إسلام ويب

انتبه فالموت قادم!للشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر هاذم اللذات (الموت)؛ لأن ذلك يحمل على التوبة والاستعداد للقاء الله، والموت ما ذكر في قليل إلا كثره، ولا في كثير إلا قلله، فطوبى لمن استعد له.

    1.   

    الموت حق

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي ينادي يوم القيامة بعد فناء خلقه ويقول: (أنا الملك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز، ثم يقول جل وعلا: لمن الملك اليوم؟ ويجيب على ذاته سبحانه ويقول: لله الواحد القهار)، سبحانه.. سبحانه.. سبحانه، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان من كتب الفناء على جميع خلقه وهو الحي الباقي الذي لا يموت. وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، شرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وفضله على جميع خلقه، وزكاه في كل شيء، وبعد كل هذا خاطبه بقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]. فاللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحباب وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً منزلاً من الجنة، وأسأل الله جل وعلا أن ينظر وجوهكم، وأن يزكي نفوسكم، وأن يشرح صدوركم، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله! إننا الليلة على موعد مع هذا الموضوع الذي أتألم منه كثيراً؛ لأن دعاتنا وشيوخنا لا يذكرون الناس به إلا في المناسبات فقط، مع أننا في أمس الحاجة إلى أن نذكره وإلى أن نتذكره دائماً وأبداً، امتثالاً عملياً لوصية حبيبنا ورسولنا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما في الحديث الذي رواه بعض أصحاب السنن -وهو حديث حسن- من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات. قيل: وما هادم اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت)، فانتبه أيها المسلم، فإن الموت قادم، فإننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وانشغل فيه كثير من الناس عن لقاء رب الأرض والسماوات، انتبه فلابد من أن تستقر هذه الحقيقة الكبرى في قلبك وعقلك ووجدانك. إن الحياة في هذه الأرض موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً فيموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد، يموت المخلصون الصادقون الذي يأبون الضيم ويكرهون الذل، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت أصحاب الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت الفارغون التافهون الذين لا يعيشون إلا من أجل المتاع الرخيص، الكل يموت، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]. ولذا سمى الله هذه الحقيقة في القرآن بالحق، فقال جل وعلا: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:19-22]. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19]، والحق أنك تموت والله حي لا يموت. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19]، والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19]، والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. أي: ذلك ما كنت منه تهرب، وذلك ما كنت منه تجري، وذلك ما كنت منه تخاف، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض خوفاً من الموت، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع هرباً من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ رعباً من الموت. أيها القوي الفتي! يا أيها الذكي! يا أيها العبقري! يا أيها الكبير! يا أيها الوزير! يا أيها الأمير! يا أيها الصغير: كل باك سيُبكى وكل ناع سيُنعى وكل مدخور سيفنى وكل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعب الذنب بالذنب وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم

    1.   

    كلا إذا بلغت التراقي

    صدق الله جل وعلا إذا يقول: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:26-30]. كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26]، أي: إذا بلغت الروح الحلقوم، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27]، أي: من الذي يرقيه؟ من الذي يبذل له الرقية؟ من الذي يقدم له العلاج؟ من الذي يحول بينه وبين الموت؟ انظر إليه وهو صاحب الجاه، صاحب السلطان، صاحب الأموال، صاحب السيارات، صاحب العمارات، صاحب الوزارات. انظر إليه وهو على فراش الموت، التف الأطباء من حوله، ذاك يبذل له الرقية، وذاك يقدم له العلاج، يريدون شيئاً وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر. انظر إليه -أيها الحبيب- وقد اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أمام اليدين والقدمين، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بـ(لا إله إلا الله)، إلا لمن عاش على الإيمان ومات على الإيمان كما قال ربنا جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32]. ينظر إلى أهله وإلى أحبابه، فيراهم مرة يبتعدون ومرة يقتربون، ويرى الغرفة التي هو فيها مرة تضيق عليه فتصغر كخرم إبرة، ومرة يراها كالفضاء الموحش، فإذا وعى ما حوله في الصحوات بين السكرات والكربات نظر إليهم نظرة استعطاف، ونظرة رجاء ونظرة أمل، ونظرة تمن، وقال لهم بلسان الحال -بل وبلسان المقال-: يا أحبابي! يا أولادي! يا أبنائي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أنا أبوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت لكم القصور، أنا الذي عمرت لكم الدور، أنا الذي نميت التجارة، أنا صاحب الجاه، أنا صاحب الوزارة، أنا صاحب السلطان، أنا صاحب الأموال، أنا صاحب الكراسي، لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، افدوني بأعمالكم، من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا يعلو صوت الحق، كما قال الحق جل وعلا: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ* وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:83-96]. سبحانك يا من ذللت بالموت رقاب الجبابرة، سبحانك يا من أنهيت بالموت آمال القياصرة، سبحانك يا من نقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنساء والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب. كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27]، أي: من الذي يرقيه؟ من الذي يبذل له الرقية؟ من الذي يقدم له العلاج؟ من الذي يحول بينه وبين الموت؟ وقيل: إن معنى (مَنْ رَاقٍ) أي: من الذي سيرقى بروحه إلى الملك جل وعلا؟ وهذا معنى آخر، فمن الذي سيرتقي بهذه الروح من الملائكة؟ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:27-29] أهذا هو الذي سيخرج به وهو هذه الأكفان وهذا القماش؟ أين ماله؟ أين جاهه؟ أين كرسيه؟ أين سلطانه؟ أين دولاراته؟ أين أولاده؟ أين طائراته؟ أين دباباته؟ أين وزارته؟ أين الجاه؟ أهذا هو الذي سيخرج به؟

    1.   

    حقيقة الدنيا

    النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن لا والله، في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: ماله، وأهله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد) يرجع الأهل، ويقسم المال على الورثة، ولا يبقى لك إلا عملك، وينادى عليك بلسان الحال: رجعوا وتركوك يا مسكين، يا من شغلك مالك عن حقوق الله جل وعلا، يا من شغلتك تجارتك عن السجود بين يدي الله جل وعلا، يا من سمعت المؤذن يقول لك: (حي على الصلاة) وأنت في بيتك، وفي تجارتك، وفي حقلك، وفي وزارتك، وفي مكتبك ما تحرك فيك ساكن، وما قمت لله جل وعلا لتضع الأنف والجبين في التراب ذلاً لخالقك. يقال لك بلسان الحال: رجعوا وتركوك، وفي التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي الذي لا يموت، انتهى كل شيء. فكم من ليلة يفرح الناس بها، يسهرون ويمرحون ويضحكون، وفي الصباح الباكر يبكون، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم:42-44]. يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]، نام هارون الرشيد على فراش الموت فقال لإخوانه من حوله: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه. فحملوا هارون إلى قبره، ونظر هارون إلى القبر وبكى، ثم التفت إلى الناس من حوله وقال: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29]، ثم رفع رأسه إلى السماء وبكى وقال: يا من لا يزول ملكه أرحم من قد زال ملكه. ولقي الفضيل بن عياض رجلاً فقال له الفضيل : كم عمرك؟ قال الرجل: ستون سنة. قال الفضيل : إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، يوشك أن تصل! فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال الفضيل : يا أخي! هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع. فقال الفضيل : يا أخي! إن من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً. فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل : يسيرة. قال: ما هي -يرحمك الله-؟ قال: أن تتقي الله فيما بقى يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي. سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني كأنني بين تلك الأهل منطرحٌ على الفراش وأيديهم تقلبني كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي عليَّ وينعاني ويندبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا وهن وقام من كان أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الما ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وودعوني جميع الأهل وانصرفوا وقدموا واحداً منهم يلحدني فكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه التراب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عسى تجزين بعد الموت بالحسن وامنن عليَّ بعفو منك يا أملي فإنك أنت الرحمن ذو المنن هذه حياتك يا ابن آدم، هذه قصتك، من أنت؟ يا ابن التراب وما دون التراب غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب علام الكبر؟ وعلام الغرور؟ أنسيت أصلك؟ أنسيت ضعفك؟ أنسيت فقرك؟ أنسيت عجزك؟ أنسيت أنك من التراب خلقت وإلى التراب تصير؟ فلماذا تحارب دين الله؟ ولم تحارب سنة الحبيب رسول الله؟ ولم تصد عن سبيل الله؟ تذكر أن الكرسي لو دام لغيرك ما وصل إليك، إن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال فلابد من دخول القبر. وانتبه واعلم أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم. قال لقمان لولده: أي بني! إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها. كم ستعيش أيها المسئول؟ يا من حملك الله أمانة الحكم، وأمانة الإعلام، وأمانة الوزارة، وأمانة التربية، وأمانة التوحيد، وأمانة الأبوة.

    1.   

    الموت قادم

    أيها المسلم! أيتها المسلمة! فلنتذكر جميعاً هذه الحقيقة، وهي أن الموت قادم، إنها الحقيقة الكبرى التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع وعقل كل مفكر، أنه لا بقاء إلا للحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين وعناد الملحدين وطغيان الطغاة المتألهين، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]. انتبه فإن الموت قادم! حقيقة لابد أن تستقر في النفس، إذا تذكرها الحاكم عدل، إذا تذكرها المسئول اتقى الله في رعيته، إذا تذكرها رجل أمني اتقى الله في الناس، إذا تذكرها الأب اتقى الله في أولاده وزوجته، إذا تذكرتها الأم اتقت الله في زوجها وأولادها، إذا تذكرها كل مسلم عرف أن الموت قادم، وأنه في الغد القريب سيترك ماله، وسيترك كرسيه، وسيترك جاهه، وسيترك منصبه ليرى نفسه واقفاً بشحمه ولحمه بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض ليكلمه ربه، نعم سيكلمك الحق جل وعلا، وسيكلمك الملك. قال تعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا * كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا * وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ [طه:98-108]. وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكمله ربه يوم القيامة)، فانتبه يا مسكين، إنك لو وقفت أمام قاض من قضاة الدنيا ربما ارتعدت فرائصك واضطربت جوارحك واصفر لونك وشحب وجهك، فهل فكرت في موقف ستعرض فيه بين يدي ملك الملوك جل وعلا؟ اذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة وتلقى الرب غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا يقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه -عن يمينه- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -أي: عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). فانتبه أيها الحبيب، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق:19-20]، من النافخ؟ إسرافيل. بأمر من؟ بأمر الملك. لماذا؟ ينفخ النفخة الأولى للفزع، قال تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [النمل:87]، ويأمره الله بعد نفخة الفزع أن ينفخ نفخة الصعق، أي: نفخة الموت، كما قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [الزمر:68] أي: فمات ثم يأمره الثالثة: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]. يخرج الناس من القبور حفاة عراة غرلاً، الرجال والنساء؛ نعم. الرجل مع المرأة، المرأة أمامه عارية وهو أمامها عار لا ينظر إليها ولا تنظر إليه. ما هذا الذي وقع؟ وما هذا الذي حدث؟ قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2]. فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:33-36]، لماذا؟ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37]. مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير وإذا البحار تفجرت نيرانها فرأيتها مثل الجحيم تفور وإذا الصحائف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق:20]، إنه يوم القيامة، إنه يوم الحسرة والندامة، إنه يوم الحاقة، إنه يوم الآزفة، إنه يوم الزلزلة، إنه يوم الوعيد، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]. انتبه -أيها الحبيب- فإن هذا اليوم قادم، والله لو أن الأمر توقف عند الموت بدون بعث وبدون حساب لكان الأمر سهلاً وهيناً وميسوراً، ولكن بعد الموت بعث، وبعد البعث حشر، وبعد الحشر صحف، وبعد الصحف ميزان، وبعد الميزان جنة ونيران.

    1.   

    شدة الموقف بين يدي الله

    إن الأمر جد خطير، ستقف بين يدي الله جل وعلا ليكلمك وتكلمه، إن كنت من أهل التوحيد ومن أهل الإيمان ومن أهل الاستقامة قربك الله جل وعلا منه سبحانه، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر ، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة) أي: أن ربنا يقرب المؤمن (حتى يضع رب العزة عليه كنفه) والكنف لغة: الستر والرحمة، لا تأويلاً للصفة (ثم يقرره الله بذنوبه) يعني: أن ربنا يقرر العبد ويقول له: أنت عملت كذا يوم كذا. وعملت كذا يوم كذا، في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى، ويقول له: أنت عملت الذنب الفلاني في اليوم الفلاني في المكان الفلاني، قال: (فيقول المؤمن: ربي أعرف. فيقول الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم ويعطى كتابه بيمينه)، فيشرق وجهه، وينبسط النور من وجهه وعلى يمينه ومن بين يديه، كما قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8]، فهؤلاء هم أهل الأنوار، اللهم اجعلنا منهم! يأخذ كتابه بيمينه فيستثير وجهه، وتشرق أعضاؤه، والله جل وعلا يقول له: انطلق وأخبر أحبابك الذين هم على شاكلتك بما رأيت من الجنان والنعيم، وبشر أحبابك وأصحابك فينطلق إلى أرض المحشر ووجهه منير، النور من وجهه وعن يمينه ومن أعضائه، ينطلق إلى أحبابه وإخوانه، إلى أهل التوحيد، إلى أهل الإيمان، إلى أهل الأنوار، وهو يقول لهم: اقرءوا هذا الكتاب، هذا كتابي. أعطانيه الله بيميني، فيا فرحتي ويا سعادتي. سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، وفاز فوزاً لن يخيب ولن يخسر بعده أبداً، يقول لهم: اقرءوا، فهذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذه زكاتي، وهذا حجي، وهذا بري، وهذه صدقتي، وهذه دعوتي، وهذا إخلاصي، وهذا إنفاقي، وهذا بذلي، وهذا عطائي، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24]. أما إن كانت الأخرى -عياذاً بالله، وحفظنا الله وإياكم من ذلك، وختم لنا ولكم بخاتمة الموحدين- فيقف بين يدي الله بمنتهى الخزي والذل والعار، منكساً رأسه، كما قال تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:50]، يقف بمنتهى الخزي، أين رأسك الذي رفعته في عنان السماء على الموحدين؟ أين أنفك الذي شمخت به في عنان السماء على المحرومين؟ أين مكانتك؟ أين غرورك؟ أين كبرك؟ إنّه في موقف الخزي والذل والعار، قال تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:16-17]، يعطيه الله كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ويسود وجهه، ويكسى من سرابيل القطران، ويقال له: انطلق إلى أمك الهاوية، إلى جهنم -والعياذ بالله- وأخبر من هم على شاكلتك بهذا المصير. فينطلق وقد اسود وجهه، وكسي من سرابيل القطران في أرض المحشر، وهو يبكي ويصرخ ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:25-37]، أسأل الله أن يختم لي ولكم بالتوحيد. أيها الحبيب الكريم! يقول تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق:20-22]، شغلك مالك، شغلك جاهك، شغلتك تجارتك، شغلتك وزارتك، شغلك مكتبك، شغلك كرسيك، شغلتك زوجتك، شغلك ولدك، شغلتك بنتك.

    1.   

    آثار حب الدنيا وكراهية الموت

    أيها الحبيب الكريم! إننا لا نريد أن نقنط أحداً أو أن نيئسه، وإنما نرى الأمة الآن قد حق عليها وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى، كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان : (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا. أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كثغاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). من هنا ننطلق لنذكر الأمة بهذا الداء العضال الذي تمكن منها فذلت وأهينت من قبل إخوان القردة والخنازير الذين كتب الله عليهم الذل والذلة، أحبت الأمة الدنيا وكرهت الأمة الموت، ما عملت للموت وما استعدت للقاء الله. أقول عن نفسي: والله لو قيل لي: إنك الآن ستلقى الله جل وعلا وسيأتيك ملك الموت، لبكيت دماً بدل الدمع على حالي، ما الذي قدمت؟ وما الذي فعلت لألقى به الله جل وعلا؟ وماذا سأجيب على ربي إذا سألني؟ فهل فكرت -أيها الحبيب- في هذا السؤال؟ هل فكرت في عرضك على الكبير المتعال؟ هل يسعدك الآن أن تلقى الله عز وجل على ما أنت فيه من تقصير ؟ هل يسعدك الآن أن تلقى الله على ما أنت فيه من تفريط وتضييع؟ أيها اللاهي! أيها الساهي! يا من غرتك المعاصي وشغلك الشيطان! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب

    1.   

    التوبة إلى الله

    أيها الحبيب الكريم! انتبه. فإن الموت قادم، وكما رَهَّبْنا وجب علينا أن نُرَغِّبَ، وكما خوفنا يجب علينا أن نُرَجِّي. أيها الحبيب الكريم! أقبل على الله، وتب إلى الله، ولا تقنط ولا تيأس مهما بلغت ذنوبك، ومهما كثرت معاصيك وفرطت وضيعت وخالفت، فجدد التوبة، وجدد الأوبة، وجدد العودة، وعاهد ربك على أن تتوب إليه توبة نصوحاً. يا من ضيعت الصلاة! عد إلى الله وحافظ على الصلاة في جماعة، يا من ضيعت الزكاة! أد حق الله، يا من عصيت والدك! يا من عصيت أمك! يا من فرطت في حق الله! يا من آذيت إخوانك! يا من حاربت الله ورسوله! يا من صددت عن سبيل الله! يا من كتبت تقريراً لم تتق الله فيه في أخ من إخوانك فخربت بيته وأبكيت أعين أولاده! عد إلى الله، وتب إلى الله، واتق الله، واعلم أن الله جل وعلا غفور كريم تواب رحيم. لنتب إلى الله جميعاً أيها المؤمنون، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. أيها الحبيب الكريم! ورد في الحديث الذي رواه مسلم والترمذي من حديث أنس ، واللفظ للترمذي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض -أي: بملء الأرض خطايا- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). تب إلى الله وعد إلى الله أيها الحبيب، ولا تيأس ولا تقنط، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70]. فهيا أيها الشاب! عد إلى الله جل وعلا، وتب إلى الله سبحانه وتعالى، واعلم أن الله سيفرح بتوبتك وسيفرح بأوبتك، وهو الغني عن العالمين، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، واعلم أن الدنيا إلى زوال، وأن الحياة الباقية في جنة عدن عند الكبير المتعال، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55]، (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة)، والجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أيها الحبيب الكريم! ورد في سنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان -وفي إسناده سليمان بن موسى مختلف فيه، وبقية رجال الإسناد ثقات- من حديث أسامة بن زيد أنه صلى الله عليه وسلم وصف الجنة يوماً لأصحابه فقال: (هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة وزوجة حسناء جميلة ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا هل مشمر للجنة؟ قالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله. فقال لهم: قولوا: إن شاء الله عز وجل). وأختم بهذه الأبيات، يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها وكم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها إن المكارم أخلاق مطهرة الدين أولها والعقل ثانيها والعلم ثالثها والحلم رابعها والجود خامسها والعرف سادسها لا تركنن إلى الدنيا وزينتها فالموت لاشك يفنينا ويفنيها وأعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن مصفى ومن عسل والخمر يجري رحيقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها من يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها واعلم أن نعيم الجنة الحقيقي ليس في لبنها، ولا في خمرها، ولا في ذهبها، ولا في قصورها، ولا في حورها، ولا في حريرها، ولكن نعيم الجنة الحقيقي في رؤية وجه ربنا، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]. أسأل الله جل وعلا أن يمتعني وإياكم بالنظر إلى وجهه الكريم، اللهم اغفر لنا، وتقبل منا، وتب علينا، وارحمنا؛ إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755818801