبراد في صلاة الظهر وتأخيرها إلى أن يكون ظل، فهذا الحديث منسوخ على هذا التفسير. التفسير الثاني: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء) يعني: تعذيب المشركين إيانا بحر الرمضاء، (فلم يشكنا) يعني: لم يجز شكوانا، ولم يدع لنا، وإنما فعل كما بينته الرواية الأخرى: عزاهم وواساهم بأن هذه سنة الله في الذين خلوا من قبل، قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، فهذه سنة الله في الابتلاء، ولابد أنها ماضية، قبل أن يمكن الله هذا الدين لابد أن يدفع لهذا التمكين هذا الثمن، ولذلك قال: (لقد كان من قبلكم..) لأنهم يقولون: (ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟) لا نجد في الحديث دعاء ولا استنصاراً، وإنما هو تعزية وتسلية بسنة الله التي لا تتبدل من ابتلاء المؤمنين، (لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل) إلى آخر الحديث، ثم قال مذكراً إياهم في أحلك اللحظات -وهذا هو الشاهد من كلامنا: أن المؤمن حتى في أشد اللحظات لا يسيء الظن بالله، بل لابد أن يؤمل رحمة الله عز وجل-: (والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر) وهذا قاله وهم في أشد حالات الاستضعاف، (حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله) وهذا هو الخوف الواجب من الله سبحانه وتعالى، (والذئب على غنمه) وهذا هو الخوف الفطري فقط، لكن لن يخاف من أي شيء سوف يلاقيه، وهذا بشارة تمكين المسلمين، وقد حصل هذا، بل أضعاف هذا كما هو معلوم. إذاً: في لحظات الشدة والمعاناة ينبغي أن يتسلح المسلمون والمؤمنون بالأمل في الله عز وجل، فالمستقبل للإسلام، وليس هذا كذباً على الناس، وإنما هو تذكير لهم لما بشرهم به الصادق المصدوق الذي وصف نفسه بقوله: (وأنا مذكرهم إذا أيسوا) يعني: هو الذي يزيل ظلمة اليأس والقنوط بالبشارة والإخبار بأن المستقبل لهذا الدين. فالأمل والتفاؤل وانتظار الفرج من الله سبحانه وتعالى من خصائص المؤمنين، بخلاف الكافرين كما ذكرنا، وقد روى الترمذي بسند فيه موسى بن محمد وهو منكر الحديث، لكن إذا صح الحديث فإنه يفيدنا الاستشهاد به في هذا الموضع، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئاً، ويطيب نفسه) (إذا دخلتم على المريض) يعني: لعيادته (فنفسوا له في أجله) يعني: أذهبوا حزنه فيما يتعلق بأجله، يعني: قد يكون المريض مشرفاً مشفقاً أن يموت، ففي هذه الحال الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر أن من آداب عيادة المريض -إذا صح الحديث- تشجيع العليل بلطيف المقال، وحسن الحال، فأنت قل له: لا بأس طهور إن شاء الله، أو تدعو له بطول العمر أو البركة في العمر، وأن الله سيشفيه ويعافيه، أو تقول له: لا تخف سوف يشفيك الله عز وجل.. إلى آخره، فتنفس له في أجله يعني: أنك تمنيه وتعطيه الأمل أنه سوف يحيا ويعيش، ولا يجزع من الموت، إلا إذا كان المرض فعلاً خطيراً، وهو على وشك الموت بالفعل، فمن الغش والخيانة أن تخبئ عنه أنه على وشك الموت، كما يذهب بعض الناس إلى إخفاء حقيقة المرض عن المريض، وإخباره به فيه مصلحة له في أن يعرف أنه مقبل على الموت، فلو أن عنده أمانات للناس يردها أو وصية يوصي بها ويستعد بالتوبة وغير ذلك من الخيرات الكثيرة، والشاهد إذا صح الحديث: (ونفسوا له في أجله) إما بهذا المعنى تعطيه أملاً في أنه سوف يشفى ويعافى، أو نفسوا له يعني: وسعوا له في أجله، فيتنفس عنه الكرب؛ لأن التنفيس هو التفريج. فالمقصود: أننا نذكر له كلاماً نبعث له فيه الأمل في طول عمره. يقول: (فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئاً) (فإن ذلك) يعني: ذلك التنفيس كلمة طيبة، ولن ترد شيئاً من قدر الله، إن قدر الله أنه يموت فسوف يموت، سواء بهذا المرض أو بغيره، فهذا التنفيس لن يضر شيئاً من الموت المقدر، ولن يطول عمره، ولكنه يطيب نفسه، ويفرج عنه، وينعشه، ويبعث فيه الأمل، (فإن ذلك لا يرد شيئاً ويطيب نفسه). فلذلك نجد الأطباء يلجئون لشيء من هذا مع المرضى، لكن أحياناً بطريقة فيها كذب، فبعض الأمراض المستعصية جداً ممكن الدكتور يقول للمريض: هذا دواء يجرب في هذا الوقت فيعالج هذه الحالة، ويكون الدكاترة ما اكتشفوا الدواء بالفعل؛ لأن كل داء له دواء، وهذا من أعظم آداب الإسلام، ومهما حاول الطب لم يستطع أن يصل إلى هذه القمة التي عبر عنها الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: (ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء) فما نقول أبداً كما يقول الأطباء الغربيون مثلاً: السرطان ليس له دواء، السكر ليس له دواء يستأصله، لكن نقول: له دواء لكننا لم نكتشفه ولا نعرفه، فيوجد له دواء؛ لأن الصادق المصدوق أخبر أن الله الذي ينزل الداء ينزل معه الدواء: (علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا داء واحداً هو الهرم) أي: الشيخوخة والموت. والرسول عليه الصلاة والسلام كان يراعي هذا الأدب، وتأملوا الحديث الآخر حينما كان عليه الصلاة والسلام يعود مريضاً ماذا كان يقول: (اللهم أذهب الباس، رب الناس) تأملوا كم مرة تكررت مادة (شفا) ومشتقاتها في هذا الدعاء، فهذا فيه بعث التفاؤل في طول الأجل، وأنه سوف يشفى، فالأمل مهم جداً أن يتسلح به الإنسان، والدعاء هو: (أذهب الباس، رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً) يعني: الشفاء من المرض الذي لا يكون بعده نكسة؛ لأن كثيراً من الأمراض حتى لو شفي الإنسان بعدما يتعاطى الدواء فممكن من بعد أن الإنسان تحصل له نكسة ويرجع المرض من جديد، لكن انظر إلى حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يدعو له بالشفاء، (لا يغادر سقماً) بحيث لا يعود له المرض أبداً، ولا يحصل له نكسة وانتكاس، فنحن نريد أن نقتبس من هذه الآداب النبوية أن الأمة أيضاً إذا مرضت ننفس لها في الأجل، لا أقول: نكذب كما يكذب بعض الأطباء يريد أن يحسن الحالة النفسية للمريض؛ لأن لها تأثيراً كبيراً على الحالة العضوية، فلا نريد أن نسلك هذا المسلك، لكننا سوف نأتي بكلام من لا ينطق عن الهوى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، فقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن النصر والتمكين والمستقبل لهذا الدين، فينبغي أن نلتزم قول النبي عليه السلام ففي الحديث: (خير الهدي هدي محمد) صلى الله عليه وسلم، فمن هديه وصفاته ما ذكره في هذا الحديث: (وأنا مبشرهم إذا أيسوا) فعلينا أن نبشر الناس إذا أيسوا وإذا ادلهمت الخطوب. وهذا من باب الأمل، وقد فتح الله باب الأمل لأكفر الخلق إجراماً وهم المنافقون، دعاهم الله سبحانه إلى التوبة، ودعا أهل الكتاب من النصارى الذين سبوه وشتموه إلى التوبة فقال: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74]، ودعا الكافرين وفتح لهم باب الأمل في الجنة فقال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، ودعا العصاة المسرفين على أنفسهم بالمعاصي فقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَ

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756318288