إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [42]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقائد أهل السنة أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وقد خالف أهل السنة في هذا كثير من المبتدعة، وأيضاً خالفهم في هذا مرجئة الفقهاء، وقد رد أهل العلم عليهم بنصوص الكتاب والسنة، وبالنقول عن علماء سلف الأمة.

    1.   

    خطر الأمن من عذاب الله واليأس من رحمته

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الاسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة).

    يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً، فإن الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط.

    والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله، فهو راج لمغفرته، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218] .

    أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.

    قال: أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا، صار الطائر في حد الموت.

    وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ [الزمر:9]، وقال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله تعالى، فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه.

    وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله: الرجاء أضعف منازل المريد. وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد.

    وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء).

    وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) ، ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، بخلاف زمن الصحة، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه.

    وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد.

    ولقد أحسن محمود الوراق في قوله:

    لو قد رأيت الصغير مَنْ عمل الخي ـر ثواباً عجبت من كبره

    أو قد رأيت الحقير من عمل الش ـر جزاءً أشفقت من حذره].

    في هذا الكلام أن المسلم يجمع بين الخوف والرجاء، وأن هذه النصوص تدل على ذلك، فإن قوله تعالى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57] جمع الله فيها بين الخوف والرجاء: يرجون، ويخافون.

    وكذلك قوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16] جمع الله فيها بين الخوف والطمع، والطمع هنا هو الرجاء.

    ويظهر ذلك في قوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] والحذر: هو الخوف، يعني يخاف عذاب الآخرة، ويرجو رحمة ربه.. ونحو ذلك من الأدلة التي تدل على أن المسلم يجمع بين الخوف والرجاء.

    وقد ذكرنا بعض الأسباب التي لأجلها يخاف المسلم، وبعض الأسباب التي لأجلها يرجو.

    وقد ذكر الله عز وجل عن عباده هذه الصفات ليرغب فيها، وكثيراً ما يأمر الله عباده بالخوف منه، كقوله تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:51] (فارهبون) يعني: خافوا عذابي. وتارة يعلق الخوف ببعض مخلوقاته، كقوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ [البقرة:24] يعني: خافوا من النار وابتعدوا منها، والنار من الأسباب التي تحمل العبد على الخوف إذا تذكرها.

    الجمع بين الخوف والرجاء

    يجب على الإنسان أن يجمع بين الخوف والرجاء، فيجعل المحبة كرأس الطائر، والخوف والرجاء مثل الجناحين، فإذا كان الطائر قد استوى جناحاه، ورأسه موجود، ففيه حياة مستقرة، وطيرانه معتدل، وإذا قطع أحد جناحيه تعثر، وإذا قطع جناحاه فهو أقرب إلى الموت، وإذا قطع رأسه مات، فلابد أن هذه الخصال تجتمع في العبد وتستوي: المحبة، والخوف، والرجاء.

    المحبة: هي محبة الله لإنعامه على عبده، والخوف: خوفه من عذابه، والرجاء: تعلق قلبه بثوابه.

    فإذا عبد الله بالمحبة فقط دون أن يخافه فقد أخطأ كما يذكر ذلك عن بعض المتصوفة، وعن بعض غلاة الزهاد ونحوهم، أنهم يقولون: ما نعبد الله خوفاً من ناره، ولا رجاءً لجنته، ولكن نعبده محبة له، ويغالون في باب المحبة، وكأنهم أمنوا من العذاب، وكأنهم لم يكن لهم رغبة في الثواب، فهذه حال الصوفية، والحقيقة أن من يعبد الله بهذا فهو زنديق.

    من غلب جانب الخوف فإنه قد وقع في عقيدة الوعيدية الذين يغلبون جانب الوعيد، ومن هؤلاء الوعيدية الحرورية والمعتزلة، وسموا بذلك لأنهم يتمسكون بالأدلة التي فيها الوعيد فيحققونها؛ ولهذا يخلدون أصحاب الكبائر في النار كما تقدم مراراً.

    وأما من عبد الله مغلباً جانب الرجاء، فهذا يسمى مرجئاً، والمرجئة: هم الذين يتعلقون بالرحمة ولا يذكرون العذاب، فيرجون ولا يخافون عقابه، وهم على خطر.

    الرد على من غلب جانب الرجاء

    لابد من الجمع بين الخوف والرجاء؛ لأجل ألا يكون هناك خوف شديد فيئول إلى القنوط، ولا رجاء منفرد فيئول إلى الأمن؛ لأن الله ذم الأمن في قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] إذا رأيت -مثلاً- الذي يتمادى في العصيان، ويترك الطاعات، ويكثر من الذنوب، وقلت له: ألا تخاف الله؟! ألا تتقيه؟! ألا تخشاه؟! أين الخشية وأين الخوف وأين الرهبة من عذاب الله؟! فيتعلق بالرحمة ويقول: رحمة الله واسعة، الله أرحم الراحمين. ثم يتمادى في المعصية، تخوفه من عذاب الدنيا فيأمن، تخوفه من عذاب الآخرة فلا يخاف، فمن هذه حاله يُخاف عليه أن يكون من الذين أمنوا مكر الله.. أمنوا انتقامه.. أمنوا عذابه.. أمنوا بطشه الشديد.. أمنوا من أخذه لهم على غرة وغفلة، فيخاف عليهم أن يأتيهم أمر الله وهم على غرتهم وغفلتهم وسلوتهم؛ لأن سنة الله أنه ما أخذ قوماً إلا عند غرتهم، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن هذا إمهال وليس إهمالاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه فاعلم أنه استدراج) وهذا مذكور في قوله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182] فهم يغترون بإمهال الله، ويغترون بنعمه، ويغترون بعطائه لهم، فيأتيهم أمر الله وهم غافلون، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]) ، وهذا الإمهال والتأخير ليس هو لأجل أنهم ليسوا بمذنبين، ولكن الله يؤخرهم إلى أجل، يقول بعضهم:

    أيحسب الظالم في ظلمه أهمله القادر أم أمهله

    فهم ما أهملوا، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً، لهم موعد لابد أن يأتي، وهذا في حق الذين يأمنون مكر الله، فيعملون السيئات ويكثرون منها، وهم آمنون مطمئنون، وكأنهم لم يعملوا سيئة.

    الرد على من غلب جانب الخوف

    هناك قسم آخر قد قطعوا رجاءهم، وقطعوا طمعهم في الرحمة، واستسلموا للعذاب في نظرهم، ولا ندري هل هم صادقون أم هم مستهزئون؟

    فإنك إذا جئت إلى بعض من عاش على السيئات والكفريات وترك القربات، ونصحته قائلاً: تب إلى الله، وأقبل عليه، واترك ما أنت عليه من التمادي في الغفلة، واترك الذنوب، وأكثر من الحسنات. فإنه يمتنع ويقول: أنا قد أذنبت، وقد كفرت، وقد أسأت، وقد ارتكبت من الخطايا كذا وكذا.. شربت الخمور.. زنيت.. قتلت.. أكلت الحرام.. فعلت وفعلت، فلا تنالني الرحمة، ولا حيلة لي فيها، ولست من أهلها، بل أنا من أهل النار. هكذا ينقل عن بعضهم.

    ولعل هؤلاء من الذين يستهترون بمن ينصحهم، ويتهاونون بنظر الله عز وجل، أو ينكرون أن يكون هناك عذاب دنيوي وعذاب أخروي، فيقولون هذه المقالة لرد ذلك الذي ينصحهم، ولعدم قناعتهم بما يقوله.

    فنقول: لا شك أن هذا كفر أو يئول إلى الكفر، وذلك هو اليأس، قال تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] ، هؤلاء قد يئسوا من الرحمة، وقطعوا رجاءهم، ووقعوا في القنوط، وقد قال تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] والقنوط هو: قطع الرجاء، فهم قد قطعوا رجاءهم كلياً من الرحمة، وكأنهم يقولون: لا تنالنا الرحمة، ولو كانت رحمة الله واسعة فذنوبنا أكبر من أن تنالها، وذنوبنا أكبر من أن تغفرها، قد كفرنا، وقد أسأنا، وقد أذنبنا، وقد ارتكبنا، وقد فعلنا وفعلنا، فذنوبنا كبيرة لا تصل إليها رحمة الله!!

    فيبقون على ما هم عليه من الكفر والضلال والفسوق والمعاصي، ويتمادون فيها، ويموتون وهم مصرون على ذلك، وكأنهم ممن يئسوا من الخير وقطعوا رجاءهم، فهؤلاء وقعوا في هذه المرتبة القبيحة التي هي اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله.

    وبكل حال: فإن المسلم ولو وقع فيما وقع فيه من المعاصي فإن الله تعالى يكفر عنه السيئات بالأسباب التي ذكرناها آنفاً، وإذا حقق العقيدة والتوحيد قبل الله عز وجل منه، وتاب عليه، ورحمه وهو أرحم الراحمين، أما إذا تمادى في عصيانه فقد أقدم على العذاب والعياذ بالله.

    1.   

    من عقيدة أهل السنة الحكم على الإنسان بحسب ظاهره

    من عقيدة المسلمين أنهم يصفون إلإنسان بما يظهر منه، فإذا أظهر خيراً أحبوه، وإذا أظهر سوءاً أبغضوه، ومع ذلك فإنهم إنما يحكمون بالظاهر، وقد جاء عن عمر أنه قال: إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم بالظاهر، فمن أظهر لنا خيراً أحببناه وقربناه، ومن أظهر لنا سوءاً أبعدناه وأبغضناه، وليس لنا من أمره -أي: من باطن أمره- شيء، والله تعالى هو الذي يتولى السرائر.

    وبناءً على هذه القاعدة فإننا نحب المؤمنين الذين أظهروا لنا الخير ودانوا به، وأظهروا العمل الصالح وأظهروا السنة، وظهر لنا منهم أنهم من أهل الدين ومن أهل الصلاح، وعملوا لله بما يحبه الله وبما فرضه عليهم، فنحبهم، ونشهد لهم بالخير، سواء كانوا ممن أدركنا أو ممن سبقنا، فندعو لهم بالمغفرة والرحمة، كما وصف الله المؤمنين بقوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] ، فوصفهم الله بأنهم يحبون من هاجر إليهم، ويحبون من سبقهم من المؤمنين، ويدعون لهم بالمغفرة والرحمة، ويدعون الله بأن ينزع من قلوبهم الغل والحقد والحسد والبغضاء والشنآن لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، فهذه صفة المؤمنين.

    وإذا كان كذلك فإنهم بضد ذلك في حق الفسقة والمشركين والمنافقين والمعاندين، فإذا رأوا أهل الفساد وأهل السوء وأهل المنكر أبغضوهم ومقتوهم، وعاملوهم بما يظهر منهم من السوء والفحش والكلام القبيح، وحذروا من فعلهم، ومقتوهم على هذا، ولو كانت قلوبهم نقية؛ فليس إليهم معرفة ما في القلوب.

    فأهل الفساد وأهل الشرور وأهل البدع إذا أظهروا بدعهم وأظهروا معاصيهم وأعلنوها؛ فإننا نبغضهم، ونمقتهم، ونحذرهم، ونحذر منهم، ويكون بغضنا لهم بغضاً في ذات الله، ولا نبغضهم لأجل أهوائنا، ولا لأجل مصالحنا، ولا لأجل أنهم تنقصونا أو عابونا أو ما أشبه ذلك، بل يكون الحامل لنا على بغضهم الغيرة لله، والغيرة على شريعته ودينه، والحماية لتعاليمه، ويكون من أثر هذا البغض وهذا المقت البعد عنهم، والحذر من شرهم ومن سوئهم، والتحذير من أن ينخدع أحد بدعاياتهم وبتضليلاتهم، وبمعاصيهم وفسوقهم الذي يدعون إليه والذي ينشرونه، والذي يظهرونه، ثم يزعمون أنهم على حق، وأن الصواب في جانبهم.

    وتقدم لنا أن من عقيدة أهل السنة أنهم يرجون النجاة لأهل الخير، ولا يجزمون لهم بالجنة، ويخافون على أهل الشر من العذاب، وإن لم يجزموا لهم بالنار، ولكن يكون من آثار معرفتهم أن هؤلاء من الصالحين، سواء أدركوهم أو سبقوهم، أنهم يحبونهم، ويحثون على مثل أعمالهم، وإن لم يشهدوا لهم بأنهم من أهل الجنة؛ لأنهم لا يعلمون ما في القلوب.

    كذلك من آثار معرفتهم لأهل المعاصي أنهم يحذرونهم ويحذرون منهم، وإن لم يشهدوا لهم بالنار، كما أنهم يخافون عليهم من عذاب الله، وإن لم يجزموا لهم بالعذاب، فهم إذا أنكروا عليهم ومقتوهم حذروا من شرهم، وحذروا من أفعالهم، وبينوا أخطاءهم، وقالوا: إنهم قد وقعوا في هذا الخطأ، فإياكم أن تساعدوهم على خطئهم، أو توافقوهم، أو تفعلوا كفعلهم؛ فينسب إليكم من الخطأ ما نسب إليهم أو ما وقعوا فيه.

    وهكذا طريقة أهل الخير: أنهم يحذرون من الشر ويحذِّرون منه.

    الحكم على أهل العصيان يتفاوت بتفاوت معاصيهم

    الشرور والمعاصي والفتن تتفاوت، فمنها ما قد يوصل إلى الكفر والردة والخروج من الإسلام، كالاستهزاء بشعائر الله، والاستهزاء بأوامره، والسخرية من أهل الدين والتنقص لهم، فإذا ظهر هذا من أناس فإننا نبرأ منهم، بل ونضللهم، ونخشى أن يكونوا قد وقعوا فيما يخرج من الملة؛ وذلك لأن الله قد ذكر السخرية من أعمال الكفار، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] أي: ضحك استهزاء، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:30].

    ويقول الله تعالى عنهم: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [المؤمنون:109-110] أي: تستهزئون بهم وتتنقصونهم، فجعل من أسباب عذابهم سخريتهم بأهل الدين.

    ومثل ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة:79] ، يستهزئون بهم ويتنقصونهم لضعف حالهم، فهذا دليل على أن الاستهزاء بالدين وبحملته يعتبر من دلائل الكفر.

    كذلك قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:211-212] أي: يستهزئون بالمؤمنين، (يسخرون منهم) أي: من أعمالهم ومن ديانتهم ومن عباداتهم أو ما أشبه ذلك، فتكون هذه السخرية من أسباب ردتهم وكفرهم.

    وقد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض المنافقين استهزئوا ببعض المؤمنين من أجلاء الصحابة، أولئك المنافقون الذين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنةً، ولا أجبن عند اللقاء! وهم يعنون بذلك الصحابة، حيث وصفوهم بأنهم شديدو الرغبة في الأكل فقط، ولكنهم عند القتال جبناء أذلاء، وأنهم لا يقولون إلا كذباً. وكذب من قال عليهم بهذا القول، بل هو المتصف بذلك، ولما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك وبخهم على ذلك، فجاءوا يعتذرون ويقولون: يا رسول الله! إنما كنا نتحدث حديث الركب لنقطع به الطريق، وهذا معنى قولهم: إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] فجعل فعلهم هذا كفراً، حيث إنهم استهزئوا بالله وبآياته وبرسوله وبأصحاب رسوله، فكان ذلك ردة منهم، فإذا وصلت الحال بالمرء إلى هذا القدر فإنه يحكم بكفره والعياذ بالله.

    أهل السنة يرجون للمحسنين ويخافون على المذنبين

    نحن نرجو للمحسنين، ونخاف على المذنبين، وإذا وصلت الحال إلى أن ذلك الذنب وصل إلى درجة الكفر، فإننا نحكم بكفره صاحبه وردته، وأما إذا كان الذنب مما يحتمل أن يغفر، ويدخل تحت مشيئة الله فإن ذلك مما لا يكفر به صاحبه.

    والذنوب التي دون الشرك معرضة للأسباب التي تكون مكفرة لها، ومن هذه الأسباب: التوبة، والاستغفار، ودعاء المؤمنين له بالمغفرة، والمصائب الدنيوية، وشدة النزع عند الموت وما يصيبه جراء ذلك، وعذاب القبر، وشدة الفزع في الآخرة، والحزن الذي يناله في الموقف وشدة الألم، ومنها: تكفير الله عز وجل له بما يحصل له من المصائب، ومنها: شفاعة الشافعين، ومنها: ما يحصل من القصاص بين العباد على القنطرة، ومنها: أنه يدخل النار ويكفر عنه بقدر ما عمل، ثم بعد ذلك يخرج إذا كان من أهل التوحيد ومن أهل الصلاح.

    وقد سبق أن ذكرنا أن على المرء أن يجمع بين الخوف والرجاء، فيكون خائفاً راجياً، ولكن لا يبلغ به الرجاء إلى الأمن، بحيث يأمن مكر الله، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، ولا يبلغ به خوفه إلى اليأس إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] بل يكون بينهما، وذكرنا أن العلماء يقولون: يفضل في حالة الصحة الخوف حتى يستقل أعماله، ويستكثر من الحسنات. وفي حالة الاحتضار يفضل الرجاء -أي: يغلب الرجاء- ليقدم على ربه وهو يحسن الظن به، وقد مر بنا في الحديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) فيكون ذلك إن شاء الله من أسباب رحمة الله لعبده.

    فيتعين على الإنسان في نفسه أن يجمع بين الخوف والرجاء، ويتعين عليه مع غيره أن يخاف على المذنب، ويرجو للمحسن، فيجمع في ذلك بين الخوف والرجاء، من غير أن يصل به إلى الجزم واليقين.

    1.   

    خروج العبد من الإيمان إذا جحد شيئاً من أركان الإيمان

    قال الشارح الإمام ابن أبي العز رحمنا الله تعالى وإياه:

    [قوله: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه) يشير الشيخ إلى الرد على الخوارج والمعتزلة في قولهم بخروجه من الإيمان بارتكاب الكبيرة.

    وفيه تقرير لما قال أولاً: لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله. وتقدم الكلام على هذا المعنى].

    قد تقدم أن الخوارج يكفرون بالذنب، ويقولون: إذا عمل الإنسان ذنباً وأصر عليه صار داخلاً في الكفر خارجاً من الإيمان، وأما المعتزلة فإنهم يخرجونه بالذنب من الإيمان، ولكن لا يدخلونه في الكفر، بل يجعلونه في منزلة بين الكفر والإيمان، والكل على خطأ، والصواب ما قاله الطحاوي من أنه لا يخرجه من الإيمان إلا الجحد بما أدخله فيه، فالذي أدخله في الإيمان هو الإيمان بالله، والإيمان بالبعث، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالرسل والكتب، فإذا جحد مثل هذه الأشياء خرج من الإيمان، وأما ما دام أنه يؤمن بالله، ويعمل بطاعته، ويؤمن بالرسل، ويدين باتباعهم، ويؤمن بالكتب ويعمل بها، ويؤمن باليوم الآخر ويستعد له، فإنه لم يخرج من الإيمان، ولو قصر في بعض الأوامر، ولو ارتكب بعض النواهي، ولو أذنب بعض الذنوب، فذلك لا يوصله إلى الكفر.

    1.   

    تعريف الإيمان عند أهل القبلة

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق. والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى).

    اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً: فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان.

    وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان.

    ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه.

    وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد.

    وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي -أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان: هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102]، وقال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُفْسِدِينَ [النمل:14]، وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال:

    ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً

    لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

    بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36] ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39] ، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه! فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر بتفاصيل وقيود، أعرضت عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره].

    من هنا ابتدأ المصنف في الكلام على الإيمان، ويعرف هذا الفصل بأسماء الإيمان والدين، ومعلوم أن الشرع الشريف جاء إلى هذه الأمة وهم على جهل، ولكنهم يتكلمون بلغة فصحى عربية، فخاطبهم بلغتهم، وجاءهم بهذه الشريعة وشرع لها أسماء وعرفها، وأصبحت معروفة بأسمائها الشرعية، ولو كان لها أسماء لغوية، فعرفت هذه بأسماء الإيمان والدين، فيقال: تعريف الصلاة في اللغة: الدعاء، وتعريفها في الشرع: العبادة المشتملة على القيام والقعود والركوع والسجود، وتعريف الزكاة في اللغة: النماء أو الطهارة، وتعريفها في الشرع: القدر المخرج من المال الذي ينفق في وجوهه، وتعريف الصيام في اللغة: مجرد الإمساك، وفي الشرع: الإمساك بالنية عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتعريف الحج في اللغة: القصد إلى شيء معين، وفي الشرع: زيارة البيت الحرام في وقت مخصوص من إنسان مخصوص، وتعريف الجهاد في اللغة: بذل الجهد والوسع في الشيء الذي يكون فيه مشقة، وتعريفه في الشرع: قتال الكفار لأجل كفرهم، وكذلك يقال في تعريف المعروف، وفي تعريف المنكر، وفي تعريف الإسلام والإيمان والكفر والشرك والنفاق والفسوق وما أشبهها، فهذه كلها لها مسميات في اللغة ومسميات في الشرع معروفة، حيث نقل الشارع شيئاً من مسمياتها اللغوية فسمى بها هذه المسميات الشرعية، فأصبحت إذا أطلقت في الشرع لا تنصرف إلى المعنى اللغوي الذي نقلت إليه، فالكلام هنا على الإيمان، والإيمان له معنى واسم في اللغة، وله معنى واسم في الشرع، نقله الشرع إليه وأصبح إذا أطلق على أهله، قصد به المؤمنون الشرعيون، لا المؤمنون اللغويون.

    تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً

    الإيمان في اللغة: هو التصديق، ومن ذلك قول الله تعالى حكاية عن إخوة يوسف لما أخبروا أباهم بأن الذئب أكل أخاهم، فقالوا بعد ذلك: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17] أي: بمصدق لنا، فالإيمان في اللغة: التصديق. لكن الشرع الشريف جعله أعم من التصديق، فأدخل فيه العقيدة، وأدخل فيه الأقوال، وأدخل فيه الأعمال، وعلى ذلك بنى الأئمة رحمهم الله هذه الأصول، فنجد أن المؤلفين من العلماء عملوا على ذلك، فالإمام البخاري في صحيحه جعل كتاب الإيمان في المقدمة بعد بدء الوحي، وأورد فيه الأدلة، فقال: باب: الصلاة من الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان.. وهكذا عدد الأعمال الصالحة، وجعلها من الإيمان كأركان الدين كلها.

    وتجدون مسلماً رحمه الله بدأ كتابه بعد المقدمة بكتاب الإيمان، وأورد فيه الأحاديث الكثيرة التي تبين الإيمان، وتبين ما يدخل فيه.

    فالإيمان إذا أطلق فإنه هو المسمى الشرعي، فمن لم يكن على هذا فلا يقال له: مؤمن، ولا يثاب ثواب المؤمنين.

    الأحكام المترتبة على تحقق اسم الإيمان

    يترتب على التسمية بالمؤمن أحكام، منها:

    أن من آمن عصم نفسه من القتل، وأن من آمن أحرز الثواب واستحقه، وأن من آمن اعتقدناه من إخواننا من المؤمنين وعاملناه على أساس ذلك.

    ولابد من أجل تحقق هذه الأحكام أن يؤمن المرء الإيمان الشرعي، ليس الإيمان اللغوي؛ لأن الإيمان اللغوي خفي، وهو شيء في القلب، ونحن لا نشق عن القلوب، وإنما نعمل بما يظهر لنا، فإذا رأينا الإنسان يصلي ويصوم معنا، ويجاهد، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويترك المحرمات والمشتبهات، ويستكثر من الأعمال الصالحات؛ قلنا: هذا من أهل الإيمان.. وهكذا.

    تعريف جمهور أهل السنة للإيمان وما ينبني عليه

    الأقوال التي ذكرها الشارح في تعريف الإيمان منها ما هو صواب ومنها ما هو خطأ، فالصواب: هو القول الأول، الذي هو قول أهل الحديث، وقول أكثر الأئمة، فقد ذهب إليه الإمام مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري والأوزاعي وأئمة الحديث كـالبخاري ومسلم ، وأهل السنن، وسائر المحدثين، وأكثر المتكلمين، وسلف الأمة، وهذا القول الصحيح هو: أن الإيمان يدخل فيه قول اللسان، وعقيدة الجنان، وعمل الأركان. فيقولون: هو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان. والأركان هي: الجوارح، فالعينان لهما عمل، والأذنان لهما عمل، واليدان والرجلان والبطن والفرج كلها لها عمل، هذه هي عقيدة أهل السنة.

    ومن اعتقادهم -أيضاً- أنه يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ويستدلون على ذلك بأدلة كثيرة سيأتينا بعضها، وأوضح هذه الأدلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فقوله: (بضع وستون أو بضع وسبعون) يعم خصال الخير كلها، فيقال: الصلاة من الإيمان، والصوم من الإيمان، والصدقة من الإيمان.. وفيما يتعلق بالكلام يقال: الذكر من الإيمان، والتسبيح من الإيمان، والقراءة من الإيمان، والجهاد من الإيمان، والأمر بالخير والدعوة إلى الله -وما أشبه ذلك- من الإيمان، ويقال في أعمال القلوب: الزهد في الدنيا خوفاً من المشتبهات من الإيمان، والرغبة في الآخرة من الإيمان، والحب في الله والبغض في الله من خصال الإيمان.. وما أشبهها.

    جاء في الحديث: (أعلاها: قول: لا إله إلا الله) فجعل هذه الكلمة من العقيدة، وهي كلمة التوحيد، وقال: (وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)، وهذا عمل بالأركان، كون الإنسان يميط الأذى عن الطريق ويوسع للمسلمين هذا من عمل البدن، وقال: (والحياء شعبة من الإيمان) والحياء عمل قلبي، فذكر القول: لا إله إلا الله، وذكر العمل: إماطة الأذى، وذكر الحياء الذي هو خلق قلبي، يحمل على ما يجمل ويزين، وينهى عن كل ما يدنس ويشين.

    إذاً: تدخل الأعمال كلها في مسمى الإيمان؛ ولأجل ذلك اهتم العلماء بشعب الإيمان، فصنف الإمام البيهقي كتاباً كبيراً سماه: شعب الإيمان -يعني: خصال الإيمان- وطوله، وأورد فيه الأحاديث الكثيرة بأسانيدها، واختصره بعض المؤلفين في مختصر مطبوع اسمه مختصر شعب الإيمان، وأوصله إلى تسع وسبعين أو ثمان وسبعين خصلة، وجعل منها الأعمال اليدوية والبدنية ونحوها، ومنها: إماطة الأذى عن الطريق وما أشبهها.

    فعرفنا بذلك أن هذا القول هو الأقوى، وعليه الأدلة.

    تعريف الحنفية للإيمان

    القول الذي ذكره الشارح عن أصحابه رحمهم الله هو الذي اشتهر عن الحنفية، وأبو حنيفة رحمه الله كان من المتقدمين، وكأنه لم يتوسع في الأدلة؛ ولأجل ذلك أخذ الإيمان على أنها كلمة لغوية، فجعل الإيمان هو التصديق بالقلب، وجعل القول علامة عليه، أو جعل القول منه، فالإيمان عند أبي حنيفة له ركنان: القول، والاعتقاد، ولم تكن الأعمال عنده من الإيمان، ولا شك أن هذا قول خاطئ، وفيه نقص كما سيأتي.

    تعريف الكرامية للإيمان

    هناك أقوال أخرى في الإيمان مرت الإشارة إليها، ولكنها أقوال باطلة، ومن هذه الأقوال: قول الماتريدية بأن الإيمان إنما هو العقيدة، وأن القول إنما هو من آثاره. وأما الكرامية فالإيمان عندهم هو القول. والكرامية هم أتباع محمد بن كرام ، وكانوا في باب الإيمان بالصفات أقرب إلى أهل السنة، ولكن لهم قول في الإيمان غريب! وهو أن الإيمان هو القول، أي: هو الكلمة والتلفظ، ولازمه أن المنافقين عندهم مؤمنون؛ لأنهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، ومعنى هذا أنهم مؤمنون، حتى ولو كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم!

    والله تعالى قد أثبت أن المنافقين كافرون في قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون:3] ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء:137] هؤلاء هم المنافقون، فالمنافقون الذين يقولون بألسنتهم: آمنا؛ مؤمنون عند الكرامية! ولكن الكرامية يقولون: إنهم مع ذلك في النار؛ لأن الله توعدهم في قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، وبالآيات التي فيها الوعيد الشديد لهم، فهم يقولون: إنهم في النار، وقولهم: آمنا غير عاصم لهم عن العذاب، وبكل حال فقد جعلوهم مؤمنين، وهذا قول خاطئ.

    تعريف الجهمية للإيمان وما ينبني عليه

    قول الجهمية في الإيمان هو أبعد الأقوال، فهم يقولون: إن الإيمان هو المعرفة فقط، فمن عرف فهو مؤمن، وهذا القول يلزم منه أن كل من عرف ولو لم يتبع المعرفة بإيمان يصير مؤمناً كامل الإيمان عندهم، والله تعالى قد ذكر أن إبليس -وهو أكفر الكافرين- يعرف أن الله ربه، ويعرف أن هناك بعثاً، وأن هناك جزاءً، وأن هناك جنة وناراً، وقد خاطبه الله بقوله: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف:18] ، فهو عارف، إذاً: فهو عند الجهمية مؤمن يستحق الوعد الذي وعد الله به المؤمنين!

    وكذلك فرعون قد أخبر الله أنه عارف، قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا [النمل:14] يعني: آيات موسى، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] ففرعون وقومه كانوا مستيقنين بها، وكذلك قول موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الإسراء:102] (علمت) أي: يا فرعون! ففرعون عندهم مؤمن كامل الإيمان، يستحق ما يستحقه أهل الإيمان الكامل.

    أيضاً: كثير من الكفار -على قولهم- كانوا مؤمنين، قال الله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26] ، قيل: إنها نزلت في أبي طالب ، فقد كان يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وكان ينهى عن أذاه، لكن كان ينأى عن اتباعه، وقيل: نزلت في الكفار كلهم؛ لأنهم يعرفون صدقه، وكانوا يسمونه بالصادق الأمين، وبكل حال فإن أبا طالب -كما سمعنا- مصدق بأن محمداً رسول، وبأنه صادق، وقد ظهر تصديقه في هذه الأبيات:

    ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً

    لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

    يقول: لولا أن يلومني زملائي وأصدقائي، ويقولون: إنك تركت دين آبائك، وجلبت على أبيك عبد المطلب وآبائك وأسلافك المسبة، لولا ذلك لسمحت به ولاتبعته، فهذا ونحوه دليل على أنه كان عارفاً، وهل نفعته هذه المعرفة؟ ما نفعته.

    إذاً: الإيمان على قولهم يعم هؤلاء، فهم مؤمنون عند الجهمية!

    فما هو الكفر عند الجهمية؟

    يقولون: الكفر هو الجهل بالله.

    فيقال لهم: أنتم أجهل الناس بالله، حيث جعلتموه الوجود المحض، دون أن تجعلوا لله صفات أو تجعلوا له أسماء، فهم جحدوا أسماء الله وجحدوا صفاته، ولم يصفوه إلا بأنه موجود، قيل لهم: موجود قديم أو موجود كذا؟ فيقولون: موجود فقط، فلا شك أن هذا هو غاية الجهل، فقد شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرون حيث جعلوا الكفر هو الجهل، وأي جهل أكبر من جهل هؤلاء الجهمية؟!

    ترجيح الشارح أن الخلاف بين أهل السنة وأبي حنيفة في تعريف الإيمان خلاف لفظي

    قال الشارح رحمه الله: [وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله كما تقدم، أو بالقلب واللسان دون الجوارح، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، أو باللسان وحده، كما تقدم ذكره عن الكرامية. أو بالقلب وحده، وهو إما المعرفة كما قاله الجهم أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله. وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر.

    والخلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه؛ نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد.

    والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً.

    والاختلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بـ(القول): التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل. لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟

    هذا محل النزاع].

    الشارح رحمه الله حنفي المذهب، ومعلوم أنه أراد بتأليف هذا الكتاب تقريب الحنفية إلى مذهب أهل السنة، وذلك لأنه ولو كان حنفياً في الفروع فإنه سلفي في العقيدة، وقد تأثر بشيخه ابن كثير رحمه الله، ابن كثير كان شافعي المذهب، وقد تأثر ابن كثير بـابن تيمية وهو حنبلي في باب العقيدة، فكان شافعياً في الفروع، ولكنه في العقيدة على مذهب أهل السنة الذي تلقاه عن شيخه أبي العباس ابن تيمية رحمه الله.

    فأراد هذا الشارح رحمه الله بشرحه أن يقرب الحنفية إلى مذهب أهل السنة، وشرح هذه العقيدة على مذهب أهل السنة، وبين أن الطحاوي أراد بها قول أهل السنة، وأراد بها ما عليه سلف الأمة، حتى يرد على الذين تمذهبوا بمذاهب باطلة بعد السلف، فأنكروا الصفات، وأنكروا العلو، وأنكروا الرؤية لله حقيقة، وأنكروا الكلام لله حقيقة، وما أشبه ذلك، فتقدم أنه شرح هذه الأشياء وبين أن القرآن حروفاً ومعاني كلام الله، رداً على الأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وكذلك في مسألة الرؤية: أن الرؤية تكون حقيقة بالبصر، وأنها ليست كما يقول الأشاعرة: مكاشفات ورؤية قلبية، وكذلك بقية المسائل، وكثير من الحنفية يقولون بأقوال الأشاعرة.

    وبقيت هذه المسألة، وهي: مسألة الإيمان، فقد عجز عن الجمع بين مذهب أهل السنة ومذهب الحنفية في باب الإيمان؛ وذلك لصراحة كلام الطحاوي في أن الأعمال ليست من الإيمان، حيث إن الطحاوي جعل الإيمان فقط هو التصديق والقول، وذلك صريح لا يحتمل أن يؤول، فلم يجد الشارح بداً من أن يجمع بينهما بأن الخلاف لفظي، حيث يقول: إذا كنا متفقين على أن من عمل السيئات لا يخرج من الإيمان، فإنا لا نجعل فعلها مدخلاً في الإيمان أو زيادة في الإيمان، ولا نجعل تركها مخرجاً من الإيمان، ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) .

    ومذهب أهل السنة في هذا الحديث أن نقول: ليس هو مؤمن كامل الإيمان، بل هو ناقص الإيمان، ونقول: هو عاص معه أصل الإيمان، ومعه بعض الأعمال المنافية له، فنسميه فاسقاً، ونسميه مؤمناً ناقص الإيمان، ولا نسميه كامل الإيمان، والحديث جاء على هذا، فما دام أننا اتفقنا على أن الأعمال من الإيمان فلماذا نجعل تركها نقصاً في الإيمان لا مخرجاً من الإيمان بالكلية؟

    إذاً: لا دلالة في هذا الحديث على أن الأعمال ليست من الإيمان، بل الأعمال من الإيمان، والخلاف ليس لفظياً كما يقوله الشارح، بل الخلاف معنوي، لا شك أنه يترتب عليه معان كثيرة، يترتب عليه أن الفاسق ولو عمل ما عمل يسمى مؤمناً كامل الإيمان؛ وذلك لقول الطحاوي عفا الله عنه: إن أهله في أصله سواء. يعني: التفاوت بينهم إنما هو بالخشية والتقاة، وأما أصل الإيمان فإنهم يتساوون فيه، وعندهم أن إيمان جبرائيل وإسرافيل والملائكة مثل إيمان آحاد الناس، فالناس كلهم على حد سواء في الإيمان، لا تفاوت بينهم، وهذا خطأ، بل الناس متفاوتون في الإيمان.

    والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، والصحيح: أن الإيمان يزيد وينقص، وتأتينا أدلة واضحة في أن الإيمان يزيد وينقص.

    وبكل حال: فالأصل أن الإيمان الذي ذكرنا تدخل فيه الأعمال، فهي من الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم جعلها شعباً، فالشعب: هي القطع التي يتكون منها الشيء، فقوله: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) أي: أن الإيمان يتكون من هذه الشعب، فيقال: الصلاة شعبة من الإيمان، والزكاة والصدقات شعبة من الإيمان، والأذكار شعبة من الإيمان، وحسن الجوار شعبة من الإيمان، والصدق شعبة من الإيمان، وأشباه ذلك، ويقال -أيضاً-: إن للكفر شعباً كما أن للإيمان شعباً، والإيمان يتفاوت، وأهله متفاوتون، فالصحابة إيمانهم الذي في قلوبهم، وكذلك نتيجته التي هي أعمالهم التي عملوها؛ لا شك أنها أقوى وأكبر من إيمان من بعدهم، ومن إيمان الآخرين، فالله تعالى قد أخبر بأن هناك من يشمله اسم المؤمن ولو كان معه نقص، وذلك في قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] يصدق عليه أنه يحرر رقبة من أهل الإيمان ولو كان عاصياً، ولو كان مذنباً، ولكن الإيمان الذي مدح الله أهله ووصفهم بالنجاة في قوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] من هم؟ لابد أن يكون لهم صفات معينة، فلو قال: (قد أفلح المؤمنون) واقتصر على هذه الآية لكان المؤمنون هم المصدقون، ولكن الله بين صفاتهم، فقال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:2-3] إذاً هذا من الإيمان، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:4-5] إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:8-9] هذه كلها من الإيمان، وجعلها الله تعالى فروعاً، فإذا كانت هذه صفات المؤمنين فإذاً هذه من الإيمان.

    وكذلك -أيضاً- يقول الله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58] فالإيمان الذي يكون معه أن أهله يسجدون ويسبحون، وتتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويدعون ربهم خوفاً وطمعاً؛ هو الإيمان الصادق، وهذه كلها صفات المؤمن، فلا يكون المؤمن صادقاً إلا إذا اجتمعت فيه هذه الخصال ونحوها، فعرفنا بذلك أن الإيمان لابد فيه من هذه الأصول، لابد فيه من الأصل الصحيح الصادق الذي هو العمل، والدافع إلى العمل الذي هو التصديق القوي الذي يظهر بالعمل، ويظهر بالكلام، فإذا اجتمع العمل بالأركان والنطق والعقيدة الصادقة كمل الإيمان، وإلا فالإيمان ناقص.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756238686