إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [115]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نعم الله تعالى كثيرة، والواجب تجاه النعم هو الشكر، ومن نعم الله تعالى التي يجب شكرها: نعمة الولد، وشكرها هو القيام بأمر الله تجاهها، ومن ذلك تسمية الولد تسمية لا تعارض الشرع، فلا يجوز أن يعبّد لغير الله أبداً، لأن ذلك كفران لنعمة الله تعالى.

    1.   

    باب قول الله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما ..)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب قول الله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190] ].

    هذا الباب قريب من معنى الباب الذي قبله؛ لأن المقصود به أن شكر الرب جل وعلا على النعم الظاهرة أمر واجب، وإذا صرف الإنسان النعمة في غير طاعة المنعم فإن هذا يكون إما قدحاً في التوحيد وتنقيصاً له، أو إذهاباً بكماله، إما أن يكون من الشرك الأكبر أو يكون من الشرك الأصغر الذي يقدح في توحيد الإنسان، وفي درجته عند الله، وفي عمله، ولا يخلو منه الناس اليوم وقبل اليوم ودائماً.

    نعمة الولد

    وقوله: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) الصالح إما أن يكون صالحاً في البدن وهو الظاهر، أي: ليس فيه عيوب، وليس مشوهاً، وإنما هو مخلوق من بني آدم سوي كامل الخلقة، وسيأتي أن المؤلف استنتج من هذا أن البنت إذا ولدت لإنسان فإنها من نعم الله، ويجب أن يشكر الله عليها؛ لأنها لم تكن مولوداً مشوهاً أو ذاهب العقل أو ذاهب بعض القوى، أو غير كاملة الخلقة، بل هي نعمة من النعم التي يجب أن يشكر الله عليها.

    والناس اليوم أقسام في هذا، فمنهم من يعمل أعمالاً منذ أن يعرف أن الزوجة حملت، فيتردد بها على المستشفيات، ويحدث في هذا أموراً غير مشروعة: من كشف العورات، ومباشرة الطبيب للمرأة من غير حاجة، ثم في النهاية إذا ولد المولود يقول: نحن قمنا بالأسباب حتى جاء المولود في الوقت المناسب وعلى الوضع المناسب، وهذا نوع من كفر النعمة، فالطبيب وغيره ليس لهم دخل في هذا، فإن هذا كله من الله.

    وقسم أعظم من هذا، ويوجد في بعض المجتمعات الإسلامية وللأسف، فإذا كانت المرأة عاقراً لا يولد لها تذهب إلى قبر من القبور التي يقال عنها: قبور أولياء، ثم تستنجد به وتقول: أريد ولداً، وربما تحمل بتقدير الله جل وعلا وإرادته، فينسبون ذلك إلى هذا الولي، وأنه بواسطة الولي الذي استغاثوا به وطلبوا منه، فهذا من الشرك الأكبر الذي ينافي التوحيد، نسأل الله العافية.

    وقسم آخر أقل من هذا، ولكن المقصود أنه إذا ولد للإنسان مولود سواء كان ذكراً أو أنثى، وكان تام الخلقة، صالحاً في بدنه، ليس فيه تغيير في خلقته، فإن هذه نعمة كبيرة يجب على الوالدين أن يشكراها.

    وقعت قضية في بعض المستشفيات حديثاً، وفيها عبرة للإنسان الذي يعتبر.. كان رجل من الناس رزقه الله عدداً من البنات، ثلاثاً أو أقل أو أكثر، وفي الحمل الأخير قال لزوجته: إن أتيت ببنت فأنت طالق! فالمرأة الضعيفة المسكينة ذهبت إلى المستشفى فوضعت، وإذا بالمولود بنت، فصارت تبكي، فسألوها: ما السبب؟ فأخبرتهم، وكان هناك طبيب عاقل، فقال للموظفين: إذا أتى الزوج فأرسلوه إلي قبل أن يرى زوجته أو يرى بنته، فجاء إليه، وكان يوجد في المستشفى مولود ذكر مشوه في خلقه، فأخذه وذهب به إليه وقال: أنت القائل كذا لزوجتك؟ فإن الله قد عاقبك، فتعال وانظر، فذهب به إلى المولود المشوه، فلما رآه صار يبكي كثيراً، فقال الطبيب: هذا عقابك على ما قلت، فقال: لن أعود لمثل هذا، ثم قال له: أما الآن فليس هذا ولدك، ولدك هي بنت صالحة، واحمد الله واستغفر مما وقعت فيه، فصارت موعظة له.

    فالمقصود: أن الولد إذا كان صالحاً في بدنه سواء كان ذكراً أو أنثى نعمة كبرى يجب على الأب أن يشكر ربه عليها، وقد كان يمكن أن يكون رأسه رأس كلب، أو يكون له رأسان، أو لا يكون له رأس أصلاً، أو لا يكون له رجل، والحوادث كثيرة في هذا، والإنسان يجب أن يعتبر؛ ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذا بشرت بمولود لأقربائها سألت عنه: هل هو صالح؟ هل هو كامل الخلقة ليس فيه عيوب؟ ولا تسأل: هل هو ذكر أم أنثى؟ فإذا قيل لها: نعم، قالت: الحمد لله، أي: الحمد لله على هذه النعمة الكبرى.

    تفسير قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً)

    قوله جل وعلا: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) آتاهما مثنى، وفي هذه الآية قولان للمفسرين:

    أحدهما: وهو مشهور جداً، وهو أكثر ما يذكره المفسرون، وبعض المفسرين لا يذكره إلا هو، وهو: أن الخطاب يعود إلى أبوي البشر آدم وحواء، وأن المقصود بذلك آدم وحواء، وذكروا حديثاً رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آدم عليه السلام وزوجه كان يولد لهما مواليد فيسميانهم بعبد الله وعبد الرحمن وعبد الأحد - يعني: يعبدونهم لله جل وعلا- وكانوا يموتون، فأتاهم الشيطان فقال: سمياه عبد الحارث وإلا سأجعل في رأسه قرني أيل -والأيل معروف وهو الوعل- فيشق بطنك أو لا يخرج، فأبيا أن يسمياه بذلك، فولد ميتاً، ثم الثاني كذلك، ثم بعد ذلك أدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث فخرج سوياً)، قالوا: فهذا الحديث يفسر هذه الآية: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا أي: صالحاً في بدنه ليس فيه عيب، وليس له قرون أيل لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:189-190]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا القول غير صحيح.

    وقد صحت الأسانيد عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أنه آدم وزوجه، ولكن يقول ابن كثير : الظاهر أن هذا مأخوذ عن أهل الكتاب، وأما الحديث فعلله ابن كثير بعلل ثلاث:

    العلة الأولى: أنه من رواية عمر بن إبراهيم ، وعمر بن إبراهيم البصري قال أبو حاتم : لا يجوز الاحتجاج به، ولا يجوز الأخذ عنه، فهو ضعيف، ولكن هذا التعليل غير سليم؛ لأنه جاء من رواية غيره.

    العلة الثانية: أنه جاء موقوفاً، ويجوز أن يكون المرفوع وهماً من بعض الرواة.

    العلة الثالثة: أنه من رواية الحسن البصري ، والحسن البصري صح عنه ما يخالف هذا، فقد قال: هذا ليس في آدم، هذا في بني آدم من المشركين، وهذا يدل على أن الحديث لم يصح عنده، إذ لو صح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم لما خالفه، والحسن البصري رحمه الله معروف بالورع وبالعلم وبالتقى، فلا يجرؤ على مخالفة حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال الحافظ ابن كثير : ونحن على مذهب الحسن البصري ، وقد برئنا من عهدة الحديث المرفوع، يعني: أنه ضعيف فلا يؤخذ به.

    وأما الآثار المروية فيقول: الظاهر أنها مأخوذة عن أهل الكتاب مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما من علماء أهل الكتاب الذين كثر النقل عنهم، وملئت كتب التفسير من أقوالهم، وبعضها مخالف لما في كتاب الله جل وعلا.

    القول الثاني: أن المقصود جنس الزوج والزوجة، فهو خطاب لجنس الزوج والزوجة، وهذا هو الأقرب، وهو الصواب والله أعلم؛ لأن آدم عليه السلام لا يجوز أن يشرك بالله جل وعلا بعدما وقع فيما وقع فيه من إخراج الشيطان له ووسوسته له، فقد عرفه، فكيف يأتيه ويقول له: أنا أفعل كذا، وأجعل له قرن أيل في بطنك؟ وهل الشيطان يستطيع أن يفعل ذلك؟ وآدم عليه السلام أعلم بالله جل وعلا، وأتقى لله جل وعلا من أن يطيع الشيطان في هذا، فلا يجوز أن ينسب هذا إلى آدم، لاسيما على قول كثير من العلماء: إن الأنبياء معصومون، وقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل: هل آدم نبي؟ فقال: (نعم نبي مكلم) أي: كلمه الله جل وعلا، فهو رسول إلى بنيه.

    إذاً: المقصود بالآية الزوج وزوجته، ولو لم يقع ذلك بالقول من الزوج؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بالله، إذا أحس بأن زوجته قد حملت فإنه يسأل ربه جل وعلا أن يكون ولده صالحاً.

    وصلاح الأولاد يشمل أمرين:

    أحدهما: صلاح الخلقة والبدن والصورة، أي: يكون صالحاً في خلقته وصورته، سليماً من العاهات التي تشوه.

    الأمر الثاني: أن يكون صالحاً في دينه وفي فطرته وفي اتجاهه إلى الله جل وعلا.

    حكم تعبيد الأسماء لغير الله

    إذا ولد لكثير من الناس مولود قد يعبدونه لغير الله، والتعبيد إما أن يكون ظاهراً بالتسمية، كأن يسميه مثلاً: عبد النبي أو عبد الكعبة، أو عبد علي، أو عبد الحسين، أو ما أشبه ذلك كما هو معروف لمن قرأ في تاريخ العرب، فكثيراً ما نسمع التعبيد لغير الله، ومن الأسماء المشهورة: عبد الدار، عبد المطلب، عبد شمس، عبد اللات، عبد مناة، وهذا كثير جداً، فيعبدونهم إما بالأصنام التي يعبدونها أو بغيرها، فهذا شرك في الربوبية، ويتبعه الشرك في الإلهية، وهذا هو المقصود بالآية، فالله هو الذي تفرد بخلق هذا المولود من نطفة، ثم نقله في الأطوار التي تكون في بطن الزوجة طوراً بعد طور، نطفة ثم علقة -والعلقة هي قطعة دم- ثم مضغة -والمضغة قطعة لحم- ثم بعد ذلك يجعل له الأعضاء والجوف والقلب والعين والرأس وغير ذلك، فهل الزوج والزوجة لهما دخل في هذا أو أحد من الخلق كالطبيب أو غيره؟ هذا كله من الله جل وعلا، فهو الذي يصوركم في بطون أمهاتكم، وهو الذي تفضل بذلك، فإذا ولد المولود سليماً صالحاً فإما أن يعبد تعبيداً ظاهراً لله، أو يعبد للدنيا أو لأمور أخرى، وهذا يصرفه عن عبادة الله جل وعلا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) كالبهيمة تولد سليمة لا تجد فيها جدعاء، فالعرب كانوا يقطعون آذانها؛ لأنها تولد كاملة الخلقة ليس فيها شيء، ثم يقطعون آذانها.

    فالمربي مثل الوالد والوالدة يصرف المولود عن عبادة الله جل وعلا بالتربية، وهذا من كفر النعمة، فمن فعل ذلك فقد قابل النعمة بالكفران، وهذا ذنب عظيم يجب ألا يقع فيه المسلم العاقل، قال جل وعلا: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) يعني: سليماً ليس فيه عيب في خلقته (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) يعني: من المخلوق المولود، فيجعلا لله شركاء بالتسمية، كأن يسمياه مثلاً: عبد الحارث، أو عبد مناة، أو عبد اللات، أو عبد شمس، أو عبد علي، أو عبد الكعبة، أو عبد النبي، أو عبد الحسين، أو ما أشبه ذلك مما هو معروف بين الناس.

    فالمعنى: أن هذا مستمر في بني آدم، وليس المقصود به أبو البشر فقط، وهذا القول هو الراجح والله أعلم، وإن كان الشارح رحمه الله رجح القول الأول وقال: هو الذي يدل عليه سياق الآية، ولا ينبغي أن يحاد عنه، ولكن هذا اجتهاد منه رحمه الله، والاجتهاد قد يكون صواباً وقد يكون خطأً، والظاهر والله أعلم أن القول الثاني هو الصواب، وليس المقصود آدم، وإنما المقصود ذريته، أما التسمية فهي من جنس الزوج والزوجة، وهذا يقع فيه كثير من الناس، وليس المراد آدم وحواء؛ ولهذا قال جل وعلا: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ فجمع هنا؛ لأن المقصود بنو آدم من المشركين الذين يفعلون ذلك.

    ضعف الحديث الوارد في أن المراد بالآية هو آدم وحواء

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قال الإمام أحمد رحمه الله في معنى هذه الآية: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا عمرو بن إبراهيم قال: حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره).

    وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار عن بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به، ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن إبراهيم . ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعاً وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ].

    هذا من تساهل الحاكم رحمه الله، فإن عمرو بن إبراهيم ليس على شرط الشيخين؛ ولهذا فإن الترمذي رحمه الله مع تساهله قال: حسن غريب، والغريب عنده ضعيف، والحسن ليس من غير هذا الوجه، وكون الحاكم صححه لا يعتمد على تصحيحه، فقد صحح بعض الأحاديث الموضوعة، وهو كما يقول بعض العلماء: لم يحرر كتابه؛ لأنه ذكر في بعض كتبه بعض الرجال وقال: لا تحل الرواية عنهم مثل عبد الرحمن بن عسكر قال: لا تحل الرواية عنه، ومع ذلك روى عنه في المستدرك حديثاً وقال: إنه صحيح! فالمقصود أنه لا يعتمد على تصحيحه رحمه الله، فلهذا ينظر في ذلك، والصواب ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله: فقد خرجنا من عهدة الحديث، يعني: بالعلل التي ذكر كونه بها ضعيفاً، وهي علل قادحة في الحديث.

    قال الشارح رحمه الله: [ ورواه الإمام أبو محمد ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمرو بن إبراهيم به مرفوعاً.

    وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا سهيل بن يوسف عن عمرو عن الحسن : جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا [الأعراف:190] قال: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن آدم ].

    وهذه هي العلة الثالثة، وهي كما قال الحافظ ابن كثير : قادحة، فلو صح الحديث عند الحسن لما خالفه.

    الآثار الواردة في تفسير الآية

    قال: [ وحدثنا بشر بن معاذ قال: حدثني يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا. وهذا إسناد صحيح عن الحسن رحمه الله.

    قال العماد بن كثير في تفسيره: وأما الآثار فقال محمد بن إسحاق : عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولاداً فتعبدهم لله، وتسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: أما إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش، فولدت له غلاماً فسماه: عبد الحارث، ففيه أنزل الله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ .. [الأعراف:189]الآية ].

    كون الشيطان اسمه: الحارث، هذا يحتاج إلى إثبات ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا شيء يثبت، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها: حارث وهمام)، ولو كان الشيطان اسمه الحارث لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، ولا جعل التسمية به جائزة في قوله: ( أصدقها حارث )، فيجوز أن يسمي الإنسان ولده حارثاً أو هماماً؛ لأن الحرث هو العمل، والهم هو عمل القلب.

    فالذي يظهر أن هذا منقول عن أهل الكتاب كما قال الحافظ ابن كثير ، أي: كون الشيطان اسمه الحارث، وكونه كان من عباد الملائكة، فهذا يحتاج إلى إثبات، والله جل وعلا ذكر في القرآن أنه من جنس آخر وليس من جنس الملائكة، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة خلقت من نور، والله جل وعلا أخبر في القرآن أن الشيطان خلق من شواظ من نار، فهو من النار وليس من النور، فأصله من غير أصل الملائكة، وكذلك عمل غير عمل الملائكة، فكونه يسمى الحارث يحتاج إلى ثبوت، وليس هناك شيء يثبت به، وهذا مما يقدح أيضاً في هذه القصة، وليس الحديث دليلاً على أنه الحارث؛ لأن الحديث كما قال الحافظ ابن كثير : ضعيف.

    [ وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: فأتاهما الشيطان فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون، أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل، إنه لغوي مبين، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سوياً ومات كما مات الأول، فسميا ولدهما عبد الحارث، فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190] ].

    لو صح هذا لقال آدم: وأنت لا تدري أيضاً، ولا تستطيع أن تعمل شيئاً؛ لأن هذا من صنع الله جل وعلا ومن فعله، فكيف يصدقه آدم عليه السلام وهو الذي قد علمه ربه جل وعلا أسماء كل شيء، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً؟!

    يقول ابن حزم رحمه الله: الحديث موضوع، والآثار هذه كلها خرافة، هكذا قال في كتاب الفصل في الملل والنحل لما ذكر هذه القصة، قال: هذه خرافة، والحديث موضوع، ولكن ابن حزم رحمه الله عنده جرأة في بعض ما يحكم به.

    [ وذكر مثله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه ابن أبي حاتم ، وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كـمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ، ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وجماعة من الخلف، ومن المفسرين والمتأخرين جماعات لا يحصون كثرة ].

    وإن كان تلقاه أصحاب ابن عباس عنه، وتلقاه التابعون وأتباعهم عنهم، فلا يخرج هذا عن كونه مأخوذاً من أهل الكتاب، فآدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وعلمه أسماء كل شيء، ثم لما وقع في الخطيئة تلقى من ربه كلمات وتاب عليه، واجتباه وهداه، ثم بعد ذلك يقع في الشرك؟ هذا بعيد جداً، وإن كان الشارح لما ذكر قول ابن كثير قال: هذا بعيد جداً، فالبعيد جداً هو ما صححه الشارح رحمه الله.

    [ قال العماد بن كثير : وكأن أصله -والله أعلم- مأخوذ من أهل الكتاب، قلت: وهذا بعيد جداً.].

    1.   

    تحريم كل اسم معبد لغير الله

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب ].

    هذا قاله ابن حزم في كتابه: مراتب الإجماع، والظاهر -كما قال الشارح- أنه يقصد بالاتفاق الإجماع، والإجماع إذا ذكر، فالمقصود به إجماع من ينضبط إجماعه من علماء الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين القريبين من عهدهم الذين يمكن أن يحصر قولهم، أما بعدما انتشر العلماء في أقطار الأرض فيصعب أن يقول الإنسان: أجمعوا على هذه المسألة؛ لأن الاطلاع على أقوالهم وما قالوه في ذلك صعب، وابن حزم له كتاب اسمه: مراتب الإجماع، ذكر فيه الأمور التي أجمع عليها العلماء، وقد ذكر هذا الكتاب أو جله في أول كتابه المحلى، وهو كتاب مستقل.

    وقوله: ( اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله جل وعلا، كعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب ) معنى قوله: أن التعبيد لغير الله محرم، وأنه مجمع على تحريم ذلك، وأنه لا يجوز أن يسمى أحد من بني آدم عبداً لمخلوق، سواء كان المخلوق عاقلاً أو غير عاقل، كأن يكون عبداً للحجر أو عبداً للشجر أو عبداً للكعبة أو عبداً لموضع أو لغير ذلك؛ وذلك لأن هذا من الشرك الظاهر؛ لأن العبودية يجب أن تكون لله جل وعلا، وإذا قيل: هذا عبد كذا، فهذا يعني أنه يعبد هذا الذي أضيف إليه، والعبادة يجب أن تكون لله جل وعلا، ولا يجوز أن تكون لغيره، هذا هو وجه الإجماع على تحريم التعبيد لغير الله جل وعلا.

    حكم التسمي بعبد المطلب

    ومعنى قوله: ( حاشا عبد المطلب ) أن عبد المطلب فيه خلاف، فهو غير داخل في ذلك؛ والسبب في هذا كما قالوا: أن عبد المطلب ليس من عبودية الخضوع والذل، وإنما هو من عبودية الرق، وهو غير تسمية، فلم يسمه أهله بذلك، وإنما توهم ذلك توهماً؛ بسبب أن والده هاشم تزوج من بني النجار في المدينة، فولد له عبد المطلب واسمه: شيبة الحمد ، هذا هو اسمه العلم، ويقال: إنه لما ولد وجد في رأسه شعرة بيضاء، فسمي شيبة ، فتوفي والده وهو عند أخواله، يقول أهل النسب: إن أخواله قد اشترطوا على أبيه أن تكون الولادة عندهم، فبقي بعدما توفي والده عند أخواله حتى بلغ قريباً من سن الرشد، فأتى إليه عمه المطلب أخو أبيه؛ لينقله إلى أهله وإلى بلده مكة، فأردفه خلفه، وأصابته الشمس فتغير لونه، فلما دخل مكة به رأوه رديفاً له فقالوا: هذا عبد المطلب ، ونُسي اسمه العلم، وصار يسمى بذلك، وهذا معنى كلام ابن حزم : فإن مثل هذا الاسم ما قصد للتعبيد.

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أنا ابن عبد المطلب)، وهو جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالده هو عبد الله ؛ فلهذا أخرجوه عن الدخول في الإجماع، والنظر الواقع أنه لا معنى لإخراج هذا، بمعنى أنه لا يجوز أن يسمى: عبد المطلب؛ لأن المطلب شخص مخلوق، والذي يخرجه عن الإجماع لا يجعله مثل عبد علي أو عبد الحسين أو غير ذلك، وقد كان يوجد في قريش بنو عبد الدار وبنو عبد مناف وبنو عبد شمس، وأخبار قريش معروفة، ولكن هذه كانت في الجاهلية؛ ولهذا يذكر هذا في أنساب الصحابة رضوان الله عليهم.

    في الصحيحين أنه قيل لأحد الصحابة: فررتم يوم حنين، فقال: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت ولم يفر، وقد كان المشركون سبقوهم إلى المكان، وكانوا رماة، فأمطروا عليهم النبل، فهزموا، فركب الرسول صلى الله عليه وسلم بغلته، والبغلة لا تركب في الحرب، فجعل يقول: (أنا ابن عبد المطلب، أنا النبي لا كذب)، ويتقدم ويقول (اللهم أنزل نصرك)، وأمر العباس أن ينادي؛ لأنه كان صيتاً فقال: (يا أصحاب سورة البقرة! يا أهل بيعة الشجرة!) فمن سمع صوته حاول أن يرجع، فإن أبى بعيره الرجوع أخذ سلاحه، وألقى بنفسه من على ظهره ورجع، فرجعوا وقاتلوا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك اليوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الآن حمي الوطيس) ويقال: إن أول من قالها هو صلى الله عليه وسلم في تلك الوقعة، والمقصود أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب) خبر عن شيء مضى ووقع، وكذلك غيره، ولا يدل هذا على جواز التسمية بعبد المطلب.

    وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله في الاستيعاب: أن أحد الصحابة اسمه: عبد المطلب ، لكن هذا غير صحيح، كما ذكره الحافظ بن حجر في الإصابة وغيره من العلماء، والصواب أن اسمه: المطلب ، وليس عبد المطلب، ولا يوجد في الصحابة من اسمه: عبد المطلب، وأن الذي سماه عبد المطلب من الرواة قد أخطأ في ذلك، فاسمه: المطلب .

    أما ما جاء في صحيح مسلم : أن ابن عبد ركانة طلق زوجته ألبتة، فهذا جاء بالتنوين ( ابن عبدٍ ) ، ولم يأت بالعبودية، وهذا الذي صححه العلماء، فيكون ما استثناه ابن حزم رحمه الله لا معنى لإخراجه، فالصحابة اتفقوا على تحريم تعبيد الاسم لغير الله جل وعلا، فكل اسم لا يجوز أن يعبد لغير الله، فيجب أن تكون العبودية لله جل وعلا، وإن كانت هذه العبودية عبودية ظاهرة؛ لأنه لا يلزم إذا سمي عبد الله أن يكون عبداً لله، بل قد يكون عبداً للشيطان، ولكن هذه تسمية أهله، ويجب أن يسميه أهله معبداً لله جل وعلا، ويحرم أن يسموه عبد مخلوق من المخلوقات؛ وهذا لأن الله جل وعلا يقول في هذه الآية: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء [الأعراف:190] فيكون داخلاً في القصة المذكورة التي وقعت لبعض بني آدم ممن ولد له ولد صالح فجعل لله فيه شركاء بأن عبده لغير الله.

    نسب عبد المطلب وسبب تسميته بذلك

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ ابن حزم هو عالم الأندلس أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري ، صاحب التصانيف، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة، وله اثنتان وسبعون سنة.

    وعبد المطلب هذا هو جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، ولا ريب أنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم ].

    ونسبه إلى عدنان متفق عليه بين أهل النسب ولا خلاف فيه، ولكن منه إلى إسماعيل لا يعلمه إلا الله، ويقيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ابن إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وكذلك قريش، وأكثر العرب هم بنو إسماعيل؛ لأن العرب ينقسمون إلى قسمين: عرب أصلهم يعرب بن قحطان بن هود من ذرية هود عليه السلام، وهود عربي، وأنبياء الله أكثرهم عجم غير عرب، والعرب منهم أربعة فقط، وقد جاء هذا في حديث فيه ضعف، ولكن هذا الأمر مشهور.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [حكى رحمه الله اتفاق العلماء على تحريم كل ما عبد لغير الله تعالى؛ لأنه شرك في الربوبية والألوهية؛ لأن الخلق كلهم ملك لله، وعبيد له، استعبدهم لعبادته وحده وتوحيده في ربوبيته وإلهيته، فمنهم من عبد الله ووحده في ربوبيته وإلهيته، ومنهم من أشرك به في إلهيته، وأقر له بربوبيته وأسمائه وصفاته، وأحكامه القدرية جارية عليهم ولابد، كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93] فهذه هي العبودية العامة.

    وأما العبودية الخاصة فإنها تختص بأهل الإخلاص والطاعة، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]ونحوها.

    قوله: ( حاشا عبد المطلب ) هذا استثناء من العموم المستفاد من (كل)، وذلك أن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيها؛ لأن أصله من عبودية الرق، وذلك أن المطلب أخا هاشم قدم المدينة، وكان ابن أخيه شيبة هذا قد نشأ في أخواله بني النجار من الخزرج؛ لأن هاشماً تزوج فيهم امرأة فجاءت منه بهذا الابن، فلما شب في أخواله وبلغ سن التمييز سافر به عمه المطلب إلى مكة بلد أبيه وعشيرته، فقدم به مكة وهو رديفه، فرآه أهل مكة وقد تغير لونه بالسفر فحسبوه عبداً للمطلب، فقالوا: هذا عبد المطلب ، فعلق به هذا الاسم وركبه، فصار لا يذكر ولا يدعى إلا به، فلم يبق للأصل معنى مقصود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب)، وقد صار معظماً في قريش والعرب، فهو سيد قريش وأشرفهم في الجاهلية، وهو الذي حفر زمزم، وصارت له السقاية ولذريته من بعده.

    وعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بني عبد المطلب ، وتوفي في حياة أبيه.

    قال الحافظ صلاح الدين العلائي في كتابه ( الدرة السنية في مولد خير البرية ): كان سن أبيه عبد الله حين حملت أمه آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمانية عشر عاماً، ثم ذهب إلى المدينة ليمتار منها تمراً لأهله، فمات بها عند أخواله بني عدي بن النجار، والنبي صلى الله عليه وسلم حمل على الصحيح. انتهى.

    قلت: وصار النبي صلى الله عليه وسلم لما وضعته أمه في كفالة جده عبد المطلب .

    قال الحافظ الذهبي : وتوفي أبوه عبد الله وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهراً، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: وهو حمل، توفي بالمدينة، وكان قد قدمها ليمتار تمراً، وقيل: بل مر بها راجعاً من الشام، وعاش خمساً وعشرين سنة، قال الواقدي : وذلك أثبت الأقاويل في سنة وفاته.

    وتوفيت أمه آمنة بالأبواء وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم، وقيل: ابن أربع سنين، فلما ماتت أمه حملته أم أيمن مولاته إلى جده، فكان في كفالته إلى أن توفي جده وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب . انتهى ].

    العبودية قسمان

    ذكر الشارح أن العبودية تنقسم إلى قسمين: عبودية عامة تشمل الخلق كلهم، كما في الآية: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، وهذا يشمل المؤمنين والكافرين، ويشمل العاقل وغير العاقل، ومعنى هذا: أنهم معبدون، تجري عليهم أحكام الله وأقداره بدون اختيارهم، فهو خلقهم، وتعبدهم بقدره وخلقه وأمره الكوني القدري، فكل مخلوق هو عبد لله بمعنى أنه خاضع له، خاضع للقدر الذي قدره عليه وقضاه، وليس معنى ذلك أن يكون عابداً.

    المعنى الثاني: أن يكون عابداً، أي: تصدر العبودية منه، وهذا هو الذي ينفع، وهو الذي كلف به الجن والإنس، أن يكونوا عبيداً لله تصدر منهم العبادة من الخضوع والذل وفعل المأمور واجتناب المحذور، وهذ هي التي يترتب عليها الثواب وعلى تركها العقاب، أما الأولى فيدخل فيها كل مخلوق لله جل وعلا حتى الجمادات من السماوات والجبال والشجر والنجوم وغيرها، فكلها مذللة مسخرة لله جل وعلا، فهي عابدة لقهره وقدره وخلقه وتدبيره.

    أما كون الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه ابن عبد المطلب، فهذا من باب الخبر الذي وقع وتعارف عليه الناس وانتهى ولا يمكن تغييره، وليس في ذلك إقرار بهذه العبودية.

    خلاف العلماء في حكم التسمي بعبد المطلب

    قول ابن حزم رحمه الله: ( حاشا عبد المطلب ) بعد قوله: ( اتفقوا على تحريم تعبيد كل اسم لغير الله جل وعلا ) يعني: أنه لا يجوز أن يعبد مخلوق لغير الله، بأن يقال مثلاً: عبد الكعبة، أو عبد النبي، أو عبد علي، أو عبد الحسن، أو عبد الحسين، أو ما أشبه ذلك، بل يجب أن يعبد لله، وقوله: ( اتفقوا ) يعني: أجمعوا على ذلك، والإجماع معروف أنه أحد الأصول التي يرجع إليها في إثبات الأحكام، وهو لابد أن يستند إلى دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإخراج عبد المطلب من هذا الإجماع فيه نظر؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب؛ لأن هذا من المحرمات، كما أنه لا يجوز أن يسميه عبد مناف أو عبد الدار أو عبد شمس، وهذه كانت أسماء لأناس من قريش من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها أسماء وقعت في الجاهلية، وهي محرمة، وأصبح النسب إليها شيء ثابت لا يغير، فليس عبد المطلب خارجاً مما ذكر ابن حزم .

    أما كونه ذكر أنه من باب عبودية الرق، وليس من باب العبادة، فهذا سبب تسميته بذلك، والآن يعرف بعبد المطلب، والمطلب رجل معروف، فلا يطلق عليه عبودية مطلقة، والعبودية لا يجوز أن تكون إلا لله جل وعلا.

    1.   

    كفالة عبد المطلب للنبي صلى الله عليه وسلم وحفره لزمزم

    ما ذكر الشارح من حمل الرسول صلى الله عليه وسلم وولادته، وكذلك وفاة أبيه ووفاة أمه، هو مختلف فيه بين أهل التاريخ والسير، ولكن من المتفق عليه أنه توفي والده وهو صغير، سواء كان حملاً أو بعدما كان له سنتان وستة شهور أو نحو ذلك، وكذلك والدته اختلفوا في عمره وقت وفاتها، فقيل: إنه بعدما بلغ أكثر من ست سنوات، وقيل: بعدما بلغ أربع سنوات، ومن المعلوم أن الذي كفله بعد وفاة والده هو عبد المطلب ، ثم بعد ذلك جعله إلى عمه أبي طالب ، وأبو طالب هو عمه، وعبد المطلب هو جده.

    ثم ذكر أنه هو الذي حفر زمزم، فكانت زمزم قد دفنت، ولم يعلم أين هي، فحفرها بعدما رأى رؤيا، كما هو معروف، فاستخرجها وصارت تنسب إليه، وصار هو أحق بها، ولهذا صارت سقاية الحاج في ذريته، وإلا فزمزم قديمة جداً، ظهرت بجبريل عليه السلام لما وضع إبراهيم صلى الله عليه وسلم هاجر أم إسماعيل في ذلك المكان وليس فيه أحد، وولى منصرفاً إلى الشام، تركها مع ابنها وصارت تناديه: يا إبراهيم! لمن تتركنا هاهنا وتذهب؟ وهو لا يلتفت إليها ولا يكلمها، فلما رأت ذلك قالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، فرجعت وقالت: إذن لا يضيعنا الله، وصارت ترضع ابنها حتى نفد ما معها من ماء وطعام، فعطش الابن ثم أدركه الموت، فكرهت أن تنظر إليه وهو يموت، فنظرت إلى أقرب مرتفع إليها وهو جبل الصفا الذي هو أسفل جبل أبي قبيس، فصعدت عليه لعلها ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت وقصدت المروة لتصعد عليه لعلها ترى أحداً؛ لأنها في كرب، فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبع مرات، وكانت إذا وصلت الوادي تسعى سعي المجهود، وفي الأخير سمعت صوتاً، فالتفتت ونظرت فلم تر أحداً، ثم قالت: لقد أسمعت فأغث إن كان عندك غوث، فنظرت فإذا برجل عند الصبي، فذهبت إليه وإذا هو جبريل عليه السلام، فقال لها: لا تخافي فإن هذا الصبي سيبني مع والده بيتاً لله جل وعلا في هذا المكان، فبحث الأرض بطرف جناحه، فنبع الماء، وصار عيناً جارية، فصارت تحجره بالتراب فوقف، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركته لصار عيناً معيناً) يعني: لأصبح عيناً تجري، ولكنها حجرته فاحتجر، فهذا أول مبدأ زمزم، وهذا قديم من زمن إبراهيم عليه السلام.

    والمقصود: أن حفر عبد المطلب لزمزم كان بعد فترة طويلة جداً من وجودها؛ لأنها دفنت لما حصلت الحروب بين جرهم وبين قريش وغيرهم.

    ثم إن هذا التعبيد الذي لا يجوز أن يعبد لمخلوق لا يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أثبت ذلك وقال: (أنا بن عبد المطلب)؛ لأن هذا من باب الخبر عن شيء واقع ماضٍ ولا يمكن تغييره، وهو من باب النسب، والنسب ذكر في النص على ما هم عليه في أنسابهم.

    وأما قوله كما في صحيح البخاري : (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة) فهذا ليس إقراراً لعبودية الدينار والدرهم والخميلة والخميصة ولكنه إنكار لذلك، وإخبار بأنه ستناله التعاسة والشقاء، فلا يكون دليلاً على أن الإنسان يعبد لغير الله جل وعلا؛ لأن هذا خرج من باب الذم والتحذير، كما أنه وصف لمن يقوم به، فالذي يعبد الدينار والدرهم لا يسجد له ولا يركع له ولا يدعوه، ولكنه يعمل من أجله، فيكون عمله له، فلهذا سمي عبداً له.

    فالمقصود: أن هذا من باب الذم والتحذير من هذا الفعل، وهو يقع في كثير من الناس، وكثير من الناس يعبد الشيطان فضلاً عن عبادة الدرهم والدينار.

    ولا يجوز أن يُعبّد المخلوق لمخلوق، بل يجب أن تكون العبودية لله مطلقاً.

    قوله: (حاشا عبد المطلب): هذا استثناء من العموم، وذلك لأن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيه؛ لأنه مأخوذ من عبودية الرق، والمعنى: أن (عبد المطلب) لم يتفقوا على أنه من التعبيد المحرم، وليس معنى ذلك أنه جائز، بل المعنى: أن فيه خلافاً؛ لما ذكر أن السبب في التسمية هو أنها من باب عبودية الرق، كما ذكر أنه قدم به من المدينة مردفاً له خلفه على راحلته وقد أصابته الشمس وتغير لونه، فظنوا أنه مملوك أو أنه اشتراه، فقالوا له ذلك، ثم نسي اسمه (العلم)، وهو (شيبة ) ؛ وقد سمي بذلك لأنه لما ولد وجد في رأسه شعرة بيضاء فسمي: شيبة .

    وقد ذكر بعض العلماء: أن في الصحابة من اسمه عبد المطلب ولكن هذا غير صحيح، والصواب: أن هذا خطأ ممن نقله، والصواب: أنه المطلب، ففيهم: المطلب بن حاطب بن حنظل ، أما عبد المطلب فليس موجوداً، أي: ليس في الصحابة من اسمه: عبد المطلب.

    أما ما جاء في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي طلق زوجته ألبتة فسمي: (عبد ركانة)، فهو ليس هكذا بالإضافة وإنما هو بالتنوين، فلا يكون من باب العبودية.

    1.   

    بيان أن قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً...) ليس المراد به آدم وحواء

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: (لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعونني أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن، يخوفهما، سمياه: عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما فذكر لهما، فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث، فذلك قوله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا [الأعراف:190])رواه ابن أبي حاتم .

    و له بسند صحيح عن قتادة قال: (شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته).

    وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا [الأعراف:189] قال: أشفقا ألا يكون إنساناً. وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما ].

    هذه القصة كما ذكر أنها رويت عن السلف، ويكون على هذا تفسير الآية: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الأعراف:189] يعني: آدم، ومعلوم أن الله جل وعلا خلق آدم من التراب كما ذكر لنا ربنا جل وعلا، وهذا جاء كثيراً في القرآن، وهو أمر مقطوع به، ومما يعجب له الإنسان وهو من أعجب العجب: كون الكثير من أبناء المسلمين يتركون ما ذكره الله جل وعلا مع ظهوره ووضوحه، ويأخذون بنظرية يهودي خبيث حانق على الإسلام وعلى أهله، ويريد أن يفسده، فيأتي بنظرية من أغرب ما يكون، فيقول: إن الإنسان أصله قرد، ثم إنه تطور؛ لأن الخلق يتطور شيئاً فشيئاً ... إلى آخره! فهذا كفر من الإنسان الذي يعرف هذه الأشياء ويعلمها ثم يقول ذلك، وهذا كفر بالله جل وعلا.

    فالمقصود أن قوله: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) يعني: جامعها، والضمير يعود إلى آدم وحواء، (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا) يعني: أنها حملت بالولد فأصبحت لا تحس به لخفته، (فَمَرَّتْ بِه) يعني: استمرت به ومشت به ومضت وقتاً، (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) يعني: كبر ابنها في بطنها وصار له ثقل: (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا) يعني: آدم وحواء، (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا) يعني: رجلاً سوياً على صورتهما، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) * (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء) يعني: أنهما سمياه عبد الحارث، وهذا تفسير باطل، ولا يجوز أن يعتقد، ولا يجوز أن يكون هو معنى كلام الله جل وعلا، وإن روي بهذه الأسانيد وقيل: إنه صحيح.

    ولهذا يقول ابن حزم رحمه الله في كتابه (الفتن): هذه خرافة موضوعة وضعها بعض الزنادقة من أهل الكتاب عن المسلمين، وهذا أمره واضح، وذلك أن آدم عليه السلام نبي كريم، وقد وقع فيما وقع فيه من الخطأ والمعصية التي واقعها في الجنة قبل هذه الحادثة على تقدير ذلك لما وقعت من آدم، والله جل وعلا أخبر أنه نسي العهد الذي عهد إليه في الشجرة، وجاءه الشيطان وصار يقسم له بالله: إنه له ناصح، وما كان يعتقد أن أحداً يقسم بالله وهو كاذب، ولهذا لما تبين له الخطر رجع إلى ربه وتاب وأناب، وهو أمر قدره الله عليه جل وعلا ولابد من مضيه فتاب من فعله، ثم أهبط .. فكيف يأتيه الشيطان مرة أخرى وهو في الأرض؟! ثم مع ذلك يقول له: (أنا صاحبكما الذي أخرجتكما)، هل هذا يعقل؟! لو قال هذا لكان آدم رجمه، وهذا لا يدعو إلى أنهم يطيعونه، وليس الولد داع إلى أن يشرك بالله جل وعلا أبداً، وآدم رسول لا يمكن أن يطيع الشيطان ويعمل ذلك.

    فالمقصود: أن هذا باطل، ولا يجوز أن يكون معنى كلام الله جل وعلا، وإنما معناه الصحيح: أن هذا جنس الرجل والمرأة من بني آدم، ومعلوم أن المولود يولد من ذكر وأنثى، فهو من جنس الناس الذين يشركون، وأما هذا المخلوق الذي هو الرجل والمرأة مع العقل الذي أوتي إياه من الله جل وعلا، وأن الله عهد إليهم بأن يعبدوه، ومنّ عليهم بأن خلق لهم زوجاً وقد خلقهم من نفس واحدة، كلهم خلقوا من نفس واحدة، وهذا له نظائر في القرآن: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128] .. اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، فهو يذكر ما منّ به على الزوج والزوجة، حيث إنه جعل من رحمته الرحمة بينهما والألفة بالزواج، ثم منّ عليهم بالأولاد، ثم هذه النعمة التي يعطيها الله جل وعلا إياهما يشركون بها، وهذا لا يجوز أن يقع من نبي وإنما يقع من بعض المشركين والجهلة، فالمقصود به جنس الزوج والزوجة، أي: الجنس غير المعين، الذي وقع منهم ما وقع فلما حصل لهم ذلك وتغشى الزوج زوجته فحملت فأثقلت، دعوا الله -الزوج والزوجة-: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء [الأعراف:189-190].

    شركاء في أي شيء؟ شركاء بأن عبّدوه لغير الله، وعلموه أن يعبد اللات والعزى، أو يعبد الحجر والشجر، أو يعبد غير ذلك، مع اعترافهم بأنه هبة من الله، وأنه لا دخل لهذه المعبودات التي يعبدونها في تكوينه وخلقه وإيجاده.

    هذا هو الصواب في معنى الآية الذي ينبغي أن يكون عليه.

    أما هذه الرواية التي رويت عن السلف فيظهر أنها مأخوذة من أهل الكتاب، وما جانا عن أهل الكتاب وهو مخالف لما عندنا مما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن نصدقه، ولا أن نقبله، فضلاً عن أن يكون هو معنى كلام ربنا جل وعلا.

    أما أن يقال: كيف يقوله قتادة ومجاهد بل وروي عن ابن عباس ويكون باطلاً؟ هل يعقل هذا؟!

    فنقول: ولهذا قال طائفة من العلماء: هذا هو الصواب؛ لأنه روي عن هؤلاء السلف وهم الذين قالوا به، ولكن نقول: إذا كان هذا ثابت عن أهل الكتاب فإن الراوي يخرج من العهدة إذا ذكر ذلك، وليس ذلك تعييناً؛ والخطأ يجوز على كل إنسان ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأنبياء بعد النبوة معصومون من الوقوع في الشرك، وهذا شرك، وباتفاق العلماء: أن الأنبياء معصومون من الوقوع في الشرك، وآدم منهم، فلا يجوز أن يقع ذلك منه.

    وأيضاً: إن الشيطان طلب منهم أن يسموه عبد الحارث، وهذا يحتاج إلى دليل، وهل اسم الشيطان (الحارث)؟ وإذا كان معروفاً فهل يعقل أن آدم يعرف أنه الحارث ويأمره الشيطان بأن يسمي ابنه عبداً له فيطيعه؟!

    هذا لا يجوز أن يعتقده مسلم، فيجب أن يقدر آدم عليه السلام؛ لأنه نبي ينزه عن مثل هذا، وإنما هذا يقع لبعض المشركين الجهلة من بني آدم وهذا يحتاج إلى دليل لكون الشيطان هو الحارث وأن اسمه الحارث، وأنه كان من العبّاد وكان يسمى بذلك، والدليل على أنه لم يثبت: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أصدق الأسماء حارث وهمام)؛ لأن الحارث هو العامل، والهمام هو الذي يهم، وأفضل الأسماء ما عبّد أو حمّد، وأصدقها حارث وهمام .

    فهل يمكن أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أصدقها حارث وهو اسم الشيطان؟ لا يمكن، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء التي فيها مخالفة شرعية ولو كانت لجماد وحيوانات.

    1.   

    الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة

    قوله: [ وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته ].

    هنا نحتاج إلى معرفة الفرق بين الطاعة والعبادة، والشرك في الطاعة والعبادة.

    الشرك في الطاعة قد يكون شركاً في العبادة التي تتضمن الذل والخضوع، وقد لا يكون شركاً في العبادة؛ وذلك لأن الإنسان قد يطيع ظالماً معتدياً في أمره، إما خوفاً من سطوته أو غير ذلك، أو لرغبة في أمر من أمور الدنيا وهو يعرف أنها معصية، فتكون طاعته معصية وهي نوع من العبادة، ولكن ليست كالعبادة التي تتضمن الذل والخضوع والتعظيم؛ لأن هذه أركان العبادة: (أن يطيع ذالاً خاضعاً معظماً خائفاً راجياً).

    ثم كذلك: نحن ندرك أن هذا يطيع هذا وقلبه كاره له مبغض له، ويطيعه في أمر لا يجوز أن يطيعه فيه، فيكون القلب غير عابد له بل قد يلعنه في قلبه، بخلاف الذي يطيع رب العالمين.

    أما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو طاعة من يأمر بطاعة الله وينهى عن معصيته، فهذه لا تسمى طاعة عبادة، ولا تسمى عبادة لمن أمر، وإنما يطاع لأنه جاء بأمر الله.

    قال الشارح رحمه الله: [ قال شيخنا رحمه الله: إن هذا الشرك في مجرد تسمية لم يقصد حقيقتها، وهو محمل حسن، يبين أن ما وقع من الأبوين من تسميتهما ابنهما عبد الحارث، إنما هو مجرد تسمية، لم يقصدا تعبيده لغير الله. وهذا معنى قول قتادة : شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته ].

    هذا لا يكفي في تبرير هذه الحكاية، وكونه شركاً في الطاعة وليس شركاً في العبادة؛ لأن الشرك في الطاعة شرك، ولا يجوز أن يقع من نبي من الأنبياء، ولو كان مثل هذا وقع لذكر الله جل وعلا التوبة، وأنه تاب منها؛ لأنه لا يجوز أن يقر عليها.

    1.   

    مسائل الباب

    تحريم كل اسم معبد لغير الله

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيه مسائل:-

    المسألة الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله ].

    وهذا كما يقول ابن حزم : اتفقوا على هذا. يعني: لا يجوز أن يعبد الإنسان لغير ربه جل وعلا، فكل اسم فيه عبودية لغير الله يجب أن يغير، والذي فعل ذلك ارتكب محرماً؛ لأن هذا من الشرك الظاهر.

    [ المسألة الثانية: تفسير الآية ].

    وقد مر تفسير الآية.

    [ المسألة الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها ].

    يعني: أنه شرك طاعة وليس شرك عبادة، وقد عرفنا ما فيه.

    البنت السوية نعمة من نعم الله

    [ الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم ].

    وهذا مأخوذ من القصة نفسها، أي: من أنه يخشى أن يخرج المولود في غير صورة الإنسان، بل يجوز أن يخرج رأسه رأس حيوان أو له قرون أو مشوهاً أو ناقصاً أو زائداً، وقد شاهد الناس أشياء كثيرة من هذا القبيل، فإذا ولد للإنسان بنت خلقتها تامة وسوية فهي من النعم التي يجب عليه أن يشكرها.

    لماذا يقول هذا؟ لأن كثيراً من الناس لا يرضى بالبنت، ويرى أنه إذا ولد له بنت فقد أصيب بمصيبة، وهذا ورثوه من الجاهلية الذين يقول الله جل وعلا فيهم: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:58-59]، مع أنهم -قبحهم الله- يجعلون الملائكة بنات الله، تعالى الله وتقدس، فهم يأنفون من أن تكون لهم الإناث وينسبون الإناث لله تعالى الله وتقدس، وإذا بشر أحدهم بالأنثى تصير هذه حالته: يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ [النحل:59] يعني: أنه إذا بشر أنه رزق بنتاً ينحرف من الناس ويذهب حتى لا يعير بذلك؛ لأنه بشر بأمر سيئ، ثم يصبح يفكر في نفسه ماذا يصنع: هل يمسكها على هون، أي: على إهانة وازدراء واحتقار يحتقرها ويهينها، أم يأخذها ويدفنها في التراب حيةً كما كانوا يفعلون؟ وهذا من الإجرام نسأل الله العافية.

    فمثلاً: قد تولد له بنت وعنده شيء من هذا الإرث القبيح؛ لأن البنت نعمة من النعم، وقد تكون البنت خيراً من الذكر، وأفضل وأصلح وأحسن وأبر، وكذلك قد تكون أنفع للإنسان من الذكر، ثم إذا احتسب ورباها وأنفق عليها وعلمها وأدبها يعظم له الأجر مما لو قام على ابنه.

    إذاً: آدم عليه السلام جعل هبة البنت للإنسان من النعم التي يجب أن يشكر الله عليها، فيجوز أن يكون المولود مشوهاً أو يخرج بصورة حيوان، أو مجنوناً لا عقل معه، ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذا بشرت بمولود من أقاربها سألت عن خلقته: هل خلقته سوية؟ فإذا قالوا: نعم، قالت: الحمد لله على نعمته، ولا تسأل: هل هو ذكر أم أنثى؟

    والإنسان يجب عليه أن يعتبر من حالة الجاهلية وحالة الكفار، ويحمد الله جل وعلا حيث عافاه من ذلك، فهي منة عليه منّ الله جل وعلا بها، أن جعله مسلماً سالماً من الشرك والكفر، ومن الظلم الذي يكون في المولود، الذي هو من أعظم الظلم، وقد قال الله جل وعلا: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9] يعني: أنها تسأل أولاً -لعظم الأمر- فيقال لها: بأي ذنب قتلت؟ يسألها الله جل وعلا، فتقول: لا ذنب لي، طفلة صغيرة، لا تأكل ولا تعرف شيئاً، وهذا من أعظم الجهل، وأكبر الظلم، وقد كان من العرب من يفعل هذا خوفاً من العار، وخشية أن تزني بنته أو تسبى ويأخذها أعداؤه، وطائفة منهم تفعل ذلك خوفاً من الفقر، فكله جهل وظلم، وما جاء في سنن الدارمي في ذكر الحديث المتقدم يقول: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن أمر لقد أهمني وأغمني، فقال: نعم. قال: إنه كان لي ابنة، فلما سمعت الإجابة - يعني: أنها كبرت قليلاً- دعوتها يوماً فكانت لدعوتي سعيدة - يعني: أجابته بسرعة - يقول: فأخذت بيدها وذهبت بها إلى بئر بعيدة عن البيوت. يقول: فألقيتها في البئر، فآخر ما سمعت من كلامها أنها قالت: يا أبتاه! فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الحاضرون: ويلك أحزنت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعه يسأل عما أهمه) فكيف تطيب نفسه يلقي بنته في هذا البئر؟ لولا الشيطان والأوضاع التي كانوا عليها ما فعل، ورحمة الله على الإنسان الذي عافاه الله من السوء؛ لأن السوء هو الذي يكون ظاهراً جلياً، وقد يزين لبعض النفوس فيصير حسناً.

    [المسألة الخامسة: ذك السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة ].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756320542