إسلام ويب

سلسلة كيف تصبح عالماً [7]للشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الوقت رأس مال المسلم، فحري به أن يحافظ على رأس ماله، والناظر في شأن الصحابة ومن بعدهم يجد حرصهم الشديد على الوقت، واستغلالهم إياه فيما يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة.

    1.   

    رفع شأن العلم وضرورة الاهتمام به

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فما زلنا في حديثنا حول القضية الهامة التي تحدثنا عنها في عدة محاضرات، وهي قضية العلم ومكانته في الشرع الإسلامي، وقضية أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وكيف يكون الطريق لأن نكون علماء؟ وكيف السبيل إلى أن نتخطى العقبات والعراقيل التي تمر بها الأمة الآن في طريق العلم؟ وذكرنا أن أول طريق العلم: هو تقدير قيمة هذا الذي تجاهد من أجله وهو العلم، وذكرنا أدلة كثيرة على هذا الأمر.

    والأمر الثاني: أن تبذل الجهد كل الجهد، ونكرر للمرة العاشرة وأكثر مقولة يحيى بن أبي كثير رحمه الله: لا يستطاع العلم براحة الجسم.

    اليوم بإذن الله سنتكلم عن شيء من أهم الأشياء لكي نكون من العلماء، ولا يستقيم أبداً أن نكون من العلماء بغيره، بل لا تكون نجاة بغيره، لكن قبل الحديث عنه كعادتنا نتحدث عن بعض الأسئلة، والحقيقة هي أسئلة في غاية الأهمية.

    قبل أن نخوض في الأسئلة هذه الدروس هي محاولة للعصف الذهني، بمعنى إخراج كل ما عندنا في هذه القضية المهمة، وأنه ليس الغرض من وراء هذه المحاضرات هو حل كل مشاكل العالم الإسلامي في يوم وليلة، وليس الغرض أن نكون علماء غداً أو بعد غد، ومن الممكن أن نختلف مع بعضنا البعض في بعض الآراء التي ذُكِرت في هذه المحاضرات، وقد تكون هناك جوانب كثيرة أغفلت سواء عمداً أو عن غير عمد في هذه المحاضرات وهي من الأهمية بمكان؛ لأننا قدمنا الأهم في رأينا وتركنا غيره، وقد يكون الأهم غير ذلك.

    المهم في كل ما نقوله أننا نضع هذه القضية في بؤرة الاهتمام، والحل قد لا يكون في هذه اللقاءات السريعة، لكن قد يكون حلها في ندوات متكررة على مدار عدة سنوات، وفي محاضرات ودورات تدريبية، يكون حلها في تغيير منهج حياتنا على مدار السنوات المقبلة، يكون حلها في إذكاء الحمية في قلوب علماء المسلمين، فيبدءون في توريث العلم لغيرهم، يكون غرضها حث طلبة العلم على طلب العلم.

    عادة ما تكون الوسائل من أبسط الأشياء، يعني: قد نصل بأبسط الوسائل التقنية أو المسائل المادية إلى العلم المعين، لكن لابد في البداية أن يوضع الأمر في بؤرة الاهتمام، وهذا ما نحاول أن نبحثه، وسلكنا في ذلك عدة مسالك: منها: توضيح قيمة هذا الأمر في الشرع الإسلامي، وما قاله الله عز وجل في حق العلماء، وما قاله رسولنا صلى الله عليه وسلم في حق العلماء، وقدر العلماء عند أئمة المسلمين وعند الصالحين من أبناء هذه الأمة، ودور العلم في بناء الأمم، والأمم التي اتخذت العلم كيف وصلت وإلى أي شيء وصلت؟! وكيف تقود العالم الآن؟!

    يعني: إذا استوعبنا هذه الأمور وأحسسنا بقيمة القضية، إن شاء الله لو حرصت على الوصول ستفتح لك الأبواب، ونذكر بقول ربنا سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

    1.   

    الأسئلة

    بعض الأسئلة مهمة جداً، وهنا سؤال سيكون له مكان في المحاضرة القادمة، لكن لأهميته سأذكره الآن ثم نعيد إن شاء الله التذكير به في المحاضرة القادمة.

    طرق معالجة النية وإخلاصها في طلب العلم وغيره

    السؤال: أجد في نفسي أحياناً رياء عند طلب العلم، فالأصل أني أطلب العلم من أجل رضا المولى ولكن قد يداخل ذلك حب التميز والتفوق وحب الشهرة وكلام الناس، فماذا أفعل؟

    الجواب: أذكر السائل بالمقولة الهامة جداً، وهي: العمل من أجل الناس رياء، وترك العمل من أجل الناس شرك. يعني: أن إبليس يزين لك أموراً ويلبس عليك الأشياء ويقول لك: أنت تطلب العلم لأجل الناس، فيدفعك إلى تركه؛ حتى تخلص النية وتصلح القلب، وهذا تلبيس من إبليس، لكن الصواب أن تستمر في العمل مع تجديد النية الصالحة المستمرة، وتجديد النية ليس سهلاً، يقول سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي. ومعالجة النية أمر صعب فعلاً، لكن بالممارسة والمجاهدة وبالمحاولة مرة وثانية وثالثة وأكثر -إن شاء الله- سيصل المسلم الصادق إلى درجة الإخلاص المطلوبة، ومعالجة النية ليست مرة ولا مرتين في العمر أو مرة أو مرتين في السنة، لا، لكن مع بداية كل عمل معين، في كل ساعة وكل لحظة، وحسب درجة الإيمان تزداد درجة الإخلاص، ومطلوب منك أن تقرأ كثيراً عن الآخرة؛ لكي تخلص النية لرب العالمين سبحانه وتعالى.

    ذكر نفسك بيوم الممات، وذكر نفسك بيوم المعاد عند الله عز وجل، وذكر نفسك بالحساب أمام الله عز وجل، وستجد أن النية إن شاء الله تتجه تدريجياً إلى أن تكون نية خالصة لله عز وجل، والأمر فيه تفصيل، وسنتحدث عنه إن شاء الله في الدرس القادم بشيء من التفصيل.

    مدارس اللغات الأجنبية ومحاولة طمس اللغة العربية أو إضعافها

    السؤال: هناك مشكلة اختيار مدارس لغات أو مدارس لغة عربية للأطفال؟

    الجواب: إن ما ذكره السائل أمر مشاهد، فإن مدارس اللغات مستواها التعليمي أعلى من المدارس العربية في الجملة، صحيح هناك استثناءات، لكن في الجملة هذا هو المشاهد.

    وقد ناقشت هذه القضية قبل ذلك في مجموعة (فلسطين حتى لا تكون أندلساً أخرى) وذكرنا أن أعداء الإسلام عندما أرادوا الكيد لهذا الدين لم يغلقوا مدارس الأزهر في أوائل القرن الماضي، ولكنهم أنشئوا إلى جوارها المدارس العلمانية، وفتحوا أبواب العمل لطلاب المدارس العلمانية، فبالتالي مع مرور الوقت بدأت الناس تتجه بأبنائها إلى المدارس العلمانية سعياً وراء فتح فرص عمل للأبناء عندما يكبرون، وأصبح الذي يدخل الأزهر هو الذي لا يستطيع أن يدخل المدارس الأخرى، ومع مرور الوقت تدنى المستوى التعليمي في الأزهر إلى درجات لم يكن عليها قبل ذلك مطلقاً، وقديماً في تاريخ الأمة العظيم كان عظماء الأمة هم الذين يهتمون بالعلوم الشرعية ويدرسونها ويتفوقون فيها، وكان النبوغ في هذه المجالات وسيلة لرفعة الإنسان وسط القوم أو وسط المجتمع الذي يعيش فيه، لكن الإنجليز أنشئوا مدارس علمانية وسهلوا فرص العمل لطلابها، وفوق ذلك أيضاً بدءوا يعطون رواتب أعلى لخريجي هذه المدارس أعلى بكثير من رواتب خريجي الأزهر.

    والمدارس العلمانية كانت تتحدث باللغة العربية في الجملة، لكن الآن صارت هناك مدارس لا تتحدث إلا باللغة الأجنبية فقط، وأيضاً فرص العمل مفتوحة بصورة أكبر لمن يحصل على الشهادة من مدرسة أجنبية، وهذا يدفع النوابغ من أبناء المسلمين إلى الالتحاق بالمدارس الأجنبية، ويخرج في آخر المطاف وهو لا يستطيع أن يكتب ويقرأ اللغة العربية إلا بصعوبة بالغة وبضعف شديد، وبالتالي يصعب عليه جداً أن يقرأ القرآن الكريم أو السنة المطهرة، ولو قرأ لا يستطيع أن يفقه بسهولة، فتكون النتيجة تردياً مستمراً للتفقه في القرآن والسنة وفي علوم الدين بصفة عامة، وأخطر من ذلك أن الفرد منا قد يقول: أنا ممكن أن أُحْضر لابني مدرساً يعلمه اللغة العربية في البيت حتى يرتفع مستواه، نقول حتى لو ارتفع مستواه في اللغة العربية واستطاع أن يقرأ اللغة العربية بصورة جيدة، ويقرأ القرآن والسنة بصورة طيبة، فإنه قد يدخل في شعوره الداخلي دون أن يريد هو وآباؤه ذلك تعظيمُ اللغة الغربية على اللغة العربية، وأنها مصدر النجاة في هذه الدنيا، وأنه لا فلاح له ولا وصول إلا بهذه اللغة، وليس معنى هذا الكلام أننا ضد تعلم اللغات الأجنبية.

    يقول البعض: هل أنت مع تعليم الأطفال بعض المصطلحات الغربية وهم قبل سن الدخول إلى المدرسة؟

    والسؤال الذي يأتي بعد ذلك: هل يا ترى يتعلم الطالب اللغات الأجنبية مع اللغة العربية أو لا يتعلمها؟

    نقول: نحن مع تعلم اللغات الأجنبية مطلقًا، على قدر ما تستطيع، حاول أن تتعلم لغة أخرى إلى جوار اللغة العربية، لكن بشرط أن تكون اللغة العربية هي اللغة الأساس، هي اللغة الأولى لك، حتى لو كانت اللغة العربية ليس لها تواجد في العالم الآن إلا في البلاد العربية؛ لكن هذه بداية، ونحن نريد نهضة شاملة في العالم الإسلامي، وإذا حدثت هذه النهضة الشاملة في علوم مختلفة وكانت اللغة العربية هي الأساس سيكون هذا مجال انتشار للغة العربية في العالم، وأذكركم أن من كان يريد أن يتعلم الطب أو الهندسة أو الفلك أو الكيمياء من أوروبا أو من الهند في وقت عزة الدولة الإسلامية كان عليه أن يتعلم اللغة العربية، كذلك يتعلم اللغة العربية، حتى يدرس في جامعات المسلمين: جامعة قرطبة، جامعة طليطلة، جامعة أشبيلية، جامعة بغداد، جامعة القاهرة، يعني: كانت مدينة القاهرة من مدن العلم المشهورة في ذلك الزمن.

    وسنتحدث إن شاء الله في محاضرة قادمة عن: صور رائعة من الحضارة الإسلامية، ونذكر بعض الأمثلة من الجامعات والمكتبات الإسلامية العملاقة التي كانت كلها باللغة العربية، والطلبة فيها من بلاد مختلفة في العالم مسلمون وغير مسلمين يتحدثون باللغة العربية، لكن تحقير اللغة العربية والتهوين من شأنها عند الطفل وإشعاره أنه لا نجاة له إلا بتعلم اللغة الأجنبية وجعلها هي اللغة الأساسية الأم، بل وقد يفخر بعض الآباء والأمهات بأن أبناءهم لا يستطيعون الكلام بالعربية، وأن معظم كلامه باللغة الإنجليزية فهو لا يستطيع أن يعبر عن نفسه إلا بلغة أجنبية، فهذا شيء خطير جداً يحتاج إلى مراجعة.

    هناك ناس تعاني من إدخال أولادها مدارس مستواها إلى حد ما أضعف من مستوى المدارس الأجنبية، نقول: إن طريق العلم لا بد فيه من معاناة سواء كانت معاناة مادية أو معاناة فكرية، فأي نوع من أنواع المعاناة متوقع، لكن لا بد من بذل الجهد، فإننا عندما نراجع تاريخ الدول التي قامت في هذه الأيام في عصرنا هذا، نجد أنها اهتمت اهتماماً قوياً جداً باللغة الأم، حتى وإن كانت غير منتشرة في العالم، فمثلاً: التعليم الأساسي في اليابان كله باللغة اليابانية، وكذلك التعليم الأساسي في ألمانيا كله باللغة الألمانية، وقد تجد بعض المدارس تدرس لغة أخرى إنجليزية أو فرنسية، لكن معظم المدارس لا تدرس هذه اللغة؛ لكي يصبح الطفل متشرباً تماماً بلغته ومعتزاً بانتمائه إلى لغته وإلى وطنه وإلى قومه، ففي فرنسا صعب جداً أن تجد شخصاً في الشارع أن تكلمه بلغة غير فرنسية، وقد يكون فاهماً، لكنه لا يرد عليك لو كلمته باللغة الإنجليزية أو الألمانية؛ لأنه معتز بلغته الفرنسية، وفي ألمانيا كذلك، وفي كندا في منطقة مونتريال الأغلبية فيها يتحدثون باللغة الفرنسية، والقانون هناك يجرم الذي يكتب عنوان محله بغير اللغة الفرنسية ويحاسبه ويلزمه بدفع غرامة، وإذا أراد أن يكتب لغة إنجليزية أو لغة ألمانية بجانب اللغة الفرنسية فلابد أن تكون الفرنسية بخط كبير وتحتها بخط صغير اللغة الأخرى، كل ذلك حتى لا تموت اللغة، مع أن هذه اللغة تربطهم سوياً على أساس دنيوي بينما نحن المسلمين تربطنا اللغة العربية على أساس الدين، وهي لغة القرآن ولغة أهل الجنة، فالقضية في منتهى الخطورة، وانهيار اللغة العربية هو بداية انهيار لفقه الأمة الإسلامية، لقرآنها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وبداية انهيار لعزة الأمة الإسلامية وللهوية الإسلامية.

    من أوائل الجامعات التي أنشئت في فلسطين على يد اليهود عام (1922)م يعني: بعد دخولهم فلسطين بخمس سنوات، فهم دخلوا إليها في عام (1917)م مع الإنجليز، هذه هي الجامعة العبرية، وتدريس اللغة العبرية أمر أساسي في بناء دولة إسرائيل في داخل فلسطين الحبيبة، نسأل الله أن يحرر أرض فلسطين كاملة، فاللغة العبرية كانت لغة ميتة في العالم، من الذي يتكلم العبرية في العالم؟ إلى الآن اللغة العبرية في العالم لغة محدودة جداً، ومع ذلك لزرع الهوية اليهودية وحبهم لهذه اللغة ولهذا الوطن الذي يجمعهم تعلموا العبرية وعلموها أولادهم، ونحن إن تعلمنا اللغة العربية فإنها تربط بين بلاد العالم الإسلامي، ويا للمأساة عندما لا يفهمني الجزائري أو التونسي إلا بعد أن أتحدث معه باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، والأمر أصعب وأصعب مع الأتراك والباكستان والهنود والأندونيسيين والماليزيين وغيرهم من غير العرب، وكل يتحدث لغة مختلفة في العالم الإسلامي.

    والمشكلة الكبيرة أنه يأتي من داخل البلاد العربية التي أنعم عليها ربنا سبحانه وتعالى بهذه اللغة، أن يأتي من يعرض عن هذه النعمة ويتكلم بلغة أخرى ويعيش كالأعاجم في بلاد عربية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    حكم تعلم اللغات الأجنبية

    السؤال: أدرس في كلية لغات وترجمة أزهر دراسات إسلامية فما الذي تنصحنا به؟ وهل لنا من دور؟

    الجواب: عليك دور ضخم جداً، وليس معنى ما ذكرنا سابقاً أننا لا نتعلم لغات، وأنت رجل عندك لغات وترجمة وأزهر وعندك معلومات دينية لا بأس بها، تعلم اللغة الإنجليزية، وتعلم اللغة الإسبانية، واللغة الألمانية وغيرها من اللغات، وصل العالم كله بدين الله عز وجل، ورد على الشبهات، ورد على بابا الفاتيكان، ورد على جرائد الدنمارك، ورد على كذا وكذا من المشاكل التي تطل علينا من كل مكان.

    كن عنصراً فاعلاً، وتحرك بلغتك فأنت تسد ثغرة، فقد كان زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه كان مقرباً جداً لرسولنا صلى الله عليه وسلم، ومن أهم أسباب هذه القربى له أنه تعلم لغة لم يتعلمها عموم الصحابة.

    دور كبار السن في قضية العلم وغيره

    السؤال: الأمثلة المذكورة للعلماء الذين ذكروا في الدروس السابقة معظمهم بدءوا في سن مبكرة فما حال الكبار؟

    الجواب: يعني: نحن الآن كبرنا في السن فمنا من أصبح عمره (20) سنة أو (30) سنة أو (40) فقد ذكرتم أن الشافعي حفظ القرآن وهو ابن (7) سنين وحفظ الموطأ وهو ابن (10) سنين.

    وأحمد بن حنبل كان يريد أن يخرج قبل الفجر من أجل أن يتعلم الحديث وهو لا يزال طفلاً صغيراً، وأمه تمسكه وتقول له: لا تخرج قبل الفجر، وهو يريد أن يخرج قبل الفجر لطلب الحديث، فيقول السائل: إذاً: ماذا يعمل الكبار؟

    نقول: ما أكثر الأمثلة في التاريخ الإسلامي على من بدأ في سن الكبر، وحتى لو لم توجد أمثلة، سنفترض أنك لا تعرف أن موسى بن نصير فتح الأندلس وعمره (72) سنة، ولا أن يوسف بن تاشفين التزم بالإسلام وعمره (46) سنة، وقبل ذلك كان بعيداً تمام البعد عن الفكر الإسلامي والالتزام بتعاليم الشرع، فبدأ طريقه في الالتزام وعمره (46) سنة، وخالد بن الوليد أسلم وعمره (47) سنة، وعمرو بن العاص أسلم وعمره (57) سنة، فالله سبحانه وتعالى أنعم عليهم بالفتح، سواء في مجالات الجهاد أو مجالات العلوم أو مجالات الدعوة، في كل مجالات الإسلام بصفة عامة، لا أريد أن يقول إنسان: إنني قد تأخر بي الزمن، لا، فـابن الجوزي رحمه الله بدأ يتقن القراءات العشر ويقرؤها على الشيوخ وعمره فوق (80) سنة، مع العلم الغزير الذي كان عنده في كل فروع العلم، يعني يقول ابن تيمية عن ابن الجوزي : ما أعلم أحداً صنف مثله. في كل الفروع له مصنف رحمه الله، ولكن هناك فرع لم يتعلمه ولم يتخصص فيه في أول حياته وإنما تعلمه وعمره فوق (80) سنة، ألا وهو علم القراءات.

    أيضاً اذكر قول الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، ستحاسب على كل لحظات عمرك لوحدك، فكون العالم كله يضيع وقته ويلعب وينشغل بأمور لا تنفع فاعلم أنك ستحاسب لوحدك يوم القيامة، فالوقت الذي تبقى لك من العمر لعله يوم أو يومان أو عشرة أو عشر سنين أو أكثر فاستغله كله لله عز وجل.

    حقيقة العمل في الشركات الأمريكية وغيرها من الدول الكافرة

    السؤال: هناك شخص يعمل في شركة نظم معلومات أمريكية، وهي وشركة متميزة في مجال غير منتشر في بلاد العالم الإسلامي، لكن هو يشعر أن الفائدة تعود على الشركة، فالأرباح كلها متجهة إلى الشركة، وكل جهده متجه للشركة، فهل يستمر أو لا يستمر؟

    الجواب: نقول: لماذا تشتغل في هذه الشركة؟ لو كنت تشتغل في هذه الشركة لتحصيل أسباب المعاش فقط، فمن فضلك اترك الشركة هذا اليوم؛ لأننا نقاطع البضائع الأمريكية والشركات الأمريكية إلى أن يتركوا بلادنا، فهم محتلون للعراق ولأفغانستان، ويساعدون اليهود في فلسطين، أما إن كنت تشتغل في هذه الشركة لنقل العلوم من هذه الشركة إلى بلاد المسلمين، وتعلم علماً لا يعلمه المسلمون الآن، وتقصد بذلك وجه الله عز وجل، والنقلة الحضارية للأمة الإسلامية فهذا أمر محمود، كالذي يذهب في بعثة إلى أمريكا لكي يتعلم علماً من العلوم ليس عندنا، يتعلم فرعاً من فروع الطب، الفلك، الكيمياء، ثم يرجع بعد ذلك ليفيد أمة الإسلام بهذا العلم، لكن بضوابط، أهم هذه الضوابط: أن تكون عندك خطة واضحة وسنوات محدودة، وبعد ذلك ترجع لتفيد بلاد المسلمين، لكن لو بقي عندهم تتعلم علوماً جديدة وتقول: آخذ أيضاً هذا العلم، وآخذ أيضاً هذا العلم إلى أن يصبح عمرك (70) أو (80) سنة وأنت مقيم عندهم، فإن المسلمين سيحرمون من علمك، وستصبح قوة إسلامية أضيفت إلى قوة الغرب، وسبب ضعف المسلمين.

    فإذاً: اذهب بنظام: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، لكن كما قلنا بضابط عدم المخالفة للكتاب والسنة، فأنا أذهب وآخذ هذه العلوم من هناك لكن بقدر ما نحتاجه في هذه الجزئية، ولا يكون المجال مفتوحاً بدون حدود.

    هذا الكلام ينطبق على البعثات وينطبق على العمل في الشركات، وأيضاً انتبه قد يكون الإغراء كبيراً، فقد تذهب بنية الرجوع، لكن مع مرور الوقت لا ترجع؛ بسبب كثرة الأموال وراحة العيش، فتترك بلاد المسلمين وهموم المسلمين وتثري الشركة الأجنبية بكل طاقتك، وهذا لا يستقيم.

    كيفية إخراج الإمكانيات والطاقات الموجودة في العقل البشري

    السؤال: كيف نخرج إمكانياتنا التي وضعها الله عز وجل في العقل البشري؟

    الجواب: أولاً: أنت لا بد أن تبذل الجهد من أجل أن تخرجها، وقد ذكرنا كلمة أديسون التي ذكرها عندما سئل عن الإلهام الذي عنده؟ فذكر أن الإلهام الذي عنده يمثل في اختراعاته (2%) وفي بعض الروايات (1%) والباقي (98%) من الاختراعات نتيجة الجد والاجتهاد، ونتيجة العمل والمثابرة والكفاح المستمر والسهر الساعات الطويلة، فاستطاع أن يخرج إمكانيات لم يكن يراها أحد فيه، فـأديسون هذا لم يكن مقبولاً في المدرسة، فمستواه الفكري ليس عالياً، وهذا المثال سيجيب عن السؤال التالي.

    وضع الإنسان في مجال يناسبه يؤدي إلى الإبداع والتفوق

    السؤال: لو كان هناك إنسان مستوى ذكائه ضعيف فهل يمكن أن يكون عالماً؟

    الجواب: من الذي عرف أن مستوى ذكائه ضعيف، فلربما أن المشكلة تكمن في أنك وضعته في مجال ليس من اختصاصه، ألم يبدع أديسون وهو من عائلة فقيرة جداً، مات أبوه فربته أمه وأخذته ودارت به على المدارس هنا وهنا ولم يقبله أحد، فكان كلما دخل مدرسة بقي فيها فترة ثم عندما يعرفون أنه فقير يخرجونه منها، كان هذا في أوائل القرن العشرين، يعني: ليس في القرون الوسطى، لكنه حاول وحاول وظل يقرأ في كتب كانت لأبيه، فقد كان عند أبيه مكتبة، فهي من الأسباب التي أوصلته إلى ما وصل إليه من الإبداع والاختراع، وبدأ يعمل في بيع الجرائد؛ لكي يكفي أمه ويكفي نفسه، ثم بعد ذلك بدأ يفكر قليلاً قليلاً فعمل أول اختراع ثم الثاني ثم الثالث إلى أن بلغت اختراعاته (1200) اختراع وفي رواية (2500)، فهذا إنجاز ضخم جداً، وهو شخصية غير مسلمة، وليس عنده ما عند علماء المسلمين من التوفيق، لكنه بذل جهداً، ومن يبذل جهداً فإن من سنن رب العالمين أنه يعطيه مقابل ذلك ولا يظلمه.

    نعم، ليس له في الآخرة نصيب؛ لأنه لم يعمل ذلك لله عز وجل، لكن اجتهد وأخذ في الدنيا النتيجة التي عمل لها.

    إذاً: فأنت تحتاج إلى جهد، لكن تحتاج إلى شيء آخر مهم جداً وهو أن تعرف موهبتك وأن تعرف مجال تفوقك، وهذا سيجرنا إلى سؤال آخر.

    أثر تخصص الإنسان في مجال لا يهواه

    السؤال: إذا تخصص الإنسان في مجال لا يهواه فماذا يفعل؟

    الجواب: أولاً: لا بد أن تعرف هل هذا من تلبيس إبليس أم هو فعلاً مجال غير مناسب لك؟ فإبليس قد لا يريدك أن تستمر في العلم فيبغض إليك هذا الفرع من العلم، مع أنه فرع جيد وممكن تحبه، ولكن الشيطان يثبطك، فحاول مرة ومرتين وثلاث مرات، فإذا تفوقت في هذا المجال فإنك ستحبه إن شاء الله، لكن على فرض أنك تفوقت ونبغت فيه ومع ذلك لا تحبه وليس على هواك، وإنما هواك في شيء آخر، فليس هناك مانع من أن تغير الطريق، ولا تقل: انتهى الوقت وذهبت مني سنتان في الكلية، لا، إذا كنت بعد سنة أو سنتين في الكلية ولم تعجبك الكلية ولم تستطع أن تفهم فيها، وميولك كلها في اتجاه آخر، لكن والدك أو والدتك أو الظروف المجتمعية التي تعيش فيها ضغطت عليك؛ لكي تدخل كلية معينة، وهواك في اتجاه آخر غير، فليس هناك مانع بعد سنة أو سنتين من عمرك وبعد أن أخذت فيها تجربة وأخذت فيها نوعاً معيناً من العلم، حتى وإن لم يكن علماً ترغب فيه، فليس هناك مانع من أن تغير الطريق، وليس معناه أنك تكمل هذا الطريق، فأنت لا تعرف كم تبقى لك من عمرك؛ لأن كثيراً جداً من عظماء العالم بدءوا في اتجاه، ثم مشوا في اتجاه آخر بعيداً جداً، ليس هناك مشكلة أبداً من تغيير المسار، ونحن نعرف أمثلة كثيرة جداً لأناس في تخصصات بعيدة تمام البعد عن المجال الذي نبغوا فيه بعد ذلك وتفوقوا.

    شبهة معارضة الاهتمام بطلب العلم للكسب وطلب الرزق

    السؤال: يحتاج طالب العلم للتفرغ وتحتاج ظروف الحياة للعمل فما الأولى؟

    الجواب: لا شك أن طلب العلم قد يؤثر على حصيلتك المادية في البداية، لكن بالمثابرة والجد ستصل إن شاء الله، لا تجعل النقود هي هدفك، فأنت لو جعلت العلم هدفك فإن النقود ستأتيك، وليس معناه أن تقعد في البيت ولا تشتغل، لا، بل لا بد أن تفرغ أوقاتاً للعمل والكد والكدح، لكن لا يكون هدفك في الحياة جمع المال، والبحث عن وظيفة أكثر ربحاً ولو كانت أقل علماً، فلو كنت تريد أن تصبح عالماً فأنت بحاجة إلى ظروف معينة وشروط معينة، منها: التفرغ لقضية العلم قدر المستطاع، مع العمل الذي يكفل لك المعيشة، لكن لا تجعل حياتك كلها في هذا المجال، هناك ناس سخرت حياتها في الاقتصاد وفي جمع المال لله عز وجل حسب زعمهم، نقول: حتى وإن كان غرضك وهدفك جمع المال لتعلو بأمة الإسلام فإنه يخشى عليك جداً من الفتنة في الدنيا؛ لأنه مع مرور الوقت وبالتدرج قد تقع في الفتنة، نسأل الله السلامة.

    هناك أسئلة أخرى كثيرة، لكن هذه أكثر الأسئلة ارتباطاً بموضوعنا، وإن شاء الله في المرات القادمة نعرج على بعض الأسئلة الأخرى.

    1.   

    أهمية الوقت في حياة المسلمين

    اليوم نتحدث بإذن الله عن العامل الذي لا يستطيع عالم أن يكون عالماً إلا به، بل لا ينجو الإنسان في حياته إلا بالاهتمام به، ذكرنا أنك إذا أردت أن تصبح عالماً فإن عليك فعل شيئين:

    الأول: أن تقدر قيمة الشيء الذي تجاهد من أجله.

    الشيء الثاني: لا يستطاع العلم براحة الجسم.

    أما الشيء الثالث فهو موضوعنا في هذا اليوم، قد تجد أناساً تعمل (24) ساعة سبعة أيام في الأسبوع (365) يوماً في السنة، يعني: يعملون على مدار السنة، فهؤلاء يبذلون جهوداً ضخمة جداً، لكن ليس هناك إنجاز معين، فهم يتعبون كل السنة، وفي آخر السنة ما هي الإنجازات التي عملوها؟ لا شيء.

    نحن نريد أن نتكلم عن عامل مهم، ألا وهو عامل الوقت، فما قيمة الوقت في حياة العلماء؟ لا يوجد عالم في الدنيا يضيع وقته، ولا يوجد عالم في الدنيا لا يرتب أولويات وقته، هل هناك من يضيع وقته؟ هذا مستحيل يكون عالماً، لكن المشكلة أن هناك أناساً لا تضيع وقتها، ولكن لا تعرف كيف تدير الوقت، ولا تعرف كيف تنظم الوقت، ولا تعرف كيف تستغل كل الوقت، مع وجود الحمية والإخلاص في قلب من كان كذلك، إلا أنه لا يستطيع استغلال وقته استغلالاً كاملاً، فتضيع بذلك الأعمال والأعمار، ولا يستطيع أبداً أن يصل إلى درجة العلماء.

    أغلى ما يمتلك الإنسان حقيقة هو الوقت، فهو رأس مالك وهو عمرك ويوشك إن ذهب البعض أن يذهب الكل، الوقت يذهب بسرعة وإذا ذهب فلا يمكن أن يرجع، لو كان هناك من يتحمس لقضية العلم وعمره (30) سنة فسيبتدئ فلو عمر (60) سنة سيتبقى له (30) سنة، أما الماضية فقد فاتت قدر الله وما شاء فعل ما فات فات.

    كذلك لو بدأت وعمرك (50) سنة، إذاً: (50) سنة انتهت، فاهتم بالآتي، والآتي قد تكون (10) (20) (30) (50) سنة الله أعلم، لكن ما فات فات.

    من يسمع هذا الكلام الآن سيحزن جداً على العشرين السنة أو الثلاثين السنة التي انقضت وسيضيع أيضاً عشرين سنة أو ثلاثين آتية في الحزن، هذا لا ينفع.

    الغرض من كلامنا أن تبدأ من الآن في الحفاظ على الوقت؛ لأن قضية الوقت قضية ماسة، وللأسف الشديد أمة الإسلام الآن تعاني معاناة كبيرة جداً في قضية الحفاظ على الوقت، الإنتاجية للعامل الأوروبي سبع ساعات في اليوم، هم يعملون ثمان ساعات أو تسع ساعات، لكن المجمل سبع ساعات، بينما المجمل للعامل المصري (30) دقيقة، الإنتاجية للعامل المصري لا تقاس بالساعات وإنما بالدقائق نصف ساعة فقط، هذه إحصائيات رسمية حكومية في مصر ليست في جرائد المعارضة، وهذه كارثة، هم يحسبون الإنتاج على عدد العاملين، نحن عندنا بطالة مقنعة، هناك مئات وآلاف وعشرات الآلاف ومئات الآلاف بل ملايين عندهم بطالة مقنعة، أعرف شخصاً يذهب إلى عمله يومين في الشهر، وعندما سألته: لماذا لا تذهب إلا يومين في الشهر؟

    قال: اليوم الثاني هو يوم استلام الأجرة، فضروري أن أذهب، لكن اليوم الأول هذا من أجل أن أشتغل، قلت له: وبقية الأيام من الذي يشتغل؟ قال: زملائي يشتغلون، فكل واحد من زملائي يأتي يوماً في الشهر، فقلت له: لماذا تعملون هكذا؟ قال لي: نحن (30) موظفاً ولو حضرنا كلنا فستكون أزمة؛ لأن الثلاثين متوظفون في غرفة واحدة فيها مكتب واحد. هذا أمر حقيقي، ويشتغل هذا الشخص وزملاؤه في مركز من المراكز الصحية في محافظة الدلتا في الغربية بمصر؛ ليس هذا لأن المحافظات الغربية بالذات فيها مشكلة، لا، بل هذا في كل مكان، وأنتم تعرفون هذا.

    إذاً: أنا أخبركم بأن هذه واقعة حقيقية يذهب هذا الموظف يوماً في الشهر؛ لأنه لا يوجد إلا مكتب واحد، والعمل الذي يعمل في المكتب يقوم به واحد. كنت في إدارة من الإدارات الحكومية أعامل أمراً معيناً، فقلت لأحد الموظفين: كيف أخبار المواعيد في رمضان عندكم؟ قال: أعطوا نصف الموظفين إجازة، والنصف الآخر نصفهم يحضرون يوماً والنصف الآخر يحضر اليوم الآخر، فقلت له: وهل العمل لا يتأثر؟ فقال لي: عندما نكون أقل يكون العمل أفضل.

    وهذا الكلام في منتهى الحكمة؛ لأنه لو كان الكل يعمل فسيصير العمل غير مضبوط، فلما يكون عندك مائة واحد والعمل يقوم به عشرون إذاً المائة سيعملون عطلاً في العمل ولن تعرف من المسئول، ولا أحد مسئول معين، فالوقت ليس له ثمن، يعني: لما أقعد ثمان ساعات في العمل وفي الأخير يصبح إنتاجي (30) دقيقة.

    إذاً: الوقت ليس له ثمن، وأين إنتاجية الأمة؟!

    إذاً: قضية الوقت هي قضية للفرد وللجماعة وللأمة بكاملها فهي قضية في منتهى الأهمية، وهي قضية دنيا وآخرة، فالذي يضيع وقته على خطر عظيم، وتعرف قيمة الوقت أكثر في لحظتين: لحظة الاحتضار وأنت على فراش الموت، ستعرف قيمة الوقت حينها، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100]، هذا الموت قد يأتي الآن لأي شخص منا، فالموت يأتي بغتة، وحينها ستعرف قيمة الوقت وتقول: لو أني استغليت الشهر الفائت والسنة الفائتة واليوم الفائت واللحظة الفائتة، قد يترك شخص الدرس ويذهب ليشاهد تمثيلية أو كرة قدم، أو يذهب لينام قليلاً ولم يهتم بمجلس علم وعند خروجه من مجلس العلم مات، أكاد أجزم أنه لو خير في لحظة موته الأخيرة أن يعود ويعمل عمله لقال: أريد أن أرجع لأحضر الدرس، أو أرجع لأتوب من ذنب معين أو أرجع لأقرأ صفحة من القرآن، أو أرجع لأتصدق لله عز وجل، أو أرجع لأعمل كذا أو كذا. انتهى. ليس هناك رجوع، هذه قضية محسومة.

    هذه أول لحظة خطيرة.

    اللحظة الأخطر: يوم القيامة، فالحساب فيه على الذرة والقطمير، وعلى كل لحظة من لحظات الحياة مهما دقت إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، تفكر أنك في عرض سينمائي لأعمالك يوم القيامة أمام ربنا سبحانه وتعالى، أنت واقف وترى أعمالك مجسمة، وترى نفسك وأنت قاعد في البيت، وأنت قاعد في المكتب، وأنت ماش في الشارع، وأنت قاعد في مصلحة، وأنت قاعد لوحدك، وأنت قاعد مع الناس، فيلم فيه عرض لكل لحظة من لحظات حياتك بمنتهى الدقة، يمر من الأول إلى الآخر، وأنت تشاهد هذا الفيلم يوم القيامة، قد تكون هناك مشاهد تحب أن تكون غير موجودة، وهناك مشاهد تحب أنها طالت في الدنيا مثل: طلب العلم، والجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله، والإنفاق في سبيل الله، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، هذه كلها محتاجة لأوقات، فستتمنى إبدال الأوقات التي ضاعت منك حتى لو كانت في أمور هي من المباح، لكنها ليست من أعمال الدرجات العليا، لكن هذا لا يكون، حينها ستندم.

    إذاً: أغلى شيء نمتلكه هو الوقت.

    قيمة الوقت عند الصحابة ومن بعدهم

    يقول الحسن البصري رحمه الله: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أحرص منكم على دنانيركم ودراهمكم. يعني: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا حريصين على الوقت حرصاً شديداً، فهم في كل لحظة في إنجاز وفي إنتاج.

    يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه علمي. يعني: عبد الله بن مسعود يندم على اليوم الذي يمر عليه بلا علم، وهي أيام قليلة جداً في حياته رضي الله عنه؛ فقد كان من علماء الصحابة الأفذاذ رضي الله عنه وأرضاه.

    إذاً: ينبغي لنا الحفاظ على وقتنا وإدارة وقتنا بصورة مرضية: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

    أي فراغ في يومك ينبغي أن يستغل في الحق؛ لأنه لو لم يمتلئ بالحق سيمتلئ بالباطل، ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل؛ لذلك ربنا سبحانه وتعالى يأمر بالمسارعة: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21]، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90] وإلى المنافسة: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] إياكم والتسويف، لاشك أن كل الحضور عندهم قناعة تامة الآن بقيمة العلم، ويريد الواحد منا أن يكون عالماً من علماء المسلمين، ونحسبكم جميعاً على خير ولا نزكي على الله أحداً، لكن ليس كلنا سيبتدئ اليوم في العمل، فهناك ناس ستقول: سأبتدئ إن شاء الله من أول الأسبوع، أو من أول السنة الآتية؛ لأن هذه السنة مضى منها جزء، وإن شاء الله السنة القادمة سأهتم اهتماماً كبيراً.

    وهناك من يقول: سأحضر الدراسات العليا بعد سنتين أو ثلاث عندما أنتهي من قضية كذا وكذا، والذي سيبتدئ الآن هم قليل، فكيف سيحصل التغيير؟ أقول: إياكم والتسويف فعظماؤنا في التاريخ الإسلامي كانوا حريصين جداً على عدم تضييع أي لحظة من لحظات الحياة، كانوا يستغلون ما أسميه: الفراغات البينية، والفراغات البينية هي أن تعمل عملاً معيناً من الساعة الثانية إلى الساعة الرابعة، والعمل الثاني سيكون من الرابعة والنصف إلى الخامسة والنصف، فمن الرابعة إلى الرابعة والنصف هذا فراغ بيني، أي: بين العمل الأول والعمل الثاني، فهل تستغله أم لا؟

    كذلك عندما أذهب إلى الجامعة أو إلى المدرسة فالمسافة من بيتي إلى المدرسة وقتها نصف ساعة وعند الرجوع نصف ساعة فهل هذا الوقت مستغل، أم لحظات انتظار كئيبة أو جلوس في الباص أو التاكسي، أو ماشي في الشارع؟! هل تستغل هذه الفراغات البينية أم لا؟ كذلك لو كانت عندك محاضرة في الجامعة، وبعد ربع ساعة محاضرة أخرى، فهل الربع الساعة التي في النصف مستغلة أم لا؟ وعندما تأتي لتجمع الفراغات البينية في يومك فلن تكون أقل من ساعتين، فاضرب ساعتين في الأسبوع واضربها في الشهر وفي السنة وفي عمرك، هذه أعمار طويلة ممكن تستغل فيها أعمال ضخمة جداً.

    قيمة الوقت عند أبي حاتم الرازي والمجد ابن تيمية

    هذا أبو حاتم الرازي من علماء المسلمين المشهورين رحمه الله، كان من علماء التفسير وعلماء الحديث وكتب وألّف مجلدات في فنون شتى، يحكي ابنه عبد الرحمن عنه فيقول: ربما كان يأكل وأقرأ عليه وقت الأكل، وذلك من حرصه على الوقت فهو يأمر ابنه أن يقرأ عليه وهو يأكل، فيسمع علماً فلا يذهب وقت الأكل عليه، ثم يقول ابنه: ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه.

    والقراءة على من في الخلاء لا داعي أن تفعلوها ليست مهمة، دعونا نحرص على الوقت الآخر، لكن كان يعمل هكذا.

    وكذلك جدّ ابن تيمية كان يفعل ذلك أيضاً، كان إذا دخل الخلاء أمر أحد أولاده أن يقرأ عليه من خارج الخلاء؛ لأنه لا يستطيع أن يدخل معه الكتب الخلاء، فحتى لا يذهب الوقت يأمر أحد أولاده بأن يقرأ عليه وهو في الخلاء.

    كذلك الإمام النووي رحمه الله قل أن يمشي في الطريق دون أن يحفظ شيئاً من كتب العلم أو من القرآن الكريم، كان يستغل الوقت وهو يمشي في الطريق رحمه الله.

    قيمة الوقت عند سالم النحوي والفتح بن خاقان وغيرهما

    كذلك ثعلب النحوي رحمه الله أحد علماء القرن الثالث الهجري في النحو والبلاغة وفنون أخرى كثيرة، كان يأخذ الكتاب في يديه ويقرأ فيه وهو يمشي في الطريق، أتدرون كيف مات؟ لقد خبطه فرس وهو يقرأ من الكتاب أثناء سيره في الطريق، لا تفعلوا مثله، لكن حاول أن تستغل وقتك فكم من أوقات تضيع في السيارات، لو أنت ركبت السيارة وأتيت بشريط محاضرة أو غيرها فتسمعه وتسمعه الناس، فتكون استفدت ودعوت إلى الله عز وجل، فكم من أوقات تضيع على الناس، فإذا سافرت فخذ معك شريطاً وأعطه لصاحب السيارة لتسمعه أنت ومن معك من الركاب، وكن إيجابياً في التغيير قدر المستطاع.

    وهذا الفتح بن خاقان من علماء المسلمين وكان من وزراء المسلمين أيضاً، كان وزير المتوكل أحد خلفاء العباسيين، فكان إذا قام لعمل شيء يأخذ معه كتاباً، ويظل يقرأ في الكتاب وهو يمشي، وكانت لديه مكتبة هائلة، وكان شديد الشغف بالقراءة.

    إذاً: الأوقات الصغيرة هذه لو تجمعت مع بعضها لصارت طويلة، وحصل فيها المرء على علم، وأنا جربت هذا الموضوع، فقد كنت فترة من حياتي أعيش في أمريكا، وكنا نقطع مسافات في أمريكا طويلة جداً، ممكن تكون مئات الكيلو مترات، كنا نقطعها يومياً بشكل طبيعي، ويمكن أن يذهب منك وقت هذه المسافة، ولكن بفضل الله كانت هناك مكتبة ضخمة هائلة من الأشرطة موجودة في المسجد الذي كنا فيه، وهي لعلماء مختلفين، بعضهم تسمع عنهم وبعضهم لم تسمع عنهم، وهناك أشرطة نادرة، فكانت هناك ثروة علمية حقيقية، ولم أكن أسافر إلا وقد جهزت برنامجاً للسفر، فكم من العلم الذي أستفيده على مدار السنوات في تلك المسافات الطويلة، كنا نمشي عشر ساعات كل يوم، خمس ساعات ذهاب وخمس ساعات إياب، فإذا لم يكن هذا الوقت مستغلاً ضاع هذا الوقت ولا يعود، فلا أخرج أي مشوار إلا ومعي كتاب أو كتيب، حتى إذا سنحت لي فرصة قرأت؛ لأن في بعض الأوقات تكون عملية جراحية، فتتأخر العملية، فأقرأ وأستغل الوقت.

    هناك ناس يظل يقرأ الجرائد الموجودة الآن هذه، حتى يقتل الوقت، أو يظل ينكت ويتكلم في أمور سواء كانت تخاريف أو في المباح، إلى أن يمر الوقت ويأتي الدور عليه ليدخل عيادة الدكتور، أو مكتب المحامي، حفظكم الله من المشاكل، فهذه أوقات كثيرة جداً.

    إذاً: أثناء السفر خذ كتابك أو المصحف واقرأ، وإذا خرجت من البيت إلى المسجد تستغفر الله، قد تكون المسافة من البيت إلى المسجد قصيرة جداً، بينهما أربع أو خمس عمارات، فقلت مرة: أعد وأنظر كم سأقول: أستغفر الله، فكانت مائة مرة، وكذلك وأنت ذاهب إلى عملك استغل وقتك، وأنت ذاهب إلى قريبك وجارك، أو خرجت لتشتري جبناً .. أو غير ذلك استغل وقتك، فنحن حياتنا فيها مليون فراغ بيني، فأنت لو وقفت مع نفسك ستجد عندك فراغات بينية كثيرة، فإذا لم يستغل هذه الفراغات البينية ستكون كارثة بالنسبة له، ويضيع العمر.

    كذلك الخليل بن أحمد مبتكر علم العروض، وهو من أبرع علماء اللغة رحمه الله، كان يقول: أثقل الساعات علي ساعة آكل فيها؛ لأنه لم يكن بجواره أحد يقرأ له، فكان يمر عليه الوقت، وقد يكون هذا الكلام مبالغاً فيه، لكن كيف أصبح الخليل بن أحمد ؟ وكيف اشتهر الطبري ، وكذلك ابن الجوزي ما الذي جعل لهم هذه القيمة؟

    قيمة الوقت عند ابن عقيل الحنبلي

    كذلك ابن عقيل الحنبلي رحمه الله كان يقول: أنا أحب سف الكعك على أكل الخبز؛ لأن سف الكعك لا يأخذ وقتاً، وأكل الخبز أنتظر حتى أقطع وأغمس.. وغير ذلك، فتذهب الأعمار في الأكل.

    ونحن في هذا الوقت نأكل الشوربة، ثم الشاي، فما أن ننتهي من الشاي إلا وتأتي الأكلة الثانية.

    فهم لم يكونوا يأكلون بكثرة، وإذا أكلوا أكلوا بسرعة، فهو يحب سف الكعك على أكل الخبز؛ لأن الخبز يأخذ وقتاً، والكعك يأخذ ثلاث دقائق تقريباً، فلو وفرت دقيقتين في كل أكلة فأنا آكل مرتين أو ثلاثاً في اليوم، فحوالي ست سبع دقائق في اليوم زيادة، فهذا إنجاز، فأنت حينما تقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ستقولها في ثلاث ثوان أو أربع ثوان، فتكون قد غرست نخلة في الجنة في هذه الثواني، هل لهذه الثانية قيمة أم لا؟ لها قيمة ضخمة جداً، كذلك كلمة: استغفر الله قلتها في ثانيتين، كذلك قولك: أستغفر الله، أستغفر الله بعد الصلاة في كم تؤديها، واحسب سبحان الله والحمد لله، والله أكبر (33) مرة لكل منها في كم تكون من الوقت.

    فهناك أناس يبخل ويعجز أن يعمل هذه الأشياء، لكن قد يبقى ساعتين وربما أكثر من ذلك أمام المباراة، فيفرغ الأوقات غير محلها.

    وابن عقيل يقول عنه الذهبي : إنه استطاع أن يؤلف أكبر مصنف في الدنيا، وهو كتاب (الفنون)، أي: فنون اللغة، وفنون التفسير، وفنون المناظرات، وفنون الكلام، وفنون الفلسفة .. وغير ذلك، فكل العلوم التي تتخيلها في كتاب الفنون، فهو (800) مجلد، وليس فيه أي كلام، بل قرأ كتابه علماء أفذاذ، فقالوا: وقد أتى فيه من الأعاجيب ما لم يأت أحد قبله رحمه الله، كـابن الجوزي في تعليقه عليه، وكـالذهبي في تعليقه عليه، وابن كثير في تعليقه عليه.

    وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري. انظر إلى نظرته إلى الوقت، فالقضية عنده ليست قضية فضل، فهو يرى أن تضييع الوقت حرام، يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح على السرير. يعني: عندما أستريح من عناء المذاكرة وعناء المطالعة وعناء التدريس والمناظرة، فقبل أن أنام أعمل فكري في مسائل وأنا مستطرح على الفراش، فلا أنهض من الفراش إلا وقد خطر على بالي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في الثمانين أشد مما كنت أجد وأنا في العشرين.

    هذا كلام ابن عقيل ؛ ولهذا عمل كتاب الفنون في (800) مجلد.

    1.   

    أهمية تنظيم الوقت

    من الأشياء المهمة جداً أيضاً في قضية الوقت، غير استغلال الفراغات البينية، وغير استغلال الأوقات الضرورية التي يجب أن تقضى كوقت الأكل وغير هذا: أن الإنسان يبدأ ينظم وقته.

    1.   

    تنظيم الإمام النووي للوقت

    كان الإمام النووي رحمه الله يقرأ المصنفات التي كتبها في الحديث، وفي الطبقات، وفي الفقه، وفي أصول الفقه .. وغيرها وغيرها، وقد يظن الواحد أنه كان منقطعاً تمام الانقطاع للكتابة والتأليف، مع أنه كان يؤلف ويكتب بالليل، فماذا كان يعمل في النهار؟

    كان له درسان في الوسيط في الفقه، ودرس ثالث في المهذب، ودرس في الجمع بين الصحيحين، ودرس في صحيح مسلم ، ودرس في اللمع في النحو، ودرس في إصلاح المنطق لـابن السكيت في اللغة، ودرس في التصريف، ودرس في أصول الفقه ودرس في المنتخب للفخر الرازي ، ودرس في أسماء الرجال، ودرس في أصول الدين في التوحيد، يعني: عددها اثنا عشر درساً يومياً، كان يحضر هذه الدروس ليتعلم، وفي مرحلة أخرى من حياته يحضر الدروس هذه ليعلَّم، فقد كان أستاذاً في مدرسة الحديث في دمشق، فقد ظل عمره هذا يحضر اثني عشر درساً سواء طالب علم أو عالماً، وبالليل يصنف، فعمل هذه الإنجازات الهائلة كلها، وهذه الدروس مرتبة في أوقات معروفة، بعد الفجر درس، وبعد الضحى درس، وبعد الضحى بساعتين درس آخر، وقبل الظهر درس وبعد الظهر درس، وبعد العصر درس، وكل درس له ميعاد معروف، وبالليل التأليف، ومات رحمه الله وعمره (44) سنة، فكل هذا الإنجاز الضخم وعمره (44) سنة، وهو من بني آدم مثلنا مثله، وسيحاسب يوم القيامة معنا، ويوزن في نفس الميزان، واعلم أن الميزان يوم القيامة واحد، ليس هناك ميزان لأهل القرن العشرين، وميزان لأهل القرن الأول، وميزان لدولة أمريكا، وميزان لدولة مصر، إنما هو ميزان واحد، فـأحمد بن حنبل وابن عقيل وابن الجوزي والطبري والشافعي والنووي وابن النفيس والبيروني وجابر بن حيان والرازي والمجاهدون والعلماء والدعاة والمنفقون .. كل هؤلاء جميعاً ونحن أيضاً سنعرض على رب العالمين سبحانه وتعالى، وتوزن أعمالنا، فلا زالت الفرصة أمامك الآن للعمل طالت أو قصرت.

    تنظيم الإمام الشافعي للوقت

    كان الشافعي رحمه الله أيضاً يقسم وقته، وكان يحضر الصبح في جامع عمرو بن العاص حينما كان في مصر، بعد الفجر مباشرة يأت أهل القرآن، أي: أصحاب التفسير والقراءات فيجلس معهم إلى أن تطلع الشمس، وبعد أن تطلع الشمس يأت أهل الحديث الذين يتكلمون في الحديث وعلومه وما إلى ذلك، فإذا ارتفعت الشمس قاموا واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة، فيبدأ يناظر الناس، ويذاكر للناس في أمور فقهية، فإذا ارتفع الضحى جداً جاء أهل العربية والشعر والنحو حتى يقترب نصف النهار، وبعد صلاة الظهر يرجع إلى بيته في الفسطاط ليأخذ القيلولة، وبعد ذلك يرجع مرة أخرى بعد العصر إلى تعليم الناس.. وهكذا كل يوم على هذا، حتى في لحظات مرضه الشديد كان يفعل ذلك، ونحن في هذا الوقت نتأفف إما من البرد أو غيره، لكن الشافعي رحمه الله كانت عنده بواسير في آخر حياته وكانت شديدة النزف، حتى إنه كان إذا ركب الجواد يقطر دماً على الجواد مما أصابه من البواسير، وكان يذهب ويرجع وهو شديد العلة ليأتي بدرسه ولا يفوته رحمه الله؛ ولهذا فإنا نجد إنجازات شبه خيالية في حياة هؤلاء حقيقة.

    فهؤلاء الناس بالفعل أثْروا التاريخ الإسلامي، وجعلوا التاريخ الإسلامي غرة في جبين الإنسانية حقيقة، ونريد أن نساهم في هذا التاريخ، لا نريد أن نكون مجرد قارئين ولكن فاعلين، فبعد مائة سنة سيأتي من يتكلم علينا بالإيجاب لا بالسلب، فإياكم أن يقولوا: هؤلاء الناس كان جيلاً ضيع الأمة، ولكن كان جيلاً رفع الأمة بعد وقوع، وأصلح بعد فساد، وقاد الأمة بعد أن كانت الأمة مقادة قاد الآخرين بالإسلام.

    فنريد أن نصنع التاريخ ونغير من وجه التاريخ ونكون من أسباب رفعة الأمة الإسلامية.

    تنظيم الفيروزآبادي وابن حجر وابن جرير الطبري للوقت

    كان الفيروزآبادي صاحب القاموس المحيط المشهور من أعظم علماء اللغة في الإسلام، قرأ صحيح مسلم في دمشق على شيخه في ثلاثة أيام، وصحيح مسلم بالمكرر من (7000) إلى (12000) حسب حسابات العلماء، ومن غير المكرر (3000) أو (4000) ولنقف عند أقل رقم وهو (3000) فهو قرأ (3000) حديث تسميعاً على شيخه في ثلاثة أيام.

    وهذا ابن حجر العسقلاني قرأ صحيح البخاري في أربعين ساعة أيضاً تسميعاً، وبعد ذلك قام بقراءة صحيح مسلم في أربعة مجالس في يومين، ثم قام وقرأ سنن ابن ماجة أيضاً تسميعاً في أربعة مجالس، ثم قرأ كتاب النسائي الكبير الذي فيه (11000) حديث في عشرة مجالس، كل مجلس أربع ساعات، ثم قرأ معجم الطبراني الصغير في مجلس واحد ما بين الظهر والعصر، وفيه (1500) حديث.

    هذه الإنجازات شبه الخيالية نتيجة المحافظة على الوقت، فالله عز وجل بارك له في عقله، وحفظه وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

    كذلك ابن جرير الطبري ظل أربعين سنة كان كل يوم يكتب أربعين ورقة أو خمسين ورقة، فعندما تأتي لتجمعها ستكون أكثر من نصف مليون ورقة في حياته كتبها رحمه الله، ما أثر عنه أنه أضاع دقيقة واحدة في حياته رحمه الله، ومصنفاته ليست كأي مصنفات، وإنما لها السبق، وهو من أئمة التفسير، ومن أئمة التاريخ، ومن أئمة الفقه، فهو صاحب مذهب رحمه الله، قال لتلامذته: ما رأيكم أن نفسر القرآن ونكتبه؟ فقالوا: في كم تكتبه؟ قال: في (3000) ورقة، قالوا: هذا تفنى فيه الأعمار، فاختصره إلى ثلاثة آلاف، ثم قال: أتنشطون لكتابة التاريخ منذ آدم عليه السلام إلى وقتنا هذا، وهو مات في سنة (310هـ)، يعني: هو من علماء القرن الثالث والرابع الهجري، فقالوا: في كم؟ فقال: في ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: هذا تفنى فيه الأعمار، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فاختصره في ثلاثة آلاف ورقة.

    هذه إنجازات هائلة.

    تنظيم ابن الجوزي للوقت واستغلاله له

    آخر ما نتكلم عنه في هذا الدرس هو ابن الجوزي رحمه الله؛ فقد طالع في حياته (20000) مجلد.

    ففي حياته اتسع الوقت لقراءة (20000) مجلد، ويمكن أن يكون المجلد صغيراً، فأحد العلماء قال: لو افترضنا أن المجلد (300) صفحة، فيكون ما قرأ ستة ملايين صفحة، وكتب بيده (2000) مجلد، يعني: حوالي (600000) صفحة، يقول ابن تيمية : ما أعلم أحداً كتب مثل ما كتب ابن الجوزي .

    ويقول الموفق عبد اللطيف في حقه: كان لا يضيع من زمانه شيئاً أبداً.

    ويقول ابن الجوزي في أواخر حياته: تاب على يدي من المسلمين (100000)، وأسلم على يدي من اليهود والنصارى (20000).

    سأقرأ عليكم من كلامه حتى تعرفوا منهجه في الحياة، يقول رحمه الله: لقد رأيت خلقاً كثيرين يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد: خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعنى من الكلام، ويتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور واشتاق إليه واستوحش من الوحدة، خصوصاً في أيام التهاني والسلام.

    يعني: أنه كان في زمانه أناس كثيرون جداً يحبون أن يجلسوا ويتكلموا في أمور الغيبة، أو في أي أمر من الأمور، وكانوا يستوحشون من الوحدة، ويريدون أن ينهوا الوقت بأي كلام.

    ثم يقول: فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين:

    إن أنكرت عليهم ذلك وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، يعني إذا قلت لهم: لا تقعدوا معي سوف يغضبوا؛ لأنني قطعت المألوف، والمألوف هو أننا نجلس مع بعض، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، أي: أرد ردوداً سريعة قصيرة حتى يعرف الرجل أني مشغول فيمشي، ثم يقول: ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يضيع الزمان ويمضي فارغاً، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد -والكاغد هو الورق- وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، وترتيب المكتبة، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي.

    وعاش ثمانين سنة وأكثر رحمه الله، ولهذا أنجز هذه الإنجازات الضخمة، وليست هذه الأعمال من فراغ.

    ونحن لا نقول هذا الكلام للتعقيد، وإنما نقول هذا حتى نعمل مثله، وإذا لم تعمل مثله فاعمل نصفه أو ربعه أو نسبة منه.

    1.   

    ذكر بعض الخطط السريعة المعينة على اغتنام الأوقات

    خطط سريعة تعين على اغتنام الأوقات:

    الخطة الأولى: ابدأ من الآن في إعداد جدول عملي للعلم.

    الخطة الثانية: حدد الهدف والأولويات، في أي مجال من مجالات العلوم سأعمل؟ ما هو هدفي؟ إلى ماذا أصل؟ ما نيتي؟ ثم ترتب ما هو الأول ثم الذي يليه .. وهكذا.

    الخطة الثالثة: ضع خطة فيها كل الدوائر التي تهمك، فأنت لست فقط طالب علم، فأنت طالب، ويمكن أن تكون زوجاً أو أباً أو ابناً أو موظفاً أو عاملاً أو أستاذاً، أو عندك أعمال أخرى في حياتك، عندك رحم، وعندك أمة إسلامية، وعندك دعوة، وعندك مسجد، ولديك نادي تذهب إليه .. وهناك أمور كثيرة جداً مشغول بها، ضع خطة فيها كل الدوائر وقسم الأعمال على الدوائر، ورتب الأولويات.

    الخطة الرابعة وهي مهمة جداً: أن تشرك معك ذوي الخبرة، فإذا كنت صاحب كيمياء أو فيزياء أو فقه أو حديث فلا تضع خطتك لنفسك، ولكن اجلس مع أحد المتخصصين حتى يساعدك في وضع خطة محكمة، وابدأ من حيث انتهى الآخرون، استفد من تجارب السابقين وإخوانك وأصحابك وأقرانك وأساتذتك وعلماء الأمة.

    الخطة الخامسة قبل الأخيرة: تابع خطتك، يعني: بعد أن تعمل الخطة وتضع مقداراً زمنياً معيناً لتنفيذ هذا العمل في ثلاثة شهور أو سنة أو سنتين، اعمل متابعة لنفسك بعد شهر مثلاً وحاسب نفسك: ماذا عملت؟ هل تمشي في الطريق مشياً صحيحاً أم أنك تضيع وقتك؟ وبعد ثلاثة أشهر تجلس مع نفسك، ثم بعد ستة أشهر وبعد سنة، لتكن لك جلسات تقييم مستمرة، وإلا ستتفاجأ أن سنتين مضتا وأنت لم تعمل شيئاً؛ لأنك وضعت خطة ولم تتابعها.

    الخطة الأخيرة: تحلى بأخلاق العلماء الربانيين؛ لأنه يمكن أن تكون عالماً، ولكن قد تسعر في جهنم والعياذ بالله، ومعلوم أن أول ما تسعر جهنم تسعر بعالم وبمجاهد وبمنفق، فعليك أن تتحلى بأخلاق العلماء الربانيين.

    أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756174735