إسلام ويب

تفسير سورة التوبة [30-40]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ...)

    قال تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30]. قوله تبارك وتعالى: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) هذا الجزء من هذه الآية يصح أن يكون عنواناً لبحث مستفيض جداً، وهو بيان هذه المضاهاة وتفاصيل المشابهة بين قول اليهود والنصارى في زعم الولد لله سبحانه وتعالى، وبين الذين كفروا من قبل (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل)، فإن الشخص الباحث سواء في تاريخ الأديان أو في تاريخ البشر والملل سيرى من ذلك ما لا ينقضي منه العجب. فإذا ردت هذه العقيدة الفاسدة إلى أصلها سنجدها تعود إلى أصول وثنية ومشركة، وأن شياطين الإنس الذين حرفوا النصرانية في الدرجة الأولى ثم اليهودية، لم يكونوا مؤسسين، وإنما هم مقتدون بمن سبقهم من أهل الشرك والوثنية من قدماء المصريين، ومن ملاحدة وزنادقة الهند من البراهمة والبوذيين إلى آخره، وقد صدر كتاب اسمه: (العقائد الوثنية في الملة النصرانية)، هذا الكتاب يرجع كل ركن من أركان العقيدة النصرانية إلى أصله المقتبس منه من عقائد قدماء المصريين والبراهمة وغيرهم من الهنادكة والكفرة والمشركين في بلاد شرق آسيا خاصة الهند. فهذه العقيدة بالفعل هي مقتبسة من نفس هذه الاعتقادات، وفيها تتحقق هذه المضاهاة التي يخبر الله سبحانه وتعالى عنها هنا في هذه الآية (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) نفس فكرة الصلب والفداء في تكفير خطايا البشر، ونفس الآلهة التي تعرف بالصليب، ومن المعروف أن من رموز قدماء المصريين المحفورة في معابدهم علامة تشبه الصليب تماماً كانوا يمسكونها! وهذا الكتاب كنت استعرت منذ سنوات طويلة نسخة قديمة جداً منه، وهو كتاب: (العقائد الوثنية في الملة النصرانية)، لكني تعجبت من الفرق الشاسع بين الطبعتين القديمة والحديثة، فالطبعة القديمة كانت مطعمة بصور ملتقطة من الحسيات ومن الحجارة والآثار التي تثبت هذه العقائد. أما الطبعة الحديثة فلا يوجد فيها هذه الصور، وما أدري ما هو السبب! لكن الطبعة القديمة موجودة عند أخ هنا في الإسكندرية وفيها صور الحفريات والآثار الحسية التي تثبت هذا الشبه وهذه المضاهاة الصارخة. فعقيدة النصارى ليست عقيدة عيسى عليه السلام، وإنما هي مقتبسة من عقائد الوثنيين من قبل، وأقحمت إقحاماً في الملة النصرانية، وحرفتها من عبادة توحيد الله سبحانه وتعالى إلى صورة من صور الشرك والوثنية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ...)

    قال تبارك وتعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، هذه زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تبارك وتعالى، ووصفهم بنوع آخر من الشرك. (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم )) الأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، الأحبار علماء اليهود جمع حَبر أو حِبر بكسر الحاء وفتحها، وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه، والتحبير بمعنى: التحسين كقول أبي موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيراً) أي: حسنته وزينته، فكذلك الحبر هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه. وقال بعضهم: الحبر أعظم الأشراف بين الإسرائيليين، ويكون عندهم وسيلة للتقرب إلى الله، وهي مرتبة وراثية في آل هارون، يكون الحبر أشيخ من في هذه الطائفة. والرهبان جمع راهب بمعنى: المتعبد الخاشع المتزهد أو الزاهد، وأصل الترهب عند النصارى هو التخلي عن شهوات الدنيا وترك ملاذها، والزهد فيها والعزلة عن أهلها، وفي الحديث: (لا رهبانية في الإسلام). قال الرازي عند قوله عز وجل: (أرباباً من دون الله): الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، وأنهم يخلقون ويرزقون أو غير ذلك، لكن المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم؛ وذلك لما روى الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم) فقلت: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم! فقال صلى الله عليه وسلم: بلى عبدوهم إنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه). وهذا مما يخرج من الملة، ومن أسباب الردة طاعة من يحل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى. وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه: (أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها عدي بن حاتم فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة -وكان رئيساً في قومه طيء وأبوه حاتم الطائي هو المشهور بالكرم- فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم! -أي: أن اليهود والنصارى لم يكونوا يسجدون ويركعون ويصومون للأحبار والرهبان- فقال عليه الصلاة والسلام: بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عدي ! ما تقول؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر؟! فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟! ما يضرك؟ أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله؟! فهل تعلم إلهاً غير الله؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق). وأي إنسان عاقل إذا سأل نفسه هذه الأسئلة، وتأمل في دين الإسلام؛ لما وجد أي سبب منطقي يعيقه عن الدخول في دين الإسلام، فشعار الإسلام هو (لا إله إلا الله) أي: لا إله حق إلا الله، ولا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، فهل أي إنسان عاقل أو عنده بقية من رصيد الفطرة يرفض أن يقال: لا إله إلا الله؟! حتى إن كبار طواغيت النصارى إذا أراد أحدهم أن يتكلم في هذا الجانب فإنه يلبس على العوام ويقول: نحن أيضاً نقول: لا إله إلا الله، فكثير من المسلمين يجهلون ويقولون: النصارى يقولون: لا إله إلا الله، مع أنهم في الحقيقة يؤمنون بثلاثة من الآلهة، ويقولون: الثلاثة واحد + واحد =واحد، ولا يقولون: تساوي ثلاثة! فهم يحاولون أن يهربوا من الشرك الصراح الذي يقعون فيه؛ لأنهم يختمون الإيمان بقولهم: إله واحد أمين، الابن والأب وروح القدس، وهم يعترفون بهذا الكفر الصراح الذي ينافي العقل وينافي الفطرة، ويهدم دعوة الرسل عليهم السلام، فهكذا يقال لكل كافر: ما الذي يزعجك من دين الإسلام ومن الذي يقول لك: لا إله إلا الله، أو لا تعبد إلا الله، أو لا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى؟! هل يضرك أن تقول: يا رب! أنا نزهتك عن الصاحبة، ونزهتك عن الولد، ونزهتك عن الشريك، وقلت: لا إله إلا الله؟! هل ترى الله سبحانه وتعالى معذبك؛ لأنك تقول له يوم القيامة: أنا نزهتك عن أن يكون لك ولد، وأنك تحتاج، ونزهتك عن أن يكون لك شريك؟! هل يوجد إنسان عاقل يرتاب في أن هذا هو الطريق الوحيد للنجاة، وهو أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟! ما أعظم الأدلة والبراهين الساطعة على صدق كلمة التوحيد المكونة من هاتين الشهادتين!!! فانظر كيف سلك النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة عدي هذا المسلك! إنه مسلك في منتهى اليسر وفي غاية السهولة: (يا عدي ! أيضرك أن يقال: الله أكبر؟! فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟! يا عدي! أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله؟! فهل تعلم إلهاً غير الله؟! ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال: فلقد رأيت وجهه استبشر صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون). ونحن في كل صلاة ندعو الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا من سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين حيث نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] وهم اليهود وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، وهم النصارى. قال ابن كثير : وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً): إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا. وقال السدي : استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر في تفسير اتخاذهم أرباباً فقال: إنهم أطاعوهم بالسجود لهم سجوداً حقيقياً. قال الشهاب : والأول هو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي الاقتصار عليه. فإذا فسر النبي عليه الصلاة والسلام آية من كتاب الله، فلا ينبغي المصير إلى غيره؛ لأنه لما أتاه عدي بن حاتم وهو يقرؤها قال له: (إنا لم نعبدهم فقال: ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم ؟؟ ....) والناس يقولون: فلان يعبد فلاناً إذا أفرط في طاعته. قال الرازي : قال الربيع : قلت لـأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تبارك وتعالى. وحكى الرازي عن بعض شيوخه قال: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء وقرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إلي متعجبين! يعني: كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟! ولو تأملت حق التأمل لوجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل المدينة. انتهى. على أي الأحوال الكلام ينبغي أن يمحص وألا يأخذ بظاهره حتى ينظر في تفاصيل الاستدلال الذي يذكره العلماء؛ لأننا لا نقبل أن يشيع الاستدلال كما يحصل من بعض الغلاة السلفيين، حيث يكثرون من الاستدلال بهذه الآية الكريمة في الرد على المذهبيين، فيشبهون عموم الناس من مقلدة الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المقلدين المشهورة مذاهبهم بالأحبار والرهبان! وهذا لا يقبل في ملة الإسلام أبداً؛ لأن أئمتنا ما أحلوا الحرام ولا حرموا الحلال، ولا يظن بإمام من أئمة المسلمين أبداً أنه تعمد ذلك، غاية ما في الأمر أن يكونوا ما بين مجتهد مصيب حصل على أجرين ومجتهد مخطئ حصل على أجر واحد. لكن بلا شك هناك علماء سوء فعلاً في كل زمان وفي كل مكان، يفعلون مثل فعل هؤلاء الأحبار والرهبان، ويفعل معهم نفس الذي حدث مع اليهود والنصارى، ففي حق هؤلاء الذين يحلون الحرام، أو يحرمون الحلال، وينتهكون حرمات الله سبحانه وتعالى، يمكن أن يحذروا بهذه الآية تخويفاً وموعظة وزجراً لهم، أما في المسائل الخلافية الفقهية التي هي محل خلاف سائغ معتاد بين الفقهاء، فلا يأت أحد المتناظرين يستدل على الآخر بقوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، فهذا مما لا يليق أن نستعمله في حق أئمة المسلمين. (وما أمروا) هذه الواو حالية، أي: والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابهم (إلا ليعبدوا إلهاً واحداً) إلا ليطيعوا أمره ولا يطيعوا أمراً غيره بخلافه. (لا إله إلا هو) صفة ثانية (إلهاً) أو استئناف مقرر للتوحيد. (سبحانه عما يشركون) أي: به في العبادة والطاعة. وهذه اللفظة دليل على أن ما عليه اليهود والنصارى شرك؛ لأن أحياناً الآيات القرآنية تأتي تفرق بين المشركين وبين أهل الكتاب، بمعنى أن المشركين هم الوثنيون، أما أهل الكتاب فهم كفار أيضاً من نوع آخر غير الوثنيين، لكن باعتبار آخر يجوز أن يوصف أهل الكتاب أيضاً بأنهم مشركون بدلالة هذه الآية الكريمة (لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)، فهذه الواو تعود على اليهود والنصارى كما هو معلو

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ...)

    قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [التوبة:32] أي: يخمدوا حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد، أو (يريدون أن يطفئوا نور الله) القرآن الكريم، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الأقوال لا تتعارض في الحقيقة. وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة:32] أي: بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام. وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32] أي: الكافرون بدلائل التوحيد. وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافاً إلى الله عز وجل زيادة اعتناء بشأنه، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ، ولم يقل: ويأبى الله إلا أن يتمه، لكن أظهر كلمة نوره مما يدل على زيادة الاعتناء بشأنه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ...)

    قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التوبة:33]. إذا تأملنا قوله تعالى في الآية الأولى: (ولو كره الكافرون) وقوله أيضاً في هذه الآية: (ولو كره المشركون) فنتذكر أن كراهية المشركين لدين لإسلام، وحرصهم على إبطاله هذا أمر متوقع أخبرنا الله به، فلا يمكن أبداً أن نطمع في رضاهم عن ديننا، وبعض الناس يزعمون أنهم يعملون عملية تحسين وتجميل في الإسلام كي يقبله هؤلاء المشركون أو هؤلاء الكافرون، وهذا لا يكون كما قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، قبل الوصول إلى هذه الغاية فلن يرضوا عنا، فلا نطمع على الإطلاق؛ لأن هذا الأمر ليس بجديد عليهم؛ لأنهم يكرهون إعزاز دين الله سبحانه وتعالى، ودأبهم العدوان والشنآن كما هو معلوم من سيرتهم ومن أحوالهم. (هو الذي أرسل رسوله بالهدى) أي: بالقرآن الذي هو هدى للمتقين. (ودين الحق) الحق هو التوحيد الثابت الدائم الذي لا يزول. (ليظهره) أي: يظهر الدين الحق. (على الدين كله) أي: على سائر الأديان. (ولو كره المشركون) أي: ولو كرهوا أن يكون ذلك، لكن الله قضى ولابد أن يقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله زوى لي الأرض -أي: ضم لي الأرض- فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها). وعن قبيصة بن مسعود أو مسعود بن قبيصة قال: (صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة). وأخرج الإمام أحمد في المسند عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز وبذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). وكان تميم الداري نصرانياً، وسبب إسلامه قصة الجساسة كما في صحيح مسلم ، وكان يقول: (قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية). وعن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها). وأخرج الإمام أحمد عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عدي ! أسلم تسلم، فقلت: إني من أهل دين، قال عليه الصلاة والسلام: يا عدي ! أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: نعم، ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟! قلت: بلى). (الركوسية) قوم لهم دين متوسط بين النصارى والصابئين. وقوله: (وأنت تأكل مرباع قومك) المرباع الربع مثل المعشار بمعنى العشر، وذلك أنهم كانوا يغزون في الجاهلية فيغنمون، فيأخذ الرئيس ربع الغنيمة دون أصحابه خالصاً له، فلذلك سمي ذلك الربع المرباع. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟ قلت: بلى، قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك، قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، قال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب -يعني: أهذا الذي يمنعك من دخول في الإسلام- تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فوالذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز ، قلت: كسرى بن هرمز ؟! قال: نعم كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده! لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها). انظر إلى اليقين والتصديق؛ (لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها) هكذا كان شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكان أيضاً شأن الصديق الأكبر، لما أخبره المشركون عما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراء والمعراج، فقالوا له: (انظر ما يقول صاحبك يزعم أنه كذا وكذا، فقال: إن كان قد قالها فقد صدق صلى الله عليه وآله وسلم). وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33] أن ذلك تام، قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم). قال بعض المفسرين: معنى الآية: ليظهرن دين الإسلام على الأديان كلها، وهو ألا يعبد الله إلا بدين الإسلام. روي عن أبي هريرة أنه قال: هذا وعد من الله تعالى بأن يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى عليه السلام، وكذلك قال الضحاك والسدي : لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام. وقال الشافعي : قد أظهر الله دين رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل، وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ودين الأميين، فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعاً وكرهاً، وقتل من أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه. قال: فهذا هو ظهوره على الدين كله؛ لأن النصارى وأهل الكتاب إذا أعطوا الجزية فهم في الحقيقة في حالة خضوع لدين الإسلام. يقول القاسمي : ما ذكره الشافعي هو نوع من أنواع الظهور، والأدق ما تقدم من أنه سوف يعتنقه كل فرقة، فإنما تذهب إليه طوائف الإصلاح من الملل الأخرى لا يبعد الآن عن الإسلام إلا قليلاً. وهذا فيه نظر في الحقيقة، ولا يصح أن نسمي هؤلاء الناس بطوائف الإصلاح، فأي شخص من طوائف الإصلاح أو من أي فرقة من هذه الفرق مادامت نصرانية فما يسمى مصلحاً، بل هو من المفسدين في الأرض، لكن هذا التعبير شاع في زمن القاسمي ربما تأثراً بالشيخ رشيد رضا ومحمد عبده باستعمالهم تعبيرات الإصلاح الديني والإصلاح الاجتماعي... إلى غير ذلك من العبارات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ...)

    لقد بين تبارك وتعالى حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم، إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أرباباً يطيعونهم في الأوامر والنواهي، فالآية السابقة كانت في حال الأتباع، (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم) ثم بين حال المتبوعين أنفسهم فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]. قوله تعالى: (ليأكلون أموال الناس بالباطل) أي: بالطريق المنكر من أخذ الرشوة في الأحكام فإذا حكم هؤلاء الناس فإنهم يأخذون الرشوة، وكذلك مقابل التخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك. ولا شك أن من صور ذلك أيضاً شراء الأماكن في الجنة، وهذا موجود حتى الآن، فتجد هؤلاء الأحبار والرهبان يضحكون على عوام النصارى، ويحجزون لهم الأماكن في الجنة، ويعطونهم صكوك الغفران، وقصوراً في الجنة، ويصدقون هذا الكلام، ويأخذون منهم الأموال المقابل لغفران الذنوب وغير ذلك كما هو معلوم من أحوالهم! (ليأكلون) أي: ليأخذون، لكن بما أن الغرض الأعظم من أخذ الأموال هو الأكل، أطلق على ما يغلب استعمال المال فيه وهو الأكل. (ليأكلون أموال الناس بالباطل) فيه تقبيح لحالهم وتنفير السامعين عنهم. (ويصدون عن سبيل الله) أي: عن دين الإسلام وحكمه، أو عن المسلك المقابل في التوراة والإنجيل بما اشتروه وحرفوه. ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه على أمر الله عز وجل، وتناسيهم وعيده في الكنز؛ لقوله سبحانه وتعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) أي: يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض، وهذا إشارة إلى سبب كنز وحفظ الذهب والفضة؛ لأنهما العملة التي كانت تستعمل. (ولا ينفقونها في سبيل الله) أي: في الزكاة. (فبشرهم بعذاب أليم) أي: مؤلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم يحمى عليها في نار جهنم ...)

    قال تعالى: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا [التوبة:35] أي: يوقد عليها. فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ [التوبة:35] أي: يقال لهم ضماً إلى ما هم فيه من الكي: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ [التوبة:35] أي: أنتم كنزتموه في الدنيا؛ لتتلذذوا به، فكان سبب تعذيبكم. فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35] أي: ذوقوا وبال هذا الكنز وهو ألمه وشدته بالكي. وفي هذه الآية فوائد: الأولى: قال بعضهم في قوله تعالى: (ليأكلون أموال الناس بالباطل): فيها دلالة على تحريم الرشوة على الباطل، وقد ورد: (لعن الله الراشي والمرتشي)، وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب، وفي جواز الدفع ليتوصل إلى حقه خلاف، هل يجوز أن يدفع الإنسان مالاً؛ ليتوصل إلى حقه، إن كان لا يؤدى إليه ذلك؟ الراجح الجواز ليتوصل إلى الحق كالاستفداء. قال الحاكم : الاستفداء هو أن يدفع مالاً لمن أخذ الأسير مقابل أن يطلق سراحه. وقال الحاكم أيضاً: يدخل في تحريم الرشوة الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه، وكل من حرف شيئاً لغرض الدنيا. الثانية: في الآية كما قال ابن كثير : تحذير من علماء السوء وعباد الضلال، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح: (لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة قالوا: اليهود النصارى؟ قال: فمن؟!). وفي رواية (قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا هؤلاء؟). وقال ابن المبارك : وهل أفسد الدين إلا الملـوك وأحبار سوء ورهبانها

    حكم كنز المال وحفظه مع تأدية زكاته وعدمها

    قوله: (والذين يكنزون) (الذين) مبتدأ و(يكنزون) خبر، أو يكون التقدير: وبشر الذين يكنزون. والتعريف في كلمة (الذين) للعهد، والمعهود هو إما الأحبار والرهبان، وإما المسلمون الكانزون ويحتمل أنها في الأحبار والرهبان، وفي الكانزين من المسلمين فهي تعم الجميع، وإنما قرنوا باليهود والنصارى تغليظاً بمعنى: أنهم يفعلون فعل الكفار الذي لا يليق بالموحدين وبالمسلمين، ولما نزلت هذه الآية كبر على المسلمين هذا الوعيد فذكر عمر رضي الله عنه ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم)، رواه أبو داود والحاكم وصححه. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أدي زكاته فليس بكنز)، والأصل في المال أن ينمى ويستثمر؛ كي يستفيد منه صاحب رأس المال، والمسلمون الذين يحتاجون إلى العمل، وتنشط التجارة، لكن لو أن رجلاً ترك المال دون أن يستثمره فإن لم يؤد زكاته فإنه يستحق هذا الوعيد؛ لأنه كنز، (وما أدي زكاته فليس بكنز). أما قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها)، فالمراد منه ما لم يؤد حقها؛ لما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره).

    خلاف أبي ذر ومعاوية رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية

    اشتهرت محاورة معاوية لـأبي ذر رضي الله عنهما في هذه الآية، فقد روى البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا بـأبي ذر فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية رضي الله عنهما في هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة) فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لـعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل. وسيأتي تفصيل هذه الحادثة. يقول أبو ذر : ولو أمر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت. ولـابن جرير في رواية بعد قول عثمان له: تنح قريباً، قلت: والله لن أدع ما كنت أقول، فأثبت عليه. وروى أبو يعلى أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه كان يحدث ويقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريب، وهذا كان مذهب أبي ذر رضي الله تعالى عنه، فكان لا يجوز لأحد أبداً أن يبيت وعنده دينار أو درهم، إلا إذا كان عنده مبلغ يرصده لأجل سداد دين، أما غير ذلك فيوجب عليه أن ينفقه أولاً بأول في سبيل الله تبارك وتعالى أو في مصالح المسلمين. فكان يقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم؛ لذلك فيما مضى كان بعض الشيوعيين يفرحون جداً بسيرة أبي ذر رضي الله تعالى عنه. فكتب معاوية إلى عثمان : إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر ، فكتب إليه عثمان : أن أقدم علي، فقدم. قال ابن كثير : كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، وأنزله بالربذة وحده، وبها مات رضي الله تعالى عنه في خلافة عثمان . وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده، هل يوافق عمله قوله، فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك، فأخطأت فهات الذهب فقال: ويحك إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به. وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل، قال: فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً، قال: وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، فقال: إن هؤلاء لا يعلمون شيئاً إنما يجمعون الدنيا. رواه مسلم وللبخاري نحوه. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـأبي ذر : (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً، يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين). قال ابن كثير : فهذا -والله تعالى أعلم- هو الذي حدا بـأبى ذر على القول بهذا. فـأبو ذر أخذ مذهبه من قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً، يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين). وأخرج الشيخان عنه قال: (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة! قال: فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت: يا رسول الله! فداك أبي وأمي من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم). وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه: (أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، ففضلت معها سبعة، فأمرها أن تشتري بها فلوساً قال: قلت: لو ادخرته لحاجة بيوتك، وللضيف ينزل بك، قال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل، أو حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل إفراغاً). قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد في الآية على مانعي الزكاة. وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي حيث قال: (هل عليّ غيرها قال: لا، إلا أن تطوع). وبالجملة فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته، وقد ترجم لذلك البخاري وقال في صحيحه: باب ما أدي زكاته فليس بكنز، ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك) حسنه الترمذي وصححه الحاكم . هذا؛ وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز، فقد روى البخاري في صحيحه أن أعرابياً قال لـابن عمر : أخبرني عن قول الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) إلى آخر الآية، قال ابن عمر : من كنزها ولم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال. زاد ابن ماجة : ثم قال ابن عمر : ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى. فهذا يشعر بأن الوعيد على الاكتناز -وهو حبس ما فضل على الحاجة عن المواساة به- إنما كان في أول الإسلام، ومذهب أبي ذر هو على ما كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة لما فتح الله الفتوح وقدرت أنصبة الزكاة. ويشعر هذا أيضاً بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة، وجزم به ابن الأثير في تاريخه. وهذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة بعد غزوة تبوك، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعاً. قال ابن حجر : والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر ، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] يعني: ما فضل وزاد عن الحاجة، فكان ذلك واجباً في أول الأمر ثم نسخ. وزعم بعضهم أن الذي حدا بـأبى ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء، وقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يعتبرون الفيء لكافة المسلمين يأخذه المقاتلون وغيرهم، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين، فكلهم داخل تحت ذلك الحكم. قال: والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام والوالي عليها من قبل الخليفة عثمان معاوية رضي الله عنهما، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال؛ أنكر عليه ذلك. ولا يظن أن معاوية كولاة هذا الزمان يأخذ المال له ولأولاده، لا يظن هذا به أبداً، لكن كان أبو ذر يخالف معاوية ؛ لأن معاوية كان يخزن المال في بيت المال للدولة وللمسلمين، بحيث يصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين، وكان أبو ذر مشهوراً بالورع، شديد الحرص على حقوق المسلمين، يقول الحق ولو على نفسه، فأخذ أبو ذر يتكلم بهذا الأمر بين الناس، وظل يعلنه وهو في الشام، واتخذ له حزباً من أهل الشام يساعده على الإنكار على معاوية ؛ لكي يرد المال للمسلمين، ولا يخزنه في بيت المال ويأخذه للمصالح، وإنما ينفقه فوراً. فكون له هذا الحزب أو التكتل، وظل يتكلم ويبين عدم الرضا بكنزه في بيت المال لأي حال من الأحوال، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين؛ لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين، وتابعهم على قولهم أناس كثيرون كانوا يجتمعون لهذا القصد سراً وجهراً، حتى كادت تكون فتنة، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه، فنفاه إلى الربذة؛ خوفاً من حدوث ما لا تحمد عقباه. وهذا التصرف من معاوية ومن عثمان رضي الله عنه يعتبر حسماً للافتتان بين المسلمين، وإلا فإن كثيراً من الكتاب الذين لهم ميول للاشتراكية والشيوعية كانوا يتكلمون عن مذهب أبي ذر على أنه المذهب المعتمد، وأن هذه هي الشيوعية، وأن أبا ذر كان شيوعياً مع أن أبا ذر لم يسمع كلمة الشيوعية! فهذا من تمحلهم وكذبهم، وقد أخذهم الله، فالشيوعيون كانوا يلبسون على المسلمين ويخدعونهم بموقف أبي ذر ، وأبو ذر كان مؤمناً بالله وباليوم الآخر، وهم ملاحدة يقولون: لا إله والحياة مادة، فأين هذا من ذاك؟! فالشيوعيون يظهرون موقف أبي ذر على أنها حركة ثورية ضد الحاكم أو الأمير أو الوالي، وهذا ليس بصحيح، فإ

    الحكمة من تخصيص الجباه والجنوب والظهور لكانزي المال بالكي

    قوله: (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم) ما الحكمة في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي دون غيرها؟ قيل: إن هؤلاء الذين جمعوا وكنزوا الذهب والفضة جمعوها كي ينالوا الوجاهة عند الناس بأنهم أغنياء، وكي يتنعموا بالمطاعم الشهية، وبالملابس البهية، فلوجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم كان الكي بجباههم. أما كي جنوبهم؛ فلأن الجنوب كانت تمتلئ من الطعام الذي يحصلونه بهذا المال، وبهذا كويت الجنوب. أما كي ظهورهم؛ فلأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع، فتكلح وجوههم وتقطب وتعبس في وجه السائل، ثم إذا كرر الفقير الطلب أعرضوا عنه وتركوه جانباً، ثم إذا ألح ولوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى، وهي النهاية في الردع والغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل، وهذا دأب مانع البر والإحسان وعادة البخلاء، فكان ذلك سبباً لكي هذه الأعضاء. وقيل: لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقادم البدن ومآخره وجنباه، فيكون كناية عن جميع البدن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله ...)

    لما بين تبارك وتعالى فيما تقدم إقدام الأحبار والرهبان على تغيير أحكام الله تعالى؛ إيثاراً لحظوظهم، أتبعه بما تجرأ عليه المشركون من تغيير أحكام الله؛ إيثاراً لحظوظهم ولأهوائهم، فهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، وذلك من تغيير الأشهر الحرم التي حرمها الله تعالى لغيرها وهو النسيء الآتي، فنعى عليهم سعيهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم مما أوجب زيادة كفرهم فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:36]. (إن عدة الشهور) أي: عدد الشهور. (عند الله) أي: في حكم الله. (اثنا عشر شهراً) أي: الشهور القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية. (في كتاب الله) أي: في اللوح المحفوظ، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه، والكتاب يأتي بمعنى: حكم أي: حكم الله عليكم. (يوم خلق السماوات والأرض) أي: أن هذا استقر في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، والمعنى: أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة. (منها أربعة حرم) أي: من تلك الشهور الاثني عشر أربعة حرم، ثلاثة متتابعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد وهو رجب. (ذلك الدين القيم) إشارة إلى تحريم الأشهر الأربعة. (الدين القيم) أي: المستقيم. (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) وذلك بهتك حرمتها بالقتال فيها. وقال ابن إسحاق : أي: لا تجعلوا حرمها حلالاً، ولا حلالها حرماً، كما فعل أهل الشرك. (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) أي: جميعاً. (واعلموا أن الله مع المتقين) أي: بالنصر والإمداد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في الكفر ...)

    ثم بين تعالى بعد ذلك ثمرة هذه المقدمة وهو تحريم تغيير ما عين تحريمه من الأشهر الحرم، وإبقاؤها على ما سبق في كتابه، ناعياً على المشركين كفرهم بإهمالهم ذلك، فقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة:37]. (إنما النسيء) النسيء تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر، مصدر نسأه إذا أخره. (زيادة في الكفر) لأنه تحليل ما حرم الله، وتحريم ما حلله، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم، وهذا يدل على أن الكفر يزيد بقدر ما يزداد الإنسان في محاربة الله سبحانه وتعالى، فكما أن الإيمان يزيد وينقص فكذلك الكفر يزيد أيضاً. (يضل به الذين كفروا) أي: يضل به الذين كفروا بالله عن أحكامه إذ يجمعون بين الحل والحرمة في شهر واحد، سنة يحلونه وسنة أخرى يحرمون نفس الشهر. (يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً) أي: يحلون النسيء من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهراً آخر، ويتركونه على حرمته القديمة، ويحافظون عليها سنة أخرى، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم. والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم له في العام الماضي، والجملتان تفسير للضلال أو حال. قال الزمخشري : النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من شق شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى: (ليواطئوا عدة ما حرم الله) أي: ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت، ولذلك قال عز وجل: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً) يعني: من غير زيادة زادوها. فهذا هي الحكمة من قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً) أي: أنها غير قابلة للزيادة كما كانوا يفعلون. (فيحلوا ما حرم الله) بتركهم التخصيص بالأشهر لعينها. (زين لهم سوء أعمالهم) فاعتقدوا قبيحها حسناً. (والله لا يهدي القوم الكافرين) في هاتين الآيتين مسائل منها أن جميع الأحكام الشرعية تتعلق بالأشهر العربية، ولا يمكن أبداً اعتبار غير الشهر الهلالي العربي، مثل: قضاء الكفارات ودوران الحول في الزكاة وغيرها من الأحكام المتعلقة بالشهور. قال ابن كثير : إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة؛ لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون بأداء المناسك، وحرم بعده شهراً آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين؛ وحرم رجب في وسط الحول؛ لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً. واستنبط بعضهم من قوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) أي: في هذه الأشهر المحرمة، فالمعاصي فيها أبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف؛ لقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قتل في الحرم، أو قتل ذا محرم. وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة : إنه تعالى اختص من الأشهر أربعة أشهر جعلهن حراماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم. وقال قتادة : إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء. وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل. ويستدل جماعة من العلماء بقوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ؛ وذلك لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة:2]، وقوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5]. وذهب آخرون: إلى أن تحريم القتال فيها منسوخ بآية السيف لقوله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36]. يقول القاسمي : المحرم هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه، بحيث لو دخل المسلمون في قتال قبل دخول الأشهر الحرم فلا يحرم إتمامه في الأشهر الحرم، وبهذا يحصل الجمع. وقال ابن جرير : لقد حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم، وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها، أي: في حالة الدفاع. وقوله: (وقاتلوا المشركين كافة) استدل بها من قال: إن الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كان فرض عين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ...)

    حرض الله تعالى على قتال الكفرة إثر بيان قبائحهم الموجبة لذلك، وأشار إلى توجه العتاب والملامة على المتخلفين عنه، فقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [التوبة:38] أي: تثاقلتم وتباطأتم، والاستفهام في قوله: (مالكم) للتوبيخ والإنكار. (اثاقلتم إل الأرض) كلمة (اثاقلتم) تضمنت معنى الميل إلى الأرض والإخلاد إليها. أي: اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية، وكرهتم مشاق الغزو، وملتم إلى الراحة الخالدة؛ كقوله تعالى: أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176] أو اثاقلتم مائلين إلى الإقامة بأرضكم ودياركم. وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة تسع بعد رجوعهم من الطائف، حيث استنفروا لغزو الروم في وقت عسرة وقحط وقيظ، حين طابت الثمار والظلال، ومع بعد الشقة وكثرة العدو؛ فشق عليهم، قال الله: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا [التوبة:38] أي: الحقيرة الفانية، والدنيا مأخوذة من الدناءة. (من الآخرة) (من) هنا بمعنى: بدل الآخرة. ويوجد في القرآن الكريم استعمال كلمة (من) بمعنى بدل، وهو استعمال شائع موجود، كما في سورة الزخرف: لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف:60] أي: لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض يخلفون، فكذلك هنا (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) أي: بدل الآخرة ونعيمها الدائم. (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة) كلمة (في) هي التي تسمى (في) القياسية؛ لأن المقيس يوضع بجنب ما يحاط به. (إلا قليل) أي: مستحقر لا يؤبه له. وروى الإمام أحمد ومسلم عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بما ترجع! وأشار بالسبابة).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ...)

    لقد توعد تعالى بعد ذلك من لم ينفر إلى الغزو بقوله عز وجل: إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:39]. قوله تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم) أي: لنصرة نبيه وإقامة دينه. (ولا تضروه شيئاً) لأنه الغني عن العالمين، وإنما تضرون أنفسكم. وقيل: الضمير في قوله: (ولا تضروه) يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم أي: ولا تضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ لأن الله وعده النصر بكم أو بغيركم، ووعده كائن لا محالة. (والله على كل شيء قدير) أي: من التعذيب والتبديل ونصرة دينه بغيرهم، وفي هذا التوعد على من يتخلف عن الغزو من الترهيب الرهيب ما لا يقدر قدره.

    حالات تأكيد الجهاد وتحوله إلى فرض عين

    قال بعضهم: في الآية لزوم إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى الجهاد، وكذا دعاء الأئمة إليه، ومثل الجهاد الدعاء إلى سائر الواجبات، وفي ذلك تأكيد للوجوب. وكما هو معلوم أن هناك حالات يصير الجهاد فيها فرض عين على كل مسلم منها: حالة النفير العام، فإذا استنفر الإمام المسلمين وجب على جميع المسلمين أن ينفروا، فالنفير العام من الإمام يوجب تحول الجهاد إلى الوجوب العيني، ويتأكد ذلك من وجوه: الأول: ما ذكره من التوبيخ في قوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا ))، فهذا يؤكد الوجوب. الثاني: في قوله تعالى: (( اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ )) أي: ملتم إلى المنافع والدعة واللذات. الثالث: في قوله أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا فهذا زجر. الرابع: في قوله تعالى: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ [التوبة:38] فهذا تحقير لرأيهم. الخامس: ما عقب من الوعيد بقوله: (( إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )). السادس: ما بالغ فيه بقوله: (( عَذَابًا أَلِيمًا )). السابع: في قوله: (( وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ )). الثامن: في قوله: (( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) ففيه تهديد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ...)

    قال تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]. قوله تعالى: (إلا تنصروه) أي: إلا تنصروه بالخروج معه في تبوك (فقد نصره الله) (إذ أخرجه الذين كفروا) أي: كفار مكة حين مكروا به فصاروا سبب خروجه، فخرج ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. (ثاني اثنين) حال من ضميره صلى الله عليه وسلم، أي: أحد اثنين. (إذ هما في الغار) بدل من أخرجه، والغار نقب في أعلى جبل ثور، وهو جبل في الجهة اليمنى من مكة على مسير ساعة، مكث فيه ثلاثاً؛ ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهما، ثم يسيرا إلى المدينة. (إذ يقول) هذا بدل ثان أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم. (لصاحبه) أي: أبي بكر رضي الله عنه. (لا تحزن) وذلك أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أشفق من المشركين أن يعلموا بمكانهما، فيخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذى.

    عقيدة الرافضة في أبي بكر والصحابة

    كان حزن أبي بكر وخوفه من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يظن أبداً ما يقول أعداء الله الشيعة الخبثاء الضالين: إن أبا بكر كان يشفق على نفسه هو، ولم يكن يشفق على الرسول عليه الصلاة والسلام! فهؤلاء المجرمون الشيعة يأتون إلى مناقب الصحابة بشيطنتهم ويحولونها إلى عداوات لله وللإسلام، فيأتون إلى هذا الموضع الذي هو من أعظم مناقب أبي بكر، فيقول هؤلاء الظالمون المعتدون -قبحهم الله-: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم بأن أبا بكر منافق، وأنه غير صادق في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم خشي إن تركه في مكة أن يدل المشركين عليه، فقال له جبريل: اصطحبه توقياً من أن يدل عليك والعياذ بالله! فانظر هذه القلوب المنكوسة لأعداء الله الرافضة، وما زال هناك من المخدوعين من يقول: هم إخواننا وهم مثل المذهب الحنبلي والشافعي والحنفي والمالكي! فالرافضة يضللون ويلبسون على الناس ويظهرون أنهم على ديننا، وهم يعادون أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ويكفرونهم ويقولون بردتهم، ويزعمون في خرافاتهم وهذيانهم أن أبا بكر تعرف على كاهن في الجاهلية، وأن هذا الكاهن قال له: سوف يظهر رجل ويكون نبياً، وأنت ستصحبه وتكون خليفة من بعده، فصوروا حياة أبي بكر على أنها عبارة عن تخطيط لنيل الإمارة والخلافة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام!! فالشيعة الرافضة في عدوانهم على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما بلغوا الغاية في الخبث، حتى إنهم يسمون أبا لؤلؤة المجوسي قاتل عمر رضي الله عنه: بابا شجاع الدين ، وعندهم عيد يدعى عيد بابا شجاع الدين ؛ يحتفلون فيه بقتل عمر ، ويمثلون عملية القتل وكأنهم يمتصون دمه، وهم يشربون العسل! وخرافاتهم وعدوانهم لا تنتهي في الحقيقة، وهم أعداء الدين في الحقيقة، ليسوا منا ولسنا منهم. إننا الآن نسمع عن حركة شيعية هنا في مصر في بعض المحافظات في الزقازيق والمنصورة وطنطا، وأخيراً ظهرت دار نشر تسمى دار الهدف للقبيح المدعو صالح الهرداني، ولا نتحرج بالتصريح باسم هذا المنتكس الذي كان ينسب فيما مضى على أنه من شباب أهل السنة، وظل يتجول بين الجماعات التكفيرية إلى أن استقر به المقام أن انتكس إلى المذهب الشيعي، والآن يؤلف كتباً مشحونة بالطعن والسب للصحابة رضي الله تعالى عنهم، ويدعو إلى إحياء مذهب الإمامية بصورة أو بأخرى، وله مطبوعات دار الهدف تقوم بنشرها هنا، ولهم جمعية أهل البيت، ومن ذهب إلى معرض القاهرة للكتاب يجد الجناح حافلاً بالكتب العدوانية الظالمة التي تهاجم الإسلام وتهاجم الصحابة رضي الله تعالى عنهم! لا يتبعن أي مسلم عنده بصيرة وعلم هؤلاء القوم، هؤلاء دجالون يستعملون بعض الشعارات التي تخدع الجهلة والطغام الرعاع مثل: الموت لأمريكا، مثل المظاهرات التي عملوها في مكة في مواطن الحج، ويشوشون على المسلمين عبادتهم، وكل هذا استغلال سياسي لنيل مآرب سياسية، وإلا فهم أكبر من يتآمر مع أمريكا على المسلمين في كل عصر وفي كل مصر، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع بالتفصيل، ولكن يبدو أنه يحتاج إلى تذكير. إن هؤلاء المجرمين أعداؤنا وأعداء الإسلام وأعداء الدين وأعداء الصحابة، والحديث يطول، وبعض الناس ربما لم يكن قد طرق أمامه هذا الموضوع من قبل فيستغرب، ونرجو أن تكون هناك فرصة لنفصل في هذا الموضوع الخطير. هذه الآية هي منقبة وفضيلة لـأبي بكر فقد كان أبو بكر يفدي الرسول عليه الصلاة والسلام بدمه وروحه وماله، صدقه إذ كذبه الناس، وضحى بكل ماله في نصرة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فكيف بهؤلاء الظالمين يحولون مناقب أبي بكر إلى أسوأ ما يمكن أن يظن بإنسان؟!

    فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

    ابن القيم له في كتاب (الفوائد) عبارات طيبة في غاية الجمال والروعة في بيان جمال هذه العبارة (إن الله معنا). قال عليه الصلاة والسلام: (يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! إن الله معنا)، فكان الله معهما في الغار بالنصر والتأييد، كان الله معهما؛ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هو الوحيد الذي حظي بلقب خليفة رسول الله، فاجتمع في هذه الإضافة (إن الله معنا) الله ورسوله وخليفة رسول الله، وشاء الله أنه عندما تولى عمر الخلافة أرادوا أن يقولوا خليفة خليفة رسول الله، فقالوا: إن هذا يطول، فمن ثم رأى عمر الاقتصار على أن يسمى بأمير المؤمنين، فشاء الله أن يحتفظ أبو بكر بهذا اللقب؛ كي يبقى مستأثراً بهذه الفضيلة (إن الله معنا) فيقال: خليفة رسول الله، فالخليفة بجانب رسول وبجانب الله سبحانه وتعالى. وفضائل أبي بكر رضي الله تعالى عنه كثيرة، فسورة الفاتحة فيها فضيلة أبي بكر وذلك في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] فنحن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم، وفي مقدمتهم بعد الأنبياء أبو بكر. وبين الله في آية أخرى صفة الذين أنعم عليهم فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69]، والأمة مجمعة على تسمية أبي بكر بـالصديق رضي الله تعالى عنه. وفي هذه الآية دليل على إمامة أبي بكر وأنه ممن يؤتسى ويقتدى به. ومن فضائله قوله تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح:16]، فهنا رغبهم الله سبحانه وتعالى في طاعة من يأمرهم بقتال الأعراب المرتدين، فمن الذي قاتل هؤلاء؟ إنه أبو بكر ، والله عز وجل هنا يأمر بطاعته، وهذا حصل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا، فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!). نفس اليقين ونفس الجزم بنصرة الله سبحانه وتعالى، كما وقع من موسى عليه السلام لما أدركهم آل فرعون عند ساحل البحر الأحمر فقال أصحاب موسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، البحر أمامنا والعدو خلفنا (إنا لمدركون) ماذا قال لهم موسى؟ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، ثقة ما بعدها ثقة، وتوكل على الله سبحانه وتعالى، وحسن ظن بالله، ويقين صادق، وهو لا يعرف كيف سيكون المخرج، لكن مع ذلك هو واثق من أن الله سبحانه وتعالى الذي وعده بالنصر والنجاة سينجز وعده، كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحزن إن الله معنا) (يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما). فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة:40] أي: أمانته التي تسكن عندها القلوب. (عليه) أي: على النبي صلى الله عليه وسلم. وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:40] أي: أنزل الملائكة؛ ليحرسوه في الغار، أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين، فتكون الجملة معطوفة على قوله: (نصره الله). وقوى أبو السعود الوجه الثاني بأن الأول يأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم. وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى [التوبة:40] أي: المغلوبة المقهورة. والكلمة هي الشرك أو دعوة الكفر، فهو مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به على أنها الشرك، أو هي بمعنى الكلام مطلقاً على أنها دعوة الكفر. وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا [التوبة:40] أي: التوحيد أو دعوة الإسلام التي لا تزال عالية إلى يوم القيامة. (وكلمة الله) بالرفع على الابتداء. (هي العليا) مبتدأ وخبر، أو تكون (هي) ضمير فصل. وقرئ بالنصب أي: (وجعل كلمةَ الله) والأول أوجه وأبلغ؛ لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت، وأما الجعل لم يتصرف لها؛ لأنها في نفسها عالية لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها، كلمة الله عالية في كل حال. ولذلك في هذه القراءة: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى [التوبة:40]، اقتصر على جعل (كلمة الذين كفروا السفلى) لكن ابتدأ بداية جديدة فقال: (وكلمة الله هي العليا) ولم يقل: وكلمةَ الله هي العليا، وهذا أوجه كما رجحه القاسمي ، فـ(كلمة الله هي العليا) تكون جملة من مبتدأ وخبر؛ لأنها تدل على الثبات والدوام، وعدم تعرضها للتغيير والتبديل. وفي إضافة الكلمة إلى الله إعلاء لمكانها، وتنويه لشأنها. وَاللَّهُ عَزِيزٌ [التوبة:40] أي: غالب على ما أراد. حَكِيمٌ [التوبة:40] في حكمه وتدبيره. قال بعض المفسرين: استدل على عظيم محل أبي بكر رضي الله عنه من هذه الآية من وجوه: منها: قوله تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن). وقوله: (إن الله معنا). وقوله: (فأنزل الله سكينته عليه) قيل: على أبي بكر؛ لأنه كان خائفاً، وهو المحتاج إلى الأمن، وقيل: على الرسول صلى الله عليه وسلم. قال جار الله الزمخشري : وقد قالوا: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر؛ لإنكار كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هنا قال: (إذ يقول لصاحبه)، فالآية هنا تثبت صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: أنا والله صاحبك، فمن هنا قالت المالكية: من أنكر صحبة أبي بكر كفر وقتل بخلاف غيره من الصحابة لنص القرآن على صحبته. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـأبي بكر : (أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار). أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وقد ساق الفخر الرازي اثني عشر وجهاً من هذه الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه فأطال وأطاب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756234854