إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة النور [8]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يختم الله تعالى أحكام سورة النور العظيمة بجملة من الآداب المهمة، ومن تلك الآداب ما يتعلق بأحوال البيوت، إذ شرع الله تبارك وتعالى للمكثرين من ولوجها من الأطفال والعبيد أن يستأذنوا في ثلاثة أوقات خاصة، لما فيها من وضع الثياب وإبداء بعض ما يستر، ومن تلك الآداب إرشاد القواعد من النساء إلى ترك التبرج بالزينة حال وضعهن الثياب التي تلحقهن المشقة بلبسها، ومنها: إرشاد العباد إلى اعتبار أنفسهم نفساً واحدة وتمثيل ذلك في جواز الأكل من بيوت الأقارب والأصدقاء، وأعظم تلك الآداب الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته أصحابه للأمور الجامعة بالبقاء معه دون التسلل من بين يديه لواذاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم..)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وعليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فهذا خاتمة الدروس المتعلقة بسورة النور، وسورة النور سورة جليلة عظيمة كنا قد من الله علينا من قبل بالحديث عما فيها من أحكام وآداب ومواعظ، وسنختم هذا الدرس بالحديث عن خواتم هذه السورة المباركة، قال الله جل وعلا -وهو أصدق القائلين-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58].

    هذه الآية آية استئذان جاءت بعد آيات استئذان سبقت، والنداء فيها -كما مر معنا- نداء كرامة، والنداء يكون نداءً عاماً، كقوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21]، وقوله تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:26].

    أما إذا قال الرب جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104]، فهذا يسمى نداء كرامة، لا نداء علامة؛ لأن الله جل وعلا كرم عباده الأوفياء المتقين بأنهم آمنوا به.

    يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ [النور:58] والمخاطب هم الذين آمنوا، والمطلوب منهم أن يستأذنهم طائفتان: الأولى: العبيد والجواري، وعبر عنهم بقوله: (بالذين ملكت أيمانكم).

    والثانية: الأطفال الأحرار، وعبر عنهم بقوله: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور:58] أي: من المؤمنين الأحرار، وخصصناها بالأحرار لأن العبيد والجواري قد مضى الحديث عنهم بقوله: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النور:58].

    وقوله: (ليستأذنكم) اللام في الفعل لام الأمر، فهل هذا الأمر للوجوب أو للتعليم والإرشاد والذي عليه الجمهور أن اللام هنا لام أمر، والأصل فيه الوجوب.

    مراعاة الأحوال الخاصة

    والرب تبارك وتعالى في هذه الآية يعلم عباده أن الأشياء على درجات، ولا يمكن أن يعطى أحد كلما شيء بالكلية، والعرب تقول: من الأشياء ما ليس يوهب، فمهما بلغ قرب من حولنا من العبيد والجواري، تبقى مع ذلك حالات خاصة بنا لا يمكن أن نفتحها للآخرين على علو مكانتهم وقربهم منا، وحاجتنا إليهم، وحاجتهم إلينا، فهناك أمور هي خطوط حمراء، والقرآن ما أنزل ليوضع في السيارات تبركاً كما يفعله البعض، وليس المقصود بيان حكم هذا، ولكن المقصود هو بيان أن نفقه أن القرآن أنزل لمعان عظيمة، ومقاصد جليلة، منها: أن نعيش حياتنا وفق آيات القرآن، والتعبير بالآيات هنا أجمل من التعبير بالنظم؛ لأن النظم تنصرف إلى القوانين الوضعية أكثر من انصرافها إلى غيرها.

    فالرب جل وعلا هنا ينادي عباده نداء كرامة لبيان أنه لابد من الاستئذان، ولكنه قال: ثَلاثَ مَرَّاتٍ [النور:58] وهذه الثلاث المرات هي خصوصية من الوقت العام، فهؤلاء -كما سيأتي في آخر الآية- طوافون، بمعنى أنهم يدخلون ويلجون البيوت، والدين جاء لرفع المشقة، فالأحكام -وإن عممت أحياناً- تأتي معها استثناءات، فطالوت يقول لقومه: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، ويعقوب يقول لبنيه: إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [يوسف:66]، وسليمان يقول في قضية الهدهد: أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21]، فلابد من ترك خط رجعة للآخرين.

    والأصل أن الناس جميعاً يلزمهم الاستئذان، ولكن الجواري والعبيد الخدم والأطفال مستثنون من هذا الطلب العام، فهؤلاء المقربون تأتي لنا أحوال، تكون فيها في حالة خاصة جداً، وفي هذه الحالة الخاصة يكون لهذه الطائفة نوع من التوقف عن الولوج، والعاقل في تعامله مع الآخرين يضع خطوطاً، فمن حولك كل منهم له خط يقف عليه، والله يقول عن ملائكته: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164].

    فهذه خطوط عظيمة يضعها القرآن بين أيدينا في التعامل مع غيرنا.

    وليس من الصحيح أن يلتفت فقط إلى القضايا النحوية والبلاغية، وإن كانت مطلوبة، فبذلك نظلم أنفسنا بفهم كلام الله إن جعلناه محصوراً في هذه القضايا، بل القرآن أشمل وأعظم وأجل من ذلك، فهو تشريع، ولهذا قال الله بعدها: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58].

    أوقات استئذان الأطفال والعبيد

    يقول الله تعالى في بيان الحالات الثلاث: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ [النور:58] والعورة سميت عورة لأن إظهارها يجلب المذمة والعار، وتسمى سوءة؛ لأن إظهارها يسوء الرجل الحر العاقل.

    وسماها الله جل وعلا ثلاث عورات لأن غالب حياة الناس أن هذه الثلاث العورات يحصل فيها من التكشف والخلل في الستر ما لا يحصل في غيرها؛ لأنها أوقات راحة ونوم، وقد يكون الرجل فيها مع أهله.

    فقول الله جل وعلا: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النور:58] هذا وقت نوم، فإن قائل كيف تقول: إن قبل صلاة الفجر وقت نوم؟!

    فالجواب أن هذا هو الأصل، وإن كان سحراً، إذ السحر قسمان: سحر مرتبط بصلاة الفجر، فالأصل فيه النوم. تقول عائشة عن هذا الوقت: (ما ألفيته إلا راقداً عندي) تعني النبي صلى الله عليه وسلم.

    وصلاة داود الليل كان يفصل بينهما وبين صلاة الفجر النوم.

    قال تعالى: وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ [النور:58] ولم يقل ربنا: (وحين تضعون ثيابكم من قبل صلاة الفجر) ولم يقل: (حين تضعون ثيابكم من بعد صلاة العشاء)؛ لأن وضع الثياب في هذين الوقتين أمر معهود معلوم، فذكر وقت الظهيرة جل وعلا، فدل على غيره من باب أولى، فإذا كان التقليد السائد المتفق مع الفطرة البشرية أن الناس تضع ثيابها عند الظهيرة فمن باب أولى أن توضع الثياب من قبل صلاة الفجر، ومن بعد صلاة العشاء.

    على والقرآن غالباً لا يقدم ذكر الشيء الظاهر، وإنما يقدم ما هو خفي، فإن قلت: أين الدليل؟

    فالجواب: الدليل في سورة البقرة، فالله جل وعلا قال في البقرة: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] فحدد وقتها.

    وقال في البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] ثم قال: شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة:185] بعد أن قال: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، فحدد الصيام في رمضان.

    وعندما ذكر الحج في نفس السورة قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] وما قال جل وعلا: شوال وذو القعدة وذو الحجة، وهي الأشهر التي قال الفقهاء: إنها أشهر الحج، لأن العرب لم تكن تصلي ولم تكن تصوم، فحدد لهم أزمنة الصلاة وأزمنة الصيام، ولكنهم كانوا يحجون، ولهذا قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199].

    فلما كانت أشهر الحج لا يجهلها أحد ممن خوطب بالقرآن أولاً لم يذكر الله أشهر الحج، بل قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] أي أنها مشتهرة معروفة لا تحتاج إلى بيان.

    فوضع الثياب من الظهيرة يختلف الناس فيه، فحدده ودل على غيره من باب أولى.

    التخفيف في الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة وحكمته

    قال تعالى: ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ [النور:58] أي: ليس عليكم -أيها المخاطبون- وَلا عَلَيْهِمْ [النور:58] يعني: المطالبين بالاستئذان. والمراد العبيد والجواري، والأطفال الأحرار.

    قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ [النور:58] أي: إثم ولا حرج ولا ضيق بَعْدَهُنَّ [النور:58] الضمير عائدة على الثلاث المرات.

    قال تعالى: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النور:58].

    الأصل أن العبيد والجواري يلجون إلى بيوت ساداتهم وحجراتهم وغرفهم، فإذا احتجت إلى خادمك فإما أن تذهب إليه، وإما أن يأتيك ليؤدي لك خدمة.

    والطفل دون البلوغ جرت العادة بأنه يدخل ويخرج على أبويه وأجداده، وسائر أهل البيت، فاشتراط الاستئذان هنا يجلب الحرج، والدين من قواعده نفي الحرج، ومن دلالة العلم ربط بعض الأشياء ببعضها حتى يفقه أن هذا الدين واحد، والله جل وعلا لا يفرق بين مثيلين، ولا يجمع بين نقيضين، وهذا من دلائل حكمة الدين.

    فالإنسان يطلب منه إذا دخل المسجد أن يؤدي تحية المسجد، ولكن تحية المسجد في عرف كثير من الفقهاء مرفوعة عمن يكثر دخوله وخروجه من المسجد، كالحارس، ومن وكل إليه إصلاح شيء في المسجد، فهذا لا يطالب في كل دخول وخروج بأن يصلي تحية المسجد إذا كان خروجه متقارباً، ومثاله في واقعنا المعاصر الإخوة القائمون على الإفطار في المساجد، أو في الحرمين، الذين يخرجون من الباب كثيراً ليأتوا بطعام، أو ليقدموا ضيفاً، أو ليأتوا بصائم يريدون منه أن يفطر في سفرتهم، فلو طولبوا بالتحية في كل وقت وكان في ذلك حرج كبير.

    قال ربنا تبارك وتعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال الحلم فليستأذنوا..)

    ثم قال جل ذكره: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:59].

    هؤلاء الأطفال يكبرون، والعاقل يعلم أن كل صغير يكبر، وكل قليل يكثر، وكل ضعيف يقوى، فيها.

    فالاستئذان للأطفال رفع عنهم إلا في تلك الأوقات الثلاثة، وذلك مقيد بكونهم أطفالاً، فإذا ناهزوا البلوغ -وعبر عنه هنا بالحلم- فإنهم يعودون مخاطبين كما خوطب الذين من قبلهم، فقال الله جل وعلا: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً..

    ثم قال جل شأنه: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60].

    القواعد جمع قاعد، من غير تاء؛ لأن القاعدة بالتاء تدخل فيها الكبيرة والصغيرة، فكل من جلست في بيتها لأي شيء، فهي قاعدة، وأما القاعد ففيها خلاف على قولين للعلماء: الأشهر منهما أن القاعد: هي التي قعدت عن الولد والحيض والزواج.

    وقال ابن قتيبة -وهو إمام في اللغة يحتج بأقوال مثله-: إنها الكبيرة في السن، وسميت (قاعد) وجمعت على (قواعد)؛ لأنها تكثر من القعود في البيت لكبر سنها وعجزها عن الخروج، وهذا قد يكون منتفياً في زماننا بوسائل النقل والإعانة المعاصرة، هذا الأمر.

    والعرب تقول للمرأة هذا حتى وإن كانت شابة، كقول الحطيئة :

    أطوف ما أطوف ثم آوي إلى بيت قعيدته لكاع

    فهو يعني زوجته، ولكن الذي يعنينا أن القواعد جمع قاعد، وهي المرأة التي قعدت عن الحيض والولد والزوج.

    قال ربنا: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا [النور:60] معنى: (لا يرجون نكاحاً) أي: الغالب أنه لا يطمع في مثلهن، فليس للرجال في أمثالهن مطمع، وهذا كله يجري مجرى الغالب، وإلا فإن من القواعد المحكمات أن لكل ساقطة لاقطة، والعرب تقول:

    تعلقتها شمطاء شاب وليدها وللناس فيما يعشقون مذاهب

    فالقواعد اللاتي غلب على الظن أنهن لا يطمع في مثلهن قال الله عنهن: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ [النور:60] أي: حرج إثم أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60] أي: يتخففن من الثياب، الجلباب والرداء، وليس المقصود ترك اللباس بالكلية حتى تظهر العورة، فهذا لم يقل به أحد، ولن يقول به عاقل؛ لقوله تعالى: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60] فهذا قيد، ومعنى هذا القيد، أن يكون سبب وضع الجلباب والرداء التخفيف لا التبرج وإظهار ما يجب ستره، فالمعنى الحقيقي للتبرج: هو إظهار ما يجب إخفاؤه وستره، فالمقصود أن المرأة إذا كانت عجوزاً مقعدة كبيرة طاعنة في السن فلا بأس بأن تضع ما ثقل من الثياب عن نفسها، تريد بذلك التخفيف عن كاهلها ومشقة لبس الجلباب، لا تريد بذلك إظهار ما خفي. وهذا هو معنى غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60].

    فضل استعفاف المرأة

    ثم قال ربنا: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60] وهنا جملة تكتب بماء الذهب، وهي أنه إذا كان الاستعفاف قد ورد في حق القواعد فما عسى أن يقال في حق الكواعب.

    قال ربنا جل جلاله: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60] يعلم ما تكنه الصدور، ويسمع خفيات الأصوات جل جلاله، فإن كانت المرأة أرادت بذلك غير ما شرعه الله لها، فلن يخفى ذلك على رب العزة والجلال.

    فهذه آيات الاستئذان المتشابهة التي تتابعت في سورة النور، وهي -من حيث الإجمال- تبين حرص الإسلام على الحياة الاجتماعية، وتنظيم سير الحياة فيها، وما جاء في الإسلام من الحرص على حفظ العورات وسترها، وتحديد ذلك، وبيان الطرائق المثلى في الأمور التي يحصل بها الستر والعفاف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج..)

    ثم قال ربنا -وهو أصدق القائلين-: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [النور:61].

    للعلماء في النظر في هذه الآية طريقان:

    الطريق الأول: اختاره أبو حيان في البحر المحيط، وهو أن الواو في قوله جل وعلا: وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61] واو استئناف، وإذا قلنا: إن الواو واو استئناف في قوله جل وعلا: وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61] فإن المعنى الأول يصبح غير مرتبط بالثاني؛ وخرج هؤلاء قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61] على أن المعنى: ليس عليهم حرج في القعود عن الجهاد، وإن لم يسبق للجهاد ذكر.

    وهذا المنحى في ظننا بعيد، وإنما الواو واو عطف في قوله جل شأنه: وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61]، فالذي اختاره أبو حيان نرجح غيره عليه.

    فجماهير أهل العلم على أن الواو عاطفة، ولكنهم اختلفوا في العلاقة بينهما في المعنى، فذهب بعضهم إلى أن بعض الناس كان يتحرج من الأكل مع ذوي العاهات، فأنزل الله هذه الآيات.

    وقال آخرون بغير هذا، وقبل أن أذكر الرأي الذي أختاره أمهد بتمهيد لابد منه، فأقول:

    لا يمكن أبداً فهم القرآن منفرداً عن السنة، وفهم السيرة النبوية باب عظيم، ومدخل كبير لفهم القرآن، يمر معك كثيراً في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع أحداً أميراً على المدينة حالة خروجه للغزو، ولن يكون هناك أمير إلا إذا وجدت رعية، فيصلي بهم ويقوم بأمرهم، وهؤلاء هم الذين يقعدون عن الجهاد، والذين يقعدون عن الجهاد الأصل فيهم أنهم يقعدون لعذر، ومن الأعذار المرض والعرج والعمى.

    فهؤلاء الذين يقعدون عن الجهاد يملكهم الذين ذهبوا للجهاد مفاتيح البيوت، ويجعلونهم أوصياء على أهليهم، وهذا لم يكن يتم في ليلة ونهار، فأحياناً يكون هناك سفر، لشهر أو أقل أو أكثر، وفي هذه الفترة يحتاج الناس إلى الأكل، فهؤلاء القاعدون عن الجهاد يدخلون تلك البيوت التي استؤمنوا عليها، ويخالطون أبناء المجاهدين، فينشأ عن ذلك أكل وإطعام، فربما تحرج أولئك القاعدون من أولي الضرر من ذلك الطعام والأكل، فالله جل وعلا يريد أن يبين هنا أن الأصل في المؤمنين أنهم كالنفس الواحدة، وأن المؤاكلة وطيب النفس في الطعام أمر محمود، فيخبر بأنه لا حرج ولا إثم على الجميع أن يأكل بعضهم من بيوت بعض، ولهذا عدد الأعمام والأخوال وغيرهم من القرابات والأصدقاء بعد ذلك، ولكنه بدأ بالأعمى والأعرج والمريض؛ لأن الأصل أن الخطاب موجه إليهم، وهو يريد جل وعلا أن ينبئ أولئك الأخيار من ذلك الجيل الأمثل والرعيل الأكمل الأول المخاطب بالقرآن أن الأصل فيكم أنكم كالجسد الواحد، ولهذا سيأتي قوله تعالى: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61] على أنهم كالشخص الواحد، فهذا هو الذي أفهمه من كلام الله، وهذا القول -من حيث الجملة- أشار إليه سعيد بن المسيب رحمة الله تعالى عليه.

    ولم يذكر الله بيوت الأبناء، وقد تكلم في ذلك العلماء، إلى مزيد نظر، والعلماء تكلموا فيه من قبل وذهبوا في هذا إلى أن الله لم يذكر بيوت الأبناء لأنها مندرجة في قوله جل وعلا: بُيُوتِكُمْ [النور:61]؛ لأن بيت الولد ملك لأبيه؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وهذا بيان عظيم الإنصاف بين الولد ووالده، وأما ما عدا ذلك فهو ظاهر.

    قوله تعالى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ [النور:61] المفاتح: جمع: (مفتح)، ومفتح ومفتاح بمعنى واحد.

    حكمة إفراد الصديق

    قوله تعالى: أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61].

    ذكر الله من سبق بصيغة الجمع، غير الصديق، فالصديق ذكره بصيغة الإفراد، هنا فلماذا ذكر بصيغة الإفراد؟

    قال: أهل العلم المعنيون بالبيان: الصديق عزيز، والصداقة فشيء نادر، ولهذا أفردها الله، ألا ترى إلى قول الله على لسان الجهنميين: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ [الشعراء:100] بالجمع للكثرة وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:101]؛ لأن الصديق يعز في الدنيا، والعرب تقول:

    لما رأيت بني الزمان وما بهم خل وفي للشدائد أصبغ

    فعلمت أن المستحيل ثلاثة الغول والعنقاء والخل الوفي

    فهم يقولون: إن الخل الوفي ليس ممتنعاً، ولكنه نادر، فمن أجل ذلك قالوا: أفرد الله جل وعلا كلمة الصديق.

    ثم قال ربنا: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا [النور:61] هذا دلالة على أن المؤانسة تقع، وأن المؤاكلة أمر حسن، سواء أكلنا متفرقين، -وهو معنى (أشتاتاً)- أو مجتمعين، وهو معنى قوله جل وعلا: (جميعاً).

    ذكر قصة قسمة دنانير الأرغفة

    إن من وسائل جمع العلم ونفع الناس به أن يكون لديك ذكاء سيال، وذهن وقاد، ما علاقة هذا بقوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا [النور:61].

    يقولون: إن رجلين جلسا ليأكلان، فقدم أحدهما خمسة أرغفة، وأخرج الآخر ثلاثة، وقبل أن يطعما جاء رجل ثالث عابر، فطلبا منه أن يجلس معهما فجلس، فصاروا ثلاثة أشخاص يريدون أن يطعموا ثمانية أرغفة، فأكلوا حتى أتموا الأكل جميعاً، ثم إن الرجل كان من ذوي الجاه، فلم يقبل أن يأكل دون أن يكافئ، فأخرج ثمانية دنانير، فوضعهما لهما وانصرف، فقال الذي وضع الخمسة: خمسة لي وثلاثة لك، وفق تقسيم الأرغفة.

    وقال الثاني: الأصل أننا اثنان، وهذا دفع ثمانية وأكل معنا، وأربعة لي وأربعة لك، فتشاجرا، فاحتكما إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وكان رضي الله عنه يملك ذهناً وقاداً، فذكر له الخبر، فقال رضي الله عنه وعن ابنيه وزوجته: سبعة لصاحب الخمسة ودينار واحد لصاحب الثلاثة، ومضى، فجلسا ملياً يفكران كيف أتى بها علي مع قناعتهما بأن قول علي صواب، ثم تبين لهما صواب صنيع علي رضي الله عنه وأرضاه.

    وذلك أن الأرغفة كانت ثمانية، وفي كل رغيف ثلاثة أثلاث، فحصل من ذلك أربعة وعشرون ثلثاً، وهذا هو مجموع ما أكله الثلاثة الأشخاص، والأصل أن كل أحد منهم أكل مثل الآخر، فيكون كل واحد منهم قد أكل؟ ثمانية أثلاث، فالرجل الذي دفع الدنانير أكل ثمانية أثلاث بالاتفاق، ووضع عوضاً عنها ثمانية دنانير، فصاحب الأرغفة الثلاثة قدم تسعة أثلاث، وأكل منها ثمانية، فلم يبق منها شيء زائد قدمه للآخرين إلا ثلثاً واحداً، ولهذا حكم له علي بدينار واحد، وصاحب الأرغفة الخمسة قدمها وفيها خمسة عشر ثلثاً، وأكل ثمانية أثلاث فليس له فيها أجر، فبقيت سبعة أثلاث أكلها الرجل الضيف مع الثلث الذي أخذه من الأول، فاستحق أن يأخذ سبعة دنانير.

    فتربية العالم طلابه، وتربية الطالب نفسه على مثل هذه الأمور يجعل منه ذهناً وقاداً وذكاء سيالاً يعينه على جمع العلم؛ لأنه لو كان العلم بنظر في كتاب وحفظه وإملائه لأضحى جل الناس علماء، ولكن العلم ليس محصوراً في هذا.

    بيان معنى قوله تعالى (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم)

    ثم قال ربنا: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور:61].

    قوله: (من عند الله)؛ لأن الله هو الذي شرعها، ( مباركة ) لأنها تجلب الأجر والثواب، ( طيبة ) لأنها تطيب نفس المحيا.

    وقد اختلف الناس في المعنى، فقيل: (بيوتاً) نكرة، والمقصود: إذا دخلتم أي مكان لقوم مسلمين فسلموا، وقالوا: إن قول ربنا: عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61] دلالة على أن المسلم يقام مقام النفس.

    وهذا صحيح وجيد، ولكنني أقول: إن الذي أفهمه من الآية أن الإنسان إذا دخل داراً ليس فيها أحد فإنه يسلم على نفسه، ويقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لقول الله جل وعلا: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور:61]، ومن قواعد فهم القرآن: أن يصرف أولاً إلى ظاهره.

    قال ربنا بعد ذلك: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [النور:61]، وهذه ظاهرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله..)

    ثم قال ربنا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62].

    قلنا: إن القرآن لا يفهم إلا عن طريق السيرة، فالأمر الجامع من حيث الإجمال هو الأمر الجلد، أما المعنى هنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث منادي ينادي: (الصلاة جامعة) في الخطوب العظيمة.

    فالله جل وعلا هنا يقول: إن الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعوكم لأمر جامع إلا وهو ذو شأن، فهو في حاجة ملحة إلى معرفة رأيكم، وإلى أن تأخذوا عنه، فإذا دعاكم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحسن بكم أن تخرجوا دون إذن؛ لأن هذا ينافي السبب الذي من أجله جمعكم، فجعل الله جل وعلا الاستئذان من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم من دلائل صدق الإيمان، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62] وهذا يسمى تفويضاً، وبعض العلماء يقول: هذه الآية تسمى: المفوضة، والمعنى: أنه تقرر في الأصول أن الله جل وعلا فوض بعض الأمور إلى رأي نبيه، كمثل هذه الآية، حيث قال تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ [النور:62]

    وجملة: (واستغفر لهم الله) تشعر بأنه حدث منهم ما يوجب الاستغفار، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:62].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً..)

    ثم قال جل شأنه: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

    إن أكثر الذين يؤلفون في ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم يحتجون بهذه الآية على أن الرسول لا ينادى كما ينادى غيره، وما ذهبوا إليه صحيح، وأما ما استدلوا به فخطأ، فالآية لا تتكلم عن كيفية مناداة الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، وإنما جاء هذا في الحجرات في قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].

    ولكن المقصود هنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعوكم لأمر جامع إلا وهو أمر عظيم، فلا يقاس بدعوة غيره، فلا تجعلعوا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لكم كدعاء بعضكم بعضاً، والمعنى: أن دعاء بعضكم بعضاً لا حرج معه في أن تخرجوا، أما الدعوة التي تتم عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم فهي معظمة، فلا يحسن معها منكم الخروج، والدليل على صحة هذا القول القرينة في الآية، فالله تعالى قال بعدها: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [النور:63] يعني: قليلاً قليلاً، يلوذون خفية، فينسل هذا من هنا، وينسل هذا من هناك، وهكذا.

    فالله جل وعلا يؤدب هؤلاء الصحابة على أن الأمر الجامع عند النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالأمر الجامع عند غيره.

    وليس المعنى ما ذهب إليه بعض الفضلاء من أن الدعاء المراد به هنا المناداة، فهذا غير مستقيم؛ لأن القرينة هنا تأباه، والقرينة هي قوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [النور:63] و(لواذاً) هنا حال.

    التحذير من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم

    ثم قال الله جل وعلا: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

    قوله: يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63] أي: عن هديه صلوات الله وسلامه عليه وقوله: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] قيل في ذلك ثلاثة معان مع اتفاقهم على أنها تكون في الدنيا: فقيل: الفتنة بمعنى: الكفر.

    وقيل: بمعنى العقوبة.

    وهذان عندي رأيان مرجوحان، وأما الرأي الراجح فهو أنها تصيبهم بلية تظهر ما في قلوبهم من النفاق.

    وقوله تعالى: أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] قيل: في الآخرة.

    والأظهر عندي: أنها تحتمل أن يكون هذا في الحياة الدنيا.

    دلالة الآية على اتباع السنة وقياس الأمور بهدي رسول الله

    هذه الآية الكريمة تدل على أمرين:

    الأول: أنها أصل في اتباع السنة، وقد ذكروا أن مالكاً إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله ! إنني أريد العمرة فمن أين أحرم؟ قال: من مسجد ذي الحليفة. قال: إني أريد أن أحرم من المسجد عند القبر. فقال مالك رحمه الله: أحرم من ذي الحليفة. فكأن الرجل قال: وماذا يضيرني، فقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] فقال الرجل: وما هي إلا أميال زدتها! يعني: الفرق بين ذي الحليفة وبين المسجد أميال. فقال مالك رحمه الله: إنني أخشى أن تكون بصنيعك هذا تظن أن هديك أعظم من هدي محمد صلى الله عليه وسلم. فاتباع السنة من أعظم ما يجذب البركة، والصالحون من قبلنا ممن أدركنا ورأينا ومن قرأنا عنهم رأينا منهم حرصاً عظيماً على اتباع السنة والتقيد بها؛ لأن الإنسان إذا تقيد بالسنة فكأنه يظهر عجزه في الوصول إلى العلم إلا عن طريق نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحق والأصل الذي لا محيد عنه.

    الأمر الثاني: أن الأصل في الموازين والحكم على الأشياء هو الميزان الشرعي، فإذا أردنا أن نعرف إطالة فلان في صلاته من تقصيره فإننا، نقيسها على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك خطبته نقيسها على خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إلا إن لله ما في السموات والأرض..)

    ثم ختم ربنا جل وعلا هذه السورة المباركة بقوله: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:64].

    لقد مر في هذه السورة أحكام ومواعظ، وقصص وتشريع لا يمكن أن يأتي به إلا القادر الرب الواحد، ولهذا قال جل وعلا: أَلا إِنَّ لِلَّهِ [النور:64] و(ألا) استفتاحية أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:64] فهو الرب، وهو الخالق، وهو الرازق، وهو المدبر، وهو الحكيم، وهو الأعلم بخلقه، فمن البداهة أن يكون منه فبدهياً جداً أن يكون منه ذلك التشريع.

    فالتشريع جاء هنا ممن له حق التشريع، وليس لأحد دون الله حق التشريع وقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور:64] (قد) هنا للتحقيق قولاً واحداً، ولا ينبغي الالتفات إلى قول النحاة هنا: إن (قد) تكثر في زمن المضارع، ولو سلمنا بهذا الاستخدام في لغة العرب كثيراً، ولكنها هنا للتحقيق قولاً واحداً.

    وقوله: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور:64] يعني: يعلم حالكم من الموافقة والمخالفة، ومن النفاق والإخلاص، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، لا رب غيره ولا إله سواه، ولا تخفى عليه خافية.

    قال تعالى: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ [النور:64] أي: جميعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا [النور:64] وهذا يوم يقوم فيه الأشهاد، ويحشر فيه العباد.

    ثم ختم الله جل وعلا الآية بقوله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:64].

    فالله جل وعلا وسع علمه كل شيء، وهو جل وعلا يعلم ما قد كان، وما سيكون، وما هو كائن، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.

    وبهذا نختم تأملاتنا في سورة النور، فنسأل الله أن يرزقنا نوراً نهتدي به، ورزقاً حلالاً طيباً نكتفي به.

    وقد مر معنا في أول السورة أنها سورة مدنية، وأن فيها من التشريع ما جعل عمر يطلب من الناس أن يعلموها أبناءهم ونساءهم على وجه الخصوص، وتعلقت بها كثير من الأحكام، وانجلت بها الغمة في فصل خطابه عن حديث الإفك، وذكر الله جل وعلا فيها الآداب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر الجامع، وذكر الله جل وعلا فيها أشياء أخر، ومواعظ كثر، أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، والله المستعان وعليه البلاغ.

    هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756196621