إسلام ويب

سلسلة تأملات قرآنية [7]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • النبوة اصطفاء واختيار من الله تعالى، يمن بها على من يشاء من عباده، وقد ذكر الله تعالى جملة من الأنبياء والرسل الذين منّ الله عليهم بهداه، واصطفاهم لحمل رسالته، وسماهم بأعيانهم، وفي حياتهم ذكرى للذاكرين وعبرة وعظة للمتقين.

    1.   

    حاجة السائر إلى الله إلى المنهج والقدوة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبينا عن أمته، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فحديثنا في هذا الدرس إكمال لما فسرناه من كتاب ربنا في الدرس الماضي، وقد وقفنا عند قول الله عز وجل: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:163-165] .

    فهذه الثلاث الآيات هي التي سيدور عليها الحديث في هذا اللقاء المبارك إن شاء الله تعالى.

    فنقول مستعينين بالله تعالى: إن الإنسان وهو يسير إلى ربه لا بد له من منهج يسير عليه، ولا بد له في نفس الوقت من أئمة يقتدي بهم، وحتى يكون المسير إلى الله جل وعلا حقاً على بينة وعلى صراط مستقيم لا بد من أن يكون المنهج الذي نسير به من لدن ربنا، وإلا فلن نستقيم في السير على صراطه ولا في الطريق إليه.

    الأمر الثاني: ينبغي أن يكون القدوة والإمام الذي نضعه نصب أعيننا أن يكون معصوماً حتى لا تختلف علينا الأهواء، ولا معصوم إلا أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولذلك عندما يحتج الإنسان وهو يتحدث أو يعمل بفعل الأنبياء والمرسلين لا تجد لأحد طريقاً عليه؛ لأن الله جل وعلا عصم الأنبياء والمرسلين من الزيغ ومن الضلال، فهم عليهم الصلاة والسلام لا يصدرون عن آرائهم، إنما يصدرون عن وحي الله جل وعلا إليهم، فإذا اجتهدوا في أمر ليس فيه وحي فإن الله جل وعلا لا يقرهم على خطأ إذا أخطئوا، فإن نبينا عليه الصلاة والسلام أعرض عن عبد الله بن أم مكتوم ، فنزل القرآن يعاتبه: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2] وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له أسرى يوم بدر واستشار أصحابه، فأنزل الله: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67] إلى غير ذلك من الدلائل التي لا تحتاج إلى كثير شواهد وعظيم قرائن.

    والمقصود أن الله جل وعلا قص في كتابه الكريم بعضاً من أخبار رسله وطوى بعضها عن نبينا صلى الله عليه وسلم وعنا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده...)

    الفارق بين الأنبياء والمصلحين

    وفي الآيات التي بين أيدينا يتكلم الله جل وعلا عن جملة من أنبياء الله ورسله ممن اصطفاهم الله، وكل المذكورين في هذه الآية هم رسل وليسوا أنبياء فقط، أي: بعثوا إلى أقوام ودعوا إلى الله جل وعلا بشرع جديد، فهؤلاء الرسل أوحى الله جل وعلا إليهم، فقال سبحانه: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163]، والوحي هو الفارق الأعظم بين الأنبياء وبين المصلحين من البشر، فنحن نعترف بأن البشرية شهدت علماء ومصلحين وقادة عبر تاريخها الطويل في كل الأمم، ولكن هؤلاء القادة والمصلحين والأئمة في أي ملة لن يسلموا من خطأ؛ لأنهم غير موحى إليهم وليسوا بمعصومين.

    وأما أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإن الوحي كفل لهم العصمة فهذا هو الفارق العظيم بين أنبياء الله ورسله وبين من شهدتهم البشرية عبر تاريخها الطويل، فنحن نسمع بـسقراط وأرسطو ، وأفلاطون في الحضارة اليونانية وغيرهم، وكان كثير منهم ذوي عقول وحكمة، فأسسوا حضارة، ولكنها لم تسلم -ولن تسلم- من زلل ما دامت جهداً بشرياً، أما جهد أنبياء الله ورسله فهو فرقان ووحي ينزل من الله لا يقبل أنصاف الحلول لأنه من لدن حكيم خبير. قال الله جل وعلا في حق نبيه صلى الله عليه وسلم وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] .

    والآن نأتي لذكر الأنبياء، وسنقف على مجمل سيرتهم عبر ما ذكره الله جل وعلا، فمنهم من مر معنا في دروس سابقة، فلا حاجة إلى التكرار، ومن لم يمر معنا سنقف عنده لنتبين بعض سيرة حياته وكيف نقتدي به، مع البيان الشافي في أنهم جملة بعثوا بدين واحد، وهذه أهم قضية، ولذلك قال الله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285].

    بيان معنى قوله تعالى (إنا أوحينا إليك)

    يقول تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ... [النساء:163].

    قوله: ( إنا ) هذا كلام رب العزة، والنون لتعظيم الرب جل جلاله، كما تسمع في الأوامر الملكية قول الملك: نحن فهد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية، ثم يأتي الأمر، فـ (نحن) للجماعة، ولكنها تقال في السياق اللغوي للتعظيم، ويجوز إطلاقها على البشر، ويجوز إطلاقها على الله، ولكنها في حق الله -بلا شك- أعظم منها في حق البشر، كما يقال: فلان حكيم، والله جل وعلا حكيم، ولكن هناك فرق بين حكمة العباد وحكمة رب العباد جل جلاله، فإن اتفقا في المسمى فإنهما لا يتفقان في دقائق الوصف.

    وقوله تعالى: (وأوحينا) أسند فيه الفعل (أوحى) إلى نا الدالة على الفاعلين لبيان العظمة لأهلها.

    وقوله تعالى: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النساء:163] المخاطب هنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مع اليقين بأنه صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، ولكنه قدم هنا لعلو شرفه، وجليل منزلته، ولأنه أفضل الأنبياء بلا شك، ولأنه سيد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    والفائدة من هذا تتعلق بمن خطب أو ألقى محاضرة أو أراد أن يقول درساً، فإنه يقول: وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصراً وأولهم يوم القيامة شأناً وذكراً. فهو آخر الأنبياء في الدنيا عصراً من حيث الزمن، وفي الحديث: (أنا آخر النبيين وأنتم آخر الأمم) وهو أولهم يوم القيامة وأرفعهم شأناً وذكراً صلوات الله وسلامه عليه.

    يقول تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النساء:163] ، ثم جاء بكاف التشبيه فقال تعالى: (كما) أي: كالذي (أوحينا).

    نبوة نوح عليه السلام

    ثم ذكر الله جملة من الأنبياء سيأتي بيانهم على التفصيل فقال تعالى: كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] فنوح أول رسل الله جل وعلا إلى الأرض، وقد أثنى الله جل وعلا عليه في القرآن وأسماه عبداً شكوراً.

    والأصل أن الله خلق الناس على فطرة واحدة منذ أن كان أبوهم آدم عليه السلام، فمكثوا على هذا الحال -كما يقول ابن عباس وجمهرة المؤرخين- عشرة قرون، ثم اجتالتهم الشياطين فصرفتهم عن طاعة الله، فبعث الله جل وعلا أول رسول، وهو نوح، والدليل على أنه أول الرسل ثابت في السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر قيام الناس وحديث الشفاعة قال: (إن الناس يأتون نوحاً فيقولون: يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وسماك الله في كتابه عبدا شكوراً) فهو أول رسل الله بالاتفاق، وهو أطول الأنبياء عمراً، عاش ألفاً وتزيد، قيل: ألف ومائة وخمسون، وما ذكره الله جل وعلا في كتابه في قوله: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] فهو العمر الدعوي وليس عمر حياته كلها، فقول الله: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] أي: يدعو إلى الله، بدليل أن الله قال بعدها: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت:14-15] فهذه دلالة على أن نوحاً عاش بعد هذه المدة، ويحسب معها المدة التي كانت قبل أن ينبأ صلوات الله وسلامه عليه، والمقصود أنه شيخ المرسلين، وهو الأب الثاني للبشر، والأب الأول للأنبياء بعد آدم صلوات الله وسلامه عليهم.

    نبوة إبراهيم عليه السلام

    ولم يذكر الله جل وعلا النبيين بعد نوح، ثم قال: وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ [النساء:163].

    فذكر الله إبراهيم، وقد مرت معنا سيرته، وهو الأب الثاني للأنبياء، ويطلق عليه (أبو الأنبياء) من باب التجوز، فإذا قيل: (أبو الأنبياء) أريد بها إبراهيم، وإذا قيل: (شيخ الأنبياء) أريد بها نوح، وإذا قيل: (كليم الله) أريد بها موسى، مع أن الله كلم محمداً وكلم آدم، وإذا قيل: (شيخ المرسلين) انصرف ذلك إلى نوح؛ لأنه الأب الأول للأنبياء، ولأنه أطولهم عمراً، وإذا قيل: (أبو الأنبياء) انصرف ذلك إلى إبراهيم؛ لأن جميع الأنبياء بعده كانوا من ذريته، قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27] وهذا يفيد الحصر، إلا أنه يشكل عليه أن لوطاً ابن أخي إبراهيم.

    ذكر نبوة إسماعيل وبعض خبره

    قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [النساء:163] وإسماعيل هو الابن الأكبر لإبراهيم من زوجته هاجر ، وهاجر كانت جارية عند سارة ، فجارية أمة وسارية حرة، وحين لم تنجب سارة أهدت إبراهيم هاجر ، فلما ولدت إسماعيل أصابها ما يصيب النساء من الغيرة، فما طاقت أن تمكث هي وهاجر في مكان واحد، فهاجر إبراهيم بزوجته هاجر وابنه إسماعيل إلى واد غير ذي زرع، أي: إلى مكة، ووضعهما في مكة بأمر الله كما في القصة المشهورة، وتركها ورجع إلى مصر إلى زوجته سارة ، فلما رجع إلى سارة أنجبت له سارة إسحاق، وجاء في الآية: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [النساء:163] فصار إسحاق الابن الثاني لإبراهيم.

    ولما ترك إبراهيم إسماعيل وأمه في واد غير ذي زرع -وهو مكة اليوم- لم يترك معهما إلا شيئاً يسيراً من زاد وماء، ثم فني الاثنان، فلما فني الاثنان بعثت ماء زمزم من تحت قدمي إسماعيل.

    ووجود الماء يجلب القبائل، فجاءت قبيلة جرهم، وهي قبيلة قحطانية من العرب العاربة، فتزوج منهم إسماعيل بعدما شب وبلغ مبلغ الرجال، وبعدما تزوج منهم ماتت أمه قبل أن يأتي أبوه، ثم مكث ما شاء الله فجاء إبراهيم يبحث عن زوجته وابنه، فلما جاء عرف أن الأم توفيت، أي: والدة إسماعيل، فسأل عن ابنه، وكان إسماعيل وقتها في الصيد، فلما دخل على المرأة الجرهمية التي تزوجها إسماعيل في أول الأمر سألها عن إسماعيل فقالت: خرج يصطاد لنا، فسألها عن حالهم فذكرت عسراً ولم تحسن الخطاب وقالت: نحن في ضيق وشدة وكرب، ولم تذكر شيئاً حسناً. فقال لها: إذا جاء إسماعيل فاقرئيه مني السلام وقولي له: غيّر عتبة بابك. فجاء إسماعيل من الصيد فكأنه آنس شيئاً فقال لزوجته: هل من خبر؟ فأخبرته القصة، وأخذت تصف إبراهيم وهي لا تدري أنه والد إسماعيل، فقال: أخبرك بشيء؟ فأخبرته بالقصة فقال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أطلقك، فالحقي بأهلك، ثم تزوج امرأة أخرى من جرهم؛ لأنه ما كان هناك قبيلة إلا جرهم، فلما تزوج جاء إبراهيم بعدها بفترة، وكان إسماعيل في الصيد، فقابل الزوجة الجديدة فقال لها: أين إسماعيل؟ قالت: في الصيد، فسألها عن حالهم فأخبرته بأنهم بأحسن حال، فدعا لهم بالبركة وقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام وقولي له: ثبِّت عتبة بابك، لما جاء إسماعيل سأل زوجته؟ أخبرته الخبر، فقال: ذاك أبي وقد أمرني أن أبقي عليك، ثم جاء في المرة الثالثة وحصل ما حصل من بناء الكعبة.

    وقد نعت إسماعيل في القرآن بأنه كان يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم:55] وأنه كان صادق الوعد.

    فإسماعيل كان يحث أهله على الصلاة، وهذا أعظم الفوائد في هدي الأنبياء، فحث الأبناء على الصلاة هدي الأنبياء.

    فالإنسان وهو يوقظ أهل بيته يتذكر هذه الآية ويتلوها: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم:55] ويأمر أهله بالصلاة وينادي عل الملكين أن يكتباها له.

    بيان المراد بالأسباط

    قال تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [النساء:163].

    الأسباط: جمع سبط، والأظهر أنهم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام، وإذا قلنا: إنهم أولاد يعقوب فهم إخوة يوسف عليه السلام، وقيل: إن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وهذا أظهر ما قيل في الأسباط، فهم إخوة يوسف، وقد تاب الله جل وعلا عليهم، وهناك أقوال غير ذلك.

    فائدة تقديم ذكر عيسى عليه السلام

    قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى [النساء:163] والأصل أن عيسى في الترتيب ليس بعد يعقوب والأسباط، وإنما هو آخر الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا فائدتان: الفائدة الأولى: أن الله ذكر عيسى مقدماً هنا لأن الخطاب موجه للنبي عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب بني إسرائيل، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجادل نصارى نجران، والآيات قريبة مما قبلها، فتقديم عيسى هنا لمناسبة الآية لما قبلها.

    الفائدة الثانية: أن عيسى عليه السلام إذا لم يكن الأول فهذا دليل على أن الواو العاطفة لا تفيد الترتيب، وإن كان في المسألة أقوال للعلماء.

    ذكر خبر أيوب عليه السلام

    قال جل وعلا: وَعِيسَى وَأَيُّوبَ [النساء:163] وأيوب من ذرية يعقوب، أي من بني إسرائيل، وقد جعله الله جل وعلا قدوة ومثالاً وموعظة للصابرين، وهو عبد صالح ونبي مرسل بنص القرآن كما في هذه الآية.

    فهذا النبي ابتلاه الله جل وعلا بعد أن كان حسن الخلقة بمرض في الظاهر والباطن، ومكث في المرض عليه الصلاة والسلام ثمانية عشر عاماً هو صابر محتسب، حتى كان ذات يوم فقد أبناءه، وفي هذه الفترة فقد بعض أهله، وتخلى الناس عنه، ولم يبق له إلا صاحبان وزوجته، وكانت بارة به، فغضب عليها مرة فحلف بالله أن يضربها -إن شفاه الله- مائة جلدة، والإنسان مع المرض يحدث منه أشياء عاجلة.

    فبقي له صاحبان فخرجا من عنده ذات يوم وأخذا يتحدثان فيه، كما رواه أبو يعلى والحاكم في مستدركه بسند صحيح، وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، فخرجا من عنده ثم أخذا يتحدثان عنه، فقال أحدهما للآخر: ألا ترى أن أيوب قد أذنب ذنباً عظيماً؟! وإلا فكيف يمكث ثمانية عشر عاماً ولم يشفه الله؟! لتعرف أن الناس في تقبلها للآخرين يبقى تصورها ضيقاً، والأمور مردها إلى الله، ولا يمكن أن يعطى إنسان العلم كله.

    فهذا صاحبان حميمان ومع ذلك يقولان عنه هذا القول وهو نبي مرسل، فلما رجعا إليه ما صبرا، فأخبراه فقالا: إنا تحدثنا في شأنك وقلنا: إنك أذنبت ذنباً عظيماً، وإلا فإنه لا يعقل أن تمكث في البلاء ثمانية عشر عاماً ولا يشفيك الله. فقال عليه السلام: لا أدري ما تقولان، إلا أنني أمر على الرجلين يتنازعان فيحلف الاثنان بالله، فأعلم أن أحدهما كاذب؛ لأنه لا يعقل أن يصدق الاثنان وهما متنازعان، فأذهب إلى بيتي فأكفِّر عن أحدهما كراهية أن يذكر الله إلا بحق، فخرجا من عنده.

    وكان إذا أراد أن يقضي حاجته تذهب معه زوجته، فأخذته مرة ليقضي الحاجة وأوصلته إلى منتهى المكان الذي يريد أن يقضي فيه الحاجة وتركته، ثم انتظرته كالعادة، وفي الطريق أصابه ما أصابه من الهم، فسأل الله جل وعلا، كما قال الله: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] وفي آية (ص) أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص:41] ففجر الله من تحته عيناً وقال له: اشرب واغتسل، كما قال تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص:42] فركض هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42] فشرب فبرئ باطنه، وكل وجع داخلي انتهى، واغتسل فبرئ ظاهره، فأصبح تام الخلقة حسن الوجه، فرجع معافى إلى زوجته، ولكنها لم تعرفه، فقالت: يا فلان! أمر بك هذا النبي المبتلى، فوالله إنه عندما كان غير مريض كان من أشبه الناس بك! فقال لها: أنا نبي الله أيوب، ورجع معها صلوات الله وسلامه عليه.

    فمكثه ثمانية عشر عاماً من أعظم وأجل أنواع الصبر، ولذلك لما نعته الله جل وعلا في القرآن قال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44] قال العلماء والربانيون: إن نِعْمَ [ص:44] ثناء من الله ليس بالأمر الهين، فلا يقول الرب الجليل جل جلاله عن أحد عباده: (نعم العبد) إلا لعلم الله بسريرة ذلك العبد وأنه أهل لهذا الثناء والمدح الإلهي، وقد من الله على أيوب عليه الصلاة والسلام بهذا العطاء، وزيادة في الخير له كان له أندران -أي: بيادر كبيرة- فيها قمح وشعير، فجاءت سحابتان، فأفرغت إحداهما على مكان القمح ذهباً، وأفرغت الأخرى على مكان الشعير فضة فضلاً من الله جل وعلا عليه وإكراماً لصبره صلوات الله وسلامه عليه.

    ومن مات من ذريته وأولاده وأهله أحياهم الله جل وعلا إكراماً له، فالله إذا أعطى لا يسأله أحد عما يفعل، قال سبحانه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء:83-84] فهذه لأيوب وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84] أي: لمن صنع في صبره صنيع أيوب.

    ذكر خبر يونس عليه السلام

    ثم قال الله تعالى: وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ [النساء:163].

    ويونس هو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، بعثه الله جل وعلا إلى أرض نينوى من أهل الموصل، وبلاد الموصل في أرض العراق حالياً، فهذا النبي خرج مغاضباً في قصة مشهورة، قال الله جل وعلا عنه: وَذَا النُّونِ [الأنبياء:87] أي: وصاحب الحوت إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] ، وجاء في السنة -كما في البخاري وغيره- أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: أنا خير من يونس بن متى).

    وهذا الحديث مشكل؛ لأن له مفهومين: المفهوم الأول: أن تكون (أنا) في قوله عليه الصلاة: (لا يقل أحدكم: أنا) عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قلنا يصبح المعنى: لا يفضِّل أحد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره من الأنبياء. وهذا بعيد في ظني؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من كل الأنبياء، ولا حاجة لذكر يونس وحده.

    والرأي الثاني -وهو الأرجح- أن معناه: لا يقل أحد من الناس عن نفسه حين يرى صلاحه وتقواه وصلاته وصيامه: إنه أفضل من يونس.

    والذي يدفع الناس لأن يقول أحدهم: أنا أفضل من يونس هو ما ذكره الله جل وعلا عن يونس من نوع عتاب؛ فإن الله قال في كتابه: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم:48]، فقالوا: هذه الآية تشعر بأن يونس ليس بذلك الكمال، فيأتي إنسان يرى في نفسه الكمال العظيم فيظن أنه خير من يونس، فقال عليه الصلاة والسلام حسماً للباب: (لا يقل أحدكم: أنا خير من يونس بن متى) فيونس نبي مرسل أرسله الله إلى أهل نينوى من أرض الموصل في العراق اليوم.

    ذكر نبوة هارون عليه السلام

    ثم قال سبحانه: وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ [النساء:163].

    هارون هو الأخ الأكبر لموسى، وكان فرعون قد أمر بقتل الذكور المواليد من بني إسرائيل، فاشتكى إليه الأقباط أنه إذا أفنى بني إسرائيل لا يبقى لهم خدم، فأصبح يقتلهم عاماً ويبقيهم عاماً، فولد هارون في العام الذي لا قتل فيه، وولد موسى في العام الذي فيه قتل، فهارون كان أكبر من موسى، وجعله الله جل وعلا رسولاً نبياً بشفاعة موسى، قال الله: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:53]، وقال الله عن موسى: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69] وجاء في حديث الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ورأيت رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته، قلت: من هذا يا جبرائيل؟ قال: هذا المحبب في قومه، هارون بن عمران) وكان هارون سمحاً ليناً، ولذلك كان محبباً في بني إسرائيل، وافترقت بنو إسرائيل على ولايته لما ذهب موسى يكلم ربه كما سيأتي.

    ذكر نبوة سليمان عليه السلام

    ثم قال الله: وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ [النساء:163].

    سليمان عليه السلام هو ابن داود، وسيأتي ذكر داود عليه السلام.

    وأما سليمان قد من الله جل وعلا على سليمان بأن استجاب دعاءه عندما قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35]، فإذا جئت تسأل الله فلا تسأله على قدر ما تظنه في الناس، ولكن اسأل الله على قدر ما تظنه في ربك، فالله جل وعلا أعظم مسئول، فسليمان عليه السلام كان يفقه هذا جيداً، فلما سأل ربه سأله على قدر ما يعلمه عنه تعالى، فنحن نسأل الله على قدر علمنا بعظمة ربنا وجلال قدرته، وعلمنا أن خزائنه لا تنفد سبحانه وتعالى، فهذا النبي الصالح قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] فمنَّ الله جل وعلا عليه وأعطاه ما سأل، قال تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36] حتى أصبح في الأمثال يقال: (ملك سليمان)، كناية عن الملك العظيم الذي لا يعطى لأي أحد، وهذا فضل من الله جل وعلا عليه.

    ذكر نبوة داود عليه السلام وعبادته

    ثم قال سبحانه: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163] وداود هو والد سليمان عليهما السلام، وهذا دلالة كذلك على أن الواو لا تعني الترتيب، وإن كانت هنا قد تكون واواً استئنافية.

    وداود أحد أنبياء بني إسرائيل، وهو الذي يسمى عند النصارى اليوم ( ديفيد ) فـ (كامب ديفيد) معناها (مخيم داود)، وهو أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل، وعلى يديه قتل جالوت ، وآتاه الله الكتاب والحكم والنبوة كما قال جل وعلا.

    ولما مسح الله جل وعلا -كما عند الترمذي بسند صحيح- على ظهر آدم، وخرج من ظهر آدم ذريته رأى آدم كل نسمة كائنة من ذريته إلى يوم القيامة، فرأى فيهم غلاماً أزهر فيه وبيص، أي: نور بين عينيه، فقال: يا رب! من هذا؟ فقال له ربه: هذا رجل من ذريتك يكون في آخر الزمان يقال له: داود، فقال: كم جعلت عمره؟ قال: ستين عاماً، فقال: يا رب! زده أربعين. فقال الله: لا إلا أن يكون من عمرك. فوافق آدم، وكان الله قد جعل عمر آدم ألف عام، فلما جاء ملك الموت ليقبض آدم نسي آدم أنه أعطى ابنه داود أربعين عاماً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته) فأتم الله الألف لآدم والمائة لداود. قال الله تعالى عن دود: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17] أي: جمع الله له قوة القلب وقوة البدن في الطاعة، فالإنسان أحياناً يكون عنده رغبة في الطاعة، ولكن الكسل يكون بدنياً كمهدود، أو رجل كبير، أو شاب مريض، أو قادم من عمل مظن متعب، فالرغبة لا يطيقها البدن.

    وأحياناً يكون الإنسان في عافية وقدرة ولكن ليس له عنده قلب يريد أن يقوم الليل.

    فاجتمع في داود قوة القلب على الطاعة وقوة البدن، وهذا من أفضال الله جل وعلا على عباده.

    وقد من الله عليه بخصلتين: حسن الصلاة وحسن الصيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود: كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه).

    فإذا كان أذان المغرب في السادسة وكان أذان الفجر في الرابعة فإن مقدار الليل هو تسع ساعات، فإذا أراد أحد تطبيق سنة داود عليه السلام فإنه إن نام بعد العشاء بعد ساعتين من دخول المغرب سينام ثلاث ساعات ونصفاً، فسيقوم في الساعة الثانية عشرة والنصف، فيصلي إلى الساعة الثالثة وخمس وعشرين دقيقة، وهذه قلما يطيقها أو يفعلها أحد في عصرنا مرة في العمر، وكان النبي يفعل ذلك كل ليلة.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (وأحب الصيام إلى الله صيام داود: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) وتمام الحديث -وهو في الصحيحين-: (وكان لا يفر إذا لاقى) أي: أنه كان يجاهد في سبيل الله ولا يفر صلوات الله وسلامه عليه.

    وقد أعطاه الله جل وعلا حسن الصوت، ولذلك لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام أبا موسى الأشعري قال: (أُعطي مزماراً من مزامير آل داود) إذا قرأ الزبور، والزبور هو الكتاب الذي أعطى الله داود، والزبور كله مواعظ، وقال بعض العلماء: ليس فيه حكم شرعي، وإنما هو كله رقائق ومواعظ تذكر بالله، فكان يتلوه بصوت حسن فتجتمع الطير لصوته وقراءته للزبور، وبعضها قد يموت جوعاً وينسى الأكل وهو مؤتلف منسجم مع ترتيل داود عليه السلام.

    بيان معنى قوله تعالى (وآتينا داود زبوراً)

    قال الله تعالى: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163]، والزبور في اللغة: الكتاب المجموع بعضه إلى بعضه، وهو الكتاب الذي أنزله الله جل وعلا على داود، وقلنا: إنه مواعظ وحكم.

    وأذكر هنا فائدة أدبية لأريك الفرق بين الناس، وهي أن الفرزدق أبو فراس الشاعر الأموي كان من أهل الفسق، فجاء ذات يوم إلى مسجد يقال له: مسجد بني زريق في الكوفة، وهذا المسجد كان يجلس عنده الشعراء ينشدون الشعر، فذكر رجل شعراً لـلبيد بن ربيعة ، لبيد له معلقة يقول فيها:

    عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها

    وفيها بيت يقول:

    وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجد متونها أقلامها

    أي: أن السيل عندما يأتي يمسح الوادي، فكأنه يعيد كتابته من جديد، فهذا الشاعر كان واقفاً يتكلم، فمر الفرزدق فسمعه يقول:

    وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجد متونها أقلامها

    فسجد الفرزدق ، فلما رفع رأسه قالوا: ما هذا يا أبا فراس ؟ قال: أنتم تعرفون جيد القرآن فتسجدون وأنا أعرف جيد الشعر فأسجد له.

    فهذا أمر يبين لك أن عقلية الناس تختلف من شخص إلى شخص، فـالفرزدق لا ينقصه ذكاء، وإلا فلن يقول ذلك الشعر، ولكن لا يوجد له قلب يتعلق بالآخرة.

    وكلما كان قلبك أخروياً ربطته بالآخرة، فقد روي أن سليمان بن عبد الملك خرج ومعه عمر بن عبد العزيز واضعاً يده في يد أمير المؤمنين سليمان يمشيان فحصل رعد وبرق، فانتفض سليمان ، فلما رأى البرق والرعد قال عمر : يا أمير المؤمنين! هذا صوت رحمته، فكيف بصوت عذابه؟! فربط -رحمه الله تعالى- المسألة بالآخرة مباشرة.

    فأنت تلقي الكلام وتلقي الخطاب ويختلف حال السامعين من زيد إلى عمرو؛ لأن الناس يتفاوتون في إدراك الأشياء بحسب قلوبهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ....)

    ثم قال سبحانه: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164].

    يقول الله لنبيه: هؤلاء رسل قصصناهم عليك، وممن قصهم الله جل وعلا: صالح وشعيب وهود، وهم غير مذكورين في هذه الآية: وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164] فلم نعرفهم؛ لأن الله لم يقصهم على نبيه.

    بيان معنى قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليماً)

    قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] وإفراد موسى هنا بالذكر تشريف له صلوات الله وسلامه عليه، فموسى أعظم أنبياء بني إسرائيل، وهو كليم الله وصفيه، قال الله عنه: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] وفي اللغة شيء يسمى مفعولاً مطلقاً، ويأتي على ثلاثة أنواع: إما مبيناً للعدد، وتقول: ضربت فلاناً ستاً، أي: ست ضربات، وإما مبيناً للنوع، فتقول: أكرمت زيداً إكراماً كثيراً، وإما أن يأتي مؤكداً حدوث الفعل، كما في هذه الآية: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] فهذا تأكيد أن الله كلم موسى، أما كيف كلمه فلا ندري، ولكن كلمه بلا شك، وهناك فِرَقاً حادت عن الصواب وقالت: إن الله لم يكلم موسى.

    وكلم الله موسى في بدء النبوة عندما خرج من أرض مدين، فكلمه الله عند جبل الطور، وكان لا يدري أنه نبي ولا يدري أنه رسول.

    وكلمه الله جل وعلا عندما واعده تبارك وتعالى، قال تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:142-143].

    ذكر اعتقاد المعتزلة في الرؤية

    وقوله: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] فيه فوائد مهمة، و(لن) للنفي، وقد ظهرت فرقة يقال لها: المعتزلة تقول: إن الله جل وعلا لا يرى في الآخرة! ومن حججهم هذه الآية، يقولون: إن الله قال لموسى: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] بمعنى: لن تراني أبداً. فقالوا: يستحيل أن يُرى الله في الآخرة، ونحن -معشر أهل السنة- نؤمن بأن الله جل وعلا يُرى في الآخرة؛ لدلالة الكتاب ودلالة السنة، قال الله جل وعلا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) والحديث في الصحيحين وفي غيرهما.

    والمعتزلة فرقة ظهرت في أواخر القرن الأموي، وعظم قولها وسلطانها في عصر بني العباس أيام المأمون والمعتصم .

    قلنا المعتزلة ماذا؟ فرقة ويقوم مذهب المعتزلة على خمسة بنود: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب فهمهم.

    ذكر سبب تسميتهم بالمعتزلة

    وقد قيل في تسميتهم بالمعتزلة: إن الحسن البصري كان يدرس في حلقة، فجاءه رجل يسأله فقال: يا أبا سعيد ! ما تقول في مرتكب الكبيرة؟ وكان الناس يومها في جدال صراع في كون مرتكب الكبيرة يكفر أو لا يكفر؟

    فكان الخوارج يقولون: إن مرتكب الكبيرة يكفر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، فيستبيحون قتله، وأهل السنة يقولون: إن مرتكب الكبيرة فاسق، ولكن الكبيرة لا تخرجه من الملة، ولذلك لا يستبيحون قتله.

    فجاء رجل يسأل الحسن البصري وكان من أعلام الناس، فأجاب الحسن، فانبرى رجل في الحلقة اسمه واصل بن عطاء -وهو أعظم من أسس مذهب الاعتزال- فقال: هو في منزلة بين المنزلتين. وقام وجلس بجوار سارية ليشرح معنى المنزلة بين المنزلتين، وأي إنسان يقوم ليشرح شيئاً بعد عضبه من أحد فإنه لا بد أن يتجه إليه واحد أو اثنان ليعلموا تصرفه، فقال الحسن: اعتزلنا واصل . فسموا بالمعتزلة.

    ضلال واصل بن عطاء في تقريرات معتقده

    فقرر واصل مذهب الاعتزال، من أفصح خلق الله رغم أنه كان فيه لثغة فلا يستطيع نطق الراء، فكان يجلس يتكلم الساعات ولا أحد يعرف أنه فيه لثغة في الراء، فكان لا يأتي بكلمة فيها راء فيقول: الحمد لله القديم بلا ابتداء، الباقي بلا انتهاء، ويذكر الله ويصف ويشرح ويتكلم ويخرج وأنت لا تدري أنه لا يأتي بالراء؛ لأنه ما قال كلمة بالراء لقوة بلاغته، ومع ذلك أضله عقله؛ أضله عقله؛ لأنه حكم على الناس بأن الفاسق ترد شهادته وأنه في منزلة بين المنزلتين، ومن أعظم ضلاله أنه قال -وبئس ما قال- يقول: إن علياً رضي الله عنه والحسن والحسين وعمار حاربوا عائشة وطلحة والزبير ، فرد كل النصوص التي جاءت في فضل هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال بالعقل: واحد فيهم فاسق، وواحد ظالم، وواحد مظلوم، وقال: وأنا لا أدري من الظالم من المظلوم! أي: لا أدري من الفاسق، فقال: لو شهد عندي علي والحسن والحسين وعائشة وطلحة والزبير وعمار لما قبلت شهادتهم في بقل ولا بصل؛ لأنهم فساق ترد شهادتهم! وهو يزعم أن مذهبه قام على العقل، وسنبين بالعقل أن مذهبه باطل، فقد قيل له: اشرح لنا معنى منزلة بين المنزلتين؟ فقال: أنا لا أقول مثل الخوارج إنهم كفار يقتلون في الدنيا، ولا أقول مثل ما تقولون يا أهل السنة: إنهم مسلمون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، بل أقول: في الدنيا تجري عليهم أحكام أهل الإسلام فهم مسلمون، وفي الآخرة كفار مخلدون في النار تجري عليهم أحكام أهل الكفر؛ لأنهم لم يتوبوا، هو معنى الوعد والوعيد عندهم، فيقول: إنه لازم على الله أن يعذبهم؛ لأن الله عدل لا يترك أحداً لا يعذبه وهو قد عصاه، فمعنى المنزلة بين المنزلتين أنه تجري عليه في الدنيا أحكام أهل الإسلام، لا ما مثل قول الخوارج: إنه يقتل وفي الآخرة كافر يدخل جهنم ويخلد فيها ولا يدخل الجنة أبداً.

    والرد عليهم سيكون بالعقل دون الآيات والأحاديث، فعندما نجري عليه أحكام الدنيا فإنه إذا مات يغسل ويكفن ويصلى عليه، فهذه أحكام الدنيا على المسلم، فإذا صلينا عليه وهو مرتكب كبيرة فإننا نقول في الدعاء: اللهم اغفر له وارحمه وعافه، فهل نقول ذلك ونحن نعرف أنه كافر داخل النار؟! فبذلك يكون الدعاء للمسلمين باطلاً وعبثاً، وهذا أكبر دليل على أن المذهب كله باطل.

    ومن أئمتهم جار الله الزمخشري ، يقول: إن الله لن يُرى في الآخرة، وله تفسير (الكشاف)، موجود في المكتبات، وهذا التفسير آية في البيان، فقد كان الزمخشري فصيحاً، ولكنه ضيعه بما فيه من مذهب الاعتزال والدعوة إليه.

    فهذا المذهب كان في عصر بني أمية، ثم انتشر في عهد بني العباس وتبناه المأمون ومات، ثم كتب لأخيه المعتصم أن يتبنى المذهب فتبناه المعتصم ، وبسببه أوذي وعذب الإمام أحمد حتى جاء المتوكل فألغى مذهب الاعتزال وتبرأ منه وأعاد مذهب أهل السنة بعد أربعة عشر عاماً من انتصار المعتزلة، ثم بعد ذلك ظهر المذهب كرة أخرى في دولة بني بويه الشيعية عام 334 هـ، وجعلوا القاضي عبد الجبار أحد أئمة المعتزلة قاضي القضاة في ذلك العصر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة

    ثم قال الله سبحانه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:165] أي: هؤلاء الرسل يبشرون الناس بالجنة وينذرونهم من النار، وهذه هي الغاية الأساسية للأنبياء والمرسلين؛ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

    فموضع الشاهد أن الله لا يعذب من لم تقم الحجة عليه؛ لأن الله قال: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:165] .

    فهذا مجمل ما أردنا بيانه، ونسأل الله أن يبارك فيما قلناه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756016576