إسلام ويب

الآيات الكونية وتحكيم شرع اللهللشيخ : عبد الله الجلالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تدل آيات الله عز وجل الكونية من أرض وسماء، وجبال ووديان، وبحار وأنهار، ونجوم وكواكب على عظمة الله سبحانه، وأنه الخالق والفاطر لها، والمسير والمدبر لأمورها، أفلا يدل ذلك على استحقاقه سبحانه للعبادة والتذلل والخضوع من خلقه؟! ألا يدعو ذلك إلى التحاكم إلى دينه وشرعه؟! ألا ينادي ذلك بحكمته وإتقانه؟

    1.   

    الآيات الكونية وما فيها من تعظيم الله سبحانه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله ومن دعا بدعوته ونصح لأمته إلى يوم الدين، أما بعد:

    فيقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:41-54].

    أيها الأخ الكريم! هذه حلقة جديدة من سورة النور، والنصف الأول منها يتحدث عن موضوع واحد، وهو: كيف نحارب الرذيلة والفساد في الأرض؟ وكيف نكافح الزنا حتى لا يكون؟ وما هي الطرق الكفيلة بذلك؟ تنتهي تلك الاحتياطات ببيان منشأ الرجال وأين ينشأ الرجال، فالرجال لا ينشئون إلا في المسجد، ولا يتربون إلا في المسجد فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] وهؤلاء الذين يتربون في المسجد كما عرفنا. في قلوبهم نور، وهذا النور هو أعظم نور عرفه الإنسان كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [النور:35].

    ثم انتهى الأمر بعد ذلك إلى بيان الخطر الذي يصيب الإنسان حينما يبتعد عن المسجد وعن الله وعن دين الله، فيعيش إما في أحلام، فتكون: أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39] أو يعيش في ظلمة نعوذ بالله، فليست له أعمال ترجى، بل هي سيئات إثر سيئات، وكفر ومعاصٍ وإلحاد وعناد أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].

    انتهى المقطع الأول من هذه السورة إلى هذا الحد، وجاء الحديث عن الآيات الكونية التي وضعها الله عز وجل في هذا الأفق، وفي الأنفس، وفي هذا العالم، في السماوات وفي الأرض من أجل أن يهتدي هذا الإنسان، وكأن هذه الآيات الكونية وضعت بجوار الآيات الشرعية التي سبقت لتكون سبباً لهداية هذا الإنسان، فالإنسان الذي في قلبه نور ينشأ هذا النور في المسجد، والذي يفقد هذا النور يعيش في سراب، وفي أحلام يقظة، أو يعيش في بحر لجي فيه ظلمات إذا أخرج يده لم يكد يراها.

    لكن الله عز وجل قد وضع في هذا الأفق أدلة ترشد إليه في السماوات والأرض وفي الأنفس، ولذلك الله تعالى بين أن هذه الآيات الموجودة في السماوات يتذكر من خلالها أولوا الألباب، قال تعالى: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:20-21] فإذا لم يجد الإنسان آيات في الأرض تكفيه لتعرفه بربه سبحانه وتعالى فسوف يجد هذه الآيات في السماء، قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6] وإذا لم ينظر في هذا ولا ذاك فلينظر في نفسه، قال تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].

    فلو نظر هذا المخلوق المعاند لله عز وجل فيما وضع الله تعالى في هذا الكون من آيات ومخلوقات من جبال معلقة بين السماء والأرض وهو السحاب وينزل منها الماء ومن مخلوقات متحركة على وجه الأرض، دواب، إنسان، حيوان، زواحف، حشرات، كل هذه أدلة ترشد الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى، وقد يغفل هذا الإنسان عن هذه الآيات، فتكون النتيجة: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:39-40].

    لكن لو نظر هذا الكافر قبل أن يكون كافراً في هذه الآيات الكونية والأفقية والنفسية ليرى منها قدرة الخالق سبحانه وتعالى؛ ما كان هذا الإنسان ليكفر بالله عز وجل، وما كان لينكر الخالق سبحانه وتعالى وهو يرى آياته في هذا الوجود، وما كان ليزعم له شريكاً وهو يرى دقة الصنعة في هذا الوجود، وتلك الدقة التي خلقها الله عز وجل في كل مخلوق تدل على أنه الواحد، ولذلك الله تعالى يقول: لَوْ كَانَ فِيهِمَا [الأنبياء:22] أي: في السماوات والأرض، آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] لأن اختلاف الصانع يؤدي إلى اختلاف الصناعة، بل في دون هذا الكون من الأمور التي يشترك فيها أكثر من واحد في صنعها تظهر فيها علامات الخطأ والخلل، وضعف الصنعة، أما هذه المخلوقات التي خلقها الله عز وجل فهي دليل على الوحدانية.

    1.   

    قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض...)

    يبين الآيات الكونية بعد بيان الآيات الشرعية من أجل أن يعرف الإنسان فيها قدرة الخالق، فيعيش في رحاب الإيمان، فيقول الله تعالى عن الآيات الأولى من هذه الآيات الكونية: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41] هذه آية من آيات الله عز وجل، آية كونية، ألم تعلم -أيها الإنسان المكذب بربه سبحانه وتعالى- أن الله تسبح له كل المخلوقات، فإن لم تسبح له أنت فاعلم أن كل المخلوقات تسبح لله، حتى الحجارة والجمادات، وحتى الطير في الهواء، وحتى السمك في الماء، كلها تسبح لعظمة الله عز وجل، إذاً لو كفرت -أيها الإنسان- بربك فأنت جزء بسيط من مخلوقات الله، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].

    إذاً معنى ذلك -أيها الإنسان- أنك إن كفرت بالله فإنه غني عنك، له خزائن السماوات والأرض، له جنود السماوات والأرض، ولذلك الله تعالى يقول في سورة الحج: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ [الحج:18] إذاً بقي جزء آخر من الناس لا يسبحون لله، فما يضر هذا الكون أن يكون هناك من لا يسبح لله من بني آدم، أو من الجن والإنس ما دامت هذه المخلوقات كلها تسبح لله عز وجل.

    فالمصيبة في كثير من الناس، أما سائر المخلوقات فإنها تسبح لله عز وجل كلها، وهذا هو معنى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ [النور:41] أي: ألم تعلم أيها الإنسان المكذب أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:41] والذين في السماوات هم الملائكة، تصور يا أخي كثرة الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا وملك ساجد واضع جبهته لله عز وجل)، السماء العظيمة التي تعتبر الأرض ذرة صغيرة من ذرات هذا الكون والذي تحيط به سبع سماوات، ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد لله عز وجل.

    إذاً معنى ذلك أن الإنسان أصغر المخلوقات، وهذا الكوكب الصغير الذي يعيش الإنسان فيه جزء بسيط من الكون، إذاً لله عز وجل جنود السماوات والأرض.

    ثمانية ملائكة في كل يوم وليلة موكلون بالإنسان، أربعة كتبة، وأربعة حفظة، والأربعة الكتبة: اثنان في الليل، واثنان في النهار، والحفظة: اثنان في الليل واثنان في النهار، المجموع ثمانية لكل واحد من الناس، إذاً: كم عدد الملائكة؟ لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، فالله تعالى يقول عن الكتبة: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ويقول عن الكتبة أيضاً: كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:11-12]، ويقول عن الحفظة الذين يحفظونه من أمر الله: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] ويقول صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر) صلاة الصبح التي ينام عنها كثير من الناس.

    إذاً الأمر عظيم، وجند الله لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، فالله تعالى هنا يقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41]، والطير ليست في السماء ولا في الأرض، ولكنها في السماء اللغوية، والسماء اللغوية: هي كل ما علا مما هو بين السماء والأرض.

    فقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي: وهي باسطة أجنحتها تسبح لله عز وجل، لكن بطريقة نحن لا نعرفها، تسمع الصوت ولا تدري ماذا يقول هذا الطير، ولكن الله عز وجل يعلم تسبيحها، ويرى حركاتها وسكناتها، فهذه من قدرة الله عز وجل، والطير تسبح وهي باسطة أجنحتها في الفضاء، وقد تقبض أجنحتها في الفضاء ولا تسقط على الأرض مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ [الملك:19].

    (كلٌ) أي: كل واحد من هذه المخلوقات (قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) فالصلاة للعقلاء، والتسبيح لغير العقلاء، الصلاة للملائكة والجن والإنس، أما ما سوى ذلك من المخلوقات فلها تسبيح لكن بطريقه نحن لا ندركها، لا يدركها إلا الله عز وجل.

    (كل قد علم) فاعل علم يحتمل أن المراد به هو الله عز وجل، أي أن الله عز وجل علم صلاة وتسبيح هذه المخلوقات، ولو كان في جنح الليل المظلم، ولو كان في جوف البحر فإن الله تعالى يعلم صلاته وتسبيحه، ويحتمل أن الضمير في (علم) يعود إلى (كل)، أي: لهذه المخلوقات. كل واحد منها علم صلاة نفسه وتسبيحها.

    (والله عليم بما يفعلون)، وهذا يؤيد المعنى الأول، أي: ما تفعله هذه المخلوقات من خير أو شر لا يخفى على الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير...)

    بعد ذلك الله تعالى يقول: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [النور:42]، وهذه آية من آيات الله، وقدرة من قدراته سبحانه وتعالى، أن الله له ملك السماوات والأرض، ليس معنى ذلك أن هناك شيئاً مملوكاً لمخلوق لا يرجع ملكه إلى الله عز وجل.

    العلمانيون يقولون: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) الله له المسجد، أما سائر الحياة فهي للإنسان يتصرف فيها كيف يشاء، أنظمة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحكم غير ذلك هذه ليست لله، فالله يعبد في المسجد، فمن أراد أن يعبد الله فليذهب إلى المسجد، وهذه خلاصة مذهب هؤلاء الفجرة الكفرة، والحقيقة أن الله تعالى يقول: لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:41]، فليس هناك شيء لغير الله، وليس هناك شيء لقيصر، فكل شيء لله؛ لأن الله تعالى له ما في السماوات وما في الأرض، وعلى هذا نعرف أن حكم الله عز وجل نافذ على كل المخلوقات في السماوات والأرض، ونافذ أمره في كل أمر من أمور هؤلاء الخلق، سواء أكان في أمور العبادات أم في أمور الحياة الدنيا.

    (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي: المرجع. وهذا أيضاً دليل على قدرة الله، فمن يستطيع أن يجمع هذه الخلائق يوم القيامة؟ من يستطيع أن يجمع هذه الأجزاء التي امتصها التراب فأصبحت تراباً وعادت تراباً؟

    الله سبحانه وتعالى هو الذي يستطيع أن يجمع ذلك، ولذلك الله تعالى رد في آخر سورة (يس) على الملحد الذي جاء ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفت عظماً بالياً في وجه محمد صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! أتزعم أن الله يبعث هذا يوم القيامة قال: (نعم يميتك ثم يبعثك ويحشرك إلى النار) فأنزل الله أدلة على أن الله تعالى يجمع هذه الأجزاء وإن كانت عظاماً بالية، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:77-80] شجر أخضر تضعه في النار فيلتهب ناراً، من حول الرطوبة إلى حرارة والبرودة إلى حرارة؟

    الذي يبعث الأجسام يوم القيامة هو الذي يعيد إليها الرطوبة والحرارة مرة أخرى.

    1.   

    قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه...)

    ثم بعد ذلك الله تعالى يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا) وهذه آية كونية من آيات الله، فمن يستطيع أن يعلق هذا السحاب بين السماء والأرض؟ فهي آيات عظيمة.

    وقوله: (يزجي) أي: يرسل ويبعث سحاباً ينطلق من البحار والهواء، ومما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويتجمع في السماء كالجبال، يزجيه ويجمعه، ثم يسوقه سبحانه وتعالى إلى مواقعه التي يريد أن ينزل فيها المطر، وهذا السحاب العظيم محمل بالمياه الثقيلة، ويسير بين السماء والأرض بقدرة الله عز وجل، كما أمسك الطير في السماء أمسك السحاب أيضاً بين السماء والأرض، ولذلك هذه آية كونية أخرى تشبه الآية الكونية السابقة.

    ألم تعلم أيها الإنسان؟ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا)؟ و(سحاباً) جمع سحابة، وهي القطعة من الغيم، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يجمع بعضه على بعض (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) فيرتص ويتراكم بعضه فوق بعض، حتى تكون السحابة العظيمة السوداء في السماء آلاف الأمتار بقدرة الله سبحانه وتعالى وهي محملة بالمياه ومعلقة بين السماء والأرض، إذاً من يستطيع ذلك؟ لا يستطيعه إلا الله عز وجل.

    (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) المطر يضعه الله تعالى في فتوق هذا السحاب، فيبدأ الماء ينزل، فإذا أراد الله تعالى أن ينزل الماء لا ينزله إلا الله عز وجل.

    وقد كتبت كاتبة تقول: متى ننزل المطر بإرادتنا؟

    وهل يستطيع الإنسان أن ينزل المطر بإرادته؟! الله سبحانه وتعالى هو المسيطر على هذا الكون والسحاب، لا ينزل ذلك إلا بإرادة الله عز وجل، إذاً الله تعالى يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا) ينزل بإرادته لا بإرادة مخلوق من المخلوقين (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ) أي: المطر يتفتق هذا السحاب فينزل (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ)، أي: من فتحات هذا السحاب بقدرة الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن ينزل، لا بقدرة المخلوق، فقد تمر السحابة العظيمة المحملة بالمياه الثقيلة ولا ينزل في هذا المكان، وينزل في مكان آخر حسب إرادة الله، وبمقدار ما يوجهه الله سبحانه وتعالى.

    (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) قد ينزل برداً بدلاً عن الماء، وقد يهلك بدلاً من أن يكون سبيل رحمة، وهذه الجبال الموجودة بين السماء والأرض كناية عن السحاب العظيم المثقل بالماء، فكأنها أصبحت كالجبال، خلافاً لما يقوله بعض المفسرين بأن هناك جبالاً من برد في السماء متجمدة تنزل إذا أراد الله. والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا من باب التشبيه، فهناك سحاب ثقيل عظيم كأنه الجبال، وأنت تشاهد هذا السحاب إذا ركبت الطائرة وقد علت من فوق السحاب، فترى سحاباً كالجبال.

    إذاً قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ) أي: من سحاب كالجبال -والله أعلم- من شدة ارتفاعه في السماء، ولما يحمله من مياه ثقيلة، ولتجمعه وتراكمه، فقد ينزل منه برد يتجمد بين السماء والأرض، فيكون هذا الماء برداً، وربما يكون ضاراً، والإنسان لا يعرف مصلحته أفي هذا السحاب أم في غيره.

    (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا) أي: في السماء (مِنْ بَرَدٍ) مياه متجمدة، (فَيُصِيبُ بِهِ) أي: بالمطر أو بالبرد (مَنْ يَشَاءُ) أي: من أراد الله تعالى إنزاله عليه (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) فهي قدرة إلهية وليست قدرة بشرية، فلو كان هذا الإنسان بيده قدرة ما كانت تمر فوقه سحابة إلا ويمتص ما فيها من ماء؛ لأن هذا الماء هو سبب حياة البشر، وسبب حياة الأرض، وسبب زينة الأرض، لكن الله عز وجل هو الذي يوجه هذا الأمر بقدرته وإرادته، لا بإرادة هذا الإنسان، ولذلك الله تعالى يقول: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) بقدرة إلهية، وهذا المطر عظيم، وهذا السحاب عظيم له برق لامع، يكاد من شدة برقه أن (يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) لشدة لمعانه، (يَكَادُ سَنَا) أي: ضوء برقه (يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) من شدة لمعانه.

    1.   

    قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار...)

    هناك آية أخرى يراها الإنسان في كل يوم وليلة، ويراها الإنسان في كل سنة عدة مرات، ولربما يراها في الصباح والمساء، يزيد الليل ويزيد النهار، ويكون الليل أطول من النهار أو النهار أطول من الليل حسب فصول السنة، في كل يوم يحصل هذا التغير، وليلة باردة وليلة حارة، ويوم بارد ويوم حار، تقلب بإرادة الله عز وجل، فمن يستطيع أن يفعل هذا الفعل؟

    لا يستطيع ذلك إلا الله، ولذلك من آيات الله عز وجل الكونية أنه يقلب الليل والنهار، فيزيد الليل لينقص النهار، ويزيد النهار لينقص الليل، ويجعل الوقت بارداً أو حاراً أو متوسط البرودة والحرارة، إذاً هذه من آيات الله عز وجل.

    ولو نظرت إلى الساعة في هذا اليوم وقارنتها بالساعة في مثل هذا اليوم لسنوات مضت منذ آلاف السنين فلن تجد أن هذا الكون يختلف، أو أن هذا الزمن يختلف لحظة واحدة، فمن نظم هذا الكون بهذا المقدار وبهذه الدقة التي لا يستطيعها إلا الله عز وجل؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولذلك تقليب الليل والنهار بزيادة ونقص، وطول وقصر، وبرودة وحرارة لا يستطيعه إلا الله عز وجل، فهذه الدقة في الصنعة آية من آيات الله، فالله تعالى يقول: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) بالزيادة والنقص وغير ذلك (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي: في تقليب الليل والنهار (لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ) أي: آية ودليل قاطع يعتبر منه الإنسان، لكن لا يتعظ بذلك إلا أولوا الأبصار، أما الماديون فيقولون: المادة هي التي تصنع هذا الشيء. والدهريون والملاحدة يقولون: هذا الفضاء يسبح بطبيعته، ونظم نفسه. فهل يستطيع أن ينظم نفسه بنفسه؟ ومن يستطيع أن ينظم هذا الكون بدقة؟

    فهذا النظام الذي وضعه هو الله عز وجل وصفه في هذه الحياة، خلاف ما يعتقده الملاحدة الذين يظنون، بل لا أظنهم يظنون، بل أنا متأكد أنهم يؤمنون بقرارة أنفسهم؛ لأن الإيمان فطرة، ولكنهم يريدون أن يخالفوا هذا الإيمان لمصالحهم، كما قال فرعون: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] والله تعالى يقول عنه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14].

    إذاً معنى ذلك أن هذا النظام الرتيب الذي وضعه الله عز وجل في هذا الكون أعظم دليل على وجود الخالق سبحانه وتعالى، وعلى قدرته ووحدانيته، ولذلك الله تعالى يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44] لكن لا يستفيد من هذه الأدلة ومن هذه الدروس إلا أولوا الأبصار وأصحاب العقول.

    1.   

    قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء...)

    هناك دليل آخر نشاهده نحن في أنفسنا، وفيما يعيش معنا من مخلوقات الله من الزواحف والحيوانات والطيور والحشرات وغير ذلك، في هذه المخلوقات وهي تتفاوت في شكلها وفي طريق سيرها ومشيها، فما هي الآية؟

    يقول الله سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) الدابة: هي ما يدب على وجه الأرض. وهل المقصود بذلك ما يدب على وجه الأرض أم المراد به كل ما يدب من الملائكة التي تدب على سطح السماء، والجن الذين يدبون على وجه الأرض ونحن لا نراهم، والطيور التي تعيش بين السماء والأرض، إذ كلها تسمى دابة؟

    إن الدابة مأخوذ من الدبيب، والدبيب معناه: السير البسيط الخفيف، لكنه يطلق على مجرد سير، إذاً الله عز وجل خلق كل دابة من ماء، ما هو هذا الماء؟

    يحتمل أن المراد بالماء ماء الذكر الذي يختلط بماء الأنثى، ويرد على هذا بعض الأمور، فهناك من لم يخلق من هذا الأمر، فآدم خلق من تراب ولم يخلق من هذا الجنس، والجن خلقوا من النار، والملائكة خلقوا من النور، وهناك ما يتولد من التعفن كالبكتيريا وغيرها، إذاً يحتمل أن المراد بالماء هنا أصل الماء؛ لأن أول ما خلق الله عز وجل في هذا الكون الماء، فكان أول المخلوقات، حتى لو قلنا بالرأي الأول نقول: المراد (بالماء) الماء المعروف، وليس المراد ماء الذكر والأنثى، وهل كل شيء خلق من ماء؟

    نعم حتى النار خلقت من الماء، لأنها لا تشتعل إلا بالشجر الذي خلق من الماء، وحتى الحشرات المتعفنة تتعفن من مادة لا بد أن فيها أصل الرطوبة، إذاً الله أعلم بالمراد، هل الماء أصل المخلوقات، الذي خلقه الله عز وجل قبل أن يخلق شيئاً في هذا الكون، وأوجد من هذا الماء كل هذه المخلوقات حتى الأرض وجدت من هذا الماء؟ الله أعلم بذلك.

    (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) كالزواحف والحيات التي ليس لها أرجل ولا أيد، تزحف زحفاً على الأرض (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) و(من) هنا لا تأتي إلا للعاقل، لكن جيء بها هنا لأن العاقل هو أفضل هذه المخلوقات.

    (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطيور وما أشبه ذلك (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) كالحيوانات وغيرها.

    إذاً فأكثر المخلوقات على ثلاثة أنواع: منها من يمشي على بطنه كالزواحف، ومنها من يمشي على رجلين كالطيور والإنسان، ومنها من يمشي على أربع كسائر البهائم، لكن وجد على وجه الأرض من يسير على أكثر من أربع بأقدام كثيرة، فهذه نقول: تأتي بطريق التبع؛ لأنها قلة، أما أكثر المخلوقات التي تحدث الله عز وجل عنها -وهي ترى دائماً- فهي من يمشي على بطنه أو من يمشي على رجلين أو من يمشي على أربع، وما سوى ذلك فهو داخل في القلة والندرة.

    (يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) يعني: هذه قدرة الله سبحانه وتعالى وليست قدرة المخلوق، فليس للمخلوق يد في صنعها.

    (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته أن جعل هذه المخلوقات متفاوتة، فصار منها ما يزحف زحفاً على الأرض بدون أرجل، ومنها ما يمشي على رجلين، ومنها ما يمشي على أربع، ومنها ما يمشي على أكثر من ذلك، إذاً هي قدرة الله عز وجل.

    1.   

    قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات...)

    يختم الله عز وجل بهذه الآية تلك الآيات الكونية، وهذه الآية دائماً تتكرر؛ لأنها بدئت بها السورة: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [النور:1].

    ثم ختم بها الجزء والمقطع الأول من السورة: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [النور:34].

    ثم جاءت الآيات الكونية فختمت بمثل ما ختمت به الآيات السابقة: لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ [النور:46] أي: واضحات الدلالة على مراد الله عز وجل، ولكن ما على هذا الإنسان إلا أن يتعظ بها ويستفيد منها.

    (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الهداية بيد الله، فهذه أدلة كونية واضحة، لكن ما يهتدي بها إلا من شاء الله تعالى أن يهتدي، فدائماً الهداية مربوطة بمشيئة الله، ولا دليل للجبرية الذين يقولون: كيف يقدر الله المعصية على الإنسان ويعاقبه عليها؛ لأن الله تعالى قد أعطى هذا الإنسان مشيئة، فالمذاهب المعروفة ثلاثة: فمذهب الجبرية يقول: إن الله تعالى قد أجبر الإنسان على أعماله، فكيف يعاقبه على ذلك؟! وتهرب قوم بسبب هذا المذهب الخبيث وهم القدرية فقالوا: الله تعالى لم يقدر مقادير الخلائق ولا أعمال العباد، فالعبد هو الذي يخلق أفعاله.

    ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين هذين المذهبين، فليس بمذهب الجبرية الذي يقول: إن الإنسان مجبر وليست له إرادة، وليس بمذهب القدرية الذين يقولون: كيف يقدر الله المعصية على الإنسان ويعاقبه عليها؟ فيقولون: الله تعالى ما قدر أفعال العباد.

    أما مذهب أهل السنة والجماعة فهو الوسط، فإن الله تعالى قدر أفعال العباد، لكن لهذا الإنسان إرادة، وإرادته مربوطة بإرادة الله تعالى وبمشيئة الله سبحانه وتعالى.

    إذاً ليس في هذه الآية دليل للجبرية؛ لأن الإنسان له إرادة، فالله تعالى يقول: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28] فله مشيئة، إلا أنها مربوطة بمشيئة الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    الآيات الدالة على وجوب تحكيم شرع الله

    هنا يجيء مقطع جديد يوجب تحكيم شرع الله، وهل يصلح البشرية غير شرع الله؟ وهل تستقيم أمور الناس بشريعة غير شريعة الله؟ لا. أبداً، فالإنسان لا يمكن أن تستقيم أموره، ولا يمكن أن تستقر أحواله، والعالم لا يمكن أن يخضع لنظام غير شرع الله عز وجل، ولذلك نسمع الآن أخبار هذا العالم الذي قد أمسك بالزناد في كل بلاد العالم، لا يهدأ له بال، فوضى، واضطرابات، ومشاكل، ومصائب، وسلب ونهب، وقتل وجرائم، ولصوصية واغتصاب، وفساد وزنا، وسرقة، ما الذي حدث؟!

    الذي حدث أن هذا العالم أعرض عن شرع الله، والله تعالى يقول: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137] وهذا الشقاق سيبقى ما بقي الإعراض عن شرع الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).

    إذاً لا بد أن تحكم الأئمة بشرع الله، وإذا حكمت الأئمة بشرع الله هدأت الأمور، واستقرت الأحوال، ولذلك بمقدار ما يطبق الناس من شرع الله يكون لهم نصيب من الأمن والاستقرار والهدوء، وبمقدار ما يعرضون عن شرع الله يكون الأمر من الفوضى والاضطرابات والمشاكل.

    نصيحة نوجهها لكل حاكم يحكم هذا العالم الإسلامي -بل العالم كله- أن يحكم بشرع الله عز وجل، وحينئذٍ يكون الأمن والاستقرار، والرخاء والطمأنينة، والهدوء والطاعة من الشعوب للقادة، بل لا يجوز لهذه الشعوب أن تخضع للقادة وهي تحكم بغير شرع الله، فالله تعالى أخبر بأن هؤلاء الذين يحكمون بغير شرع الله طواغيت، وأن الشعوب التي تستجيب لمن يحكم بغير شرع الله أيضاً هي طاغوت، فأي واحد من أفراد الشعب يعتبر طاغوتاً إذا تحاكم إلى غير شرع الله، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النساء:60]، الذي يحكم بغير شرع الله وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:60].

    تضل الشعوب ضلالاً بعيداً إذا تحاكمت إلى غير شرع الله عز وجل، أما الطاغوت الذي يحكم بغير شرع الله تعالى فإنه هو الكافر المرتد، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] وهنا ستجد قصة تحدث عنها القرآن تبين لماذا يعرض الإنسان عن شرع الله؟

    إما أن يكون في قلبه مرض نفاق، أو يكون مرتاباً شاكاً بهذا الدين، أو يكون شاكاً بعدالة الله سبحانه وتعالى: أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور:50] فلا يمكن أن يكون من يحكم بغير شرع الله إلا واحداً من هؤلاء الثلاثة، فمن يحكم بغير الشرع نقول له: أنت إما أن تكون مريض القلب منافقاً ما دام أنك تعرض عن شرع الله، وإما أن تكون مرتاباً شاكاً في هذا الدين أنه جاء من عند الله، وأن القرآن نزل من عند الله، وهذا هو الكفر الصريح، وإما أن تتهم الله تعالى بالحيف؛ لأن هذا حكم الله، فالله الذي حكم بين هؤلاء الناس، إذاً يحيف، أي: يميل مع بعضهم دون بعض فأنت إذاً ملحد مجرم في حق الله سبحانه وتعالى.

    والقصة لها سبب نزول، وهو أنه ذات يوم اختصم رجل يهودي مع رجل منافق، والمنافقون أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، المنافقون الذين يندسون في المجتمعات الإسلامية ويترهبنون مع المسلمين، ويتظاهرون بالدين، ويطعنون في الدين من الخلف أو من الأمام سراً أو علناً هم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، ما في الدنيا أخطر على الإسلام وعلى الدين من المنافقين، ولذلك ليس عجيباً أن يضعهم الله تعالى في الدرك الأسفل من النار، فاليهود والنصارى في النار، لكن هؤلاء في الدرك الأسفل من النار: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ [النساء:145] أي: النفاق الاعتقادي، نعوذ بالله.

    فهذا الرجل الذي يتظاهر بأنه رجل مسلم وأنه يحكم شرع الله ويتباكى على الإسلام، وإذا تحدث فكما قال الله عز وجل: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204] فإنه يؤكد ويقول: أنا صادق فيما أقول، ويشهد الله أني صادق فيما أقول. لكن قلبه فاسد وضد الإسلام وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204-205].

    فوجود هذا على وجه الأرض يسبب غضب الله، والذي يحدث من خلال غضبه أنه يهلك الحرث والنسل، إذاً المنافقون أخطر على الإسلام من غيرهم، ولو وجدناهم يتباكون على الإسلام ويتحدثون عنه ويقولون الخطب الرنانة التي يظهرون فيها أنهم مع الإسلام، وأنهم جنوده، لكن إذا كانوا يخفون في الباطن غير ذلك فإنها سريرة سوف يكشفها الله تعالى عما قريب؛ لأن الله تعالى يعلم السر وأخفى.

    إذاً هؤلاء هم أخطر من يجب أن يخاف منه.

    فالمنافق اختصم مع يهودي، واختلفا في بئر أو أرض، فقال اليهودي: نحتكم إلى محمد. وهو لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، لكن يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم سوف يحكم له في هذه، فقال المنافق: نحتكم إلى كعب بن الأشرف. يهودي مجرم.

    اليهودي يحتكم إلى الإسلام والمنافق يريد أن يحتكم إلى كعب بن الأشرف الرجل اليهودي المشهور! فأنزل الله عز وجل هذه الآيات تبين كيف يعرض الناس عن شرع الله، لماذا؟ لأنهم يرون أن الحق عليهم، وأن الإسلام سوف يرد الحق إلى صاحبه وأهله، فالإسلام عادل، ولا يمكن أن يميل مع رجل ولو كان يتظاهر بالإسلام وليس مسلماً صحيحاً، أو هب أنه مسلم صحيح ضد رجل يهودي، فقد قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:105-107].

    وهذه الآيات نزلت في شأن أناس كانوا يزعمون أنهم مسلمون، فسرقوا سرقة وألصقوا التهمة بغيرهم، لكن الإسلام لا يحيف مع أتباعه ضد أعدائه، الإسلام نظام حكم شامل لا يصلح الحياة إلا هو، فقام الذين يزعمون أنهم مسلمون بإلصاق التهمة بغيرهم، وجاء جماعة من قومهم يشهدون معهم، وكاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم ضد المتهم، فهل تظن أن الله تعالى سوف يتركهم؟

    لا، بل قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ [النساء:105-106] فقد أخطأت. ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً [النساء:109].

    الإسلام لا يفرق بين هذا وهذا، الإسلام لا يفرق بين ملك وسوقة، الإسلام لا يعطي حاكماً أكثر مما يعطي محكوماً من شرع الله عز وجل، الناس في حكم الله سواسية.

    ويختصم علي بن أبي طالب ورجل يهودي ذات يوم، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. ورجل يهودي من فقراء اليهود، يفقد علي بن أبي طالب رضي الله عنه درعه في صفين، فيبحث عنه فيذكر له أنه عند يهودي، فيقول لليهودي: هذا درعي. فيقول اليهودي: بل هو درعي. فيحتكم الرجلان: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين الذي يحكم العالم الإسلامي كله مع رجل من فقراء اليهود دينه فاسد، ويجلسان أمام القاضي شريح، ويجلس القاضي شريح الاثنين جميعاً على كراسي الحكم؛ لأن الإسلام ليس فيه ملك ولا سوقة، فيقول شريح: ماذا عندك يا أبا الحسن؟ فيغضب علي حين قال له: أبا الحسن ! لا يريد أن يعطيه لقباً أكثر من اليهودي، غضب حين أعطاه هذا اللقب دون أن يعطي اليهودي لقباً مثله.

    فيقول: ماذا عندك؟ فيقول: عندي هذا الدرع أخذه اليهودي. فيلتفت إلى اليهودي فيقول: الدرع لك يا يهودي أم لـعلي ؟ فيقول: بل هو لي. فيلتفت إلى علي فيقول: أعندك بينة؟ فيقول: والله ما عندي بينة. فيقول: الدرع لليهودي.

    تصوروا العدل الذي قامت عليه دولة إسلامية امتدت من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً مدة طويلة من الزمن، إلى أن فسد هذا العدل وحصل فيه ما حصل، فيحكم بالدرع لليهودي ضد أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ويقوم اليهودي والدرع معه، فيرجع اليهودي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أن هذه أحكام أنبياء، الدرع لك يا أمير المؤمنين، تبعتك يوم صفين فوجدته قد سقط منك.

    لماذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟

    لأنه رأى العدل في حكم الإسلام فلو حكم المسلمون اليوم بالعدل حقيقة لدخل الناس كلهم في دين الله أفواجاً، فأندونيسيا سكانها مائة وخسمة وسبعون مليوناً، فيها الآن مائة وستون مليون مسلم، ما وصلهم داعية واحد في أول الإسلام، ولا وصلتهم جيوش إسلامية، وإنما وجدوا كيف يتعامل الإسلام مع الناس فدخلوا في الإسلام.

    إذاً قصة اليهودي مع المنافق قصة عجيبة، المنافق يريد أن يحتكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي، والرجل اليهودي يريد أن يحتكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأبى المنافق أن يذهب ليحتكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فينزل الله عز وجل هذه الآية، كيف يعرض عن حكم الله هؤلاء المنافقون؟

    قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم .. )

    هذا حكم الله هو الذي لا يصلح البشرية إلا هو، ولذلك أولئك يعرضون عن حكم الله وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48] لا يريدون شرع الله؛ لأنهم أصحاب شهوات، وأصحاب فساد، لأنهم لصوص الأرض لا يريدون أن تقطع يد السارق فيصل القطع إليهم في يوم من الأيام، لأنهم يهوون الزنا والفواحش، ولا يريدون أن يرجم الزاني أو يجلد؛ لأن الزنا ديدنهم وصفتهم، فلما فسدوا ظنوا سوءاً بحكم الله عز وجل.

    (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) ومتى يرجعون إلى شرع الله؟ إذا كان الحق لهم، ولذلك اليهودي رضي بشرع الله؛ لأنه يعرف أن الحق له في شرع الله، والمنافق رفض حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد حكم كعب بن الأشرف ؛ لأنه يعرف أن عند كعب بن الأشرف حكماً غير حكم الله، أي: لن يعطي صاحب الحق حقه، هذا هو السر في إعراضهم عن شرع الله.

    لكن تصور -يا أخي- لو كانوا يعرفون أن الحق لهم! فلو عرفوا أن الحق لهم لرجعوا إليه مذعنين، والآن يسود العالم دندنة تقول: لابد من التزام حقوق الإنسان، ولا تقتلوا الإنسان، لا تقتلوا القاتل، ولا تقطعوا يد السارق، إنها جريمة فاحشة وحكم شنيع.

    ولو واحداً منهم أراد أن يحكم -ولا يستطيع أن يحكم إلا على الجماجم والأشلاء والدماء- لأباد هذا العالم كله ليحكم، وهو الذي يقول بالأمس: القتل وحشية وإراقة الدماء وحشية فلو أراد أن يحكم ورأى أنه لا يحكم إلا بأن يقتل ولو ثلاثين ألفاً من مدينة واحدة من أجل أن يثبت ملكه ليحولها -كما يقال- إلى مزارع للبقدونس لنفذ ذلك الحكم، لكن قتل مجرم واحد يرى أنه وحشية وجريمة.

    قوله تعالى: (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين...)

    ما سبق ذكره هو الواقع، فأكبر دولة تتبنى الآن حقوق الإنسان وترى أن قتل الإنسان وحشية هي أمريكا كما نعرف، وأمريكا قتلت في ساعة واحدة ثمانين ألفاً في قنبلة ذرية ألقتها في اليابان، قال تعالى: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:49] إنسان يريد أن يحكم وأن يثبت عرشه الذي يهتز من تحته يمكن أن يجعل أودية من الدماء تسيل، كما كان هتلر يقول: سأسلم الأرض لله فارغة كما خلقها فارغة. هذه كانت من مقالاته، يقول: لا أسلم الأرض لله إلا وهي فارغة من بني آدم. لأنه يريد أن يحكم، وهذه طبيعة البشر، لكن قتل واحد مجرم يرون أنه جريمة وفاحشة وشنيعة.

    ومع الأسف فهناك دولة إسلامية عربية كان من قوانينها: (تجنب الحدود البشعة) بهذا اللفظ، وهذا هو القانون السائد الآن، فقتل الإنسان عندهم جريمة، وإذا كان قد أجرم في نظرهم فقتله في نظرهم جريمة، لكن إذا أرادوا أن يحكموا أرضاً من أرض الله بقوة الحديد والنار والطغيان فيمكن أن تسيل الأرض دماءً ولا يبالون، ويمكن أن يقتلوا آلاف البشر ولا يبالون، في سبيل أن تثبت هذه العروش التي تهتز من تحتهم.

    فذلك هو معنى قوله تعالى: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:49] يعني: الذين يرفضون حكم الله إذا كان لمصلحتهم ورأوا أن الحق لهم وأنه يخدم مصالحهم يأتون إلى حكم الله مذعنين. فالذين يرون أن قطع يد السارق وحشية، وقتل القاتل وحشية يأتون إلى القتل مذعنين حينما يريدون أن يثبتوا ملكهم في هذه الأرض، وهذه قاعدة مطردة لا تتخلف دائماً وأبداً، ولذلك الله تعالى يقول: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ [النور:49] أي: في قتل هذا الإنسان أو في حكم الله يَأْتُوا إِلَيْهِ [النور:49] يعني: إلى حكم الله (مذعنين) أي: منقادين لمصالحهم الخاصة، ما هو السر في ذلك؟

    السر أحد ثلاثة أشياء:

    قال تعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور:50] (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نفاق (أَمْ ارْتَابُوا) عندهم شك في الله وفي حكم الله، كل هذا لا شك أنه موجود فيهم (أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) وهو موجود، فهم -أيضاً- يخافون أن يحيف الله عليهم؛ لأنهم ما يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، وإن آمنوا بالله فإيمانهم ضعيف، فهم يظنون في أنفسهم أن الله يحيف عليهم حينما يأخذ الحق من هذا لهذا، وحينما يُقتل هذا، وحينما يأمر بقطع يد هذا، أو حينما يأمر بسجن هذا، يعتبرونه حيفاً من الله عز وجل، فهذه أحد أمور ثلاثة، وكلها موجودة فيهم.

    والجواب: (بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فالذي حدث أنهم ظالمون لأنفسهم وللشعوب وللأمم، ولذلك أعرضوا عن شرع الله عز وجل بسبب ظلمهم.

    إذاً ما هو موقف المؤمن أمام شرع الله وإذا دعي إلى شرع الله؟ يقول: سمعت وأطعت، يجب على كل أحد من المسلمين إذا قيل له: تذهب إلى شرع الله، إلى المحكمة، إلى القاضي الشرعي أن يقول: سمعنا وأطعنا. فهذا هو موقف المؤمن في مثل هذه الحالة.

    قوله تعالى: (إنما كان قول المؤمنين ..)

    (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) (قول) هنا خبر كان، واسمها مصدر مؤول متأخر.

    فالمسلم إذا دعي إلى شرع الله يجب أن يستجيب، ولا يجوز له أن يتأخر أو أن يبحث عن شرع غير شرع الله، وإذا دعي إلى قوانين البشر وآراء الرجال أو أن يحكم فيه بغير شرع الله فعليه أن يرفض، وتعتبر استجابته لغير شرع الله خطراً عظيماً عليه، وتعتبر استجابته لله أمراً مطلوباً.

    (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) يقولونه بألسنتهم وأفعالهم، يعني: يستجيبون لشرع الله. (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الذين يقولون: سمعنا وأطعنا مستجيبين لشرع الله.

    قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ..)

    (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) هذا هو جزاء الذين يتحاكمون إلى شرع الله ويحكمون بشرع الله، ويرفضون كل شرع ونظام غير شرع الله ويخالف شرع الله.

    (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ) الخشية: هي شدة الخوف وأعظمه. هذه الخشية هي التي يجب أن يمتلئ بها قلب المؤمن (ويتقه) أي: يتق الله عز وجل (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) أي: هؤلاء هم الذين يفوزون بسعادة الدنيا والآخرة. بل -والله- يفوزون بسعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، فالعالم الذي يستجيب لشرع الله ويتحاكم إلى شرع الله هو الذي يسوده الأمن والهدوء والطمأنينة، وانظر إلى بلادنا -والحمد لله- فبمقدار ما تطبق من شرع الله يكون لها الأمن والطمأنينة، ويتخطف العالم من حولنا، ونسأل الله الثبات على شرع الله، وأن نموت على شرع الله وعلى ملة الإسلام.

    وهذا بالنسبة لفوز الدنيا، أما فوز الآخرة فإنه الجنة التي أعدها الله عز وجل لمن تحاكم وحكم بشرع الله.

    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    1.   

    قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا...)

    يقول الله تعالى عن المنافقين: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [النور:47] دائماً المنافقون عندهم كلام ولا يوجد فعل حقيقة، ما عندهم اعتقاد صادق وإنما قول فقط؛ لأن إيمانهم قول لا يعدو اللسان، وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ [النور:47] كل من لم يحكّم شرع الله ويخضع لدين الله ولو كان يهز المنبر بمواعظه نقول له: أنت قائل ولست بفاعل (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا) والأحداث هي التي تكشف هؤلاء المنافقين.

    (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي: من بعد هذا القول (وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ما هم صادقون في الإيمان، لو كان الإيمان موجوداً حقيقة لظهر على الجوارح، ولظهر على التصرفات، ولظهر على الحياة، لو كان هؤلاء مؤمنون حقاً ما كانت الحياة بهذا الشكل.

    إذاً إيمانهم مزعوم، وقلوبهم فاسدة، هذا الإيمان قول وليس بحقيقة، يقول الله تعالى: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47] ليسوا مؤمنين حقاً، ما هو الدليل؟

    الدليل: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48] فكما أعرض ذلك المنافق يعرض المنافقون دائماً عن شرع الله، والآن تسود العالم ضجة كبرى تقول: شرع الله لا يصلح للحياة، يصلح في عصر الخيمة والبعير والأمور البسيطة، لا يصلح في عصر الصاروخ والمركبات الفضائية إلى غير ذلك!

    يقولون: تطورت العقلية الإنسانية. فهذا هو رأي العلمانيين الفجرة، أنه لا يصلح هذا الدين للحياة، يصلح للمسجد صيام رمضان وحج ونحو ذلك، ولذلك الله تعالى يبين أن هؤلاء المنافقين لا ينكشفون إلا عند الأمور الحساسة: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48]، ولذلك يقولون: قطع يد السارق وحشية، أنقطع يد سارق لنترك رجلاً عالة في المجتمع بدون يد؟! أنرجم الزاني من أجل شهوة بسيطة في دقائق نقضي على حياته؟! أنقتل القاتل ونضيف إلى مقتول مقتولاً آخر ليصبحا اثنين؟! نكتفي بالمقتول الأول ويكفي هكذا عقولهم تقول لهم، ونسوا أن الزاني يفسد المجتمع، وأن السارق يهدد الأمن، وأن القاتل يهدد الناس في دمائهم، وأننا لو تركنا القاتل يقتل دون أن نأخذ منه القصاص لتركنا فتنة في الأرض، ولربما تكون حرباً مدمرة بين قبيلتين بسبب دمٍ واحد، أو نترك ذلك القاتل يقتل من شاء متى شاء؟!

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756335898