أما بعــد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله، اتقوه حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي؛ فإن أجسامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
عباد الله: يحكي واقع كثير من الناس اليوم صوراً شتى من اللاَّمبالاة بقيم الألفاظ، ودلالات الكلام وثمراته، ترى الكلمة تخرج من فم المرء لا يلقي لها بالاً؛ ربما أهوت به في مسالك الضياع والرذيلة، استحقر بعضهم حجم الكلمات، واستنكف عن معانيها، وما علم أولئك أن النار بالعيدان تذكى، وأن الحرب مبدؤها كلام.
أيها الناس: أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تكون مِعْولاً صلباً يهدم به صرح أُسَر وبيوتات؟!
أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها من سعادة وهناء إلى محنة وشقاء؟!
أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تحرك أفراداً وجماعات، وتنشئ تزلفاً وشفاعات؛ لرأب ما صدعت، وجمع ما فرقت؟!
أتدرون أي كلمة هذه؟
إنها كلمة أبكت عيوناً، وأجهشت قلوباً، وروعت أفئدة، إنها كلمة صغيرة الحجم؛ لكنها جليلة الخطب، إنها كلمة ترعد الفرائص بوقعها، وتقلب الفرح ترحاً والبسمة غصةً، إنها كلمة الطلاق، إنها كلمة الطلاق.. وما أدراك ما الطلاق؟ كلمة الوداع والفراق، والنـزاع والشقاق، فلله كم هدَّمت من بيوت للمسلمين! وكم قطَّعت من أواصر للأرحام والمحبين! يا لها من ساعة رهيبة، ولحظة أسيفة يوم تسمع المرأة طلاقها، فتكفكف دموعها، وتودع زوجها!
يا لها من لحظة تجف فيها المآقي حين تقف المرأة على باب دارها لتلقي النظرات الأخيرة؛ نظرات الوداع على عش الزوجية المليء بالأيام والذكريات!
يا لها من لحظة عصيبة حين تقتلع السعادة أطنابها من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك!
إن اختلال العشرة بين الزوجين يذكي نار الفرقة، وكثرة الخصام تضرم أوارها، ولو أحب الأزواج أنفسهم حباً صادقاً، وسكن بعضهم إلى بعض لَوَادَّ كل منهما الآخر، ووادَّ لأجله أهله وعشيرته؛ لأن المودة بين الزوجين سبب من أسباب سعادة البشر، وسبب من أسباب سعادة العشيرة، وسعادة للأمة المؤلفة من العشائر المؤلفة من الأزواج، فهذا التآلف والتأليف هو الذي يتكون منه مزاج الأمة؛ كما يكون عليه من اعتدال وكمال يكون كمالاً في بنية الأمة واعتدالاً، وقرة عين لمجموعها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال يكون مرضاً للأمة يوردها موارد الهلكة، فمن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لأمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي }.
إنه متى كان الدين بين كل زوج وزوجته فمهما اختلفا وتدابرا، وتعقدت نفساهما، فإن كل عقدة من العقد لا تزيد إلا ومعها طريقة حلها، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه، وهو اليسر والمساهلة، والرحمة والمغفرة، وهو العهد والوفاء، وهو اتساع الذات وارتفاعها فوق ما تكون به منحطة أو وضيعة، ومن كانت هذه حاله فلن يستنكف أن يكون ممتثلاً لما أُمر به من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها } وقوله صلى الله عليه وسلم: {استوصوا بالنساء خيراً } وثمرة الدين في المرأة يظهر في مثل قول عائشة رضي الله عنها: [[يا معشر النساء! لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن؛ لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحر وجهها ]].
فما أجهل الرجل يسيء معاملة امرأته! وما أحمق المرأة تسيء معاملة بعلها!
إن الله عز وجل لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان أنهما مخلوق واحد يعيشان في أوهام، إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر برأسه؟ وكيف تريد هي منه أن يحس بقلبها؟ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228] إن النسيم لا يهب عليلاً داخل البيت على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع، وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوع وَهْمٍ، ومن العقل توطين النفوس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر }.
ومن يتتبع جاهداً كل عثرة يجدْها ولا يسلم له الدهر صاحب |
بيد أن بيوتات كثيرة فقدت روح التدين، فهي تتنفس في جو من الشراسة النكر، واكتنفتها أزمات عقلية وخلقية واجتماعية؛ فقد تطلق المرأة اليوم في رطل لحم؛ علق الرجل به طلاقها إن قامت بشرائه، فيخبط هؤلاء خبط عشواء ويتصرفون تصرف الحمقى؛ فيقعون في الإثم والحيف.
والعجب كل العجب أنه في ثنايا المناقشة، يقرر الإعلاميون أن دور الإعلام مع المرأة إنما هو كالتلقيح بمصل بعض الأدواء المعدية، والتسمم بميكروبها، بزعم أنها تكسب صاحبها مناعة تقيه من أن يعدى بوبائها، وحقيقة الأمر أنهم بالذي وضعوا زادت العقد، وإن ما يذكره الإعلاميون هو التعرض لعدوى الوباء في عنفوان شدته، ولقد صدق القائل:
وكانت دوائي وهي دائي بعينه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر |
والواقع -أيها المسلمون- أن داخل البيت المسلم يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة إذا عصفت في الخارج تسللت إلى الداخل، فلم ينجُ من بلائها إلا من عصم الله.
عباد الله: كثر الطلاق اليوم، لما صار المطَلِّق أحد رجلين:
إما رجل أعمل سلطته، وأهمل عاطفته؛ فكان في بيته سيداً، ولكنه لم يذق طعم المحبة والسعادة، ولا عرف الصفاء والهناء.
وإما رجل تبع عاطفته فأطاعها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبداً رقيقاً.
وبهذا كله يفهم الرجل أن أفضل ما يستصحبه في حياته، ويستعين به على واجباته: الزوجة اللطيفة العشرة، القويمة الخلق، وهي التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره، إن هذه الزوجة هي دعامة البيت السعيد، وركنه العتيد فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعــد:
فيا أيها الناس! إن أحدنا لتمر عليه فترات لا يرضى فيها عن نفسه، ولكنه يتحملها ويتعلل بما يحضره من المعاذير، وإذا كان الأمر كذلك فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين؛ يلتمس كل منهما لقرينه المعاذير؛ فإن المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات، ولابد من غض الطرف عن الهفوات والزلات؛ حتى تستقيم العشرة
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط |
ومن حق الزوج على زوجته أن تطيعه في المعروف، وأن تتابعه في مسكنه، وألا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، وألا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه، وألا تخرج بغير إذنه، وأن تشكر له نعمته عليها ولا تكفرها، وأن تدبر منـزله، وتهيئ أسباب المعيشة به، وأن تحفظه في دينه وعرضه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض، دخلت الجنة ) رواه الترمذي والحاكم .
هذا وصلوا -رحمكم الله- على أفضل البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلَّى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً ) اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا سميع الدعاء! اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها، ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر