إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [11]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يتميز الله تعالى بأسماء وصفات لا تطلق على المخلوق ولا يوصف بها؛ دلالة على عظمته وزيادة في إثبات استحقاقه للعبادة وحده دون غيره، فهو الخالق الرازق المحيي المميت الحي القيوم، الأول بلا ابتداء الآخر بلا انتهاء.

    1.   

    الكلام على صفة الحياة والقيومة وما يتعلق بهما

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى:

    [قوله: (حي لا يموت، قيوم لا ينام ).

    قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، فنفي السنة والنوم دليل على كمال حياته وقيوميته، وقال تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:1-3]، وقال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111]، وقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58]، وقال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر:65]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام..) الحديث.

    لما نفى الشيخ رحمه الله التشبيه أشار إلى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه بما يتصف به تعالى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت؛ لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى دون خلقه، فإنهم يموتون.

    ومنه: أنه قيوم لا ينام، إذ هو مختص بعدم النوم والسنة دون خلقه، فإنهم ينامون، وفي ذلك إشارة إلى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال؛ لكمال ذاته.

    فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعاً ولهواً ولعباً: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64]، فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقال: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق؛ لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها، هو الذي وهب المخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها، بخلاف حياة الرب تعالى، وكذلك سائر صفاته، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به].

    إثبات صفتي الحياة والقيومية لله ونفي ضدهما

    هذه من الصفات الثبوتية، يعني: مما نثبت لله تعالى من الصفات صفة الحياة وصفة القيومية، كذلك ضدهما من الصفات السلبية، وهما: صفة الموت، وصفة النوم والسِنة، والسنة: هي النعاس أو مقدمات النوم، هذه صفات نقص، والرب سبحانه أثبت لنفسه صفات الكمال بقوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، ونفى عن نفسه صفات النقص بقوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ [البقرة:255] أي: نعاس، وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] النوم المعروف، ونفى الموت بقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] فنفى الموت ونفى السنة ونفى النوم؛ وذلك لأن النوم نقص يحتاجه الإنسان والدواب؛ لأن فيه شيئاً من إراحة البدن بعد التعب، والرب سبحانه وتعالى منزه عن التعب ومنزه عن اللغوب.

    نفي اللغوب والتعب عن الله سبحانه وتعالى

    وقيل: إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن خلق المخلوقات، فأخبرهم بأن الله خلق التربة يوم الأحد إلى أن انتهى من خلق المخلوقات يوم الجمعة، فقالوا: صدقت لو أكملت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم أنهم يريدون بذلك ما هم يعتقدونه من أن الله أكمل المخلوقات يوم الجمعة واستراح يوم السبت. هكذا عندهم أن الله استراح يوم السبت، وكذبوا فإن الله تعالى لا يحتاج إلى إراحة، وأنزل الله رداً عليهم في سورة ق: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] أي: من تعب، فهو سبحانه نفى عن نفسه هذا اللغوب الذي هو نقص وعيب، وهذا يدل على أن الله موصوف بكل كمال.

    وورد أيضاً: (أن نبي الله موسى سأل ربه، فقال: يا رب أتنام؟ فقال: يا موسى! خذ معك زجاجتين من ماء وقم بهما طوال الليل، فأخذهما فلما كان في أثناء الليل وهو قائم نعس فاضطربت يداه وضربت إحدى الزجاجتين الأخرى فانكسرتا، فقال الله: لو نمت لاختلت السموات والأرض كما فعلت هاتان الزجاجتان) أو كما في الأثر، ذكر ذلك ابن كثير في التاريخ وغيره.

    الحكمة من تسمية الله نفسه بالقيوم

    الله سبحانه وتعالى قائم على هذه المخلوقات، ولأجل ذلك سمى نفسه بالقيوم، يعني: القائم على خلقه، ومعلوم أن القائم على خلقه هو الذي يراقبهم وهو الذي يرعاهم ويكلؤهم وهم نائمون، قال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ [الأنبياء:42] أي: الرحمن هو الذي يكلؤكم، يعني: يحفظكم ويراقبكم، فإذا كان كذلك فإنه الذي يرعى عباده، ولا يعتريه نوم ولا نقص ولا سنة ولا غير ذلك؛ لأنه الذي يمسك هذه المخلوقات، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ [الحج:65]، إلى قوله: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65] أي: هو الذي يمسكها بقوته وبخلقه وبتمكينه، وقال تعالى: يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41] أي: هو الذي يمسكهما حتى لا يضطربا ولا يزولا، فإذا كان كذلك فإنه الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وقد حكم الله بالفناء على كل من سواه، فقال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، هذا دليل الحياة التي لا يعتريها نقص ولا تغيير، وبلا شك أن النوم نقص، ولذلك يسمى: أخا الموت، النوم موتة صغرى، ولذلك قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، فذكر أنه يتوفاها في منامها، فالنوم شبه الموت، ولأجل ذلك نفاه عن نفسه ونفى أيضاً مقدماته؛ لقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ [البقرة:255] والسنة: هي النعاس أو النوم الخفيف.

    يعتقد المسلمون أن الله موصوف بصفات الكمال كالحياة الكاملة والقيومية الكاملة، وقد وافقت الأشاعرة على وصف الله تعالى بالحياة، ولكنهم رجعوا في إثباتها إلى العقل، يقولون: إنما أثبتناها لدلالة العقل عليها، وكأنهم لم يعتبروا دلالة الشرع الواضحة، دلالة النصوص من الآيات والأحاديث ونحوها.

    الحديث الذي مر بنا حديث مشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فابتدأ الحديث بنفي هذا النقص وهو النوم عن الله سبحانه وأنه لا ينبغي له أن ينام، هذه عقيدة المسلمين، وبلا شك أن الذي يعتقد أن ربه حي لا يموت وأنه قيوم لا ينام وأنه لا يعتريه تغير، هو الذي يكون قد قدر ربه في قلبه وعظمه على كل شيء؛ فيعبده حق العبادة.

    معنى الحي القيوم وما يتضمنانه

    قال المؤلف رحمه الله: [واعلم أن هذين الاسمين -أعني: الحي القيوم- مذكوران في القرآن معاً في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً على كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود، والقيوم أبلغ من القيام؛ لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة، وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟

    فيه قولان: أصحهما: أنه يفيد ذلك، وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه؛ لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل؛ فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال، موصوفاً بصفات الكمال.

    واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على دوامها وبقائها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً، ولهذا كان قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، أعظم آية في القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيها.

    فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.

    وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام].

    التوسل والدعاء بأسماء الله من مستلزمات الإيمان بها

    الماتن يقول: (حي لا يموت قيوم لا ينام) والشارح ابتدأ شرحه بأول آية الكرسي وهي قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، واستدل أيضاً بأول سورة آل عمران: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2]، وبالآية الثالثة في سورة طه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111]، فالله عز وجل قرن هذين الاسمين في ثلاثة مواضع: في سورة البقرة في آية الكرسي، وفي أول سورة آل عمران، وفي سورة طه، ولما كان هذا شأنهما قال بعض العلماء: إنهما يتضمنان اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.

    ولأجل ذلك يندب أن يكثر العبد من التوسل بأسماء الله إذا دعاه، وأن يكثر من التوسل بهذين الاسمين، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث: أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)، فأفاد بأن هذين الاسمين يدعى الرب سبحانه وتعالى بهما كما يدعى ببقية الأسماء الحسنى، التي قال الله عنها: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] أي: توسلوا بها في دعائه، فأنت مأمور أيها العبد عند الدعاء أن تتوسل بأسمائه سبحانه ومن جملتها: الحي القيوم، وبلا شك أن هذين الاسمين يتضمنان صفات الكمال، فإن الحي يتضمن إثبات الحياة، والحياة التي تثبتها لله تعالى هي أتم حياة وأكملها، وذلك بوصفها بأنها حياة مستقرة وأنها لا يعتريها نقص، فلا يعتريها النوم الذي هو أخو الموت، ولا يعتريها الموت كما في قوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، ومن هذا الوصف يستحق الرب تعالى أن يكون هو الإله، ولأجل ذلك بدأ الآية بإثبات الإلهية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] في آية الكرسي وفي أول سورة آل عمران، بدأ الآية بالإلهية، فكأنه يقول: الإلهية الحقة لا تصلح إلا لمن هو حي قيوم.

    الحياة والقيومية الكاملة هي التي استحقها الرب واستلزمت جميع صفات الكمال، ومعنى كونها تستلزم صفات الكمال: أن من أثبتها لزمه أن يثبت بقية الصفات التي هي صفات الكمال.

    فإن الحياة كلما كانت كاملة لزم أن يكون غيرها من الصفات تابعاً لها، وأما من نفى شيئاً من الصفات فإنه إنما أثبت حياة ناقصة، وقد وصف الله عز وجل نفسه بالسمع، والحياة تستلزم أن يكون سميعاً، وبالبصر، والحياة تستلزم أن يكون بصيراً، وبالكلام، والكلام لا بد أن يكون من حي، وكذلك بالقدرة وبالعلم وبالمشيئة والإرادة وما أشبه ذلك من الصفات التي يأتينا تفصيلها إن شاء الله تعالى.

    فعلى هذا فالمسلم عليه أن يلح في دعاء الله تعالى ويتوسل إليه بأسمائه، بعد أن يعتقد دلالة تلك الأسماء، فدلالة الحي على إثبات الحياة، ودلالة القيوم على إثبات القيومية التي هي القيام على خلقه بحيث يوصف بأنه القائم على خلقه المدبر لشئونهم.

    1.   

    الكلام على صفتي الخلق والرزق وما يتعلق بهما

    قال المؤلف رحمه الله: [قوله: ( خالق بلا حاجة، رازق بلا مئونة ).

    قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، وقال تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38]، وقال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14].

    وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) الحديث رواه مسلم ، وقوله: بلا مئونة: بلا ثقل ولا كلفة].

    انفراد الله سبحانه بالخلق والرزق

    هذا من جملة ما وصف الله به نفسه وأخبر عن نفسه أنه الذي خلق الخلق ورزقهم، أي هو المنفرد بذلك وحده، فأما الخلق فليس له منازع، وأما الرزق فظاهر أنه الذي يسر أسباب الرزق، وأخبر بذلك ليعرفه العباد ويعبدوه وحده، فإذا علموا أنهم مخلوقون اعترفوا بأن لهم خالقاً، ذلك الخالق هو الله وحده، ما خلقهم لحاجته إليهم، ما خلقهم ليستكثر بهم من قلة، ولا ليتعزز بهم من ذلة، ولا ليستغني بهم من عيلة، ولا ليستأنس بهم من وحشة، بل هو الغني عنهم وهم الفقراء إليه، قال تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17].

    الحكمة من خلق الله للجن والإنس

    وقد أخبر الله بالحكمة من خلقه لهذا الخلق، وهو أنه خلقهم لعبادته وأمرهم بطاعته، خلقهم ليعرفوه ويعبدوه وأمرهم بأن يوحدوه ويطيعوه، وهو الغني عنهم، ولهذا قال: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:57]، وقال تعالى في آية أخرى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14]، فهو الغني وهم الفقراء.

    إذا عرف العباد بأنهم مخلوقون وأن لهم خالقاً، عرفوا بأن ذلك الخالق غني عنهم وأنهم فقراء إليه، عرفوا بأنهم مملوكون وأن لهم مالكاً، عرفوا بأنهم مدبرون وأن هناك من يدبرهم ويسخرهم ويتصرف فيهم كما يشاء، ذلك الخالق والمالك والرب والمتصرف هو الذي يستحق أن يعبدوه، ولأجل هذا خاطبهم بذلك وذكرهم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، ابتدأ بنعمة الخلق بعدما أمرنا بأن نعبده، ومن أسباب أمره سبحانه بعبادته:

    أولاً: أنه خلقكم.

    ثانياً: أنه خلق من قبلكم.

    ثالثاً: أنه أنزل من السماء ماءً.

    رابعاً: أنه جعل لكم الأرض فراشاً.

    خامساً: أنه جعل السماء بناءً.

    سادساً: أنه أنبت النبات.

    كل ذلك من الأسباب التي هي منَّة ونعمة منه سبحانه.

    حقيقة انفراد الله تعالى بالرزق وتيسير أسبابه

    أما قوله: (رازق) فمعلوم أنه الذي تفرد بالرزق وحده، وقد يقول قائل: بل العبد هو الذي يتكسب، والدواب هي التي تسعى في طلب الرزق، فإذاً كيف يكون ذلك رزقاً، ونحن نشاهد أن الإنسان هو الذي يكتسب الرزق؟!

    يقول هذا كثير من الناس، وأكثر من يقوله هم الملاحدة، حتى نقل لي بعض الإخوان عن بعض الملاحدة والعياذ بالله أنه لما قيل له: تذكر أن الله الذي يرزقك، فقال: كلا إنما ترزقني يميني والعياذ بالله، نسي أن الله حنن عليه أبويه في طفولته، نسي أن الله يسر له الرزق وهو في رحم أمه، حتى يأتيه الرزق من حيث لا يشعر.

    فالإنسان في بطن أمه يكون له باب واحد يأتيه الرزق منه، وهو حبل السرة الذي يتغذى من الدم، فمن الذي يسر ذلك له؟ هل للأبوين تصرف في هذا الجنين حتى يتم خلقه؟ ليس لهما تصرف، إذاً فالذي دبره على هذه الهيئة هو الذي يرزق.

    فلما خرج إلى هذه الدنيا من الذي فجر له هذين الثديين من صدر والدته، بهذا اللبن اللذيذ الذي يحصل به التغذي؟! من الذي ألهم هذا الطفل أن يمتص الثديين حتى يحصل على هذا اللبن الذي يتقوت به؟!

    عندما أخرجه الله إلى الدنيا فتح له بابين -وهما هذان الثديان- ليكون منهما رزقه وغذاؤه، لا يستطيع أن يحصل لنفسه هذا الرزق إلا أن ييسره الله له، من الذي حنن قلب أبويه عليه وجعل في قلوبهما الشفقة التامة إلى أن يحنوا عليه ويحدبا عليه ويحبا بقاءه ويسهرا ويتعبا في تحصيل راحته؟!

    لولا أن الله جعل ذلك في قلوبهما لما التفتا إليه ولما بقي على هذه الحياة مدة.

    بعدما فطم وترعرع من ذينيك الثديين، فتح الله له أربعة أبواب من الرزق: شرابان، وطعامان، فالشرابان: اللبن مأخوذ من الحيوان، والأشربة من الماء، والطعامان: اللحم طعام من الحيوانات التي سخرها الله للإنسان ليأكل من لحومها، وسائر الأطعمة مما تنبته الأرض، والله تعالى هو الذي يسر له ذلك.

    أولاً: باب واحد في بطن أمه.

    ثانياً: بابان بعدما خرج إلى الدنيا وكان رضيعاً.

    ثالثاً: أربعة أبواب بعدما فطم وأحس بالحاجة: طعامان، وشرابان.

    من الذي يسر أسباب الرزق؟ من الذي أنبت هذا النبات حتى أثمر وحتى أينع وأصبح صالحاً للقوت لو شاء الله تعالى لجعل الأرض حجراً لا تنبت، ولو شاء لجعل الأرض كلها ماءً لم يحصل بها هذا النبات ولا هذا الاستقرار، ولو شاء لجعل هذه الأرض سبخة لا ينبت فيها أي نبات أصلاً، بل لو أن الله جعل الأرض كلها ذهباً أو كلها فضة، هل يحصل الانتفاع بها وتنبت ويأكل الناس ودوابهم ويتقوتون بها؟ لا، ما تنفعهم.

    الله جعل الأرض رخوة صالحة للإنبات، فتبين بذلك أنه سبحانه هو الذي رزقنا، ولهذا يمتن علينا بأنه هو الذي رزقنا، ولسنا نحن الذي نرزق أنفسنا، ثم إذا كان الإنسان قد أعطي قوة حتى يتكسب ويجمع المال من هنا ومن هنا، فمن الذي أعطاه هذا العقل والفكر حتى يتسبب؟ ومن الذي أعطاه هذه الأدوات وهذه الآلات حتى يسير على قدميه وحتى يبطش بيديه وحتى يكتسب بهما؟ أليس هو الذي خلقه؟!

    إذاً فالله تعالى هو الخالق وهو الرازق، وإذا كان هو الخالق والرازق فهو الذي يستحق أن يعبد.

    1.   

    الكلام على الإماتة والبعث

    حقيقة الموت ومآله يوم القيامة

    قال المؤلف رحمه الله: [قوله: ( مميت بلا مخافة باعث بلا مشقة )

    الموت صفة وجودية خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، والعدم لا يوصف بكونه مخلوقاً، وفي الحديث: (إنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار)، وهو وإن كان عرضاً، فالله تعالى يقلبه عيناً، كما ورد في العمل الصالح: (أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة)، وورد في القرآن: (أنه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون) الحديث، أي: قراءة القارئ، وورد في الأعمال: أنها توضع في الميزان، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض، وورد في سورة البقرة وآل عمران: (أنهما يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف)، وفي الصحيح: (أن أعمال العباد تصعد الى السماء)، وسيأتي الكلام على البعث والنشور إن شاء الله تعالى].

    يتكلم الشارح هنا على أن الموت مخلوق، رداً على الفلاسفة الذين يقولون: الموت أمر عدمي ليس له جرم، ويقولون: ليس هناك شيء مخلوق اسمه الموت، وكذبوا قول الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ [الملك:2] قوله: (خلق الموت) فيه دليل على أن هناك شيئاً اسمه الموت، وأنه شيء محسوس، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما يدل على أن هذا الموت شيء محسوس، وهو قوله عن يوم القيامة: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، جيء بالموت كأنه كبش فوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، ويقال لأهل النار: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت).

    فيزداد أهل الجنة فرحاً، ويزداد أهل النار حزناً؛ وذلك لأن أهل الجنة أيقنوا بأنهم سيلقون حياة مستقرة ليس بعدها موت، وأن أهل النار كانوا يؤملون الموت، كانوا يرجون الموت ويقولون: العدم خير من هذا الوجود، ويقولون كما حكى الله عنهم: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] أي: بالموت، والله تعالى يقول: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر:36].

    حقيقة تحويل الأعراض إلى أجرام

    والشاهد أنه أخبر في هذا الحديث بأن الموت شيء محسوس يرى ويعرف، يعلمون أنه هو الموت ولو كان عرضاً، فالله تعالى قادر أن يجعل العرض جسماً، ويجعل له جثة أو صورة كما في الأعمال التي هي أعراض، فقد أخبر في الأحاديث أن الله يجعلها أجساماً وأجراماً، وأنها توزن مع كونها أعراضاً.

    فمثلاً الصلاة ورد في الحديث: (أنه إذا صلى العبد فأحسن صلاته صعدت ولها نور فتفتح لها أبواب السماء وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا صلى وأساء في صلاته صعدت ولها ظلمة، فتغلق دونها أبواب السماء وتلعن صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، وتلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها).

    في هذا بيان أن الأعراض يجعلها الله تعالى أجساماً، وكذلك الكلام قد يجعل الله تعالى له أجراماً، ولهذا في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض)، ومعلوم أن كلمة (الحمد لله)، ليس لها جرم، ولكن يجعل الله لها جرماً وجثة حتى تملأ الميزان، وكذلك التسبيح والتكبير ونحو ذلك، وإذا كانت الأعمال توزن ولو كانت أعراضاً، فكذلك الموت ولو كان عرضاً يجعل الله له جرماً حتى يرى، فهو الذي خلق الموت وخلق الحياة.

    1.   

    عقيدة أهل السنة في الصفات الفعلية لله تعالى

    قال المؤلف رحمه الله: [قوله: ( ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً ).

    أي : أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بصفات الكمال: صفات الذات، وصفات الفعل، ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها؛ لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده، ولا يرد على هذه صفات الفعل والصفات الاختيارية ونحوها، كالخلق والتصوير، والإحياء الإماتة، والقبض والبسط والطي، والاستواء، والإتيان والمجيء والنزول، والغضب والرضا، ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، ولكن أصل معناه معلوم لنا، كما قال الإمام مالك رضي الله عنه، لما سئل عن قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2]، كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.

    وإن كانت هذه الأحوال تحدث في وقت دون وقت كما في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)؛ لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلماً بالأمس لا يقال: إنه حدث له الكلام، ولو كان غير متكلم لآفة كالصغر والخرس ثم تكلم يقال: حدث له الكلام، فالساكت لغير آفة يسمى: متكلماً بالقوة، بمعنى: أنه يتكلم إذا شاء، وفي حال تكلمه يسمى: متكلماً بالفعل، وكذلك الكاتب في حال الكتابة هو كاتب بالفعل، ولا يخرج عن كونه كاتباً في حال عدم مباشرته الكتابة.

    وحلول الحوادث بالرب تعالى المنفي في علم الكلام المذموم، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال، فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن، فهذا نفي صحيح، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته، فهذا نفي باطل].

    في الكلام الأول ذكر الماتن رحمه الله: أن صفات الرب تعالى أزلية، وأنه موصوف بها في الأزل قبل أن تحدث الأفعال التي ظهرت بها، فيعتقد المسلمون أن الله سبحانه وتعالى قديم بصفاته، ويردون بذلك على النفاة الذين ينفون الصفات ويقولون: إنه إذا أثبتناها لزمنا تعدد القديم، وهذا اللازم باطل، فالله تعالى قديم بصفاته سواء الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية، ليس منها شيء متجدد بعد أن لم يكن، فصفاته الذاتية التي أخبر عنها كوجهه ويده والعين وما أشبه ذلك، هذه قديمة لم يحدث منها شيء.

    أما صفات الفعل كالعلم والكلام والقدرة والإرادة والمحبة والبغض والكراهة وما أشبهها فهو موصوف بها أزلاً وإن لم تحدث أسبابها، يعني: وإن لم يحدث من يغضب عليه، فهو موصوف بأنه يغضب وبأنه يرضى قبل أن يوجد خلق يغضب عليه أو يرضى عنه، وهو موصوف بأنه يحب ويكره قبل أن يحدث الخلق الذين يحب منهم الصالحين ويكره أو يبغض غيرهم، وموصوف بأنه يعجب وبأنه يفرح وبأنه يضحك وبأنه يجيء وينزل وبأنه يستوي على العرش إلى غير ذلك من الصفات، فهو موصوف بذلك أزلاً قبل أن تحدث أسباب ذلك، هذه عقيدة أهل السنة.

    عقيدة أهل السنة في تجدد الصفات الفعلية لله تعالى

    معلوم أن هذه الأفعال تسمى صفات فعلية، ومعلوم أنها تتجدد، ولأجل ذلك كانت عقيدة أهل السنة أن كلام الله قديم النوع متجدد الآحاد، يعني: أنه متكلم وأنه يتكلم بخلاف من يقول من المعتزلة ونحوهم: إن كلام الله قديم، ومعناه أنه لا يتكلم الآن، تعالى الله عن ذلك، وهكذا بقية الصفات فيقال: الله موصوف في الأزل بأنه يغضب ويرضى ولا يزال على ذلك حتى يوم القيامة، وقد أخبر الأنبياء بأنه يغضب وبأنه قد غضب، كما في حديث الشفاعة يقول آدم: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)، وكذلك يقول نوح وإبراهيم وموسى وعيسى إذا طلب منه الشفاعة، فيدل على أن الله موصوف بالغضب أزلاً وأنه يغضب إذا شاء.

    ومعلوم أن المعاصي التي رتبت عليها العقوبات تحدث فتحدث آثارها.

    فإذا كان الله تعالى يرضى عن المؤمن، فإذا وجد المؤمن وآمن وعمل صالحاً رضي الله عنه، وإذا كان يغضب على العاصي، فإذا وجد ذلك العاصي ووجدت منه معصية غضب الله عليه.

    فإذاً هذه الأفعال تتجدد، ولا يقال إنها أتت مرة ثم انقطعت، هكذا صفات الله الفعلية، كذلك صفة النزول لم تكن حدثت مرة ثم انقطعت، وكذلك صفة المجيء يوم القيامة فقد أخبر الله بأنه يجيء يوم القيامة كما في قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158] يعني: يوم القيامة، فإذاً ذلك دليل على أن صفات الله التي هي أفعال أزلية وأبدية، وأنه لا يزال متصفاً بها.

    الفوائد المستفادة من إثبات أسماء الله وصفاته ومعرفتها

    نستفيد من عقيدة إثبات أسماء الله تعالى وإثبات صفاته ومعرفة أسمائه التي سمى بها نفسه أو سماه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، يستفيد منها المسلم فوائد منها:

    أن يدعوه بها، قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180].

    ومنها أن يعتقد مدلولها ويكون اعتقاده لمدلولها دافعاً له على الخوف والرجاء، وعلى أعلى أنواع العبادة، فإن من اعتقد أن الله تعالى لا إله غيره خصه بالإلهية، ومن اعتقد أنه حي لا ينام، قيوم لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد، وأنه أول وآخر أزلي لم يسبق بعدم وأنه لا يأتي عليه العدم، واعتقد أنه موصوف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقص؛ من اعتقد هذا الاعتقاد؛ عظم قدر ربه في قلبه، ومتى عظم الله بكونه الذي يحيي الموتى ويميت الأحياء، والذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والذي هو الحي القيوم، والذي هو الأول والآخر، وهو الظاهر والباطن، والذي هو غني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه؛ لا شك أن من عرف ربه بهذه الصفات فإنه يدعوه بها، وكذلك يعظمه بموجبها، هذه فائدة معرفة هذه الأسماء والصفات.

    وقد تقدم شرح (الحي القيوم)، وكذا (الأول والآخر)، وكذا (المحيي والمميت)، وما أشبهها من أسماء الله، وكذلك من صفات النفي، كما في قوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، ولا يشبه الأنام، ولا يعجزه شيء، وما أشبهها.

    فالمسلم يعتقد ثبوت صفات الكمال، ويستفيد منها تعظيمه، وينتج من تعظيمه عبادته حق العبادة.

    حكم إطلاق نفي حلول الحوادث ومعناها عند أهل السنة وغيرهم

    قال رحمه الله تعالى: [وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك، على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل، وهو غير لازم له، وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه.

    وكذا مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير فيه إجمال فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له.

    ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره، ولا أنه ليس غيره؛ لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، إذ كان لفظ الغير فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل، فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها، منفصلة عن الصفات الزائدة عليها، فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة، فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة كلا وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة فإن هذا محال، ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً، يتصور هذا وحده، وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج.

    وقد يقول بعضهم : الصفة لا عين الموصوف ولا غيره وهذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد. فإذا قلت: أعوذ بالله، فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدسة الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه.

    وإذا قلت : أعوذ بعزة الله، فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى ولم أعذ بغير الله.

    وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن (ذات) في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم، إلى غير ذلك من الصفات، فذات كذا بمعنى: صاحبة كذا، تأنيث (ذو) هذا أصل معنى الكلمة.

    فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كان الذهن قد يفرض ذاتا مجردة عن الصفات كما يفرض المحال، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، وقال صلى الله عليه وسلم : (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، ولا يعوذ صلى الله عليه وسلم بغير الله، وكذا قال صلى الله عليه وسلم : (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)، وقال صلى الله عليه وسلم : (ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا) وقال صلى الله عليه وسلم : (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات)].

    شبهة نفي حلول الحوادث والرد عليها

    تكلم أولاً: على بعض الشبهات التي يروجها نفاة صفات الله تعالى، فمن شبهاتهم قولهم: إن الله منزه عن حلول الحوادث، فإذا سمع ذلك الجاهل اعتقد أنهم صادقون واعتقد أن الله لا يجوز أن تحل به الحوادث، فإذا سلم ذلك ووافق عليه قالوا: لا يجوز أن يوصف بالكلام الحادث، ولا أن يوصف بأنه يحدث له غضب، ولا رضا، ولا أن يحدث له كراهية أو سخط وما أشبه ذلك، فينفون الأفعال الاختيارية بحجة أنها حادثة والحادث لا يوصف به الرب، وعندهم أن الرب قديم لم يحدث منه شيء، ولا يجوز أن يوصف بصفة تحدث، وموافقتهم على هذه القاعدة خطأ.

    فإذا قالوا: القاعدة تنزيه الله عن حلول الحوادث، فيقال لهم: ماذا تريدون؟ إن أردتم أن الله لا يحدث له صفة لم تكن موجودة في الأزل فهذا صحيح، فإن الله تعالى يسمى خالقاً قبل وجود المخلوقين ورازقاً قبل أن يكون هناك من يرزقهم، وهو المحيي والمميت قبل أن يوجد الخلق الذين يحيي منهم من يشاء ويميت منهم من يشاء، يعني: أنه متصف بالفعل أزلاً وإن لم تكن المفعولات موجودة، فإن الذي يكون قادراً على الفعل يصح أن يوصف به ولو لم يزاوله، فإذا رأيت إنساناً ساكتاً صامتاً قلت: هذا الإنسان متكلم، أي أنه ليس أخرس، ولو كان في تلك الحال صامتاً، يعني أنه متكلم بالقوة، فكذلك يقال: الله يحيي ويميت، أي: أنه متصف بصفة القدرة على الإحياء والإماتة والخلق والرزق والتصرف والتدبير قبل أن توجد المخلوقات، ولكن بعد وجود هذه المخلوقات فإن الله تعالى يميت من يشاء ويحيي من يشاء، ويرزق هذا ويفقر هذا ويغني هذا، ويصح هذا ويسقم هذا، ويرفع هذا ويخفض هذا، وكل هذه صفات حادثة، فأصل الصفة موجود ليس بحادث ومفرداتها حادثة.

    كذلك نقول: الله تعالى متكلم في الأزل ويتكلم إذا شاء، ليس معناه أنه تكلم أزلاً ثم انقطع كلامه، بل كلام الله قديم النوع حادث الآحاد.

    شبهة: أن صفات الله زائدة على ذاته والرد عليها

    ومن شبهاتهم قولهم: إن صفات الله زائدة على ذاته، وهذه شبهة باطلة، فليست صفاته زائدة على ذاته بل صفات الله من ذاته، وهو واحد بصفاته، ولا يلزم من إحداث الصفات تعدد القدماء كما يقولون، فليس هناك تعدد. وذلك أنهم يقولون: إن قولكم: ذات الرب قديمة وسمعه قديم وبصره قديم وعلمه قديم وقدرته قديمة، فأنتم لم تثبتوا واحداً بل أثبتم عدداً! وهذه شبهة باطلة، فإن الله تعالى واحد بصفاته، فليست الصفات خارجة عن الذات، ولا يتصور أن تكون هناك ذات مجردة عن جميع الصفات، ولو لم يكن إلا صفة الوجود فصفة الوجود ملازمة لكل موجود، فلا يمكن أن يُفْرَض شيء ليس له صفات، وهو مع ذلك له ذات، بل كل ذات يلزم أن يكون لها صفات.

    شبهة: أن صفات الله غيره والرد عليها

    ومن شبهاتهم قولهم: إن صفات الله غيره، وهي أيضاً شبهة باطلة، فليست صفات الله تعالى غيره، بل صفاته من ذاته فنضرب مثلاً -ولله المثل الأعلى- المخلوق لا يقال: إن صفاته غيره، فإذا رأيت إنساناً فإنك لا تقول: جاء زيد ويداه ورجلاه ورأسه وبطنه وظهره وعيناه وأذناه، بل تقول: جاء زيد، وتدخل صفاته في ذاته وفي شخصه، فهو شيء واحد وشخص واحد بهذه الصفات، ولا يلزم من كونه ذا صفات أن يكون عدداً، فلا تقول: جاءني عشرة: عينان وأذنان ويدان ورجلان وشفتان، بل شخص واحد مسمى بهذا الاسم، فكذلك الله سبحانه وتعالى ليست صفاته زائدة على ذاته، بل صفاته من ذاته.

    فإذا اعتقد المسلم أن الله موصوف بهذه الصفات التي هي صفات الكمال اعتقد مدلولها، فإذا اعتقد أن الله يغضب حذر من أسباب الغضب، وإذا اعتقد أنه يرضى فعل أسباب الرضا، وإذا اعتقد أنه الذي يحيي ويميت عبده وعرف حقه، وإذا اعتقد أنه هو الذي يفقر ويغني وأنه الذي يمنع ويعطي عرف أن العبادة لا تصلح إلا له، وهكذا، فمعرفة هذه الصفات تزيد العبد بصيرة في دينه، وتحمله على التمسك بدينه، وعلى الإكثار من التقرب إلى الله تعالى بحقوقه.

    1.   

    الكلام على مسألة الاسم والمسمى

    قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره، وطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو (سمع الله لمن حمده) ونحو ذلك، فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله: اسم عربي، والرحمن: اسم عربي، والرحمن: من أسماء الله تعالى ونحو ذلك، فالاسم ها هنا هو المراد لا المسمى، ولا يقال غيره لما في لفظ الغير من الإجمال: فان أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى.

    والشيخ رحمه الله أشار بقوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه) إلى آخر كلامه إلى الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة، فإنهم قالوا: إنه تعالى صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه، لكونه صار الفعل والكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي.

    وعلى ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما فإنهم قالوا: إن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً منه.

    وأما الكلام عندهم فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة، بل هو شيء واحد لازم لذاته.

    وأصل هذا الكلام من الجهمية فإنهم قالوا: إن دوام الحوادث ممتنع، وإنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ، لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئته، بل يمتنع أن يكون قادراً على ذلك، لأن القدرة على الممتنع ممتنعة.

    وهذا فاسد، فإنه يدل على امتناع حدوث العالم وهو حادث، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، وما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت فيه، فليس لإمكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادراً عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها].

    معنى ذلك: أن صاحب المتن لما ذكر قدم أسماء الله التي هي في الأصل تتضمن صفات كالرازق الذي يستلزم أن يكون هناك مرزوقون، والخالق الذي يستلزم أن يكون هناك مخلوقون، وكذلك المحيي والمميت الذي يلزم منهما أن يكون هناك خلق يحييهم ويميتهم، وكذلك اسم العليم يلزم أن يكون هناك ما يعلمه، وهكذا المعز والمذل والخافض والرافع والمعطي والمانع، لا شك أنها أسماء لها آثار في الخلق، فآثارها كونه يعطي هذا ويمنع هذا ويحرم هذا ويميت هذا ويحيي هذا ويعز هؤلاء ويذل هؤلاء ويخفض قوماً ويرفع آخرين.

    وهذه الصفات موصوف بها الرب تعالى في الأزل قبل أن يوجد الخلق، خلافاً لقول المعتزلة والجهمية والكلابية ونحوهم الذين يقولون: إنما حدثت بعد حدوث المخلوقات، وهذا خطأ، بل قولهم: بامتناع حوادث لا أول لها، الأولى بنا عدم الخوض في مثل ذلك، وأن نقول: الله أعلم بالمخلوقات التي خلقها أولاً، ومتى ابتدأ خلقه لها، لا نقول: إن المخلوقات ليس لها مبدأ، لكن نعلم أن ما سوى الرب تعالى حادث، والرب تعالى قديم أزلي أول، ونعلم أن حكمة الله تعالى في هذه الموجودات أنه أوجد هذا الكون بما فيه؛ ليعرف بذلك قدره ولتعرف بذلك أهليته للعبادة، وليعرف المسلمون بذلك أنهم مخلوقون لأداء حقوق ربهم سبحانه وتعالى الذي هذا خلقه وهذا تكوينه، قال تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11]، هكذا يجب أن يعتقد المسلم.

    1.   

    مسألة تسلسل الحوادث

    منع الجهمية من حوادث لا أول لها والرد عليهم

    قال المؤلف رحمه الله: [قالت الجهمية ومن وافقهم: نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له؛ وذلك لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له بخلاف جنس الحوادث.

    فيقال لهم : هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقال: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكناً بعد أن لم يكن ممكناً، وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان، وإلا لزم انقلاب الجنس من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء].

    شبهة أيضاً من شبهات المعتزلة أو الجهمية ونحوهم، ولا يحتاج المسلم إلى معرفة أصول الرد عليهم في قولهم بأن هذه حادثة في وقت كذا وكذا؛ وذلك لأنا لا نعلم وقت حدوث هذه المحدثات، ويمكن إذا قدرنا أنها حدثت مثلاً قبل مائة ألف سنة أن يقول قائل: يمكن أنها قبل مائتين، ويقول آخر: يمكن أنها قبل ألفين، ويقول آخر: قبل ذلك بألوف.

    فإذاً ليس هناك وقت يلزم العباد بأنه حدثت فيه هذه المحدثات، لكن نعرف أنها حادثة، فالله تعالى ذكر أنه خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] يعني: كان معدوماً، وخلق الجن بعد أن كانوا معدومين، وخلق الملائكة بعد أن كانوا عدماً، وهكذا أيضاً خلق السموات والأرض في ستة أيام بعد أن لم تكن موجودة، وهكذا سائر المخلوقات الله الذي ابتدأ خلقها، ولا شك أنه أوجد هذه الموجودات وبث هذه الدواب مثلاً على هذه الأرض، وخلق هذه الأنهار وهذه البحار والأشجار والثمار والآبار ونحو ذلك، هو الذي ابتدأها بعد أن لم تكن موجودة، ويمكن أنه خلق قبلها مخلوقات لا ندركها ولا نعلمها، فالله تعالى هو المنفرد بالخلق والتصرف، وإنما علينا أن نعتبر بما نرى، نعرف أن هذه الموجودات التي خلقت خلقت لنا للاعتبار، نأخذ منها دلالة وعبرة على أن خالقها هو خالق كل شيء، وأن الذي هو خالق كل شيء هو المستحق لأن يعبد وحده؛ فنعبده ونخلص العبادة له ولا نتجاوز ذلك، هذا هو الأولى بالمسلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث، أو جنس الحوادث، أو جنس الفعل، أو جنس الأحداث، أو ما أشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان، وهو مصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كان ممتنعاً، من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل، وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين، فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكناً، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه، فإنه يعقل كون الحادث ممكناً، ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكناً فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه].

    الممكن: هو الذي يتصور وجوده وحدوثه، الممتنع: هو ما لا يتصور العقل وجوده، أو ما لا يمكن أن يحدث، الممتنعات: هي المستحيلات.

    ومعلوم أن هذه المخلوقات كانت معدومة فوجدت لإمكان حدوثها، وأن هناك أشياء مستحيلة ولم تكن، وممتنعة ولم تحدث، مثل: الجمع بين الضدين، فلا يمكن مثلاً أن يكون المكان الضيق مظلماً ومنيراً في وقت واحد، فلا يجتمع فيه النور والظلمة لكونهما ضدين، ولا يجتمع في وجه إنسان كونه أبيض وأسود، ولا في ثوبه مثلاً أنه أحمر وأبيض؛ لأن اجتماع الضدين من الممتنعات، ومعلوم أن الله تعالى لا يعجزه شيء وأنه قادر على أن يجمع بين الضدين، وقادر على أن يخلق المستحيل، ولكن جرت العادة بامتناع هذا في التصور، وأخبر بأنه قد يوجد بعض الأشياء مثل الأمور الغيبية، كقوله تعالى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74]، كأن العاقل يقول: مستحيل أن يكون الشيء لا ميتاً ولا حياً، يقال: ليس بمستحيل بل يمكن في قدرة الله أن يكون ميتاً حياً في آن واحد، وإن كان المراد أنه لا يحيا حياة يستلذ بها في النار، ولا يموت موتاً يستريح منه، بل هو متألم يتمنى الموت ولا يحصل له؛ لهذا السبب نفيت عنه الحياة والموت، وعلى كل حال وصف الرب سبحانه بالأفعال عام في أنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، وأنه قادر على أن يجمع بين المختلفات، وأن يوجد المتضادات، ولكن جرت العادة بأن هذا الممتنع لم يحدث ولم نره مع قدرته على أن يحدثه.

    مذاهب الناس في تسلسل الحوادث

    [فالحاصل أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا، أو في المستقبل فقط، أو الماضي فقط؟

    فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من المسلمين وغيرهم.

    أضعفها: قول من يقول: لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل كقول جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف.

    وثانيها: قول من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي، كقول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم.

    والثالث: قول من يقول: يمكن دوامها في الماضي والمستقبل كما يقوله أئمة الحديث، وهي من المسائل الكبار، ولم يقل أحد: يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل.

    ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون: إن كل ما سوى الله تعالى مخلوق كائن بعد أن لم يكن وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم.

    ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع محال، ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء؛ فإن الرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال، يفعل ما يشاء ويتكلم إذا يشاء، قال تعالى: قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]، وقال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، وقال تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:15-16]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27]، وقال تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109].

    والمثبت إنما هو الكمال الممكن الوجود، وحينئذٍ فإذا كان النوع دائماً فالممكن والأكمل هو التقدم على كل فرد من الأفراد بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يقارنه بوجه من الوجوه، وأما دوام الفعل فهو أيضاً من الكمال؛ فإن الفعل إذا كان صفة كمال فدوامه دوام كمال].

    الأفعال التي ذكرها ودوامها في الماضي، أو دوامها في المستقبل، أو في الماضي والمستقبل هذه من الأمور الغيبية، ومعنى دوامها في الماضي أن الله تعالى قديم، وأنه لم يزل يخلق، لم يكن في زمن معطلاً عن الخلق، ولم يكن في زمن غير موجود خلْق يدبرهم ويتصرف فيهم، وكذلك في المستقبل، أي: أنه لا يزال موجوداً، وأنه بعدما يفنى هذا الخلق يحييهم مرة ثانية ويبقى متصرفاً فيهم، يعني: يعلم أحوالهم وما يصيرون إليه، ويعذب من يشاء ويرحم من يشاء، ويعطي ويمنع وتظهر آثار أفعاله على المخلوقات، فلا شك أن هذا ونحوه من جملة ما يعتقده المسلمون.

    التوقف عن القول بتسلسل الحوادث بالماضي

    ولكن قد ذهب بعض الفلاسفة إلى أن هذا الوجود لم يسبق بعدم، وأن هذا النوع الإنساني قديم ليس له بداية وليس له أول، وأنكروا أن يكون هناك بشر اسمه آدم خلق من تراب، وأنكروا أن يكون لهذا الخلق نهاية، وأن تكون هناك الساعة التي تقوم، وأن يكون هناك النفخ في الصور وما أشبه ذلك، واعتقدوا أن هذا النوع لم يزل، وأن جنس هذا المخلوق أزلي قديم، وأنه مستمر بلا نهاية، ولا شك أن هذا فيه إنكار من وجوه:

    أولاً: إنكار للأمور الغيبية التي أخبر الله تعالى بها.

    ثانياً: إنكار للجزاء على الأعمال التي أخبر الله بأنه يجازي عليها عباده في الآخرة.

    ثالثاً: إنكار لشرع الله عز وجل وأمره ونهيه وأحكامه التي حكم بها على العباد.

    وإنكار ذلك كله يخرج من الملة، والواجب على المسلم أن يكون معتقداً لما أخبر الله به من كونه هو الحي القيوم الذي لم يزل ولا يزال، ومن كونه هو المتصف بالخلق وبالتصرف وبالتدبير لشئون العباد، ويعتقد أيضاً أنه هو المتفرد بإيجادهم وحده ولم يكن هناك من أوجدهم غيره، وكونه يعتقد أن قبلهم خلقاً غيرهم، وقبل الخلق خلقاً، وقبل الأولين أولين، فهذا من الأمور الغيبية التي لم يطلعنا الله عليها.

    ونقول: الله أعلم بمن كان قبل ذلك وبأفعاله قبل ذلك، إلا أننا نعتقد أنه موصوف بهذه الصفات وإن لم تظهر آثارها، كما ذكر في المتن أنه ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بعد وجود من يرزقهم استفاد اسم الرازق، بل اسمه الخالق قبل أن يبدأ الخلق، واسمه الرازق قبل أن يوجد الخلق الذين يرزقهم؛ لأنه خالق بالقوة قبل أن يخلق وإن لم يكن خالقاً بالفعل.

    ونتوقف عن تسلسل الحوادث في الماضي، ونقول الأمر غيب، ولم يخبرنا الله تعالى بشيء من ذلك، وليس لنا التدخل في هذه الأمور؛ لأنها من الأمور التي لا يضر جهلها ولا يفيد علمها، وقد توقع في شيء من الحيرة ومن الاضطراب، والمسلم عليه أن يقتصر على ما فيه فائدة له في العقيدة، وأن يعتقد ما ينفعه وما يكون دافعاً له إلى معرفة ربه بأسمائه وبصفاته، وإلى التقرب إلى الله تعالى بموجب تلك الأسماء.

    1.   

    الأسئلة

    أصل ديانة المجوس وأخذ الجزية منهم

    السؤال: هل ثبت أنه كان المجوس أصحاب كتاب ثم رفع عنهم، وهل ورد ذلك في السنة أو في التاريخ؟ وهل يؤخذ بهذا القول؟ ولماذا أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من مجوس هجر الجزية التي لا تؤخذ إلا من أصحاب كتاب؟

    الجواب: ورد ذلك في حديث عن علي أنه كان لهم كتاب، وأن أحد ملوكهم وجد يفجر بأمه أو ببعض محارمه، ثم إنهم لما أرادوا إقامة الحد عليه، احتج عليهم بأن آدم زوج أولاده بعضهم ببعض ذكورهم بإناثهم، وقال: نحن على شريعة آدم. فلما فعل ذلك رفع كتابهم، ولكن الحديث في ذلك عن علي لم يصح، أشار إليه الشافعي في مسنده والطيالسي كذلك، ولكن لم يثبت هذا الحديث.

    وأما كون الجزية أخذت منهم فتؤخذ منهم لكونهم دولة وأمة على شريعة أو على دين يدعون أنهم عليه أصلاً وإن لم يكن لهم كتاب سابق، ومع ذلك فقد ذهب بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية إلى جواز أخذ الجزية من كل المشركين، وأنه ليس خاصاً بأهل الكتاب، وما دام الأمر كذلك فإن المجوس من جملة المشركين الذين تؤخذ منهم كغيرهم.

    طمس الصور ومعناه

    السؤال: ما معنى الطمس الوارد في حديث علي رضي الله عنه الذي تبرأ به الذمة؟

    الجواب: قوله: (لا تدع صورة إلا طمستها) المراد به طمس الوجه؛ لأن الوجه مجمع المحاسن، فإذا جعل على وجه الصورة ما تزول به خلقتها إذا كانت -مثلاً- منقوشة كفى ذلك، فإن كانت منحوتة فإنه لا بد من قطع رأسها أو ما لا يبقى معه حياة، فإذا كانت منحوتة -مثلاً- أو مصورة لها ظل ولها جرم فلا بد من قطع رأسها حتى تكون كهيئة الشجرة، وهكذا ورد ذلك، وإذا كانت في لباس فإنه يكتفى بقطعها، فإذا قطعت إلى ألا تبقى معها حياة اكتفي بذلك.

    الرد بطريق العقل والسمع على وجود صانعين للعالم

    السؤال: كيف نرد على أهل النظر الزاعمين أن للعالم صانعين، عن طريق العقل والنقل؟

    الجواب: أما عن طريق العقل فبدلالة السماع على العلة، وهي أنه لو كان للعالم إلهان أو ربان خالقان فأراد أحدهما تحريك شيء وأرد الآخر تسكينه فإما أن يحصل مرادهما وهو ممنوع، وإما أن لا يحصل مراد واحد منهما فيستلزم عجزهما، وإما أن يحصل مراد واحد، فالذي لم يحصل مراده عاجز لا يصلح أن يكون إلهاً ولا أن يكون خالقاً، فدل على أن الخالق واحد ليس معه من يزاحمه في هذا التصرف، فهذه الدلالة العقلية.

    وأما الدلالة السمعية فالآية الكريمة: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، ونحوها من الآيات.

    حكم تخصيص القبر بالزيارة

    السؤال: هل يجوز أن يزار قبر شخص بعينه مع زيارة القبور الأخرى، وما حكم تعيين قبر بعلامة أو بإشارة من أجل معرفة صاحب هذا القبر؟

    الجواب: زيارة القبور مشروعة لسببين: تذكر الآخرة، والدعاء للموتى.

    وتجوز مثلاً كل أسبوع أو كل شهر أو نحو ذلك، أو إذا أحس بقسوة قلبه فزارهم حتى يتعظ وحتى يلين قلبه أو نحو ذلك، ويجوز أن يخص قبر أبيه أو قبر أخيه أو قريبه أو نسيبه، فيجوز أن يزور ذلك القبر ثم يسلم على القبور جميعاً، ويجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه عليه السلام لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجراً وقال: (أعرف به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي)، فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو نحو ذلك يتميز بها هذا القبر حتى يزوره ويعرفه، أما أن يكتب عليه فقد نهي أن يكتب عليه حتى ولو كتب اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعاً زائداً عن غيره، فيجوز أن يجعل عليه علامة كحديدة أو قطعة بلاط أو ما أشبه ذلك لأجل التمييز فقط.

    توضيح قوله: (بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها)

    السؤال: ذكر في كتاب العقيدة أن من أسباب الشرك عبادة الكواكب واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها، فما المقصود بقوله: (بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها)؟

    الجواب: يقولون: إن هناك من يعبد الكواكب، والذين يعبدونها يبنون هياكل، والهيكل هو الصورة التي يظنونها على صورة نجم أو نوء من الأنواء، ثم ينظرون إلى حركة ذلك النجم فيسندون إليه بعض التأثير، فيقولون: من طبيعة هذا النجم الحرارة، أو: من طبيعته البرودة، أو: من طبيعته الرطوبة، أو: من طبيعته الجفاف واليبس، أو ما أشبه ذلك، فإذا مطروا مطراً قالوا: هذا صدق نجم أو نوء كذا وكذا فيجعلون المطر من طبيعته، وإذا أصابتهم رياح قالوا: أثارها النجم الفلاني أو النوء الفلاني، وإذا ثارت سحب نسبوها إلى الأنواء.

    فالطبائع هي إما شدة البرد، أو شدة الحر أو الجفاف واليبس وقلة الأمطار ونحوها، أو كثرة الأمطار، أو هبوب الرياح، أو إثارة السحب أو ما أشبه ذلك، فيزعمون أنها هي التي تثيرها هذه الكواكب ونحوها، ونسوا أن الله تعالى هو الذي يتصرف في الكون: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]، وهو الذي سخرها كما في قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ [النحل:12]، فإذا كانت كلها مسخرات فكيف يكون لها تأثير؟! وكيف يكون لها طبائع تلائمها؟!

    إطلاق لفظ (الصانع) على الله تعالى

    السؤال: نجد أن الشارح ابن أبي العز رحمه الله يطلق كلمة الصانع على الخالق، فهل هذه تجوز في حق الله سبحانه وتعالى؟

    الجواب: هذه تجوز على وجه الصفة، فنعتقد أن الله هو الصانع بمعنى أنه المبدع الذي صنع الكون بذاته وأبدعه، فلذلك يكثر إطلاقها في الكتب، كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسير الآية التي ذكرنا، وهي قوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21]، وذكر ذلك أو أطلق ذلك شيخ الإسلام في عدة مواضع من الجزء الثاني من مجموع الفتاوى ونحو ذلك، فإطلاق الصانع معناه أنه وصف لله بأنه مبدع الكون.

    حكم الأموات قبل وصول الرسالة والأطفال يموتون قبل البلوغ

    السؤال: أناس ماتوا بعد مجيء الإسلام ولكن قبل أن تصلهم الرسالة، فهل يعاملون معاملة الكافرين يوم القيامة أم لا؟ وما هو القول الفصل فيمن مات قبل البلوغ، هل يعامل معاملة أبويه أم يدخل الجنة مباشرة؟

    الجواب: السؤال الأول يدخل فيه أهل الفترات، فهؤلاء على الصحيح أنهم يمتحنون في الآخرة، أعني أهل الفترات الذين ما بلغتهم الرسالة أو كانوا في زمنها ولكنه ما وصل إليهم خبرها وتفاصيلها، وكذلك الذين في أطراف البلاد ولم تصل إليهم تفاصيل الشريعة، يقولون: يا ربنا! ما جاءتنا الشريعة ولا علمنا بتفاصيلها فبقينا على جهل! فيمتحنون في الآخرة، ويروى أن الله يخلق أمامهم شبه نار ويقول: ادخلوها، فمن علم الله أنه سعيد دخلها وكانت عليه برداً، ومن علم الله شقاوته امتنع، فيقول الله: عصيت أمري فكيف لو جاءتك رسلي؟ أدخلوه النار.

    وتجد الأدلة على ذلك في تفسير ابن كثير عند قوله تعالى في سورة الإسراء: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، حيث أورد مثل هذه الأحاديث.

    وأما الذي مات قبل البلوغ فإن كان من أولاد المشركين فحكمه حكم أهل الفترات، وإن كان من أولاد المسلمين فإنه من أهل الجنة؛ حيث إنه نشأ بين أبوين مسلمين وفطرته فطرة الإسلام، وهو على ما عليه آباؤه وأهله، فأولاد المسلمين يكونون أفراطاً لهم ويدخلون معهم الجنة ويرفعون إلى منازل آبائهم، والأدلة على أن أفراط المؤمنين يتقدمونهم كثيرة، وعلى رفع الأولاد حتى يكونوا مساوين للآباء قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]، يعني رفعنا الأولاد إلى مرتبة الآباء تكريماً لهم.

    معنى دلالة التضمن

    السؤال: مر في كلام المصنف قول: فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الألوهية الذي يتضمن توحيد الربوبية. فهلا بينتم لنا دلالة التضمن؟

    الجواب: كون الشيء في ضمن غيره يسمى تضمناً، فنقول: إنه لا يمكن أن يعبد الله بتوحيد الإلهية إلا أن يعترف بأن الرب هو الخالق المتصرف، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية في ضمن توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية كأنه الدافع إلى توحيد الإلهية، فالتضمن معناه الاشتمال عليه وكونه في ضمنه، يعني أن الأصل في التكليف أن الله أمرنا بتوحيد الإلهية، ولكن جعل توحيد الربوبية دليلاً عليه.

    فطرة الطفل ومدى دلالتها له على الاستقامة

    السؤال: الرأي فيمن قال: إنه من ترك طفلاً في مكان ليس فيه أحد فإنه لا يستدل على الطريق السليم عن طريق فطرته؛ لأنه إذا تركته شياطين الإنس لم تتركه شياطين الجن؟

    الجواب: قد يكون هذا، ولكن إذا لم يكن عنده من يدفعه دفعاً إلى البدع وإلى الشركيات فيوقفه عليها من الإنس لم يفعلها، ولكن على كل حال فالإنسان مسلط عليه في هذه الحياة أعداء من شياطين الإنس وشياطين الجن، وعليه أن يدفع شياطين الإنس بالمكافحة والدفع وشياطين الجن بالاستعاذة، ولكن الغالب والأصل أن الذي يكون في بلدة أو في ناحية ليس عنده من يضله أنه يبقى متحيراً ولكن فطرته باقية على الاستقامة.

    قسم التوحيد الذي تدخل فيه شهادة التوحيد

    السؤال: قول (أشهد أن لا إله إلا الله) من أي أنواع التوحيد؟ وأي توحيد يعصم الدم والمال؟

    الجواب: شهادة أن لا إله إلا الله هي توحيد الإلهية الذي هو الاعتقاد، وشهادة أن محمداً رسول الله هي مكملة لها وفيها الاتباع، فهي من توحيد الإلهية أو من توحيد العبادة، أي أن النطق بالشهادة بلفظ الإلهية من تكميل توحيد العبادة.

    علم الله تعالى والنسخ في القرآن

    السؤال: كيف نرد على من يقول: بما أن الله عز وجل يعلم الأمور، فكيف يكون هناك ناسخ ومنسوخ في القرآن والله يعلم ذلك كله؟

    الجواب: الله تعالى حكيم بأمره ونهيه، فينزل الحكم لمناسبة، فإذا زالت تلك المناسبة أبدله بغيره مما يناسب في وقت آخر غير الوقت الأول، فمثلاً أمرهم باستقبال بيت المقدس تأليفاً لليهود؛ لأنه قبلة الأنبياء من بني إسرائيل، ولما ظهر عنادهم أمرهم باستقبال الكعبة؛ لأنه لم يبق في ذلك مصلحة، فهذا الاستقبال في حال مناسبة وهذا الاستقبال في حالة مناسبة، وهكذا بقية الأحوال في الناسخ والمنسوخ.

    حكم الصور في الستائر ونحوها

    السؤال: ما حكم وجود الصور من الحيوانات والأطفال وغيرها في ستائر المنزل أو ملابس الأطفال أو السجاد، علماً بأن ذلك غير مقصود؟

    الجواب: ورد الأمر بهتكه لما دخل عليه الصلاة والسلام وقد سترت عائشة فرجة أو نافذة بقرام فيه تماثيل، فغضب لذلك وأمر بهتكه فشققته وجعلته وسادتين منبوذتين، فهذا دليل على أنها إذا كانت كالمنبوذ المستعمل الذي يعطى ويمتهن ويجلس عليه فذلك أخف، بخلاف ما إذا كانت منصوبة أمام الناظر كما في الستائر التي على الأبواب أو على النوافذ فإن هذا لا يجوز، وعلى كل حال فالأولى أنها لا تترك في الثياب ولا في السراويلات ولا في الفرش ولا في اللحف، ولكن إذا وجدت ولم يستطع تغييرها في اللحف والفرش ونحو ذلك من الأشياء المستعملة فهو أخف، وأما كونها في المنصوب الذي أمام الناظر فهذا لا يجوز بحال كما في هذه الأحاديث.

    تفسير قوله تعالى: (شهد الله)

    السؤال: ما معنى قول الشارح: (وعبارات السلف في (شهد) تدور على الحكم)، فما معنى (على الحكم)؟

    الجواب: يقول: إن كثيراً من الصحابة فسروا قوله تعالى: (شهد الله) بـ(حَكم الله)، وبعضهم فسر (شهد الله) بـ(أخبر الله)، وبعضهم فسرها بـ(أعلم الله)، وبعضهم فسرها بـ(أمر الله)، فقال بعضهم: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18] أمر أن لا إله إلا هو، وقيل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18] حكم أن لا إله إلا هو، وقيل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18] أخبر أن لا إله إلا هو، فهي تدور حول هذه الأشياء.

    فبعضهم فسر بكذا، وبعضهم فسر بكذا، والمعنى أن الآية تشهد لذلك كله.

    الفرق بين الخبر والإخبار

    السؤال: ما الفرق بين مرتبة التكلم والخبر وبين مرتبة الإعلام والإخبار؟

    الجواب: التكلم معناه أن يتكلم حتى يسمعه غيره، فبعد ما يعلم بقلبه يتكلم حتى يسمعه غيره، وأما الإخبار والإعلام فمعناه أن يعلم غيره بقوله: اعلموا أن الأمر كذا وكذا، فهنا أمر زائد على التكلم، وقد يتكلم ولا يقول: اعلموا. ثم بعد ذلك يعلم غيره، وهنا تكلم للتذكر أو للحفظ، وهنا إخبار للناس وإعلام لهم.

    توضيح قوله: (فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجملة الخبرية)

    السؤال: قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجملة الخبرية)، فما معنى ذلك؟

    الجواب: إذا فسر قوله: شَهِدَ اللَّهُ [آل عمران:18] بـ(حكم الله)، وشَهِدَ اللَّهُ [آل عمران:18] بـ(قضى الله)، فإنه في هذا جملة خبرية بمعنى أخبر الله بكذا، ويلزمكم أن تقبلوا خبره.

    زيادة (ولا يرقون) في حديث التوكل وحكمها

    السؤال: قرأنا في (كتاب التوحيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب في حديث السبعين أنهم: (لا يرقون)، وقرأنا في (زاد المعاد) لـ ابن القيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم رقى أحد أصحابه وقال بعض الأدعية، فهل فعله صلى الله عليه وسلم نسخ لما ورد في الحديث، أم أنه من الأفعال الخاصة به؟

    الجواب: أنا قرأت كتاب التوحيد ولم أجد فيه هذه الكلمة، وهي كلمة (لا يرقون)، وهذا السائل إذا كان قد وجدها فيمكن أن هذه نسخة غير معتمدة، والرواية التي قرأناها في كتاب التوحيد فيها (لا يسترقون)، في قوله صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون)، وإذا كان في بعض النسخ (لا يرقون) فيمكن أنها أخذت من رواية ضعيفة؛ وذلك لأن الحديث موجود في الصحيحين في بعض رواياته: (لا يرقون ولا يسترقون)، ولكن صحح العلماء أن كلمة: (لا يرقون) خطأ من بعض الرواة، وأن الصواب ( لا يسترقون).

    فكونك ترقي غيرك وتنفع غيرك لا مضرة عليك في ذلك وقد نفعت غيرك، وأما كونك تطلب من غيرك أن يرقيك فإن ذلك دليل على ضعف التوحيد، ودليل على أنك ما وثقت بالتوكل على الله، والراقي يجوز أن يرقي غيره، ولكن يكره له أن يطلب من يرقيه.

    كيفية التقاء النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام في السماء

    السؤال: جاء في حديث الإسراء والمعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم لقي بعض الأنبياء والرسل كموسى وهارون ويوسف وإبراهيم وعيسى، فهل لقيهم حقيقة، أو أنهم مثلوا له لكونهم أمواتاً؟ وماذا عن عيسى هل هو مثلهم في هذا؟

    الجواب: لا شك أنهم مثلوا له، وأرواحهم -بلا شك- في السموات، ولكن قد ذكر في بعض الأحاديث أنهم قبروا في الأرض، وأخبر بقبر موسى، وأن موسى لما أتاه الموت سأل ربه أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره)، وتواتر أيضاً أن قبر إبراهيم الخليل عليه السلام موجود في (سيناء) أو قريباً منها، فهم مقبورون في الأرض، ولكن أرواحهم -بغير شك- في السماء، ومثلت أجسادهم له وقيل: هذا فلان وهذا فلان.

    وأما عيسى فقد ذكر الله أنه رفعه ولم يذكر أنه دفن في الأرض، فلعل جسده في السماء، ولا يحسب ذلك من عمره، حيث ذكر في الأحاديث أنه سينزل حتى يتمم بقية عمره.

    أطفال المسلمين وحكمهم في الآخرة

    السؤال: ما الرأي في حديث عائشة رضي الله عنها عندما مات أحد أطفال جيرانها فقالت: هنيئاً لكم من طيور الجنة، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنه من أهلها؟)، فهل فيه تناقض مع ما قلته من أن أطفال المسلمين يدخلون الجنة؟

    الجواب: الحديث فيه أنه عليه الصلاة والسلام دعي للصلاة على طفل فقالت: (طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريك! إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم) إلى آخره. فهو عليه الصلاة والسلام ينهى أن يجزم أحد لأحد بجنة أو نار، ويقول: إن العلم عند الله تعالى، فالله هو الذي يعلم مقادير الخلائق، وهو الذي يقدر آجالهم وهو الذي يعلم ما خلق له هذا، وماذا يكون عليه.

    واعتقادنا أن أولاد المسلمين مع آبائهم لأنهم تبع لهم، ولكن حكمنا على الآباء هو الذي نتوقف فيه، فالله أعلم ماذا عليه الآباء، وعلى كل حال فلا ينافي هذا الحكم بأن أولاد المؤمنين مع آبائهم وأنهم الذين يجتذبونهم، كما ورد في كثير من الأحاديث أن أباه ينتظره أو أنه ينتظر أباه وأن الأطفال يرجحون ميزان آبائهم ونحو ذلك.

    الحلف والاستغاثة بغير الله تعالى

    السؤال: إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي ويصوم، ولكنه يحلف بغير الله، وقد يستغيث بغير الله إما بالشيوخ أو الأولياء والأنبياء، أينقض ذلك التوحيد ويدخله في الشرك الأكبر؟

    الجواب: الحلف بغير الله من أنواع الشرك ولكنه من الشرك الأصغر، ويرجع إلى نية الحالف، فإذا كان يعتقد أن ذلك المحلوف يستحق التعظيم الذي يبجل به حتى يعظم ويحلف به كما يحلف بالله فهذا أكبر، وإذا كان له نوع تعظيم فهو من الأصغر.

    أما الاستغاثة بغير الله فمعلوم أنها من الأكبر؛ وذلك لأن الاستغاثة دعاء من مكروب، فالدعاء من الإنسان إذا وقع في كرب وفي شدة يسمى استغاثة، والإنسان عندما يصيبه الكرب يلجأ إلى الرب تعالى، والمشركون إذا أصابهم الكرب في البحر لجئوا إليه، قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:67]، فإذا كان المشركون في لجة البحر لا يذكرون إلا ربهم، فالذي يذكر غير الله ويستغيث بغير الله في حالة الشدائد أكبر شركاً من المشركين الأولين الذين نزل فيهم القرآن والذين كفرهم الله تعالى وقاتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، فيسأل هذا المستغيث هل هو يقول: يا ولي الله! أغثني فأنا في ذمتك، ولا حول لي إلا أنت، ولا أحد ينجيني إلا أنت، وأنا معتمد عليك، يا ولي الله! أنجني مما أنا فيه، فمن الذي ينجيني؟

    وإذا كان في البحر وتلاطمت به الأمواج أخذ يقول كقول الرافضة: يا علي أو: يا حسين نجنا! من الكرب. أو ما أشبه ذلك، أو يقول: يا عبد القادر يا جيلاني ، أو: يا بدوي ، أو ما أشبه ذلك، فلا شك أن هذا شرك أكبر، فهذا معنى الاستغاثة، فإذا كان هذا المسئول عنه يفعل مثل هذا فهو من الشرك الأكبر.

    تفسير النظر والقصد بالنظر والشك

    السؤال: أرجو شرح هذه العبارة شرحاً وافياً، وهي قول المؤلف: (ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك)، فما المقصود بالنظر، والقصد إلى النظر، والشك؟

    الجواب: هذه تقدمت في أول الكتاب، وذكرنا أن أول واجب العمل، ولكن العمل مسبوق بالعلم، فالعلم هو الشهادة بيقين ومعرفة، فأول واجب على الإنسان أن يعلم ثم يعمل، وذهبت الصوفية وبعض المتكلمين إلى أن أول واجب عليه النظر، والنظر أن يبدأ بالنظر فيما بين يديه وفيما خلفه من المخلوقات، أن ينظر بنفسه وينظر في الذي بين يديه من السماء والأرض ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يظهر بنتيجة من هذا النظر، وهذا قول باطل، بل أول واجب العلم مع العمل.

    وذهب بعضهم إلى أن أول واجب القصد إلى النظر، والقصد بمعنى نية النظر، أي: أن ينوي أن ينظر وينوي أنه سوف ينظر في هذه المخلوقات وفي دلالتها، وهذا أيضاً باطل، فالقصد يعني نية النظر، وليس بواجب، بل الواجب القبول والتقبل والعمل.

    وذهب آخرون إلى أن أول واجب الشك، فإذا عقل وكلف وتم عقله يشك، ثم بعد ذلك يتحير في أمره، ثم بعد ذلك يطلب ما يزيل به ذلك الشك، فيقول: أنا أشك وأنا في حيرة من أمري، ولكن بأي وسيلة أدفع هذا الشك؟ فيسأل وينظر ويستدل إلى أن يتبدل الشك باليقين، وهذه مقامات ومقالات صوفية لا يلتفت إليها، بل أول واجب هو ما ذكره من العلم والعمل.

    معنى الآيات الأفقية والنفسية ومعنى اسم الله (المؤمن)

    السؤال: نريد منكم توضيح هذه العبارة، (استدلاله بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته)، وكذا في تفسير اسم الله (المؤمن) أنه: (المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم)؟

    الجواب: معلوم أن الاستدلال بالآيات مما يثبت الدليل، والله تعالى قد نصب الآيات ليستدل بها العباد على معرفة ربهم، والآيات هنا يراد بها الآيات الكونية والآيات النفسية.

    فالآيات الكونية هي المخلوقات التي في الكون، يقول الله تعالى: انظروا في هذه الآيات لتعتبروا، انظروا في خلق السماء وارتفاعها، وانظروا في تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، وانظروا في هذه الأرض وما فيها من النبات وما فيها من الحيوانات، وانظروا في هذه البحار وما احتوت عليه، وما أشبه ذلك. فالنظر يعني الاعتبار ليكون دليلاً إلى اليقين فيقوي الإيمان.

    كذلك الآيات النفسية، الله تعالى يقول: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] يعني: في أنفسكم آيات. فإن الإنسان لو فكر في نفسه لزالت عنه الشكوك والتوهمات؛ فإن نفس الإنسان فيها أعظم عبرة وأعظم آية على أنه مخلوق مكون، فإذا فكر في أول أمره كيف كان نطفة ثم تقلبت به الأحوال إلى أن أصبح رجلاً سوياً، ثم ينظر إلى أن حواسه كاملة وحاجاته كاملة؛ فإن ذلك -بلا شك- مما يلفت نظره ويوضح له أمره أنه مخلوق وأن له خالقاً، قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35].

    وأما الاستدلال بأنه سبحانه من أسمائه (المؤمن) الذي يصدق عباده، فهذا التصديق يكون في يوم القيامة أو في الدنيا، فيصدق عباده الرسل بما يقيم على أيديهم من الآيات والمعجزات، ويصدق عباده المؤمنين في الآخرة بأن يثيبهم ويظهر بذلك صدقهم ونصحهم لأممهم.

    معنى الخواص

    السؤال: يقول الشارح: [والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله]، فمن هم الخواص؟

    الجواب: هم العارفون بالله وبآياته، وهم الذين رزقهم الله معرفة ثاقبة يستدلون بآيات الله على قدرته، ويستدلون بأفعاله على كماله، فينظرون في هذه المخلوقات ويأخذون منها القدرة على أنه سبحانه متصف بأتم الصفات، وبأن له الصفات العلى وله الأسماء الحسنى.

    حديث افتراق الأمة

    السؤال: في حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، هل هذه الفرق تعد من المسلمين أو خارجة عن الإسلام؟

    الجواب: ظاهر الحديث أنهم ليسوا من المسلمين، وأنهم فرق خارجة عن الإسلام، ولو حسبنا بعضهم بأنهم مسلمون؛ لأنه قال: (كلها في النار إلا واحدة)، فدل على أن تلك الفرق ضالة مخطئة، وأن الفرقة الناجية واحدة، ولكن مع ذلك فإن في تلك الفرق من هو معذور، وهذا إذا جعلنا الفرق متفرعة عن أمة الدعوة.

    وأما إذا جعلناها فرقاً لأمة الإجابة فإن الجميع يصيرون من المسلمين وتحت مشيئة الله تعالى ويكون هذا من أحاديث الوعيد.

    أيهما أضر بالإسلام الجهمية أم الرافضة؟

    السؤال: أيهما أشد على الإسلام الجهمية أم الرافضة؟

    الجواب: لكل من الجهمية والرافضة ميزة تتميز بها عن الأخرى:

    فالجهمية ميزتها التي وقعت فيها أن الجهم بن صفوان ابتدع ثلاث بدع: بدعة التعطيل، وبدعة الجبر، وبدعة الإرجاء، فهو يقول بأن العباد مجبرون على الأفعال، وهو يقول بالإرجاء، فيغلب جانب الرجاء، وهو مع ذلك ينفي الصفات، فكانت الجهمية قد جمعت هذه البدع الثلاث، ولا شك أن هذا أشد كفراً من كفر الرافضة، ولكن من قرأ كتب الرافضة وجد أغلبهم جهمية، فيكونون قد جمعوا بين البدعتين، فأخذوا بدعة الجهمية وزادوا عليها بسب الصحابة وبتكفير الخلفاء الراشدين وبتضليل الصحابة وتخطئتهم، وزادوا أيضاً -أو زاد متأخروهم- بعبادة أهل البيت ودعائهم مع الله تعالى زيادة على الغلو، فالذين يجمعون هذا مع هذا لا شك أنهم أشد كفراً، أخذوا بدعة الجهمية وزادوا عليها هذه البدعة.

    الاتفاق بين الخالق والمخلوق في الاسم والصفة ودلالته

    السؤال: إذا اتفق اسم أو صفة للخالق مع المخلوق فهل نقول: إن الاتفاق في المسمى، والاختلاف في المعنى والمدلول؟

    الجواب: متفقان في الاسم ومتفقان في المعنى العام، ومختلفان في الكيفية والمدلول، فإذا قلنا مثلاً: إن الله يسمع وإن المخلوق يسمع فالسمع هو إدراك الأقوال، وهذا فيه اتفاق، وإذا قلنا: إن الله تعالى له سمع وللمخلوق سمع فمعلوم أن سمع الله ليس كسمع المخلوق بل بينهما تفاوت، فهما متفقان في الاسم، ومتفقان في المعنى العام، وأما الكيفية والصفة فإن بينهما تفاوتاً.

    الإجمال في التشبيه

    السؤال: ما معنى قول المؤلف رحمه الله: (ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح)؟

    الجواب: يعني كلمة (التشبيه)، فأهل السنة يريدون بها المعنى الصحيح، والمعتزلة يريدون بها نفي الصفات، فأهل السنة يريدون بكلمة (ليس لله شبيه) أن ننفي عن الله التشبيه، وصحيح قصدهم، فيقولون: إن الله لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ولا تشبهه المخلوقات، وهذا معنىً صحيح، وتارة يراد به المعنى الباطل وهو نفي الصفات؛ فإن المعتزلة يقولون: ليس لله سمع، فمن أثبته فهو مشبه، وليس لله علم، فمن أثبته فهو مشبه، فإثبات السمع عندهم تشبيه، وإثبات القدرة عندهم تشبيه، وإثبات الحياة تشبيه، وإثبات الكلام تشبيه، فصار لفظ التشبيه لفظاً مجملاً، فتارة يراد به المعنى الصحيح، وتارة يراد به المعنى الباطل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755962120