إسلام ويب

التوحيد أولاًللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التوحيد هو أساس الإسلام وأصل أصوله، وهو من الإسلام بمكان الذروة والسنام، ولذلك اتفقت عليه دعوة جميع الرسل عليهم السلام؛ فهو زبدة الرسالات الإلهية وغايتها، وقطب رحاها وعمدتها، وهو يقوم على إفراد الله تعالى بما هو محض حقه من أنواع العبادة وصورها، وإخلاص القصد والإرادة له في أدائها، واعتراف الإنسان على نفسه وعلى غيره من المخلوقات بوجوب العبادة لله في سائر الأقوال والأفعال والنيات.

    1.   

    توحيد الله هو أساس الإسلام وأصل أصوله ومفتاح دعوة الرسل

    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالإلهية على جميع خلقه، والمختص بنعوت الكمال وصفات الجلال والجمال بلا شبيه ولا مثال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وأمره أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وعلى آله وصحبه أهل العدل والتوحيد، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد: فمن نافلة القول، ومكرور الكلام أن يقال: إن التوحيد هو أساس الإسلام، وإنه أصل أصوله، وإن التوحيد من الإسلام بمكان الذروة والسنام، فذلك أمرٌ اتفقت عليه دعوة الرسل أجمعين من لدُنْ آدم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما من الرسل أحد إلا افتتح دعوته بقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:50].

    فالتوحيد هو زبدة الرسالات الإلهية وغايتها، وقطب رحاها وعمدتها، ترتكز كلها عليه، وتستند في وجودها إليه، تبتدئ منه وتنتهي إليه، ولا عجب! فهو يقوم على إفراد الله عز وجل بما هو محض حقه من أنواع العبادة وصورها، وإخلاص القصد والإرادة له في أدائها، واعتراف الإنسان على نفسه وعلى غيره من المخلوقات بوجوب العبودية لله في سائر الحالات. فالله وحده هو ربهم، ومليكهم، والقاهر فوقهم، والمتصرف فيهم بما يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا دافع لقضائه، وهم جميعاً المرذولون المقهورون الفقراء المحدثون الضعفاء، الذين لا غنى لهم عنه طرفة عين، ولا قيام لهم بدونه لحظة من الزمان.

    فلم يرسل الله عز وجل نبياً ولا رسولاً إلى قومه إلا وجعل مفتاح دعوته أن يقول لهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود:50]، فهذا الأصل هو أصل الأصول في دين الإسلام.

    بطلان قول من قال إن أصل الأصول هو تأليف القلوب

    لقد نشأت في هذا الزمان أفكار كثيرة، واختلفت كثير من الاتجاهات، فانحرف بعض الناس في تحديد أصل الأصول، وأهم المهم من قضايا الإسلام، فرأينا من يقول: إن أصل الأصول هو تأليف القلوب. كما هو معروف عند بعض الجماعات!! فلو قلنا: إن هذا هو أصل الأصول فإنه ينبغي أن يُقدّم على غيره عند التعارض، فمثلاً: إذا رأوا رجلاً يقع في الشرك بالله، أو في الطواف بالقبور، أو غير ذلك من صور الشرك، فيقولون: أصل الأصول هو تأليف القلوب. فنقدم تأليف القلوب على إنكار هذا المنكر حتى لو كان شركاً؛ لكي تتألف القلوب ولا تتفرق!! فإن إثارة هذه القضايا وإنكارها على من يفعلها مما ينافي أصل الأصول. فيبتدعون هذا الأصل، ويتحاكمون إليه بدل أن يتحاكموا إلى أصل الأصول الذي هو توحيد الله عز وجل.

    بطلان قول من قال إن أصل الأصول هو إقامة الحكومة الإسلامية

    كذلك وجدنا كثيراً من الدعاة بل والمجاهدين في سبيل هذه الدعوة المباركة قد نشأ لديهم تصور انعكس منهم على قطاع عريض من الشباب المسلم، وقد فهم كثير من الشباب من كلام هؤلاء الدعاة أن أصل الأصول هو: إقامة الحكومة الإسلامية!! فيجعلون إقامة الحكومة الإسلامية هو غاية إرسال الرسل؛ بل إن من الدعاة الكبار وأهل الخير والفضل من جعل في بعض كتبه أن الغاية الأساسية من دعوة الرسل: إقامة الحكم الإسلامي، أو: إقامة الحكومة الإلهية أو الحكومة الإسلامية!! بل ويذهب إلى أن أصل الأصول وغاية الرسل هي إقامة الحكومة الإلهية، فيزعم أن الأنبياء انقسموا: فمنهم من استطاع أن يقيم الحكومة الإسلامية، ونجح في دعوته!! وذكر منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومنهم من لم ينجح في تحقيق أصل الأصول، وهو الحكومة الإسلامية، وربما حاول التمهيد لإحداث انقلاب سياسي في الأمم من بعده!! ويذكر أمثلة كإبراهيم ونوح وغيرهما من الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. مثل هذا الكلام ينبغي أن يراجع وأن يمحص في ضوء الكتاب والسنة، وأن نبين أين موقع قضية الحاكمية أو قضية السياسة بالنسبة لأصل الأصول الذي هو توحيد الله عز وجل. الله عز وجل يقول: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، هذا وعد من الله سبحانه وتعالى أن كل الأنبياء وأتباعهم منتصرون، فلم ينهزم نبي، ولم يفشل في أن يحقق الهدف الذي بعثه الله به، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ [الصافات:171-172]، فالله لا يخلف وعده، فلابد أن الأنبياء انتصروا، ولابد أن جند الله غَلَبوا، ولابد أنهم حققوا الهدف الذي بعثهم الله من أجله، وهو أصل الأصول في هذا الدين، حتى نوح عليه السلام الذي مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ويأتي من يّدعي أن نوحاً لم يحقق هدفه من رسالته! وأنه فشل في تحقيق الهدف الأسمى، وهو الحكومة الإسلامية أو الدولة الإلهية! حتى نوح يقول الله عز وجل حاكياً عنه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، وانتصر الله له، ونصره على الكافرين، وانتصر نوح، ولا شك في ذلك. فهذا التعبير إنما نشأ عن غلبة الاتجاه السياسي والمفاهيم السياسية، ومحاولة حشرها وإعطائها الحجم الأكبر من قضايا الإسلام، بحيث يكون هو في تصور كثير من الشباب أصل الأصول، وقطب الرحى، وعمود هذا الدين.

    أصل الأصول معلوم في الكتاب والسنة ولا يحتاج إلى اجتهاد لمعرفته

    أصل الأصول لن نجيب نحن عنه؛ ولكن الذي يملك الحق في تحديد هذا الأصل هو الله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل ما خلق هذا الخلق عبثاً؛ بل لحكمة عظيمة بيّنها الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد، يقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38-39]، ويقول سبحانه وتعالى: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3]، والله عز وجل هو صاحب الحق الوحيد في أن يرينا الإجابة عن هذا السؤال: لماذا خلقنا الله؟ لماذا بعث الله الرسل؟ لماذا خلق هذا الكون؟ لماذا خلق الجنة والنار؟ وعلى أي أساس قسّم الناس إلى: متقين وفجار، ومؤمنين وكفار؟ فهو جل وعلا يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، ويقول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، هذا أسلوب حصر، حصر الحكمة والهدف من الخلق في أصل الأصول وهو عبادة الله وحده؛ لأن المقصود: (إلا ليعبدون) أي: ليعبدوني وحدي، ولا يعبدوا معي غيري، وهو توحيد الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]، وقال عز وجل: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116]، ويقول عز وجل: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]، ويقول عز وجل: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:1-2].

    بطلان قول من قال: إن أصل الأصول هو تأليف القلوب

    لقد نشأت في هذا الزمان أفكار كثيرة، واختلفت كثير من الاتجاهات، فانحرف بعض الناس في تحديد أصل الأصول، وأهم المهم من قضايا الإسلام، فرأينا من يقول: إن أصل الأصول هو تأليف القلوب. كما هو معروف عند بعض الجماعات!!

    فلو قلنا: إن هذا هو أصل الأصول فإنه ينبغي أن يُقدّم على غيره عند التعارض، فمثلاً: إذا رأوا رجلاً يقع في الشرك بالله، أو في الطواف بالقبور، أو غير ذلك من صور الشرك، فيقولون: أصل الأصول هو تأليف القلوب. فنقدم تأليف القلوب على إنكار هذا المنكر حتى لو كان شركاً؛ لكي تتألف القلوب ولا تتفرق!! فإن إثارة هذه القضايا وإنكارها على من يفعلها مما ينافي أصل الأصول.

    فيبتدعون هذا الأصل، ويتحاكمون إليه بدل أن يتحاكموا إلى أصل الأصول الذي هو توحيد الله عز وجل.

    بطلان قول من قال: إن أصل الأصول هو إقامة الحكومة الإسلامية

    كذلك وجدنا كثيراً من الدعاة بل والمجاهدين في سبيل هذه الدعوة المباركة قد نشأ لديهم تصور انعكس منهم على قطاع عريض من الشباب المسلم، وقد فهم كثير من الشباب من كلام هؤلاء الدعاة أن أصل الأصول هو: إقامة الحكومة الإسلامية!! فيجعلون إقامة الحكومة الإسلامية هو غاية إرسال الرسل؛ بل إن من الدعاة الكبار وأهل الخير والفضل من جعل في بعض كتبه أن الغاية الأساسية من دعوة الرسل: إقامة الحكم الإسلامي، أو: إقامة الحكومة الإلهية أو الحكومة الإسلامية!! بل ويذهب إلى أن أصل الأصول وغاية الرسل هي إقامة الحكومة الإلهية، فيزعم أن الأنبياء انقسموا: فمنهم من استطاع أن يقيم الحكومة الإسلامية، ونجح في دعوته!! وذكر منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومنهم من لم ينجح في تحقيق أصل الأصول، وهو الحكومة الإسلامية، وربما حاول التمهيد لإحداث انقلاب سياسي في الأمم من بعده!! ويذكر أمثلة كإبراهيم ونوح وغيرهما من الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    مثل هذا الكلام ينبغي أن يراجع وأن يمحص في ضوء الكتاب والسنة، وأن نبين أين موقع قضية الحاكمية أو قضية السياسة بالنسبة لأصل الأصول الذي هو توحيد الله عز وجل.

    الله عز وجل يقول: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، هذا وعد من الله سبحانه وتعالى أن كل الأنبياء وأتباعهم منتصرون، فلم ينهزم نبي، ولم يفشل في أن يحقق الهدف الذي بعثه الله به، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ [الصافات:171-172]، فالله لا يخلف وعده، فلابد أن الأنبياء انتصروا، ولابد أن جند الله غَلَبوا، ولابد أنهم حققوا الهدف الذي بعثهم الله من أجله، وهو أصل الأصول في هذا الدين، حتى نوح عليه السلام الذي مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ويأتي من يّدعي أن نوحاً لم يحقق هدفه من رسالته! وأنه فشل في تحقيق الهدف الأسمى، وهو الحكومة الإسلامية أو الدولة الإلهية! حتى نوح يقول الله عز وجل حاكياً عنه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، وانتصر الله له، ونصره على الكافرين، وانتصر نوح، ولا شك في ذلك.

    فهذا التعبير إنما نشأ عن غلبة الاتجاه السياسي والمفاهيم السياسية، ومحاولة حشرها وإعطائها الحجم الأكبر من قضايا الإسلام، بحيث يكون هو في تصور كثير من الشباب أصل الأصول، وقطب الرحى، وعمود هذا الدين.

    1.   

    الحكم والسياسة ومحلهما من الدين

    نتناول في هذا المبحث أمرين:

    الأمر الأول: أن الحكم والسياسة من الدين، ومن ذهب إلى أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين فهذا قد سلك أقصر الطرق إلى الكفر؛ لأنه مثل من قال: الخمر حلال، والزنا حلال، فأحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله، أو أنكر آية من القرآن، فهذا وذاك في الكفر سواء، وفي الخروج عن حظيرة الدين سواء، وهذا مما لا يُختلف عليه.

    فربما كان الناس في أي زمان من الأزمنة الماضية لم يتضح عندهم هذا المفهوم بقدر ما اتضح عندنا، وما ذاقوا من الويلات كما ذقنا بمجرد أن انتهت الخلافة الإسلامية، وفي هذا يقول شوقي مبيناً آثار انهيار الخلافة الإسلامية:

    فلتسمعن بكل أرض داعياً يدعو إلى الدجال أو لـسجاحِ

    وليشهدن بكل أرض فتنةً فيها يباع الدين بيع صباحِ

    يعني: ما دامت الخلافة قد ضاعت فتوقعوا أنكم ستسمعون في كل أرض داعياً يدعو إلى الكذاب مثل دعوة مسيلمة أو دعوة سجاح التي ادعت النبوة.

    وليشهدن بكل أرض فتنة فيها يباع الدين بيع صباح

    يباع الدين ويستهان به، ولا غرو؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)، فجعل الحكم من عُرى الإسلام؛ بل قرنه بأعظم أركان هذا الدين ألا وهو الصلاة، (فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة).

    وإن كانت كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فيها نفي وإثبات؛ فينبغي لكل شخص حتى يستحق صفة المسلم أن يجمع بين كفر وإيمان: كفر بكل الآلهة سوى الله، وإثبات العبودية لله وحده، (لا إله إلا الله) أي: لا إله حق إلا الله، لكن لا يصح أن يقال: لا إله موجود إلا الله؛ لأن هناك آلهة موجودة دون الله، وهي آلهة باطلة، كما قال الله سبحانه وتعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]، إذاً: الهوى إله يُعبد من دون الله، والمال إله يعبد من دون الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار! تعس عبد الدرهم! تعس عبد الخميصة! تعس عبد القطيفة! تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، والساحر طاغوت وهو إله يُعبد من دون الله، والشيطان إله يعبد من دون الله، يقول الله عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61]، فالشيطان إله، لكنه إله باطل، فالله وحده هو الإله الحق الذي يستحق أن يُفرد سبحانه بالعبودية.

    الحاكم بغير ما أنزل الله إله باطل يُعبد من دون الله، وهو من رءوس الطواغيت كما بين القرآن وكما بينت السنة، فيجب أيضاً الكفر بهذا الطاغوت، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: (لا إله إلا الله).

    إذاً: حتى نستمسك بهذه العروة الوثقى لابد أن نكفر بكل طاغوت، ونؤمن بالله وحده، لكن لا يصح الإشراك مع الله سبحانه وتعالى في هذه العبادات.

    فنقول: إن الحكم بغير ما أنزل الله من الكفر، أو هو من رءوس الكفر، كما قال الله عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، فلا يصح الإيمان ولا دعوى الإيمان حتى يجمع الإنسان بين الإيمان بالله والكفر بكل إله يُعبد من دون الله من الطواغيت، ومن رءوس هؤلاء الطواغيت: من يحكم بغير ما أنزل الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة فميتته جاهلية)، أي: من مات وليس في عنقه بيعة للخليفة المسلم، وللحاكم المسلم فهذه ميتة جاهلية، وتشبه موتة أهل الجاهلية، فإن كان هناك خليفة ولم تبايعه، أو خرجت على طاعته ونقضت بيعته فأنت على خطر عظيم، أما إذا لم يوجد هذا الخليفة ولم تستطع مبايعته فقد أشبهت موتتك موتة أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا في فوضى لا يجمعهم نظام.

    الحكم من أهم قضايا الدين وليس أهم قضية فيه

    وهناك أدلة كثيرة على هذه المسألة لن نطيل بسردها؛ لأن المقام ليس مقام تفصيل.

    خلاصة القول: أن الحكم الإسلامي من أركان هذه الأمة، ومن أهم القضايا في هذا الدين.

    إذاً: نقول: هو مِنْ أهمّ القضايا، ولسنا نقول: هو أهم القضايا؛ لأن هناك ما هو أهم منه؛ ألا وهو توحيد الله سبحانه وتعالى.

    فنبين ونؤكد على أن الحكم من الدين، ولكنه ليس هو المقصود الأسمى والغاية العظمى من بعثة الرسل، فإنما أرسلت الرسل للدعوة إلى توحيد الله عز وجل، ولا يصح أن يقال: إن الأنبياء بُعثوا لإقامة الحكومة الإسلامية، إنما بعثوا للدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وآية ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، فلا يصح أن يقال: إن الأنبياء الذين لم يقيموا حكومة فعلية قد فشلوا في دعوتهم، وقد يتأدب البعض في التعبير فيقول: إنهم كانوا يمهدون، فاكتفوا بالتمهيد ولم يقيموا هذه الحكومة، وهذا خطأ، والصحيح أن نقول: إن الأنبياء انتصروا على الكفر، وبلغوا البلاغ المبين، وقاموا بما كلفهم الله به، ألا وهو الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، والدليل من القرآن قوله سبحانه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].

    حتى غلام أصحاب الأخدود، كما في قصة الغلام مع الراهب والساحر والملك، هذا الغلام لما أرشد الملك في النهاية إلى كيفية قتله، وطلب منه أن يجمع الناس في صعيد واحد، ويرميه بالسهم ويقول: باسم الله رب الغلام، قال: فإنك إن فعلت ذلك قتلتني. ففعل الملك ذلك، فما إن أصابه السهم حتى قتل هذا الغلام، لكن هل هو مغلوب؟ لا؛ بل هو منتصر بلا شك؛ لأنه بلغ التوحيد، وأثر في الناس، ودخلوا في دعوة التوحيد، حتى أغراهم الملك بالكفر، وهدّدهم بإلقائهم في الأخدود، فصبروا على دينهم، وأنزل الله عز وجل في ذلك الآيات الواردة في سورة البروج: بسم الله الرحمن الرحيم: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:1-8]، هؤلاء في الظاهر منهزمون، لكنهم في الحقيقة منتصرون، وهذا الغلام مات منتصراً ولم يمت مهزوماً.

    بيان معنى (الحكم لله) أو (الحاكمية لله)

    الأمر الثاني: أن كلمة (الحكم لله) أو (الحاكمية لله) راجت بين الشباب بفعل قيام بعض الناس بالترويج لهذا المفهوم، واتخذت صورة قاصرة في فهم معنى كلمة: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [ يوسف:40] أي: ما معنى الحاكمية لله؟ فهل (الحاكمية لله) أصبحت مفهوماً نرى كل شيء في الواقع من خلاله، فلا ننظر إلى الزكاة والصيام والحج والصلاة وغيرها من القضايا الشرعية إلا من خلال كلمة (الحكم لله) أي: بالمفهوم السياسي؟! كلا، لكن كلمة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) التي نطق بها يوسف عليه السلام وهو بين جدران السجن، وهو يدعو إلى التوحيد، ولم ينفض يديه عن أعباء الدعوة؛ لأنه لم يُقِمْ الحكومة الإسلامية، لكنه كان يمارس دعوته ويؤدي رسالته بقوله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، ثم بين المقصود من ذلك فقال: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:40]. فإذا ذكرنا كلمة -(الحكم لله)- أو (الحاكمية لله)، فلا يصح أن ينصرف الذهن -فقط- إلى الجانب السياسي، فلو راجعنا قسم (الحكم) في كتب أصول الفقه، فسوف نعرف المدى البعيد الذي تصل إليه هذه الكلمة (إن الحكم إلا لله) في كل شيء. وقول الله عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:44] هذا قول عام، ليس فقط على الحكام أو القضاة الذين لا يحكمون بكتاب الله، ولكنه يعم كل مسلم له حظ من هذه الآية؛ لأن الآية فيها صيغة عموم: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ)، أي: كل من لم يحكم، وقوله: (بما أنزل الله) تشمل كل ما أنزل الله، فكلٌ له نصيب من هذه الآية، إذ لابد من الحكم بما أنزل الله في كل مكان، بل وأعظم من ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) ، وأول راع هو الحاكم، فقال عليه الصلاة والسلام: (الإمام راع، وهو مسئول عن رعيته)، فالحاكم أول هؤلاء الرعاة الذين يسألون عن رعيتهم: (والرجل في بيته راع، وهو مسئول عن رعيته) الحديث، وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عن ما استرعاه؛ حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته). إذاً: الحكم بما أنزل الله درجات، أعلاها: ما يتعلق بالحاكم، بأن يسوس الناس ويحكمهم بالدين، وأن يحرس الدين، فسياسة الدنيا بالدين وحراسته هي وظيفة الحاكم. أما المحكومون فتتنوع مسئولياتهم بتنوع أقدارهم ومواطنهم، فأنت تحكم بما أنزل الله مثلاً بين أولادك، فمما أنزل الله ألا تفضل بعضهم على بعض في العطية، فمن فضل ولداً على سائر إخوته بالهدية -مثلاً- أو الهبة فإنه لم يحكم بما أنزل الله؛ لأن الله حرم هذا، وأيضاً: أمر الزوجة بالمحافظة على الصلوات: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، هذا أمر وحكم أنزله الله، وقال عز وجل في بعض أحكام الطلاق: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ [الطلاق:5]. فالحكم بما أنزل الله يمتد ليشمل كثيراً من الجوانب، منها: الجانب السياسي، والاجتماعي، وجانب العبادات، وجانب التوحيد، وهو أعظمها بلا شك. إذاً: هذا مما ينبغي الانتباه إليه، فليست الحاكمية بالمفهوم الضيق الذي طرأ في العصور الأخيرة، لكن الحاكمية أوسع من هذا، ولا يعني هذا أننا نبتر الجانب السياسي من الإسلام، ولكن يكون قدره أقل بالنسبة لأصل الأصول ألا وهو توحيد الله عز وجل. أيضاً: ما هو الأثر عندما نعتبر أن الحكم هو أصل الأصول في الدعوة الإسلامية؟ هذا يترتب عليه أن يصبح الحكم غاية، والحكم ما هو إلا وسيلة لتطبيق شرع الله سبحانه وتعالى؛ لكن ليس هو الغاية العظمى من بعثة الرسل؛ ولذلك فإن الصحابة رضي الله عنهم كان يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أغاروا على قوم أن يدعوهم قبل القتال، فلم تكن المسألة مسألة غنيمة فقط، كما أنهم لم يقهروا الناس أو يكرهوهم على الدخول في الدين مباشرة، ولم يبدءوهم بالقتال، ولكن كانوا يبلغونهم الدين قبل كل شيء؛ لأن الجهاد والفتح ما هو إلا وسيلة لتطبيق شرع الله، والدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.

    الدعوة إلى توحيد الله لا تتوقف على وجود الحكومة الإسلامية

    إذا لم يتمكن المسلمون من إقامة الحكومة الإسلامية فهل ينفضون أيديهم من تبعات الدعوة؟ لا؛ لأنه ما زالت المسئولية الأصلية باقية، ألا وهي الدعوة إلى توحيد الله، وإلى تصفية العقيدة، والصبر على ما وراء ذلك من الأذى.

    وكما سبق في قصة يوسف عليه السلام أنه أدى هذه الواجبات وهو مسجون: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:39-40]، فهو يوضح معنى (إن الحكم إلا لله) أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:40].

    مفاسد ترتكب لو جعل الحكم هو الغاية

    أيضاً: إذا جعلنا الحكم هو الغاية فمعنى ذلك أننا قد نستبيح في سبيله بعض الوسائل غير المشروعة، كالانضمام إلى الأحزاب المحاربة لدين الإسلام؛ كحزب الوفد وغيره من الأحزاب العلمانية، وكلمة (العلمانية) هذه كلمة مهذبة، دون ما يستحقه القوم من ألقاب، فكلمة (علمانية) تعني: (اللادينية) هذه كلمة في ظاهرها مهذبة، وما هي إلا رفض دين الإسلام، وتسوية الدين الإسلامي بكل الأديان، بحيث تقف كلها على قدم المساواة، فالحق يساوي الباطل من أجل الوحدة الوطنية أو الأخوة الإنسانية وغيرها من المفاهيم الباطلة، لكن العلمانية كفر ورفض لدين الإسلام، ومحاولة لعزله عن واقع الحياة.

    فهذه عبارات مهذبة حتى لا توقع العبارات الصحيحة أصحاب هذه الدعاوى فيما يستحقونه من أوصاف شرعية.

    فالتنازل من أجل إقامة الحكم الإسلامي معناه: أن نتنازل عن عقيدتنا، ونتعاون مع هؤلاء الناس الذين يرفضون الدين، ويرفضون الإسلام، ولا يجعلون غايته هو توحيد الله، والدعوة إلى عبادة الله سبحانه وتعالى.

    الإنسان في هذا الوجود كائن مهم، ولا ينبغي الاغترار بظاهر الكفار وما هم عليه، كما قال الله عز وجل مبيناً ما عندهم من العلم: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7]، فلا يغرنا ما يتمتع به الكفار من زينة الدنيا، ومن الغلبة والقوة والسطوة، فما قوتهم إلا في ضعف المسلمين، لكن القوة الحقيقية هي في الإيمان، والاعتصام بحبل الله المتين، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، فالتمكين في الأرض لا يأتي إلينا إلا بعد أن نتمسك نحن بالدين في أنفسنا، يقول الله عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، ويقول الله سبحانه وتعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137]، ويقول الله سبحانه وتعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5]، إذاً: هي هدية ومكافأة وامتنان من الله سبحانه وتعالى على الاستمساك بحبل الله، فتكون العاقبة للمتقين، والعاقبة للتقوى، ويمكن الله سبحانه وتعالى لأوليائه في الأرض.

    أما أن نتنازل عن ديننا، أو عن المفاهيم الأساسية في ديننا من أجل تمكين وإقامة الحكومة الإسلامية، فهذا لا يكون؛ لأنه لابد أن تكون الوسائل شرعية، فالحكم أو السياسة ليس الغاية، إنما الغاية هي تحقيق العبودية لله وحده، كما قال تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:2]، وهي سبب التمكين في الأرض.

    بيان معنى: (الحكم لله) أو (الحاكمية لله)

    الأمر الثاني: أن كلمة (الحكم لله) أو (الحاكمية لله) راجت بين الشباب بفعل قيام بعض الناس بالترويج لهذا المفهوم، واتخذت صورة قاصرة في فهم معنى كلمة: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [ يوسف:40] أي: ما معنى الحاكمية لله؟ فهل (الحاكمية لله) أصبحت مفهوماً نرى كل شيء في الواقع من خلاله، فلا ننظر إلى الزكاة والصيام والحج والصلاة وغيرها من القضايا الشرعية إلا من خلال كلمة (الحكم لله) أي: بالمفهوم السياسي؟! كلا، لكن كلمة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) التي نطق بها يوسف عليه السلام وهو بين جدران السجن، وهو يدعو إلى التوحيد، ولم ينفض يديه عن أعباء الدعوة؛ لأنه لم يُقِمْ الحكومة الإسلامية، لكنه كان يمارس دعوته ويؤدي رسالته بقوله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، ثم بين المقصود من ذلك فقال: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:40].

    فإذا ذكرنا كلمة -(الحكم لله)- أو (الحاكمية لله)، فلا يصح أن ينصرف الذهن -فقط- إلى الجانب السياسي، فلو راجعنا قسم (الحكم) في كتب أصول الفقه، فسوف نعرف المدى البعيد الذي تصل إليه هذه الكلمة (إن الحكم إلا لله) في كل شيء.

    وقول الله عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:44] هذا قول عام، ليس فقط على الحكام أو القضاة الذين لا يحكمون بكتاب الله، ولكنه يعم كل مسلم له حظ من هذه الآية؛ لأن الآية فيها صيغة عموم: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ)، أي: كل من لم يحكم، وقوله: (بما أنزل الله) تشمل كل ما أنزل الله، فكلٌ له نصيب من هذه الآية، إذ لابد من الحكم بما أنزل الله في كل مكان، بل وأعظم من ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته} ، وأول راع هو الحاكم، فقال عليه الصلاة والسلام: {الإمام راع، وهو مسئول عن رعيته}، فالحاكم أول هؤلاء الرعاة الذين يسألون عن رعيتهم: {والرجل في بيته راع، وهو مسئول عن رعيته} الحديث، وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: {إن الله سائل كل راع عن ما استرعاه؛ حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته}.

    إذاً: الحكم بما أنزل الله درجات، أعلاها: ما يتعلق بالحاكم، بأن يسوس الناس ويحكمهم بالدين، وأن يحرس الدين، فسياسة الدنيا بالدين وحراسته هي وظيفة الحاكم.

    أما المحكومون فتتنوع مسئولياتهم بتنوع أقدارهم ومواطنهم، فأنت تحكم بما أنزل الله مثلاً بين أولادك، فمما أنزل الله ألا تفضل بعضهم على بعض في العطية، فمن فضل ولداً على سائر إخوته بالهدية -مثلاً- أو الهبة فإنه لم يحكم بما أنزل الله؛ لأن الله حرم هذا، وأيضاً: أمر الزوجة بالمحافظة على الصلوات: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، هذا أمر وحكم أنزله الله، وقال عز وجل في بعض أحكام الطلاق: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ [الطلاق:5].

    فالحكم بما أنزل الله يمتد ليشمل كثيراً من الجوانب، منها: الجانب السياسي، والاجتماعي، وجانب العبادات، وجانب التوحيد، وهو أعظمها بلا شك.

    إذاً: هذا مما ينبغي الانتباه إليه، فليست الحاكمية بالمفهوم الضيق الذي طرأ في العصور الأخيرة، لكن الحاكمية أوسع من هذا، ولا يعني هذا أننا نبتر الجانب السياسي من الإسلام، ولكن يكون قدره أقل بالنسبة لأصل الأصول ألا وهو توحيد الله عز وجل.

    أيضاً: ما هو الأثر عندما نعتبر أن الحكم هو أصل الأصول في الدعوة الإسلامية؟ هذا يترتب عليه أن يصبح الحكم غاية، والحكم ما هو إلا وسيلة لتطبيق شرع الله سبحانه وتعالى؛ لكن ليس هو الغاية العظمى من بعثة الرسل؛ ولذلك فإن الصحابة رضي الله عنهم كان يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أغاروا على قوم أن يدعوهم قبل القتال، فلم تكن المسألة مسألة غنيمة فقط، كما أنهم لم يقهروا الناس أو يكرهوهم على الدخول في الدين مباشرة، ولم يبدءوهم بالقتال، ولكن كانوا يبلغونهم الدين قبل كل شيء؛ لأن الجهاد والفتح ما هو إلا وسيلة لتطبيق شرع الله، والدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    اتفاق الفرق الإسلامية على أن التوحيد أصل الأصول ومخالفة الإمامية في ذلك

    أيضاً: ينبغي أن نعرف ما هو أصل الأصول في هذا الدين، هل هو التوحيد؟ هل هو الحكومة الإسلامية؟ هل هو تأليف القلوب؟ إلى غير ذلك من الأهداف التي ينادى بها.

    قبل هذا الزمان ما كان أحد أبداً يجرؤ على أن يقول: إن أصل الأصول شيء آخر غير التوحيد، حتى جميع الفرق الإسلامية التي نشأت؛ سواء المعتزلة، أو الجبرية، أو الجهمية، أو الأشاعرة، أو أهل الحديث، أي فرقة من الفرق العقائدية ما كانت تعد أصل الأصول إلا التوحيد، وإن انحرف بعضهم في فهم التوحيد وكيفية تحقيقه، لا سيما في قضايا الأسماء والصفات، لكن لم يكن يوجد سوى فرقة الشيعة الإمامية التي تقول: إن هناك شيئاً آخر يعتبر أصل الدين سوى التوحيد.

    فمعلوم أن أصل الدين في كل عصور الإسلام ما كان يذكره العلماء إلا أنه هو توحيد الله سبحانه وتعالى، حتى لو انحرف البعض في فهم عقيدة التوحيد، بل العلماء يذكرون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) أن أوجب العلوم على العبد، وأول واجب على المكلف: معرفة الله سبحانه وتعالى، ومعرفة معنى لا إله إلا الله، وكيفية تحقيق التوحيد.

    هذا هو الهدف الأسمى من بعثة الرسل، وهو أول واجب على كل مكلف: أن يفهم معنى لا إله إلا الله، وما هي لوازم هذه الكلمة، وما الذي ينقض هذه الكلمة، فيتعلم هذه الأشياء قبل أن يتعلم الصلاة وغيرها من الأحكام الفقهية.

    ولم يشذ عن جماعة المسلمين في هذا إلا فرقة الروافض -الشيعة الإمامية الإثني عشرية- فإنهم قد عدوا أصل الدين عندهم هو: (الإمامة)، وهو الإيمان بإمام لكل زمان، أي: يوجبون على الله سبحانه وتعالى أن ينصب إماماً لكل زمان، فحتى في هذا الزمان يقولون: إن الإمام موجود وهو المدعو: محمد بن الحسن العسكري، لكنه مختبئ في السرداب كما يزعمون.

    فالتوحيد لابد أن يقدم على ما سواه، فيقدم الأهم على المهم، وهذا التوحيد ليس لفظاً مبتدعاً، ولكن جاءت به أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أول ما يدعو الناس إليه كما في قصة معاذ عندما أرسله إلى اليمن فقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله)، فأول شيء هو التوحيد.

    1.   

    أقسام التوحيد

    أما بالنسبة لأقسام التوحيد فهي ثلاثة أقسام: الأول: توحيد الربوبية، الثاني: توحيد الألوهية، الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهذا التقسيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستعمل هذه الاصطلاحات: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، كما لم يرد عنه العلم الذي يسمى: علم أصول الفقه، ولا مصطلح الحديث، وأصول التفسير، والتفسير واللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة ونحوها، فهذه طرائق معينة لفهم الدين، فهي من باب الوسائل التي تسهل فهم هذه العلوم وتبسطها وتصونها من التحريف والزيغ.

    والنبي صلى الله عليه وسلم قد أتى بمضمون هذه الأقسام الثلاثة، ولا مشاحة في الاصطلاح، فلا نختلف في الاصطلاح، لكن المهم ما وراء هذا الاصطلاح.

    توحيد الربوبية

    توحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله، أي: الأفعال التي تأتي من الرب إلى المربوبين الذين يربيهم وينميهم، فيأتيهم بالرزق، وهو الذي يحيي، والذي يميت، فكل ما أتى من الله أو فعله الله فهو من الربوبية، فتوحيد الربوبية: أن يؤمن العبد أنه لا يحيي ولا يميت ولا يرزق ولا يفعل أفعال الربوبية سوى الله سبحانه وتعالى، فلا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، ولا يحيي إلا الله، ولا يميت إلا الله، ولا يضر إلا الله، ولا ينفع إلا الله ... فتوحيد الربوبية: توحيد الله بأفعاله.

    وهذا النوع من التوحيد كان موجوداً لدى أكثر المشركين الكفار الذين حكى الله سبحانه وتعالى قصصهم مع الأنبياء والمرسلين، فكان موجوداً عند قوم نوح، وقوم صالح، وقوم هود، وجميع الأنبياء، حتى المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بأنه لا يحيي ولا يرزق ولا يخلق إلا الله، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، كانوا على بقية من دين إبراهيم، لكن طرأ عليهم الشرك.

    توحيد الربوبية لا يكفي لدخول المرء في الإسلام

    توحيد الربوبية لا يكفي لدخول صاحبه في الإسلام، فإن فرعون كان يعلم بوجود الله تعالى رغم أنه الذي كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وكان يقول: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وكان قومه يعلمون بوجود الله، والدليل على ذلك: أنهم لما أتاهم بأس الله هرعوا إلى موسى وقالوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:134]، وفرعون نفسه -كما حكى الله عز وجل عنه في سورة الإسراء- قال له موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102]، هذا خبر عن موسى عليه الصلاة والسلام، فيخبر عما في قلب فرعون، وهو لا يخبر إلا عن شيء يعلمه، كما جاء في سورة النمل: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، لكن كانوا في قلوبهم يعلمون يقيناً أن موسى رسول الله حقاً.

    إذاً: كان فرعون يعلم أن هناك إلهاً، وكان يعلم أن موسى رسول الله بنص القرآن كما بينا، موسى يقول لفرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ [الإسراء:102] يعني: هؤلاء الآيات: إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102]، إذاً بنص القرآن فإن فرعون كان يعلم بوجود الله، وأبو جهل كان يوحد توحيد الربوبية، وأبو لهب كان يوحد توحيد الربوبية، واليهود بلا شك يوحدون توحيد الربوبية، وكذلك النصارى، لكن العبرة بما يأتي من أقسام التوحيد.

    لا بد من توحيد الألوهية لدخول الإسلام

    توحيد الألوهية: هو توحيد العبادة والقصد.

    فتوحيد الألوهية أو توحيد الإلهية: هو توحيد الله بأفعال العباد، فلا يصرف الإنسان عبادته إلا إلى الله، كما أنه لا رازق إلا الله، ولا خالق إلا الله، ولا محيي ولا مميت إلا الله؛ فكذلك لا معبود إلا الله سبحانه وتعالى.

    فهذا هو معنى توحيد الإلهية، أي: ألا تعبد إلا الله وتكفر بكل ما سواه من الآلهة الباطلة، سواء ما جاء عن الآباء والأجداد إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، أو كان هذا الإله هو الشيطان، أو الطاغوت وهو الحاكم بغير ما أنزل الله، وكذلك الساحر، والكاهن، والعراف الذي يدعي معرفة الغيب، والمال، والبنون.. كل هذه آلهة باطلة تعبد من دون الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن تفرد الله بالعبادة.

    ما معنى العبادة؟

    العبادة كما عرفها العلماء: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة.

    فهذا هو معنى لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، فلا يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى، فقد يكون الإنسان مؤمناً بأنه لا يرزق إلا الله، ولا يحيي إلا الله، ولا يميت إلا الله، ومع ذلك يشرك في العبادة، فيؤدي عبادته لغير الله، فهذا أشرك في الألوهية، فالمقصد الأسمى من دعوة الرسل: ألا يُعبد إلا الله، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] أي: اعبدوني وحدي: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] المقصود: ليعبدوني وحدي، ولا يشركوا معي غيري في هذه العبادة.

    توحيد الربوبية لا يدخل صاحبه الجنة، ولا ينجي صاحبه من النار، وصاحب توحيد الربوبية ليس له فضل؛ كالنصراني الذي يؤمن بأن هناك إلهاً، وأن هناك خالقاً، وأن هناك رازقاً، ويقول: إن شاء الله، وبإذن الله. هذا ليس بمؤمن، ولا يصح أن يطلق عليه لفظ الإسلام أو الإيمان، فهو كافر بالله؛ لأنه لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يوحد الله توحيد الألوهية ولا توحيد الأسماء والصفات، فالذي يؤمن بتوحيد الربوبية هذا ليس له فضل، ولا ينقذه هذا من النار.

    وحتى الشيوعيون الملاحدة أيضاً -ولا شك- يوحدون توحيد الربوبية، وإن جحدوا ذلك في الظاهر، فيقولون: لا إله، والحياة مادة، ويجعلون الإلحاد -والعياذ بالله- علماً له أصول، ويدرس عندهم، ويدعون الناس إليه على أسس وقواعد باطلة هي من تضليلهم، فإن حالهم كسائر الكفار ما أخبر الله عنهم أنهم: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، حتى لينين الذي هو من كبار الشيوعيين الملاحدة عند مرض موته كان يجلس عنده الزعماء والسياسيون والطواغيت يحضرون ساعة احتضاره، فلما اشتد عليه الاحتضار قال مرة: يا إلهي!! أو يا ألله!! فصرخوا واستنكروا هذه المقولة، فاعتذر عن هذه الكلمة، لكنه كان بفطرته يشعر بحاجته إلى الله سبحانه وتعالى!!

    كذلك أي واحد منا في أي كرب من الكربات، سواء أشرف على الهلاك في حادث من الحوادث ، أو أصابه مرض، أو وقع في أي ضائقة، مهما بلغ من العصيان أو التمرد على الله سبحانه وتعالى، أو المحاربة لأمر لله ونهيه، فإنه عند الضائقة يدعو الله مخلصاً له الدين، وينسى كل شيء كان يغتر به من مال أو سلطان أو غيره، ولا يذكر إلا الله وحده، كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء:67]، فيخبر الله سبحانه وتعالى أن هذه الفطرة المتأصلة في قلب الإنسان موجودة، وأنها أعظم ما تستيقظ حينما يوقن الإنسان بالهلاك، فإنه حينئذ يخرج هذا الرصيد المتمكن من الفطرة في قلبه ليدعو الله وحده، وينسى ما يشرك من دون الله سبحانه وتعالى، فحتى هؤلاء الملاحدة الشيوعيون الذين ينكرون وجود الله، فإذا وقع بأحدهم الكرب فإنه لا يدعو إلا الله؛ بل يدعو من كل قلبه الله سبحانه وتعالى مخلصاً له الدين.

    فهذا هو توحيد الألوهية، أي: توحيد الله بأفعال العباد، وهذا هو التوحيد الذي كلفنا الله به، ألا نعبد إلا الله سبحانه وتعالى حق عبادته.

    1.   

    أقسام العبادة

    والعلماء يقسمون العبادة إلى أقسام، الأول: عبادات قلبية تؤدى بالقلب، فالآلة التي تستخدم في أداء هذه العبادات هو القلب. القسم الثاني: عبادات قولية تؤدى باللسان. القسم الثالث: عبادات بدنية تؤدى بالجوارح، وهناك عبادات مالية تؤدى بالمال.

    العبادات القلبية

    العبادات القلبية هي أعظم وأخطر العبادات، فعمل القلب هو الاعتقاد، مثل أن أقول: أعتقد بقلبي أن الله واحد لا شريك له، وأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى، وكذا الإيمان بأي صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، فهذا كله عمل قلبي.

    ولا ينبغي أن نلتفت لقول بعض الجهلاء الذين يقولون: لا عبرة بموضوع التوحيد؛ لأنه يفرق المسلمين، وأن التوحيد عبارة عن كلام نظري لا يترتب عليه عمل!! وقد جهل هؤلاء أن مسائل التوحيد يترتب عليها أعظم العمل، ألا وهو عمل القلب الذي هو أصل أعمال الجوارح كلها، والتوحيد هو تطهير للقلب من الشرك الذي هو نجس، كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، هل معنى ذلك أنك لو سلمت على نصراني أو يهودي فقد تنجست؟ لا؛ لأن المقصود هو (نجس) عقيدتهم وقلوبهم، فقلوبهم قد تنجست بأكبر نجاسة في الوجود وهي نجاسة الشرك.

    وبعض المسلمين -هداهم الله- يصفون الكفار بالنظافة والنظام، نعم قد تجد عند هذا الكافر شيئاً من النظافة، لكنه منجس بأخبث نجاسة وهي نجاسة الشرك في قلبه، فقد اسودّ قلبه من نجاسة الشرك والكفر بالله سبحانه وتعالى، وأعظم الزكاة للتطهير هي تزكية القلب: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، (أفلح من زكاها) أي: طهر قلبه من درن الشرك والمعاصي، فأخطر نجاسة هي نجاسة القلب بالشرك، وأعظم الطهارة هي التوحيد، وتطهير القلب من الاعتقادات الباطلة.

    إذاً: هذا هو عمل القلب: أن يؤمن الإنسان أن لا إله إلا الله، وأن يؤدي حقوق هذه الكلمة، ويطهر قلبه مما ينافيها.

    ومن أعظم أعمال القلوب: محبة الله سبحانه وتعالى، فإنها من أعظم عبادات القلب، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، فالقلب الذي امتلأ بمحبة الله سبحانه وتعالى هو أطهر القلوب، أما إذا دخل القلب أي محبوب سوى الله أو مع الله فهذا القلب فيه دخن ونجس.

    والقلب لا يقبل الله عز وجل فيه شريكاً، فمن تعلق بمعشوقه أو أي محبوب من الخلق يشغله عن محبة الله، فهذا لم يطهر قلبه ولم يزكه لله سبحانه وتعالى، ولا يدخله الخير والنور ما دام قد جعل لله شريكاً في قلبه، فلابد من تجريد القلب لله سبحانه وتعالى.

    قال رجل لأحد العلماء: هل يسجد القلب؟

    قال: نعم، يسجد سجدة لا يرفع رأسه بعدها أبداً.

    القلب إذا سجد لله هذه السجدة فإنها تظل مع المؤمن حتى يموت، فلا يرفع رأسه أبداً كما يرفع من الركوع والسجود، وهي الخضوع لله سبحانه وتعالى، والتزام أمره واجتناب مناهيه مدى الحياة.

    فمن عبودية القلب: المحبة لله، وهي عبادة، والبغض في الله عبادة، فكراهية الكفار عبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، والبراءة منهم.

    ومن عبادات القلوب وأعمالها: التوكل، فالتوكل على الله عمل قلبي، وعبادة قلبية، كما أن عبادة الخوف من الله عبادة قلبية، وعبادة الرجاء عبادة قلبية، وغيرها من عبادات القلوب، فلا تحب إلا الله، ولا تتوكل إلا على الله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، ولا تنوي عبادتك إلا لله.

    هذا هو معنى تحقيق توحيد الألوهية في القلب أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:2]. وهذه العبادات التي تؤدى بالقلب، هل هي أعمال أم ليست أعمالاً؟ هي أعمال، ومن أعظم الأحاديث التي شملت تقريباً ثلث الدين حديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهذه النية لا تؤدى إلا بالقلب، فالنية مكانها القلب، ولا تؤدى باللسان.

    إذاً: فاعتقاد القلب، والأعمال التي يعملها القلب تدخل تحت مسمى العمل، فالاعتقادات الصحيحة عمل مطلوب من الإنسان، ولا ينبغي أن يقال: إن هذه المسائل نظرية، وإن الصواب الاهتمام بأعمال الجوارح! فإن عمل القلب من أعظم الأعمال، وأعمال الجوارح تابعة لعمل القلب؛ ولذلك فإن صغائر القلب أخطر من كبائر الجوارح: فالرياء كبيرة، والعجب والغرور كل هذه المعاصي التي محلها القلب هي من الشرك، وهي مما ينافي توحيد الألوهية أو توحيد العبادة والقصد لله سبحانه وتعالى.

    فتحقيق عبودية القلب تعني: كيفية تحقيق القلب لشهادة أن (لا إله إلا الله)، فلا يحب إلا الله، ولا يخاف ولا يرجو ولا يتوكل إلا على الله سبحانه وتعالى، فإذا وقع في الرياء فقد وقع في الشرك، وإذا وقع في أي نوع من أنواع الإلحاد في الاعتقاد القلبي فقد وقع في الشرك، وإذا وقع في أي عمل قلبي ينافي التوحيد، فخاف غير الله، أو توكل على غير الله؛ فهذا لم يحقق توحيد الله بالعبادات القلبية.

    العبادات البدنية والقولية والمالية

    العبادات البدنية مثل: الصيام، والصلاة، والزكاة، والحج.. كل هذه عبادات تؤدى بالبدن، فلا تصلي إلا لله، ولا تصوم إلا لله، ولا تؤدي الزكاة إلا لوجه الله، وأي نوع من العبادات التي تؤدى بالبدن فلا يقصد بها الإنسان إلا الله، بهذا نحقق معنى (لا إله إلا الله).

    والعبادات القولية مثل: النذر، والحلف، والصدق، والذكر، وغيرها من الأعمال، كلها تؤدى باللسان، فالصدق عبادة تؤدى باللسان، والحلف لا يكون إلا بالله، وهي عبادة تؤدى باللسان، ولا يتحقق التوحيد إلا بأن توجّه كل هذه العبادات إلى الله سبحانه وتعالى وحده.

    والعبادات المالية مثل: الذبح، فهو عبادة مالية، كأن تشتري الشيء الذي تذبحه بالمال مثلاً، فلا تذبح إلا لله، فمن ذبح لغير الله فقد وقع في الشرك.

    وهناك عبادات مالية أخرى كالزكاة، فلا تُزِكّ إلا لله، وكذلك الوفاء بالنذر إذا نذرت بمال، فهذه عبادة مالية لا تكون إلا لله.

    فمن فعل من أنواع العبادات شيئاً ووجّهه لغير الله فقد وقع في الشرك، وبإخلاصه لله يحصل تحقيق توحيد الألوهية.

    1.   

    تحريم كل ما يفضي إلى الشرك لصون جناب التوحيد

    إن التوحيد لشدة خطره وعظم مكانته شرع الله سبحانه وتعالى كثيراً من الاحتياطات لصيانة جنابه، وهذا النوع من التوحيد هو المقصود من بعثة الرسل، فشرع الله عز وجل له احتياطات كثيرة، فلم يحرم -فقط- الذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والتوسل بالمقبورين، أو بالأولياء أو الأنبياء، ولكن شرع احتياطات كثيرة لحماية جناب التوحيد، وقد تبدو للإنسان أنها مسائل فرعية، ولكن المقصود بها: حماية جناب التوحيد.

    تحريم الألفاظ الشركية

    حرم الله سبحانه وتعالى على الإنسان أن ينطق بألفاظ توهم الندية والمساواة بين الله عز وجل وبين خلقه، فحرم الله على الإنسان أن يقول: أنا في حمى الله وفلان، أو: أنا توكلت على الله وعلى فلان، أو تقول: ما شاء الله وفلان. وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام أن المخرج من هذا القول أن يعطف الإنسان بكلمة (ثم)، ولا يعطف بـ(الواو)؛ لأن (الواو) تقتضي المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه، لكن (ثم) تقتضي تأخر المعطوف على المعطوف عليه، فتقول مثلاً: باسم الله ثم باسم فلان، أو أنا في حمى الله ثم في حماك، أو تقول: توكلت على الله ثم عليك، أو تقول: ما شاء الله ثم شئت. فهذا هو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وفلان، وليقل: ما شاء الله ثم فلان).

    ونهى -أيضاً- النبي صلى الله عليه وسلم عن الألقاب التي فيها تعظيم لغير الله، أو نسبة تأثير لغير الله، فمثلاً: بعض الناس يقول: وحياتك، أو: وحياتي، أو: وحياة أبيك، أو: لولا فلان لكان كذا، لولا أن الكلب نبح لكان اللص سرقنا، لولا مجيء فلان لقُتل هذا الرجل، لولا صياح الديك لسرقنا اللصوص.

    فتقول: لولا رحمة الله، لولا فضل الله، لكن لا تنسب التأثير إلى هذه المخلوقات.. لولا ذلك الطبيب لكنت قد متّ، أو لحصل لي كذا، لولا الدواء الفلاني لما شفيت، وهذا كله شرك فإن الله هو الشافي.

    فينبغي أن يفطن المسلم إلى مثل هذه الأمور التي تقدح في التوحيد.

    تحريم اتخاذ القبور مساجد

    لحماية جناب التوحيد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فاستفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).

    كما نهى عن الصلاة في أوقات معينة، حيث جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها)؛ لما في ذلك من التشبه بالذين يعبدون الشمس؛ لأنهم يتحرون السجود للشمس في هذه الأوقات: وقت الشروق، ووقت الغروب.

    ونهى صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال إلى مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فيه، سوى المساجد الثلاثة، كما في الحديث: (لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) يقصد المسجد النبوي.

    نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القيام للرجال تعظيماً لهم

    ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعض أصحابه له على جهة التعظيم، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين رآهم يقومون له: (لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظّم بعضهم بعضاً)، وهدد النبي صلى الله عليه وسلم من يحب أن يتمثل الناس له قياماً فقال: (من أحب أن يتمثل له الرجال بين يديه قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فهذا أيضاً من الأسباب التي تحمي حمى التوحيد؛ لأنه حين يقوم الناس بعضهم لبعض تعظيماً فإن ذلك قد يخدش في جناب التوحيد، وحينما وقعت آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزة له، سجد معاذ له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا معاذ؟! لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولكن لا ينبغي السجود إلا لله عز وجل)، وفي الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالصحابة جالساً، وصلوا وراءه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، ثم قال لهم بعد أن فرغ من الصلاة: كدتم أن تفعلوا آنفاً فعل فارس والروم لعظمائهم، يجلس الرجل ويمثل الناس قياماً بين يديه)؛ لذلك نهى عن هذا الفعل.

    تحريم التصوير

    كما حرم النبي صلى الله عليه وسلم التصوير بكل أنواعه -أي: تصوير ذوات الأرواح- لما فيه من مضاهاة خلق الله، ولما فيه من اعتداء على حق الله سبحانه وتعالى، فالله هو المصور كما قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24]، وفي الحديث: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: أين الذين ذهبوا يخلقون كخلقي؟! فليخلقوا بُرة .. فليخلقوا شعيرة)، فهل يستطيع هؤلاء المصورون أن يخلقوا حبة شعير؟!

    وإنما تحداهم الله عز وجل يوم القيامة لِعِظَم الحكمة من تحريم التصوير، وهي: مضاهاة خلق الله، وليس فقط حماية جناب التوحيد من عودة الناس إلى عبادة الأصنام التي كانوا يعبدونها، لكن الحكمة لأن فيها تشبهاً بخلق الله، فإن تشبه المخلوق بفعل الخالق لا ينبغي، كما جاء في تحريم التعذيب بالنار، فإنه لا يحل التعذيب بالنار؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، وكذلك التصوير من خصائص الخالق سبحانه وتعالى، فلا ينبغي مضاهاة خلق الله، والتشبه بفعل الله في خلق ذوات الأرواح؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم التصوير قوله: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة)، وقال: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)، فتحداهم الله عز وجل بأن يحيوا ما خلقوا.

    أفلا يتقي الله أناس لم يكتفوا باستباحة هذه التصاوير في بيوتهم، ولكن بدءوا يجترئون على حرمة بيوت الله، ويدخلون هذه التصاوير داخل المساجد، ويوقظون الفتن، ويدسون الشر في بيوت الله!! فإذا كانت الملائكة لا تدخل المساجد فأين تدخل؟! ووجود الصور داخل المساجد من ذرائع الوقوع في هذه المخالفة العظيمة، وإقرار هذا المنكر العظيم، فينبغي أن نراعي حرمة المسجد، فإن المسجد له حرمة عظيمة، ولا ينبغي أن نُدخل إلى المسجد شيئاً من هذه التصاوير التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وتواترت الأحاديث في تحريمها والتحذير منها.

    نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو

    ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الغلو فيه وفي مدحه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني-والإطراء: هو المبالغة في المدح- كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيثما كنتم)، ولما جاء ذلك الوفد وقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: (إنما السيد الله)، ولما جاء رجل وقال للنبي: ما شاء الله وشئت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، ولما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فأخذته رعدة، أي: ارتعد من هيبة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (هوّن عليك! فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة) صلى الله عليه وسلم.

    نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع القبور والبناء عليها

    وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن رفع القبور، وتجصيصها، والبناء عليها، وإيقادها بالسرج، والعكوف عليها؛ خشية الافتتان بها والوقوع في تعظيمها، كما هو الآن حال كثير من الناس الذين يعبدون القبور عبادة حقيقية، فيذهبون إلى المقبورين، وقد قسموهم إلى تخصصات: فهذا لمن أراد أن ينتقم من جاره، وهذه لمن أرادت أن تنجب، وهذا لمن أراد أن ينجح ولده في الامتحانات.. وهكذا أصبح لكل واحد تخصص!! فيطلبون منهم النصر على الأعداء، ويطلبون منهم الشفاء، ويطلبون منهم الإنجاب؛ حتى وقعوا في ألوان من الشرك ما كانت تخطر على بال أحد أن يقع فيها ممن ينتمي إلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

    نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر في مكان كان يعبد فيه غير الله

    ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر في مكان كان يعبد فيه صنم، أو كان يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة -وهي هضبة قريبة من ساحل البحر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكان فيها صنم من أصنام الجاهلية يعبد؟ فقال: لا. فقال: هل كان يقام فيها عيد من أعياد الجاهلية؟ قال: لا. قال: فأوف بنذرك)؛ فلم يكن التحذير من هذه الأماكن إلا مراعاة لجانب التوحيد، واحتياطاً حتى لا يدخل فيه شيء من الشرك.

    ونهج الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم نهج النبي صلى الله عليه وسلم في الاحتياط للتوحيد، والمحافظة على حماه؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما رأى بعض الناس يأتي لشجرة الرضوان فيصلي عندها -وهي الشجرة التي بايع الصحابة عندها النبي عليه الصلاة والسلام- فأمر بقطعها؛ حتى لا يفتتن الناس بهذه الشجرة، وحتى لا يتبركوا بها، وقال عمر رضي الله عنه وهو يستلم الحجر الأسود ويقبله: (والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك!!).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756176097