الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70] * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله، قلت: عليك السلام يا رسول الله! عليك السلام يا رسول الله!) قالها مرتين، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمعه في المرة الأولى فلم يجبه، أو أنه سمعه وامتنع عن جوابه تأديباً له؛ لأنه سلّم بطريقة غير صحيحة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقل: عليك السلام) وهذا النهي نهي تنزيه أي: لا تبدأ التحية بكلمة: عليك السلام؛ فإن (عليك السلام تحية الميت)؛ لأن هذه كانت تحية الميت في الجاهلية، وكانت عادتهم في زمان الجاهلية، حيث لم يكن لهم وعي بالأمور الشرعية التي يحبها الله.
وقال بعض العلماء: أراد أنه ليس مما يُحيّا به الأحياء، وأنه شُرع له أن يحيي صاحبه، وشرع له أن يجيبه، وقد جاءت في الشريعة صيغة معينة لابتداء السلام وصيغة أخرى لرد السلام، فصيغة ابتداء السلام: أن تبدأ بكلمة: السلام عليك، ويأتيك الجواب: عليك السلام، فوضْعُ الجواب في موضع الابتداء غير موافق للآداب الشرعية في ابتداء السلام، فلذلك قال له: (لا تقل: عليك السلام، عليك السلام تحية الميت).
فلا يحسن أن لما وُضع للجواب أن يوضع موضع التحية التي يبتدأ بها، فهذه تحية الميت عند الجاهلية كما كانوا يقولون:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحّما
فكانوا في الجاهلية يحيون الميت بقولهم: عليك السلام، فيمكن أن تبدأ في تحية الميت بقولك: عليك السلام، وإن كان قد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بدأ تحية الأموات بالسلام، فكان يقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) فكان يبدأ أولاً بالسلام، يوضح هذا كلام بعض العلماء: أنه لم يرد بهذا الحديث أنه ينبغي أن يُحيّا الميت بهذه الصيغة -أي: عليك السلام- إذ قد سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأموات بقوله: (السلام عليكم)، وإنما أراد به أن هذا تحية تصلح أن يُحيّا بها الميت لا الحي، فهي يمكن أن تقولها للميت؛ لأن الميت لن يرد عليك، أما حينما تحيي الحي فتقول: عليك السلام، فهذا لمعنيين:
أحدهما: أن تلك الكلمة -وهي كلمة: عليك السلام- شرعت لجواب التحية، ومن حق المسلم أن يحّيي صاحبه بما شرع له من التحية، فيجيب صاحبه بما شُرع له من الجواب، فإذا قلت في الابتداء: عليك السلام، فقد جعلت الجواب مكان الابتداء بالتحية، وهذا للحي أما في حق الميت فإن الغرض من التسليم عليه أن تشمله بركة السلام، والجواب غير منتظر في هذه الحالة، فأنت لا تنتظر للميت أن يقول: وعليك السلام، فإذا بدأته بكلمة: عليك السلام، فهذا يناسب هذا المقام ولا يعترض؛ لأن: عليك السلام يقولها الحي جواباً للسلام عليك، فيجوز أن يسلم الإنسان على الميت بكلتا الصيغتين.
الآخر: أن إحدى فوائد السلام: أن المسلم يُسمع الذي يسلم عليه لفظ السلام أولاً، فهذا يحدث نوعاً من الاستئناس والألفة حينما تبدأ بكلمة: السلام عليك، أما حينما تقول: عليك السلام، ربما توجس السامع هل سوف تلعنه؟ هل تدعو عليه؟ هل سوف تسبه؟ على ماذا؟ فربما أحدثت وحشة، أما حينما تبدأه بالسلام عليك، فقد بدأت بما يُطمئنه وهو لفظ: السلام، فيحصل الأمن من قلبه، فأمر الشرع بالمسارعة إلى إيناس الأخ المسلم بتقديم السلام، وهذا المعنى غير مطلوب في الميت، فساغ للمسلم أن يفتتح من الكلمتين بأيتهما شاء.
وقيل: إن عُرف العرب أنهم إذا سلموا على قبر قالوا: عليك السلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (عليك السلام: تحية الميت) على وصف أعراف العرب وعادتهم، لا أنه ينبغي أن يُسلّم على الأموات بهذه الصيغة، خاصة وأن الذي ثبت في السنة: (السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين...) إلى آخره.
وبعض العلماء قالوا: إن (عليك السلام) هنا: هي جواب النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه في مقام الرد، فقال: (عليك السلام)، ثم قال: (تحية الميت) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هي تحية الميت، ثم قال له: (قل: السلام عليك) يعني: إذا سلمت، فإن الأفضل أن تبدأ بلفظ: السلام.
(قلت: أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله)، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (أنا رسول الله الذي إن أصابك ضر)، ولفظ: (الذي) يعود إلى الله سبحانه وتعالى، وقوله: (ضُر) أو (ضَر) يجوز بالضم وبالفتح، (فدعوتَه) أي: دعوت الله سبحانه وتعالى الذي أرسلني. (أو أتيتني لأدعو لك) بالشفاعة أو بوسيلة الدعاء كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ [النساء:64] فإما دعوت الله بنفسك أو بوسيلتي بأن أدعو أنا لك. (كشفه) أي: أزال الله ذلك الضر عنك. (وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك) السنة: هي القحط، إذ لا مطر فيها، والجدباء التي لا تنبت الأرض فيها شيئاً، وقوله: (أنبتها لك) أي: صورها ذات نبات لك. (وإذا كنت بأرضٍ قفر أو فلاة) وفي رواية أخرى بالإضافة: (وإذا كنت بأرضِ قفر أو فلاة) يعني: فلاة أو صحراء خالية من الماء والشجر، وقوله: (أو فلاة) وهي المفازة المهلكة البعيدة عن العمران، وتكون محفوفة بالمخاطر. (فضلت راحلتك) أي: فحادت ومالت عن الطريق، أو غابت عنك، وهو الأظهر، لقوله: (فدعوتَه ردها عليك) بأن غابت عنك فدعوته ردها عليك بعد أن غابت عنك وافتقدتها.
قوله: (قلت: اعهد إلي)، يعني: أوصني، ومنه قوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]. (قال: لا تسبّنّ أحداً) أي: لا تشتمه، وإنما عهد صلى الله عليه وسلم إليه بعدم السب؛ لعلمه أن الغالب على حاله أنه كان يسب الناس، فنهاه عن هذه الخصلة.
قال: (فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة) أي: بعد ذلك العهد الذي أخذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم من لسانه الإنسان والحيوان سدّاً للباب، وإن كان يجوز سب إنسان مخصوص علم كفره كفرعون أو أبي لهب .. وغيرهما، فإنه لا ضرر في سب الكافر، ومع جواز السبّ في حق الكافر فالأفضل الاشتغال بذكر الرحمن حتى عن لعن الشيطان، فإن خطور ما سوى الله في الخاطر نقصان، فلا تشغل قلبك بغير ذكر الله، فالسبّ لا يستحب، وغاية السب أو اللعن أنه جائز في أحوال معينة ولأشخاص معينين، تقول مثلاً: لعنة الله على الظالمين.. لعنة الله على الكافرين.. لعن الله من فعل كذا، كما كان يقول ذلك صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن أفعال مخصوصة، وفي الحديث النهي عن اللعن: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فالمسلم -وإن لَعَن- ينبغي له أن يقلّ من اللعن، ولا يكون ديدنه وعادته السب واللعن؛ حتى لا يتعود لسانه ذلك، وربما جرّه كثرة ذلك إلى أن يوقعه في غير موقعه، فسدّاً للذريعة ينبغي للمسلم أن يمسك عن اللعن، كما وصف بعضُ الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كان لا يذم أحداً ولا يعيبه حتى لو كان مستحقاً لذلك).
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا تحقرن شيئاً من المعروف) أي: من الأعمال الصالحة، أو من أفعال الخير والبر والصلة، ولو كان قليلاً أو صغيراً، فلا تحتقر أي شيء من المعروف ما دام داخلاً تحت اسم المعروف الذي أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن دقّ، كما سنذكر أمثلة نبين كيف كان الصحابة رضي الله عنهم يبالغون في امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وسلم واجتناب نواهيه، حتى في أدق الأمور؛ امتثالاً لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] أي: في الإسلام، يعني: التزموا جميع شرائع الإسلام.
قال صلى الله عليه وسلم: (وأن تكلم أخاك) قيل: أي: وكلم أخاك تكليماً، (وأنت منبسط إليه وجهك) أي: باشّ الوجه في وجه أخيك، فالابتسام أو التبسم في وجه أخيك صدقة تتصدق بها، ويأجرك الله سبحانه وتعالى عليها، فالمعنى: أن تتواضع لأخيك، وتطيب الكلام؛ حتى يفرح قلبه بحسن خلقك. (إن ذلك) يعني: إن الكلام مع انبساط الوجه، (من المعروف) يعني: من المعروف الذي لا ينبغي أن تحقره أو تنكره، فلا ينبغي أن تتركه وتقول: هذا أمر يسير، بل هو باب من أبواب المعروف الذي نهيت عن احتقاره أو التفريط فيه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وارفع إزارك إلى نصف الساق) أي: ليكن سروالك وقميصك قصيرين، (فإن أبيت فإلى الكعبين) أي: فإن أبيت رفع الإزار إلى نصف الساق فارفعه إلى الكعبين ولا تتجاوزهما.
ثم قال صلى الله عليه وسلم مؤكداً هذا الحكم: (وإياك وإسبال الإزار) يعني: اجتنب إسبال الإزار، أي: أن ينزل ثوبك عن الكعبين، وهما العظمان الناتئان في أعلى القدم، (وإياك وإسبال الإزار) أي: اجتنبه، (فإنها) أي: هذه الفعلة أو هذه الخصلة، وهي: الإسبال وإرسال الثوب وإرخائه، (من المخيلة) أي: من الكبر والعجب، (وإن الله لا يحب المخيلة).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإن امرؤ شتمك) أي: سبك أو لعنك، (وعيرك بما يعلم فيك) أي: لامك بما يعلم من عيبك سواء كان العيب فيك أم ليس فيك، لكنه ظلمك بأن سبك بشيء هو فيك أو ليس فيك، (فلا تعيره بما تعلم فيه) يعني: لا تقابل عمله بمثله، فإن الذي ظلمك لا يجوز لك أن تظلمه، والذي يخذفك لا يجوز لك أن تخذفه؛ مراعاة لحرمات الله سبحانه وتعالى، ولا يستفزّنك فعله وظلمه إياك بأن تنتهك حرمته وتكشف ستره، وتعيره بما تعلم فيه، فضلاً عما لا تعلم، فإن كان الذي تعلمه عنه نهيت أن تعيره به، فمن باب أولى ألا تعيره بما لا تعلمه فيه. (فإنما وبال ذلك) أي: إثم ما ذكر من الشتم والتعيير: (عليه) أي: على ذلك المرء، ولا يضرك شيء، وفي بعض روايات هذا الحديث: (فيكون لك أجر ذلك ووباله عليه).
يقول الصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه في تعظيم حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
أغرّ عليه للنبوة خاتمٌ من الله مشهود يلوح ويشهدُ
وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمهِ إذا قال في الخمس المؤذنُ أشهدُ
وشقّ له من اسمه ليجلّه ففي العرش محمود وهذا محمدُ
نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ من الرُّسْل والأوثان في الأرض تُعبدُ
فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً يلوح كما لاح الصقيلُ المهنّدُ
وأنذرنا ناراً وذكّر جَنّةً وعلّمنا الإسلام فاللهَ نَحمدُ
تعاليتَ ربّ الناس عن قول من دعا سواك إلهاً أنت أعلى وأمجدُ
لك الخلق والنعماءُ والأمرُ كُلًَّه فإياك نستهدي وإياك نعبدُ
أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، والردّ إلى الله هو الرجوع إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إليه في حياته، والرجوع إلى حديثه وسنته بعد مماته صلى الله عليه وسلم.
وقال الله عز وجل: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63] أي: عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] قال الإمام أحمد : الفتنة: الكفر، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وقال الله عز وجل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
فانظر كيف يُقسِمُ الله سبحانه وتعالى بقوله: فَلا وَرَبِّكَ [النساء:65] أي: ورب محمد عليه الصلاة والسلام، (( لا يُؤْمِنُونَ )) ينفي عنهم الإيمان إلى غاية هي: (( حَتَّى يُحَكِّمُوكَ )) إذاً: يكونون مؤمنين إذا مثلوا امتثلوا الأشياء:
أولاً: التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ )).
ثانياً: ثم لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65] فَنَفَى الإيمان عمن يجد في صدره حرجاً من شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.
ثالثاً: (( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )) وهذا يعني: كمال الانقياد والإذعان والرضا -أي: رضا القلب واعتزازه- بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآيات كثيرة في هذا المعنى.
أما الأحاديث التي توجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء فيما جاءت السنة مبينة لما ورد في القرآن كالصلاة والزكاة وغيرها، أو فيما استقلت به السنة من الأحكام، والتي تكذبها طائفة القرآنيين الضالة التي تكذب بالسنة ولا تثبت حُجّيتها.
ومن الأحاديث الدالة على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم: قول رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) رواه البخاري .
وأيضاً ما رواه أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وَعَظَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مُودّع فأوصنا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمرّ عليكم عبد حبشي، فإنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) قال الترمذي : حديث صحيح.
من هذه الأحاديث أيضاً ما رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله لم يُحرّم شيئاً إلا ما في هذا القرآن، ألا وإني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل هذا القرآن أو أكثر).
ثبت عن الصحابة نماذج تدعوا إلى الإعجاب في شدة تحرّيهم وطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا عروة بن مسعود وقد بعثته قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية كي يجري بعض المفاوضات، فلما رجع إلى قريش قال لهم وهو يصف الصحابة رضوان الله عليهم: أي قومي! والله لقد وفدتُ على الملوك، ووقفتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-؛ والله إن يتنخّم نخامة -يعني: ما تنخم الرسول صلى الله عليه وسلم نخامة- إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده -أي: حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وإذا أمرهم ابتدروا أمره-أي: تسابقوا في تنفيذ أمره- وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه -أي: على الماء الذي يتوضأ منه تبركاً به- وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّون إليه النظر تعظيماً له.
وهذا من الأدب ألا تُحدّ النظر إلى كبار السن أو العلماء أو أهل الفضل.
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد إسلامه: إنه لم يكن شخص أبغض إلي منه صلى الله عليه وسلم فلما أسلمت لم يكن شخص أحب إلي منه ولا أجل في عيني منه، ولو سُئلت أن أصفه لكم لما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم.
أي: أنه كان يستحي من النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمه فلا يحد النظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
وهناك نماذج أخرى أيضاً مما ينبغي أن نستحضره في هذا الزمان الذي هو زمان غربة الإسلام بين الناس، وغربة أهل الطاعة بين السواد الأعظم من الناس.
حينما نزل تحريم الخمر مر أحد الصحابة على جماعة من المسلمين قد وضعوا الخمر في إناء وهم يشربون، فوقف عليهم وقرأ قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] فالصحابة قالوا: انتهينا انتهينا، فيقول الرجل: وكان بعضهم قد ملأ كأسه وقربه إلى فمه فلما قُرئتْ عليهم الآية سكبوه، ولا يوجد فيهم أحد قال: أقتنع أولاً ثم بعد ذلك أُنفّذ، كما يتشدق بعض السفهاء في هذا الزمان، فيقول: أقنعني أولاً! نقول له: يكفي أن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الزهري رحمه الله تعالى: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، هذا قانون العبودية: أن تقول: سمعنا وأطعنا.
والآن ترى امرأة تتبرج وتتهتّك، وتطيع الشيطان فيما يأمرها به من محاربة الرحمن سبحانه وتعالى، فإذا أمرتها بالحجاب قالت لك: أقنعوني أولاً! نقول لها: هل سألتِ الشيطان هذا السؤال حينما أمركِ بالتبرج والتهتك؟! لماذا لا يقال: أقنعني إلا في طاعة الله سبحانه؟! فهذا من تلبيس إبليس.
ومن هذه النماذج ما روته عائشة رضي الله تعالى عنها حيث قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل؛ لما أنزل الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] شَقَقْن مُرُوطهن فاختمرن بها. أي: غطّين بها رءوسهن ووجوههن.
وعن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة رضي الله عنها، فذكرنا نساء قريش وفضلهن -أي: أخذن يمدحن نساء قريش ويذكرن فضائلهن- فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل؛ لقد أنزلت سورة النور: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] فانقلب رجالهن إليهن -أي: رجع الرجال إلى البيوت- يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها -أي: في هذه السورة- ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به -أي: فتحجبت به تطبيقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه- فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رءوسهن الغربان -الغربان: جمع غراب- وإنما شُبّهن بالغربان؛ لأن الغربان سُود، أي أنّهنّ كُنّ يلبسن أكسية سُود.
وجاء ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فلما دخل من باب المسجد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجلسوا) فلما سمع هذه الكلمة جلس في مكانه على باب المسجد، وهو لا يدري هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطبه هو أم غيره؟ لكنه جلس عند سماع الأمر فوراً، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (تعال يا
وهذا علي رضي الله تعالى عنه: حينما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية لجهاد اليهود في خيبر، قال له: (امشِ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي رضي الله تعالى عنه شيئاً) أي: مشى مسافة قصيرة، ثم توقف؛ لأنه تذكر سؤالاً مهماً: (فصرخ) أي: رفع صوته؛ حتى يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من سماعه؛ لأنه لم يلتفت إليه، بل وجهه إلى الجهة الأخرى: (فلم يلتفت وصرخ بصوته: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟) أي: ما هي الغاية من هذا القتال؟
فمع أنه أراد أن يقول هذا السؤال المهم، إلا أنه لم يلتفت تنفيذاً لأمره صلى الله عليه وسلم في قوله: (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك) فتحرى عدم الالتفات، وظل مكانه متوجهاً ناحية العدو، ولم يلتفت امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان الغرض من سؤاله الاستفسار عن أمور تمس الحاجة إليها في إنجاز مهمته هذه.
كذلك لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بهجْر الثلاثة المخلفين بعد غزوة تبوك، وأتى رسول من ملك الروم وجعل يسأل: من يدلني على كعب بن مالك وصاحبيه؟ من يدلني على كعب بن مالك وصاحبيه؟ فجعلوا يشيرون إليه ولم يتكلموا؛ تنفيذاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم كلامهم؛ لأنه كان قد نهى عن كلامهم، فرفضوا أن يتكلموا ويجيبوا الرسول الرومي بألسنتهم؛ حتى لا يقعوا في مخالفة الأمر بالمقاطعة، وهذا من أعظم التوقير لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال مجاهد : كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسئل: لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ففعلت.
وبلغ أيضاً من حسن اقتدائهم به صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك دون يعلموا لذلك سبباً، ودون أن يسألوه عن علّته وحكمته؛ لأن المسارعة مزية من مزايا المحبة، فمن أحب أحداً أطاعه في كل ما يأمر به واقتدى به، وهذا قد يحدث في الخير وفي الشر كما ترون كثيراً من الناس يحبون بعض الفُسّاق من الممثلين أو غيرهم، فإذا غير أحدهم في هيئته بأي نوع من التغيير، تجد كل من يحبونه يقتدون به في هذا الأمر؛ لأن هذا يدل أثر المحبة في هؤلاء الفسقة حتى لو فعلوا بأنفسهم ما فعلوا من تغيير الهيئات، بل حتى لو تشبهوا في فعلهم بالحشرات، كما يسمون بعض الفرق الحشرية البيكز والفوب! ومعنى الفوب: الكلب! والبيكز: الخنافس! فتجد من يقتدون بهم حتى في هذه التفاهات وهذه السخافات حباً في هؤلاء المفسدين في الأرض!
فكذلك المؤمنين إذا أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم أولى بذلك- فلا ينبغي لومهم ولا عذلهم ولا عتابهم على طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا أثر من آثار المحبة، فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه تلقائياً يقتدي به حتى في الأمور التي لا تكون واجبة عليه، أو حتى في الأمور العادية التي ليست سُنّة مؤكدة.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتم من ذهب، ثم نبذه النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: رماه- وقال: (إني لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتمهم) ولم يحتج الأمر إلى سؤال ولا أخذ أو ردّ، بل فعل ففعلوا، وترَكَ فتركوا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه) أي: نزعه من يد الرجل ورماه في الأرض، (وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟ فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
فانظر إلى شدة الاقتداء وشدة التورُّع، مع أن هذا الرجل يباح له أن يبيعه وينتفع بثمنه، لكنه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نزعه من يده وطرحه في الأرض أبى أن يأخذ شيئاً قد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه وهو يصلي) وقد كان يصلي في النعلين (فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم ذلك) وهم في الصلاة، رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يخلع نعليه (ألقوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فقال: إن جبريل أخبرني أن فيهما قَذَراً) فتأمل المبادرة في الاقتداء.
ولما قُدّم إليه لحم الضبّ فلم يأكله، توقف خالد بن الوليد عن الأكل وقال له: أحرام هو؟ قال: (لا، ولكني أعافه). حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ في قوم لا يعرفون الضبّ، فهو يعافه من ناحية الطبع؛ لأنه لم يتعوّد عليه.
فكان إذا فَعَل فعلوا، وإذا ترك تركوا.
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون! فهناك كانت الأشياء تؤخذ بتلقائية؛ لأن هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام واجبنا طاعته والاقتداء به، وإتيان ما أتاه وترك ما تركه.
إن موضوع طول الإزار أو طول الثياب يحتاج إلى بيانٍ شافٍ لعلنا نأتي على شيء من هذا البيان فيما يلي:
إن تكرار كلمة (الإزار) في كثير من الأحاديث النبوية؛ سببه أن ملابس الصحابة في ذلك الزمان كان أغلبها هو الإزار، لكن أصبح لبس الإزار اليوم قليلاً جداً، ومع هذا فالإزار والقميص لهما نفس الحكم؛ لقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص) فحكمهما واحد.
وعن الأشعث بن سليم قال سمعت عمتي -واسمها رهم - تحدث عن عمها -وهو عبيد بن خالد المحاربي - قال: (بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي، يقول: ارفع إزارك)، أي: ارفع إزارك عن الأرض، حيث كان يجر إزاره وثيابه، (ارفع إزارك؛ فإنه أتقى)، وفي رواية أخرى: (فإنه أنقى)، أي: أنقى لهذا الثوب، (فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إنما هي بردة ملحاء)، أي: هذا الثوب الذي ألبسه بردة ملحاء، وهو كساء مخطط فيه بياض وسواد، يعني: أنها بردة مبتذلة أو ثوب مبتذل ليس فيه زينة، فجرّها لا يؤدي إلى الخيلاء، (قال: أما لك فيّ أُسوة؟! فنظرتُ، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه صلى الله عليه وسلم).
وعن سلمة بن الأكوع قال: كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتزر إلى أنصاف ساقيه، وقال: هكذا كانت إزرة صاحبي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
إزرة: اسم هيئة على وزن فِعْله.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (إني أرجو أن أكون أخشاكم لله)، فمن خشيته لله سبحانه وتعالى أنه كان يتواضع ويقصر إزاره.
هناك حد أدنى لثياب المسلم قد حَدّهُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعليّ إزار يتقعقع) أي: كالإزار الجديد، والتقعقع: هو تحريك الشيء اليابس الصلب بصوت، (فقال: من هذا؟ قلت:
هذا ابن عمر الذي هو من أفاضل الصحابة ومن أتقاهم رضي الله عنهم، لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إرخاءه لإزاره، بل أمره أن يرفعه، مما يدل على أن هذا الأدب ليس مقصوداً به النهي عن الخيلاء، ولو رأى النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يطيلون ثيابهم في هذا الزمان لأنكر عليهم من باب أولى.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً قال: (مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا
وكما سبق في حديث أبي جُريّ جابر بن سُليم ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين) إذاً: نصف الساق موضع استحباب، أما المباح والجائز فإلى الكعبين، وهما العظمان الناتئتان في أسفل الساق وأعلى القدم، يقول: (فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخِيْلة، وإن الله لا يحب المخِيْلة)، فوضح النبي عليه الصلاة والسلام أن أصل الإسبال هو من المخيلة، كما في قوله: (وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخيلة) أي: نوع من أنواع المخيلة، والمخيلة قد تكون في خُلُق الإنسان، أو التكبر في مشيته، أو في أي شيء من تصرفاته، ومن هذه التصرفات: إسبال الإزار، فإسبال الإزار هو أحد أعراض مرض المخيلة والكبر والبَطَر.
وعن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سألت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه عن الإزار فقال: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، قالها ثلاث مرات)، وقال: (من جرّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي أو كاحلي، فقال: هذا موضع الإزار، فإن أّبَيْت فهذا، ثم أنزل، فقال: فإن أبيت فهذا، ثم طأطأ قبضة أخرى، وقال: فإن أبيت فهذا، حتى وصل إلى الكعبين، فقال: فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين).
فالمسلم لو أن عنده يقين بهذا التهديد وهذا الوعيد وكان الثوب تحت الكعبين لَشَعَر بالنار تلسعه في عقبه، إذا كان فعلاً يؤمن بهذا الوعيد أن هذا الموضع الذي يغطى بالثوب بعد الكعبين فهو في النار.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإزار إلى نصف الساق، فلما رأى شدة ذلك على المسلمين قال: إلى الكعبين، لا خير فيما أسفل من ذلك).
فهذه الأحاديث كلها تصرح تصريحاً ظاهراً بأن المسلم يجب عليه أن يرتدي ثياباً لا تزيد في طولها على الكعبين، ويستحب له أن يجعلها إلى أنصاف الساقين، وعاقبة من خالف هذا الأمر هي ما جاء في الأحاديث السابقة، وكذلك في الأحاديث الآتية.
فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)، وكما ذكرنا أن أغلب لباس الصحابة كان الإزار، فلذلك تكثر كلمة (الإزار) في الأحاديث، وتأتي أحياناً ألفاظ عامة كـ(الثوب) فتعمّ سائر أنواع اللباس على القول الراجح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أزرة المؤمن إلى عضلة ساقيه، ثم إلى نصف ساقيه، ثم إلى كعبيه، فما كان أسفل من ذلك ففي النار)، يعني: ما زاد من الكعبين فهو في النار.
قوله: (فهو في النار) معناه: أن ما دون الكعبين من قدم صاحبه فهو في النار؛ عقوبة له على فِعْله، فالمكان الذي يغطى في أسفل الكعبين بالإزار أو نحوه يكون عقابه في النار جزاء لهذا العمل.
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يتبختر في حلة قد أعجبته جُمّته -أي: شعره- وبرداه إذ خسف الله به، فهو يتجلجل، أو قال: يهوي فيها إلى يوم القيامة)، ونحن نؤمن بهذا الحديث؛ لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في أعلى درجات الصحة، فقد رواه البخاري ومسلم .
قوله: (فهو يتجلجل فيها)، أي: بسبب هذا الكبر حتى الآن إلى يوم القيامة لا زال يتجلجل، فكأن له شقاً في الأرض يتجلجل -أي: يندفع بشدة واضطراب- في هذا الشق إلى يوم القيامة؛ لأنه كان معجباً بجمته وقد أسبل إزاره.
والكبر له مظاهر شتى، وليس مَن قصر ثيابه يكون قد برئ من الكبر، فالكبر له أبواب كثيرة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: يُستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمّر ثوبه.
الشريد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلاً من ثقيف)، أي: رأى رجلاً من ثقيف يمشي، فتبعه (حتى هرول في أثره) يريد أن يلحقه ويدركه، فهرول وجرى في أثر هذا الرجل طالباً إياه (حتى أخذ ثوبه) فلما أدركه أخذ ثوبه حتى يوقفه ويكلمه، فقال: (ارفع إزارك، فكشف الرجل عن ركبتيه)، أي: ليبين له سبب إسباله لإزاره، (فقال: يا رسول الله! إني أحنف، وتصطكّ ركبتاي)، وهذا شيء من خلقة الله سبحانه وتعالى في هذا الرجل، فكأنه بإسباله لإزاره يستر ذلك الأمر؛ لأن ركبتيه كانت تصطدم بعضهما في بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل خلق الله عز وجل حسن) يعني: ما يضرك من ذلك؛ فإن أي صفة من خلق الله سبحانه وتعالى فهي تكون على أحسن ما يكون، وهذا مفهوم من المفاهيم الضرورية جداً، ويجب أن نتيقن هذا الأمر، فإن كل خلق الله سبحانه وتعالى بأي هيئة فهو حسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88]، وقال عز وجل: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر:64]، وقال سبحانه وتعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]، وقال عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، وقوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]. ثم يتفاوت الناس بعد ذلك فيما يمنح الله هذا من صفات الجمال أو من الصفات الأخرى، فهذا رزق الله سبحانه وتعالى، وهذا خلق الله مع أنه قد يتفاوت، لكن الأصل أن كل ما يخلقه الله سبحانه وتعالى حسن. فلا يعيب الإنسان خلقاً من خلق الله، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الذي كان يستحي أن تظهر رجلاه وبهما حنف: (كل خلق الله عز وجل حسن)، قال الشريد : فلم يُرَ ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات؛ امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهو قد كان أطال الإزار؛ لأن ساقيه كانتا نحيفتين، وتصطدمان ببعضهما، فظن أن من العار إظهارهما! فإذا كان هذا عذر هذا الرجل فما بالك بمن ليس له مثل هذا العذر؟! وعن عمرو بن فلان الأنصاري قال: (بينما هو يمشي قد أسبل إزاره، إذ لحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بناصيته)، وهذا من الاستنكار والحزن على هذا الأمر، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بناصية نفسه، (وهو يقول: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك)، يقصد التواضع لله سبحانه وتعالى؛ لأنه رأى هذا الإسبال تكبر ومخيلة، فأراد أن يتواضع، وهذا كان خُلُقه عليه الصلاة والسلام، حتى إنه لما جاء مكة فاتحاً دخلها مطأطئاً رأسه راكباً على ناقته تواضعاً لله سبحانه وتعالى في بداية هذا الفتح المبين، كذلك لمّا رأى هذا الرجل وقد أسبل إزاره علم أن هذا خُلُق المتكبرين، وخلق الاختيال والبطر، فلذلك أقبل وأسرع حتى لحق عمراً ووضع يده على ناصيته وهو يقول: (اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك) يعني: أنا عبد متوغل في صفة العبودية، فأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، وكلنا عبيدٌ لك، يعني: يقصد التواضع والتذلل بين يدي لله سبحانه وتعالى، والتبرؤ من هذا الفعل الذي هو من المخيلة. ففهم عمرو أنه يقصد استنكار ما هو عليه من الإسبال، قال عمرو : (قلت: يا رسول الله! إني رجل حمش الساقين) يعني: دقيق الساقين ورفيعهما، (فقال: يا عمرو ! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه) وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو ، أي: قاس تحت الركبة مسافة أربع أصابع، فقال: (يا عمرو ! هذا موضع الإزار) ثم رفعها ووضعها تحت الثانية، فقال: (يا عمرو ! هذا موضع الإزار)، فهذا الحديث كالذي قبله، يصعب أن نحمله على الخيلاء؛ لأنه جاء هذا الحديث والذي قبله في صحابيين لم يقصدا الخيلاء، ولكن ذكرا علةً معينة لتغطية ساقيهما، ومع ذلك لم يعذرهما النبي صلى الله عليه وسلم، فهذان الصحابيان كانا بعيدين عن المخيلة، وكان لهما عذر، فلم يعذرهما النبي عليه الصلاة والسلام، وأمرهما برفع الإزار. وهناك أحاديث كثيرة في ذم إسبال الثياب، وذم الإسبال يستثنى منه بعض الحالات، مثل النساء كما سيأتي إن شاء الله في الأحاديث، ويستثنى أيضاً من به جرح في الكعبين، فقد يؤذيه الذباب أو شيء من الحشرات، فيجوز له أن يغطي الجرح حتى يشفى منه، فقد أباح العلماء بعض هذا.
عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)، وعلى هذا: فإن الإسبال من كبائر الذنوب، وليس من الصغائر، قال: (فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات)، أي: كرّر هذا الوعيد ثلاث مرات، فحينئذٍ قال أبو ذر : (خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل إزاره، والمنّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب).
قوله: (المسبل إزاره) أي: إسبال الإزار تحت الكعبين.
وقوله: (والمنّان) أي: الذي يعطي الناس ثم يمنّ عليهم كما قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، فالمنان يتبع عمله الصالح بالمن على الناس وأذيّتهم.
وقوله: (والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) أي: الذي يحلف اليمين الغموس ليروّج سلعته، كمن يقول: والله إني خسرت كذا، أو والله إني اشتريتها بكذا. وهو يعرف أنه كاذب، فيروّج السلعة بالحلف الكاذب، فهذا يمين غموس؛ لأنه يغمسه في النار كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة) أي: أنه يكسب مالاً من وراء ذلك، ولكن تنزع منه البركة، ووعيده في الآخرة إذا كان كاذباً فكما ورد في حديث أبي ذر .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل لا ينظر إلى مسبل الإزار).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى المسبل يوم القيامة).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر