إسلام ويب

أن تقول نفس يا حسرتاللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذه المادة يعرض الشيخ لآيات في كتاب الله تصور حال العصاة، وتحذرهم من الوقوع فيما يندمون منه يوم القيامة، مع بيان حكم هجران الأهل بسبب المعاصي، وأسباب التردي في المعاصي، والعلاج للخروج من هذه الحال، وبيان الأسباب التي تلين القلوب.

    1.   

    وقفة مع سورة الزمر

    الحمد لله الذي يقبل توبة التائبين, ويمحو بفضله وعفوه وحلمه إساءة المذنبين, الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء وهو أرحم الراحمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الأمين, صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين, وصحابته الغر الميامين, وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين, وحشرنا وإياكم معهم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين, أما بعد:

    فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

    إخواني في الله! آية من كتاب الله، وكلمة عظيمة جليلة كريمة من كلام الله, وموعظة بليغة من مواعظ الله, ما وقف أمامها مذنب إلا رجع إلى ربه وتاب, ولا تفكر فيها ولا تدبر مسيء مخطئ إلا أناب, آية من الكتاب أخذت القلوب إلى رحمة الله رب الأرباب, جاءت هذه الآية بين ثنايا تلك السورة الجليلة العظيمة الكريمة التي سماها بعض العلماء رحمهم الله بسورة التوحيد والإخلاص, استفتحها الله رب العالمين ببيان نعمته ومنته على العالمين, فشهد الله أنه أنزل على رسوله ذلك الكتاب المبين, ثم انتقلت تلك الآيات بعضها تلو بعض, تقرر معالم التوحيد وتدل على عظمة الله الحميد المجيد, انتقلت تلك الآيات لكي ترسم مناهج الحنيفية وتبطل شعارات الوثنية والجاهلية, ثم ما هي إلا آيات حتى أخذت القلوب إلى الدار الآخرة فذكرت العباد بيوم المعاد, وذكرت كيف يتفرق الآباء والأولاد, وكيف يخسر الآباء أبناءهم, والأمهات بناتهن, وكيف يفرق بين العزيز وأخيه, وأمه وأبيه, وصاحبته وبنيه, وحكمت بأن هذا الفراق هو الخسارة التي لا تطاق قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] يوم فارق الأب ابنه فراقاً لا لقاء بعده, وفارقت الأم ابنتها فراقاً لا لقاء بعده فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].

    فرجفت القلوب من خشية ربها، وأنابت إلى الله خالقها من عظيم ما وقر في مسامعها, أن يفرق بين الحبيب وحبيبه، فأصابتها خشية الله فما هي إلا آيات حتى أتتها رحمات الله, فذكر الله بأهل الجنان, وما هم فيه من الروح والريحان, ومنازل العفو والصفح والرحمة والرضوان, يوم هم في غرف مبنية بعضها فوق بعض قد أصابهم من الله ما أصابهم من الرحمة المرضية.

    ثم انتقلت تلك الآيات العظيمة وأنت تعيش بينها في تلك السورة الجليلة الكريمة فذكرت تلك القلوب الغافلة، وذكرت القلوب المنتبهة, فبينت أحوال القلوب وكيف حالها تجاه أمر الله علام الغيوب, وذكرت أن هناك قلوباً رقيقة لا تحتمل كلام الله حتى تجل من خشية الله, إنها القلوب التي قُرعت بكلام الله فاقشعرت جلودها من خشية الله كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [الزمر:23] فما أحلى كلام الله في قلوب أولياء الله, وما أطيب تلك القلوب يوم تفتحت لكلام الله, وما أسعد تلك الجوارح يوم خشعت وسكنت وذلت لجلال الله.

    ثم انتقلت تلك السورة العظيمة فضربت معالم الحنيفية، وأقامت الدلائل على العقيدة المرضية, ضربت مثل الموحدين ومثل المشركين والوثنيين في أصدق العبارات وأبين الدلائل والعظات, ثم وقفت تلك الوقفة العظيمة التي لما قرأها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رقت قلوبهم لها وأذعنت لجلالها، إنها الوقفة التي نعى الله عز وجل فيها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم إلى الملأ فأخبر أنه ميت وأنه إلى الله صائر, يوم أن نعى الله عز وجل نبي الهدى إلى الأمة والملأ فأخبر أن لا خلود وأنه سينتقل من هذا الجوار إلى جوار الله الواحد القهار.

    ثم أخبر أن هذه السنة سيتبعه عليها خلائق, لا يعلمهم إلا الله ولن يستطيع أحد أن يفوتها, ولن يستطيع أحد أن ينجو منها إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] إنها الآية التي إذا قرأها المؤمن هانت عليه الدنيا وعلم أن أيامه فيها قليلة, وأن حياته فيها محدودة, وأن ساعاته معدودة, يوم يحس أن أفضل الخلق وأشرف العباد وأحبهم إلى الله قد صار إلى الله فكيف بمن سواه؟! إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] وإذا بالقلوب تتساءل: فما الذي يكون؟ وما الذي يحدث لهذا الكون؟ فأخذ الله عز وجل بمجامع القلوب إلى ذلك اليوم المشهود واللقاء الموعود، إلى تلك المشاهد العظيمة فعبر عنها في آية واحدة كريمة, وإذا بالقلوب تنتقل إلى مشهد من المشاهد بين يدي الله علام الغيوب, إنه المشهد الذي تطول فيه الخصومة, إنه المشهد الذي يعظم فيه السؤال والحكومة, إنه مشهد ديان يوم الدين, يوم يأتي الله لفصل القضاء، يوم يحكم الله بين العباد ويؤذن للأشهاد: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا [النحل:111] يوم يأتي الصغير والكبير, يوم ينكشف الجليل والحقير, يوم يسأل عن الخردلة والقطمير والنقير.

    ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:31] يوم يخاصم الابن أباه, وأخته وأخاه, يوم يخاصم الزوج زوجه, وصاحبته وبنيه, إنه اليوم العظيم الذي تطول فيه الخصومة بين يدي الله الجليل العظيم ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:31] يوم تنقطع المعاذر، وتغص الحناجر، وتخشع القلوب، وتعنت الوجوه للحي القاهر.

    1.   

    مواعظ وعظات من سورة الزمر

    ثم انتقلت تلك الآيات الكريمة في عظات عظيمة حتى وقفت مع المذنبين، ووقفت مع المسيئين المخطئين يوم ثقلت أحمالهم من الذنوب, وعظمت إساءتهم عند الله علام الغيوب, فنادتهم نداء الرحمات، وفتحت أمام أبوابهم المغفرات فناداهم الله فاطر الأرض والسماوات نداءً يهز القلوب، ويعظم رجاءها في الله علام الغيوب, يوم يحس العبد بعظيم إساءته, وجليل ذنبه في حق ربه, فإذا بالأبواب تفتح، وإذا بالنداء يقرع القلوب والأسماع, ألا يخيب الرجاء في الله جل جلاله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الزمر:53] يوم زل اللسان, وزل الجنان, وأخطأت الجوارح والأركان, يا من حملتم ذنوبها, يا من عظمت عليكم إساءتها؛ إني لها وكفى بالله لها, يوم يحس العبد بطول غربته, وبعده عن ربه وعظيم إساءته فيناديه الغني الحليم، ويناديه الجليل الرحيم: ألا تيئسوا من رحمة الله أرحم الراحمين.

    علم الله جل جلاله أن ليس للذنوب أحد سواه, وأن ليس للعيوب أحد عداه, فناداهم وهم في الذنوب غارقون, ودعاهم وهم في الإساءة يتهافتون, ثم بين جل جلاله أن هذا النداء قد وقتت أوقاته، وحددت ساعاته ولحظاته، فقبل الفوات قبل الممات, قبل الفوات قبل الفوات، وقبل الممات قبل الممات: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] يناديهم لكي يتداركوا, لكي يقبلوا ويجذبوا, لكي يقبلوا على الله جل وعلا وينيبوا أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] إنها النفس الظالمة, إنها النفس الآثمة, إنها النفس الظلومة الغاشمة التي ما تركت باباً من الذنوب إلا قرعته, ولا باباً من الإساءة إلا ولجته, أن تقول: يا حسرتى!! وما أعظم الحسرة إذا خسر أصحابها, وعظمت خسارة أربابها, وخرجوا من الدنيا صفر اليدين من رحمة الله! ما أعظمها من خسارة إذا طويت الصحائف باللعنات! ما أعظمها من خسارة يوم يطبع على القلوب! يوم يتأذن غضب الله علام الغيوب؛ من عظيم الإساءة وعظيم الذنوب, ما أعظمها من خسارة يوم لا يستطيع الرجوع، يوم لا تنفع المعذرة ولا تغني الدموع, يوم يتقطع القلب من الألم، ويعتصر من شديد الندم!

    أن تقول نفس.. ومتى تقول؟ حين تضع آخر أقدامها من أعتاب هذه الدنيا وتستقبل الدار التي هي غريبة عليها, يوم تنقطع المعاذر, وتغص السكرات في الحناجر, ويصير العبد ذليلاً حقيراً إلى الله الواحد القاهر: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى [الزمر:56] يا حسرتى.. يوم طال السهر، يا حسرتى.. يوم ضاعت الأعمار, يا حسرتى.. على الساعات واللحظات, يا حسرتى.. على الليل والنهار, يا حسرتى.. على أصحاب لم ينفعوا, يا حسرتى.. على أحباب لا يشفعون, يا حسرتى.. على عمر مضى وزمان ولّى وانقضى, يا حسرتى.. إذا كشف الديوان بخطيئة اللسان وزلات الجنان, يا حسرتى.. يوم يعرض على الله حافياً عارياً, يا حسرتى.. إذا عرض الشباب وما فيه من خطأ وصواب, ولم يفقد العبد فيه زلة ولا حسنة بين يدي الله رب الأرباب, يا حسرتى.. على ثلاثين عاماً أو أربعين أو خمسين أو ستين حين يلقى العبد بها الله رب العالمين.

    يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] ذهب الليل فما تمتعت عيني بالبكاء فيه من خشية الله, ذهب الليل وما تمتعت قدمي بالوقوف بين يدي الله, يا حسرتى.. يوم يذهب العمر دون وجود الغنيمة والذخر, يا حسرتى.. يوم مضى ليله وطلعت شمسه ولم تنعم يداه بالسجود بين يدي الله, يا حسرتى.. على صلاة أضعتها, يا حسرتى.. على زكاة منعتها, يا حسرتى.. على أيام أفطرتها, يا حسرتى.. على ذنوب فعلتها, يا حسرتى.. على خطايا تلبست بها, يا حسرتى.. إذا كشف الديوان وعظم الوقوف بين يدي الله الواحد الديان!

    يا حسرتى.. وهل تغني الحسرات؟! يا حسرتى.. وهل يؤذن بالرجوع عند الممات؟ يا حسرتى.. يوم لم أشكر النعم, يا حسرتى..يوم لم أشكر الله على دفع النقم, يا حسرتى.. يوم لم يلهج لساني بذكره, يا حسرتى.. يوم لم يتلذذ لساني بشكره, يا حسرتاه.. يوم فاز الفائزون, وغنم الغانمون, وجئت صفر اليدين مما هم فيه يتنعمون, يا حسرتى.. يوم فاز الصالحون بالدرجات, وسموا إليها بنفوس عاليات أبيات, ووقفت في الأخريات أنظر إليهم بتلك الحسرات, يا حسرتى.. لو كنت مطيعاً على ما فرطت في جنب الله إذ كنت مستطيعاً, يا حسرتى.. يوم يلفظها اللسان ويعتقدها الجنان فيخرج كل حرف منها من كل عضو وأركان.

    يا حسرتى.. على ما فرطت في جنب الله لعظيم حقه عليّ, وجليل منته لديّ, فكم أنعم وتفضل وكم وهب وأجزل, سبحانه العلي الأكمل.

    يا حسرتى.. يوم لم أعظمه حق تعظيمه, ولم أمجده حق تمجيده, يا حسرتى.. على التفريط في جنب الله, يوم فتحت لي أبواب الخيرات فقلت: هيهات هيهات!! ما زالت الأعمار والبقيات يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] يقولها المذنبون, ويوقن معناها المسيئون المخطئون.

    يا حسرتى.. ولو كان العبد مطيعاً, يا حسرتى.. ولو كان العبد خيراً ديناً مستقيماً؛ ولذلك سمى الله ذلك اليوم المشهود واللقاء الموعود بيوم التغابن؛ لأنه ما من نفس إلا وهي في غبن ولو كانت من نفوس الصالحين, في غبن أن لم يفوزوا بالخيرات, ولم يستكثروا من الطاعات, في غبن أن لم يفوزوا بالرحمات ولو كانوا على خيرات وحسنات.

    يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:56] فويل لذلك اللسان الذي تمتع بالسخرية من أولياء الرحمن, إنها الكلمة التي يقولها من زل لسانه وخاب جنانه، وأساءت جوارحه وأركانه, يا حسرتى.. يوم ضحكت من المطيعين, واستهزأت بعباد الله الصالحين, يا حسرتى.. يوم نظرت إليهم وهم ذاهبون إلى المساجد فقلت: إلى أين يذهبون؟! يا حسرتى.. يوم رأيتهم مع كل راكع وساجد فقلت: لماذا يتعبون؟! يا حسرتى.. إذ لم أقدر الله حق قدره, فاستهزأت بعباده واستخففت بأمره.

    يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:56] وما زالت آيات هذه السورة الكريمة الجليلة العظيمة تهز كيان المؤمنين, وتوقظ عباد الله الغافلين, إنها سورة الزمر، سورة التوحيد والإخلاص, ما من آية من آياتها إلا وتحتاج وقفة معها.

    سورة تهز القلوب والمشاعر, سورة تحيي القلوب والضمائر, سورة تعيش فيها مع أهل النعيم في نعيمهم فكأنك في الجنان تقطف من ثمراتها, وتنال ما فيها من خيراتها, وتعيش مع أهل الجحيم في دركاتهم, فكأن زفير جهنم لتلك القلوب بين آذانهم.

    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى: اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت العظيم ألا تجعلنا من أهل هذه الكلمة, اللهم إنا نعوذ بك أن نكون من أهلها, اللهم إنا نعوذ بك أن تنطق ألسنتنا بها, اللهم حرمها على ألسنتنا، اللهم حرمها على ألسنتنا، وأخرجنا من الدنيا وأنت راض عنا, اللهم إنا نسألك فعل الخيرات, وترك الفواحش والمنكرات, قبل أن يدهمنا الممات, يا حي يا قيوم، يا فاطر الأرض والسماوات.

    اللهم استر عوراتنا, اللهم آمن روعاتنا, اللهم أمِّن يوم الوعيد خوفنا, اللهم استر عوراتنا فيه, اللهم آمن روعاتنا فيه, اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك, اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك, اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك, اللهم لا تمنع عنا بذنوبنا عظيم عفوك عنا يا ذا الجلال والإكرام.

    اللهم إنا نسألك حبك وحب كل شيء يقربنا من حبك, نسألك فعل الخيرات، وترك الفواحش والمنكرات, وحسن الختام عند الممات يا فاطر الأرض والسماوات, اللهم حرم وجوهنا على النار, اللهم حرم وجوهنا على النار، اللهم حرم أجسادنا على النار يا ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام, والملك الذي لا يضام, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديك, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها وأشرفها لحظة الوقوف بين يديك, اللهم اجعلها أسعد اللحظات, اللهم استر لنا فيها العورات, واغفر لنا فيها السيئات, وارفع لنا الدرجات, اللهم أكرمنا بعدها فوراً بالدخول في الجنات يا ذا الجلال والإكرام, سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    1.   

    الأسئلة

    إرشاد من يهجر أهله في المأكل والمجلس بسبب بعض المعاصي

    السؤال: أنا شاب قد أهجر أهلي في المأكل والمجلس بسبب بعض المعاصي كالتلفاز وغيرها, وأخرج لصلاة الفجر ولا أرجع إلا بعد منتصف الليل, فانصحني جزاك الله خيراً إلى الطريق المستقيم؟

    الجواب: الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد:

    فاعلم أخي رحمك الله أن لأهلك عليك حقاً ولزوجك عليك حقاً, وكون الأهل في إساءة وذنب لا يدعو ذلك مثلك أن يذنب وأن يسئ, إن هجر النساء في الفرش باب من أبواب الإساءة, ولا يجوز فعله إلا إذا ترتبت على ذلك المصلحة الشرعية, ولذلك أخبر الله تعالى أن اللاتي يخاف نشوزها أنه ينبغي عظتها وزجرها, فإن لم تتعظ فإنها تهجر في المضاجع بقدر, وإذا كان الإنسان يديم هجر أهله حتى يخشى وقوعهم في الزنا فإن ذلك لا يجوز؛ لأن المفسدة لا تدرأ بالمفسدة, والشر لا يدفع بالشر, وكونهم أخطئوا فيما بينهم وبين الله لا يوجب لك أن تخطئ في حقهم, ولذلك قال الله عن الوالدين: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] فأمر الابن أن يؤدي حق الوالدين مع كفرهما وشركهما, فاستنبط العلماء من هذا دليلاً على أن الإنسان إذا أساء إليه الغير أن ذلك لا يفتح له باب الإساءة للغير, أعطهم حقهم كاملاً.

    وأما ما بينهم وبين الله فأوصيك بأمور: ذكرهم بالله, واستدم نصحهم وتوجيههم إلى صراط الله, فهذا هو الذي عليك, وأما ما عدى ذلك فلست عليهم بمسيطر, إن عليك إلا البلاغ والله يتولى العباد, والله تعالى أعلم.

    سبب نزول قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ...)

    السؤال: ما سبب نزول الآية الكريمة: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:56] وما المناسبة لهذه جزاك الله خيراً؟

    الجواب: الأصل في هذه الآية من قوله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الزمر:53] أن أناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تعاظموا ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من الذنوب والزنا والمحرمات وغيرها, فأنزل الله هذه الآية, رغبهم فيها في التوبة، وأخبرهم أن الله عز وجل سيمُن عليهم إذا أنابوا بالرجوع والتوبة, هذه الآية الكريمة بين الله جل وعلا فيها سعة رحمته, حينما ظن بعض الأصحاب أن الذنوب لا تشملها تلك الرحمة الواسعة، فهذا هو أصل نزول الآية.

    وأما بالنسبة للآية التي ذكرناها فهي مرتبة على آية قبلها، وهي أن الله أمر بالإنابة, وحذر من لم ينب أنه ستمر عليه مثل هذه اللحظة التي يبكي فيها على تفريطه في جنب الله, والله تعالى أعلم.

    أما المناسبة: فالمناسبات بين الآيات للعلماء فيها وجهان:

    من أهل العلم من قال: لا ينبغي أن يبحث عن المناسبات بين آيات السور؛ لما في ذلك من التكلف, والله يحكم ولا يعقب حكمه, ويقول وما أصدق ما يكون من قوله, فالله جل وعلا لا يسأل عما يفعل, ولا يقال: لماذا قال كذا؟ ولماذا جاءت آية كذا بعد كذا؟ فإن الذي تكلم بالقرآن هو العظيم الرحمن, وهذا الكلام إذا صدر من عظيم فإن فيه من الحكم والأسرار ما لا تدركه العقول, فيه من الحكم والأسرار وحسن البيان وكماله ما لا يعلمه إلا الله جلا وعلا, فلا يستطيع العبد مهما بلغ من العلم أن يدرك حقائق المناسبات بين السور والآيات, ولذلك شدد بعض العلماء رحمهم الله في ذلك، وكان السلف رحمهم الله في تفسير القرآن يتوقفون على قدر المعاني لا يزيدون ولا ينقصون, والمناسبات بين السور والآيات حدثت بعد السلف بعصور.

    ولكن قال بعض العلماء: يجوز أن تذكر بعض اللطائف، ولا يعتبر ذلك توقيتاً للورود, بمعنى: لا تقول هذه الآية جاءت من أجل كذا بعد هذه الآية، ولكن تقول: من الحكم والفوائد كذا وكذا. فاعلم رحمك الله أن من كمال منهج المشرع أنه إذا أمر بشيء فإنه ينبغي أن يضع تقديراً أن الشيء يطاع أو يعصى, فإن أطيع وعد بالمثوبة، وإن عصي رهب بالعقوبة, فالله جل وعلا فتح أبواب الإنابة، ولما كانت النفوس البشرية منها من يسابق فينال الرحمة، ومنهم من يتقاعس فينال النقمة؛ فلذلك كان لوجود هذه الآية نوع من التأثير، وهو أن النفس الضعيفة التي لا يفيد فيها الترغيب سيأتيها أسلوب الترهيب, فأول الآية ترغيب: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] هذا ترغيب, فالنفوس التي ينفعها الترغيب تتأثر, ثم جاء النوع الثاني وهي النفوس التي لا تقرع ولا ينفع فيها الترغيب، وهي النفوس التي تزجر وترهب فقال: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:54-55] أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ [الزمر:56] فهذا من أبلغ ما يكون في حسن البيان, وكمال التوضيح من العظيم الرحمن، والله تعالى أعلم.

    نصيحة للذين يتوبون من المعصية ثم يعودون لها وبيان أسباب الهداية

    السؤال: كثير من التائبين عندما يعودون إلى الله تبارك وتعالى ما إن يلبث حتى يعود إلى عصيانه لربه تبارك وتعالى, فماذا تنصح هؤلاء الإخوان بارك الله فيكم؟ ثم ذكر أيضاً سؤالاً: ما هي الأسباب المؤدية للهداية؟

    الجواب: إن من أعظم النقم وأشدها على العبد في الدنيا والآخرة مصيبة الدين, تلك المصيبة التي إذا حلت ونزلت فلا يجبر كسرها إلا الله جل جلاله, ولذلك في الدعاء المأثور: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) ومن أعظم المصائب أن يعرض العبد عن الله جل وعلا, فإنه قد يعرض إعراضاً يحرم الله عليه بعده أن يقبل أبداً, ولذلك من أخوف وأخطر ما يكون على العبد بعد أن يذوق حلاوة الإيمان أن يعرض عن الله العظيم الديان, فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الانتكاسة, وأن يعيذنا منها وأن يثبتنا وإياكم على الصراط المستقيم إلى لقائه.

    ومن أعظم الأسباب التي ينبغي أن يتنبه لها كثير من الإخوان:

    أنه ينبغي على الإنسان إذا التزم أن يلتزم بصدق, وإذا اهتدى أن يهتدي بحق, وأن يأخذ بالدين كله لا بجزئه, وأن يأخذ بهذا الالتزام كلاً لا بعضه, فإذا جاء لهذا الدين يأخذه كاملاً، فإنه إن أعرض عن أمر من أوامر الله لا يأمن الضلال كما قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: [والله لا يبلغني شيء من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره إلا فعلته، إني أخاف إن تركت شيئاً من سنته أن أضل] فهذه من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يتنبه لها.

    الحرص على الأخذ بأوامر الشرع كاملة, يأمرك الشرع أن تحفظ جوارحك فعليك أن تحفظها, يأمرك أن تحفظ أركانك فعليك أن تحفظها, يأمرك أن تعطي فتعطي, يأمرك أن تمنع فتمنع, وإذا قال هذا حلال فهو حلال, وهذا حرام فهو حرام, حينما تأخذ بالدين كاملاً يتغلغل إلى سويداء قلبك, وتأتي الساعة التي يصبح هذا الدين أعز عليك من الطعام والشراب, عليك أن تأخذ بالالتزام كاملاً، ولازم ذلك أن تبحث عن أوامر الدين, وكلما جاءك أمر من الله ورسوله تقل: سمعت وأطعت غفرانك ربنا وإليك المصير.

    الصحابة رضوان الله عليهم لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم واستجابوا جاءت استجابتهم على أحسن وأصدق، وأبهى وأكمل وأجمل ما تكون عليه الاستجابة, فتحوا قلوبهم لهذا القرآن, وكان الواحد منهم تخرجه آية واحدة من ماله لوجه الله جل جلاله, التزام حق، أخذ بالدين بصدق, والله يقول: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ [الأعراف:170] الدين يريد جهاداً ويريد أخذاً يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] يحتاج إلى عزيمة، يحتاج إلى رجولة, فإن الله لما أثنى على أهل طاعته قال: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] ما كسرتهم تجارة الدنيا، ولا أهانتهم الدنيا ولكن وضعوها تحت أقدامهم, ووضعوا الدين نصب أعينهم, فمن حمل هم هذا الدين وأخذه كلاً بمجرد ما يأتيه أمر عن الله فيقول: لبيك. يأتيه النهي عن الله يقول: كففت وانزجرت. ولو كان شيئاً يهواه في نفسه وفي أهله وولده لا يبالي, إذا فعل ذلك فقد أصاب رحمة الله, فلا يزال يستجيب لأمر تلو أمر حتى يحبه الله محبة يتأذن بهداية لا ضلال بعدها, وقد يتأذن له برحمة لا عذاب بعدها, ولذلك كلما وجدت الشاب الصالح يقبل على هذا الدين بصدق كلما وجدت آثار الإسلام في جوارحه، وفي أركانه، حتى وجهه عندما تراه تراه يتلألأ ويشرق من هذه الطاعة.

    فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل, الكثير يلتزم ولكن التزام ماذا؟ في الصور؟! في الظواهر؟! في القوالب والقلوب غافلة عن الله جل جلاله؟

    الالتزام يحتاج إلى صدق, يحتاج إلى إنابة حقة, فمن التزم للعبة أو هوى أو شهوة أو جلوس مع أصحاب, أو التزم بطريقة فيها فكاهة وتندر وأصبح يجلس مع أصحابه فإذا ضحكوا ولعبوا استأنس، حتى إذا ذهبت الفكاهة واللعابة جاءت السآمة والملل, فأصبح يحن ويئن إلى الجاهلية الأولى، وفي هذا يقول الله جل جلاله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11] على حرف، أي: آخر درجة بحيث لا يبقى له إلا شعرة واحدة إما إلى جنة أو إلى نار يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [الحج:11] حينما يأتيه شيء في الإسلام يهواه يقول: هذا هو الإسلام، فتراه يلتزم ويستجيب وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

    نسأل الله العظيم أن يعافينا وإياكم من هذا، إن أصابته فتنة، والفتنة إما تكون شبهة أو شهوة, فلذلك الوقفة التي نحتاج أن نقولها: الالتزام يحتاج إلى عمل, كثير من الشباب التزموا ولكن تأتيهم أوامر الله ورسوله فيصرفونها إلى غيرهم, وأضرب أمثلة كثيرة, الشاب تجده على استقامة والتزام ولكن ما إن تأتي فتنة لا يستطيع أن يعف عنها لسانه, ولا يعف عنها جنانه, ولا تعف عنها جوارحه وأركانه, فأين الالتزام؟ الدين فيه ابتلاء وفيه اختبار وفيه تمحيص, وأخبر الله جل وعلا أن من صبر على هذا الالتزام والتمحيص أن الجنة نصب عينيه هداية ورحمة من الله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا [العنكبوت:69] أي: لوجهنا ومن أجلنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ [العنكبوت:69] أي: والله لنهدينهم لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] الذين أخذوا بالدين بصدق.

    فالمقصود أن الكثير يلتزم ولكن التزاماً هشاً، حتى إن الرجل إذا جاءته الفتنة في لسانه وجنانه يقول: ما أستطيع أتركها! وتجده يلتزم فينهى عن أمر حرمه الله ورسوله ولا يستطيع أن يتركه, ويقول: ما أستطيع! فأين الالتزام؟! فمثل هذا لا يأمن أن ينتكس, من يلتزم التزاماً هشاً يعبث به الشيطان، وقد يأتي إلى شعبة من شعب قلبه يفضي فيها إلى صميم فؤاده والعياذ بالله, ولذلك قد يقال للإنسان: يا أخي! عف لسانك عن عوام المسلمين, فضلاً عن العلماء والدعاة؛ هذا أمر من أوامر الله أن نعف ألسنتنا, ابحث عمن يصون لسانه عن أذية العلماء اليوم, مع الالتزام والديانة والاستقامة, تقول له: يا أخي! من كمال دينك وخوفك من ربك ورجائك لرحمته أن يكون عندك ورع تخاف به وتخشى به من لقاء الله جل وعلا, حتى كان العلماء يتكلمون في الجرح والتعديل وقلوبهم ترعد من خشية الله جل جلاله, مع أنهم يقولون ذلك غيرة على الدين, يخافون أن شعبة من شعب القلب تذهب وتقول الجرح والتعديل تشفياً وغيظاً, فيكون ذلك ذنباً في عباد الله المؤمنين.

    المقصود أننا نحتاج إلى وقفة نعيد فيها النظر في هذا الالتزام, هل الالتزام في الأشكال والصور والمعادن خاوية تأتيها الأوامر وهي في السحيق والهاوية؟ نحتاج إلى وقفة مع هذه القلوب حتى تعرض على رحمة الله علام الغيوب إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] من حب الله ورسوله، يغيروا ما بأنفسهم، من الليلة تجعل في قلبك أن تأخذ بهذا الدين كاملاً, إن جاءك أمر تجعله نصب عينيك, وأقسم بالله العظيم إنك لن تعظم لله أوامره ونواهيه, ومن الليلة جرب إذا جعلت في قلبك أن تأخذ بالدين كاملاً، وأن تغار على حدود الله وحرمات الله غيرة كاملة فإن الله سيجعل لك من الحب والود وهيبة في قلوب العباد على قدر ما هبته سبحانه وتعالى. كان الإمام مالك رحمة الله عليه إمام دار الهجرة إذا جلس السائل بين يديه يرعد من هيبته رحمة الله عليه, كان مهاباً حتى إنه يفتي الفتوى وقد لا يستطيع السامع أن يسمع، ولا يستطيع أن يقول له: أعد عليّ يا إمام؛ من الهيبة التي وضعها الله له في قلوب العباد.

    ويقول الإمام محمد بن الحسن : لقد جلست بين يدي الهادي والمهدي والرشيد، والله ما وجدت الهيبة التي وجدتها لما جلست بين يدي مالك.

    هذه الهيبة يقول فيها أحد أصحاب الإمام مالك مقالة مشهورة: [ولا نظن ذلك إلا لشيء بين مالك وبين الله ]. كان يعظم الله ويهاب الله ويخاف الله, ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما عظموا الدين وهابوه غرس الله في قلوب الأعداء خوفهم ورعبهم, فنسأل الله العظيم أن يرزقنا الالتزام الحق, وأن يجعلنا من أهل الولاية الصادقة التي يحبها ويرضاها, والله تعالى أعلم.

    أما أسباب الهداية فنجملها في أمور:

    أولها وأعظمها: الدعاء, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى) اسأل الله الهدى.

    الأمر الثاني: أن تأخذ بالأسباب، ومن أعظمها تلاوة كتاب الله, والوقوف عند عظات الله, تحلل حلاله وتحرم حرامه, وتتبع شرعه وأحكامه ونظامه دون زيادة ولا نقص, دون غلو ولا شطط, ولا إجحاف ولا اعتساف, فإذا رزقك الله عز وجل ذلك تمسكت بالدين ورأيت حلاوة الهداية, فإن الله يقول عن هذا الكتاب العظيم: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] الكتاب الذي بين أيديكم يحمله الصغير والكبير، ولكنه عظيم القدر عند الله إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] أقوم في العقيدة, أقوم في السلوك, أقوم في الأخلاق, أقوم في الأحكام, حتى مع أهلك وولدك في ساعة عسرك ويسرك, حتى إذا طلقت المرأة يقول: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237] ما ترك شيئاً إلا جاءت فيه الهداية على أجمل صورها وأبهى حللها, الهداية بكتاب الله.

    النقطة الثالثة: الهداية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم, اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قراءة المتأمل المتدبر, وقف مع تلك السيرة العطرة النظرة, وتلك المواقف الجميلة التي تذكرك بالإيمان بالله جل جلاله, وتحيي في قلبك معالم التوحيد والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى, اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر من قراءتها فإن الله يحيي بها القلوب, إذا قرأها الإنسان قراءة المتأمل المتدبر، لماذا؟ لأن الله يقول في كتابه: وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] فإذا كانت قصص الأنبياء والمرسلين في القرآن كان المقصود منها أن يثبت الله بها جنان أحب الخلق إليه وهو النبي صلى الله عليه وسلم, فوالله لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أحب الخلق إلى الله والرسل إلى الله أبلغ في تثبيت القلوب على طاعة.

    الوقفة الرابعة: قراءة سيرة العلماء العاملين, والسلف الصالح من الأئمة المهديين, وتأملها والنظر فيها.

    كذلك أيضاً الأمر الخامس: غشيان حلق العلم، وحب العلماء، وحب الصالحين، وزيارتهم والجلوس معهم والأنس بهم, وشراء محاضراتهم ونداوتهم، ونفع الناس بها, كل ذلك مما يجعل الله فيه الهداية في القلوب؛ لأن العبد إذا أحب العلماء والصلحاء والدعاة إلى الله عز وجل كان ذلك قربة, حتى قال الإمام ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاه كما نقل ذلك القرطبي رحمه الله في تفسيره: إن النظر إلى صاحب السنة الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عبادة، النظر إليهم وهم على طاعة الله ومحبة الله عبادة؛ ولذلك تجد أقرب الناس من العلماء وأكثرهم شبهاً بهم طلاب العلم، لماذا؟ لكثرة المداخلة، وكثرة القرب، ولذلك قال حذيفة رضي الله عنه: [ولقد علم المحفوظون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن مسعود أقربهم دلاً وهدياً وسمتاً برسول الله صلى الله عليه وسلم] ما السبب الذي جعل حذيفة يشهد أن ابن مسعود أشبه الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم؟

    السبب في ذلك: أن ابن مسعود كان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم حتى عند قضاء الحاجة, وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أذنت لك أن ترفع الحجاب حتى أنهاك) يأتي يدخل البيت بدون استئذان رضي الله عنه وأرضاه, فكان أشبه الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم, المقصود: أن ابن مسعود نال هذه المرتبة بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم.

    فالقرب من العلماء والدعاة والهداة إلى الله والأنس بهم خير كثير, حتى إن الطالب لما يرى معلماً أو مدرساً ترى فيه خيراً ونشاطاً في العلم في المدرسة، ونشاطاً في الدعوة تقترب منه؛ لأن هذا ينبئ عن قلب يحب الله ورسوله, لا يشترط القرب من العلماء وحدهم فقد يكون البلد ليس فيه عالم, اقترب من طلاب العلم، اقترب من حفظة كتاب الله الذين يتأثرون بكتاب الله, اقترب من الصالحين ممن يتأثرون بكلام الله رب العالمين.

    فهذه من أعظم الأسباب التي يثبت الله ويهدي بها القلوب, ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا وإياكم إليها, والله تعالى أعلم.

    الأسباب التي تلين لها القلوب

    السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول السائل: إني أمر بحالة عظيمة من قسوة القلب, فأسألك يا شيخ أن تدعو لي. ويقول الآخر: هلا وضحت بعض الأمور التي من خلالها يجد العبد لذة العبادة بين يدي الله تبارك وتعالى؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد:

    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قلوباً رقيقة لذكره وشكره, اللهم إنا نسألك قلوباً ترضيك عنا يا ذا الجلال والإكرام, نسألك أن ترقق قلوبنا, وأن تعيذنا من قسوة القلوب.

    أما ما سألت عنه -أخي في الله- من قسوة القلب, فإن من أعظم الأسباب التي تلين لها القلوب:

    أن يكثر الإنسان من الدعاء, ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله جل وعلا أن يعيذه من القلب القاسي, ففي الحديث الصحيح أنه قال: (اللهم إني أعوذ بك من عين لا تدمع, ومن قلب لا يخشع, ومن دعاء لا يُسمع, ومن علم لا ينفع, أعوذ بك من هؤلاء الأربع) فسل الله أن يعيذك من قسوة قلبك.

    أما الثانية: فابحث عن الأسباب التي قسا بها قلبك, فتش عن ذنوبك بينك وبين الله, وفتش عن حقوق الله التي أضعتها, وحدوده ومحارمه التي جاوزتها وانتهكتها, فلعل صلاة أضعتها صعدت إلى السماء فقالت: ضيعك الله كما ضيعتني. فاستغفر الله ثم تب إلى الله وأنب إليه جل جلاله.

    أما الأمر الثالث بعد الدعاء والبحث عن الأسباب التي تقسي القلوب من حقوق الله: كذلك حقوق العباد, فقد يكون هناك مظلوم ظلمته, أو محروم حرمته, فرفع كفه إلى ربه جل وعلا فاستجاب الله دعوته, وقال الله لدعوته: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) فأصابتك دعوة الرجل الصالح, فاسأل الله عز وجل أن يغفر لك, وأن يذهب عنك ذنوب ما كان من آثار ذنوب العباد وظلمهم, وفتش عن حقوق الناس فيما بينك وبين أهلك وأولادك وزوجك وجيرانك وأرحامك, فتش عن نفسك فلابد من وجود أمر: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] فاتق الله في نفسك وفيمن ولاك الله من أهلك وولدك وغيرهم.

    الوقفة الرابعة: خذ بالأسباب التي ترقق القلوب ومن أعظمها أن تكثر من ذكر الآخرة, فالقلب لا يقسو إلا من الدنيا, والدنيا لا يذكرها الإنسان إلا إذا طال أمله وأصبح يؤمل فيها الآمال, ولا يطول أمل الإنسان إلا من طالت غفلته عن الآخرة والعياذ بالله, ولا تطول غفلة الإنسان عن الآخرة إلا إذا قلل من ذكرها, فأصبح العلاج أن تكثر من ذكر الآخرة, فإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء, وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل, فهذه من أعظم الأسباب: قصر الأمل في الدنيا, فإنه يعين على رقة القلوب, وكثرة ذكر الموت والبلاء, وقرب المصير إلى الله جل وعلا, كل ذلك مما يرقق القلوب.

    ومما يرقق القلوب: أن تشيع الجنائز، وأن ترى ما هي سائرة إليه من عذاب أو جوائز, أن تشيع الجنائز وتعيش مع أهلها حتى إذا غادروها نظرت إليها وحيدة فريدة قد تولى عنها الآباء والأبناء والإخوان والأصدقاء, فأصبحت رهينة القول والعمل، فدعاك ذلك إلى أن تنيب إلى الله جل وعلا فيرجف قلبك من خشية الله, وتذهب عنه القسوة.

    ثم كذلك مما يعين على رقة القلوب: زيارة المرضى، والنظر في أحوالهم, واسمع بأذن واعية إلى ما هم فيه من الآلام والأسقام، وسل الله العافية, انظر إلى تلك الأجساد التي كانت تتمتع بالصحة والعافية، رجل كالجبل, فيضربه الله بنقمة من النقم يخر صريعاً لا يستطيع أن يبرح مكانه, لا إله إلا الله ما أعظم سطوة الله بالعباد! ولذلك النظر في نقم الله في العباد وبلاياه وما ينزله بهم وهو الحكم العدل جل جلاله من أعظم الأمور التي ترقق القلوب, فإن هذا الأمر إذا رأيته خفت أن تكون لك عاقبة مثل عاقبة هذا الرجل, فإن العبد تراه غنياً ثرياً ظالماً غاشماً حتى يضربه الله بمرض في قلبه أو في مخه أو في قدمه, ولا يستطيع أن يبرح فراشه، يئن كما يئن الطفل الصغير, ينسى أهله, ينسى أولاده, ينسى ماله, والله لو خير في لحظات شدة الألم بين جميع التجارات التي جمعها في حياته لدفعها، وأصبحت نفسه أحقر ما تكون وأهون ما تكون عليه, فلذلك ينبغي للإنسان أن يقف في هذه المواقف لكن لا يقف بقلب غافل، بل يقف وهو معتبر, متبصر مدكر.

    كذلك أيضاً مما يرقق القلوب: الإحسان إلى الناس, الإحسان إلى الأيتام، إلى الأرامل, ابحث عن جيرانك, فإن وجدت فيهم أرملة فاقتحم العقبة وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:12-16] ثم تكون بعد ذلك من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة, كن منهم بهذا القلب الرقيق, هذه من الأمور التي تعين على رقة القلوب, تأتي إلى الأرملة في شدة حاجتها فتعطيها مالاً من عنائك, وكد يدك، وهو عزيز عليك تعطيه احتساباً لوجه الله جل وعلا, في ظلمة ليل أو ضياء نهار, ويريد الله أن تلك اللحظة تفتح فيها أبواب السماء فترفع تلك الأرملة لك كفاً فتستجاب دعوتها, فأحسن إلى الناس فإن الإحسان إلى الناس من الأمور التي ترقق القلوب, وقلّ أن تجد إنساناً كريماً جواداً محسناً إلا وجدته أرق الناس قلباً, ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الراحمين يرحمهم الله.

    كذلك أيضاً: خذ اليتيم وامسح برأسه, فإن اليتيم فقد أباه, ويعيش في هذه الحياة بدون أب, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم المسح على رأس اليتيم من الحسنات والقربات؛ لأنك لما تمسح على رأسه تسد الثغرة التي في قلبه, لما تمر يدك على ذلك الرأس الذي فقد الحنان وعاش في هذه الحياة كأنه وحيد, فتشعره كأنك أباً ثانياً، فإن هذه المسحة تقع عند الله بمكانة، والله يحب الحسنة ويحب الخير ويشكره, ولا يضيع العرف بين الله والناس, لا ينسى الله جل وعلا الحسنات, ولا ينسى ما يكون من العبد من إسداء الخير إلى البريات, فأحسن إلى الناس فإن ذلك مما يعين على رقة القلب.

    نريد رقة القلب ونحن أبخل الناس يداً! ونحن أكثر الناس تكبراً وتعنتاً! ونحن أفظ الناس وأغلظهم قولاً! لا شك أن هذه الأمور تحتاج إلى مجاهدة وإلى عمل صالح وإلى قربة, ولذلك وصف الله المؤمنين بماذا؟ قال: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54] المؤمن ذليل لكن هذه الذلة عزة عند الله عز وجل, لما تكون سهلاً ميسراً يرق قلبك, لكن لما يأتي الإنسان فيتعاظم على الناس, ويفتخر عل الناس، ويتعالى على الناس لا يزال يهوي -والعياذ بالله- في سفال حتى يمقته الله جل وعلا, وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر) والعياذ بالله.

    فنسأل الله العظيم أن يرزقنا رقة القلوب, والله تعالى أعلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755970496