إسلام ويب

فوائد في صلاة الجماعةللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من نعم الله تعالى علينا أهل الإسلام أن شرع لنا الصلاة في جماعة، وهي مليئة بالحكم والفوائد الدينية والدنيوية، ففيها يتعارف المسلمون ويتراحمون، وفيها يجتمعون ويتعلمون، فأمرها عند الله تعالى عظيم، ويكفي في بيان عظم أمرها أن الله تعالى توعد من تخلفها بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، فكيف بمن أعرض عنها كلية، ولم يرفع بها رأساً.

    1.   

    وعيد الشرع وتهديده للمتهاونين بصلاة الجماعة

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر -قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلى)، هذا الحديث رواه أبو داود في سننه، وهو -بلا شك- ينذر بالعاقبة الوخيمة لمن يتعمد التخلف عن صلاة الجماعة بعد أن يسمع النداء.

    يقول عليه الصلاة والسلام: (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر) فقاطعه الصحابة قبل أن يكمل الحديث وقالوا: (وما العذر؟) قال: (خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى).

    وعنه رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)، والنداء: الأذان لصلاة الجماعة. وهذا رواه الحاكم وصححه.

    وعن أبي الدرداء رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا في بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة)، وهذا -أيضاً- رواه الحاكم في المستدرك، والجماعة في هذا الحديث هي صلاة الجماعة، كما هو أحد معاني الجماعة.

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل لا يشهد جمعة ولا جماعة، فقال: (هذا في النار) رواه الترمذي في سننه.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) رواه مسلم في صحيحه.

    قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله تعالى: وأجمعوا على أن صلاة الجماعة مشروعة، وأنه يجب إظهارها في الناس، فإن امتنع من ذلك أهل بلد قوتلوا عليها.

    فصلاة الجماعة من شعائر الإسلام الظاهرة التي ينبغي أن تكون ملمحاً بيناً من ملامح المجتمع المسلم، وإذا أذن للصلاة فعلى الناس أن يخرجوا من بيوتهم زرافات ووحداناً، فالمحلات تغلق، والذي يمشي بالسيارة يتوقف، ويهرع الجميع إلى المسجد كما نلحظ ذلك في المجتمعات التي ما زالت متمسكة بهذه الشعيرة الإسلامية، فمن خصائص المجتمع الإسلامي تعظيم صلاة الجماعة، وجعلها من شعائر وخصائص وملامح وسمات هذا المجتمع.

    يقول ابن هبيرة : (وأجمعوا -أي: الفقهاء- على أن صلاة الجماعة مشروعة، وأنه يجب إظهارها في الناس) يعني: لابد من أن تظهر في المجتمع، قال: (فإن امتنع من ذلك أهل بلد) أو تواطأ أهل بلد على الامتناع من صلاة الجماعة، وأصروا على الصلاة في بيوتهم وعدم المناداة بصلاة الجماعة والجهر بها في الناس (قوتلوا عليها)، فالإمام أو الحاكم عليه أن يقاتلهم حتى يعودوا إلى إظهار صلاة الجماعة. وينبغي أن يعلم أن العبارات في هذا السياق إنما يخاطب بها الإمام الممكن، ولا تخاطب آحاد الناس.

    وللصلاة عموماً منزلة عظيمة جداً في الإسلام، ولصلاة الجماعة خصوصاً مرتبة عالية وفوائد جمة، ولذلك شدد الإسلام في النكير على من يفرط فيها، وهدد الذين يتهاونون بها ويتساهلون فيها، وأنذرهم بالعواقب الوخيمة، واعتبر صلاتهم في البيوت كـ(لا صلاة) كقوله عليه الصلاة والسلام: (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)، وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر -قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلى).

    فبإذن الله تبارك وتعالى في هذا الموضوع الحيوي المهم نتناصح فيه من باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الدين النصيحة!) .. بل من باب قوله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، وسوف نناقش -إن شاء الله- ونستعرض بالتفصيل أحكام صلاة الجماعة ومتعلقاتها.

    1.   

    الحكمة من مشروعية الصلاة في جماعة

    من الملامح البارزة جداً للتشريع الإسلامي أن كثيراً من العبادات تشرع في مكان اجتماع المسلمين، وتظهر وكأنها مؤتمرات وتجمعات إسلامية، وذلك لإظهار شعائر الله سبحانه وتعالى وتعظيمها، فيتلاقى المسلمون ويتعارفون ويتشاورون في أمورهم، ويتعاونون في حل مشكلاتهم، ويتداولون الرأي فيما بينهم، فلا شك أن هذه التجمعات فيها من المنافع العظيمة والفوائد الجمة ما يفوق الحصر، أعني بركات التجمعات، سواء في صلاة الجماعة في المساجد، أو الأعياد، أو الحج، وغير ذلك من العبادات التي تؤدى في جماعة، فإن في ذلك منافع عظيمة جداً، سواء التجمعات التي هي في الأفراح أو التجمعات التي هي في مواساة المسلمين في آلامهم.

    تعليم الجاهل وإظهار عز الإسلام

    إن الجاهل يتعلم ببركة الجماعات، كما يعلم ذلك قطعاً في دروس العلم، فهذه من المواضع التي يستحب لها الاجتماع، ومن بركاتها بل -أعظم بركاتها- تعليم الجاهل، وإظهار السنن، ومساعدة العاجز، وتليين القلوب، وإظهار عِزِّ الإسلام، حتى إذا كثر في المجتمع المنافقون والملاحدة والزنادقة واليهود والنصارى إذا وجد هؤلاء فلا شك في أن وجود المسلمين بهذا الشكل خاصة مع إظهار التكبير كما في صلاة العيد أو غير ذلك لا شك أن في هذا إظهاراً لعز الإسلام مهما حاول أعداء الدين طمس هذه المعالم وإخفات صوت الإسلام في هذا المجتمع.

    وقد جاء الخطاب الإلهي مقراً هذا الوضع، فلم يتجه للفرد وحده في الأمر والنهي، لكن نلاحظ أن الأوامر تأتي للجماعة، لذلك نلاحظ قوله مثلاً: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، والكلام إذا احتمل التأكيد والتوكيد يترجح حمله على التأكيد، فقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، ويحتمل أن يكون (ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) يساوي قوله: (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)، فيكون هذا التكرار للتأكيد.

    ولكن يحتمل -أيضاً- احتمال آخر، وهو أن (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) مختلف تماماً عن قوله: (ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، فهذا إقامة للصلاة في حد ذاتها، أما (ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) فهو إيجاد صلاتها في جماعة، كما قال تعالى في حق مريم عليها السلام: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43].

    إقامة الجماعة لما لا يقيمه الفرد

    إن هذه العبادات التي تؤدى في جماعة أشار القرآن إلى وجود تجمع المسلمين من أجل أدائها؛ لأن الجماعة تقيم ما لا يقيمه الفرد، فمثلاً: يقول تبارك وتعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة:112]، فهذه أمور تتم في جماعة.

    كذلك أيضاً يقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا [الحج:77] أمر بصيغة الجمع، وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:77-78]، فإذا وقف المسلم بين يدي الله ليناجيه ويتضرع إليه لم تجر العبادة على لسانه كفرد منفصل عن إخوانه، بل كطرف من مجموع متفق مرتبط، فجميع المسلمين كل واحد منهم كأنه يتحدث بلسان كل من معه من إخوانه المصلين فيقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ولا يقول: إياك أعبد. وإنما تكون في جماعة.

    ثم يسأل الله سبحانه وتعالى من خيره وهداه، فلا يختص نفسه بالدعاء، وإنما يعم جميع إخوانه، ويطلب رحمة الله له ولغيره اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].

    إزالة الفوارق الاجتماعية

    صلاة الجماعة -أيضاً- من أهم وأعظم حكمها: اشتمالها على الوسائل التي تحطم الفوارق الاجتماعية، يقول فيلسوف فرنسي يدعى رينان : إنني كلما رأيت المسلمين وهم يصطفون صفوفاً في صلاة الجماعة تحسرت على أنني لست بمسلم. أو كلاماً هذا معناه، ونقول له: وما كان يمنعك وباب الإسلام مفتوح؟! وكثير من الكفار إنما يسلمون بسبب منظر المسلمين في صلاة الجماعة، ولذلك تلاحظ الإعلام الغربي إذا أراد أن يسخر من المسلمين أو أن يشنع عليهم تجد المصور يتحرى تجنب الصورة الحقيقية للصلاة، فهم يتعمدون تشويه صورة الصلاة عند المسلمين، كأن يظهروهم بصورة من يؤدي حركات لا معنى لها وبصورة منفرة جزئية في نظرهم. بينما أي إنسان عاقل إذا رأى هيئة صلاة المسلمين يعلم أن الله لا ينبغي أن يعبد إلا بهذه الطريقة؛ إذ كلها تعظيم وخشوع ومناجاة لله سبحانه وتعالى، بل أعظم أسباب إسلام العدد الغفير من الكفار أنهم رأوا المسلمين وهم يصلون في صلاة الجماعة، وقد نغفل نحن عن التأمل في هذه الحكم، أما هؤلاء فيتأملونها بدقة. ولقد كان يصلي معنا في شهر رمضان مضى شاب يوناني لا يعرف كلمة واحدة من اللغة العربية، وكان يصبر مع الإخوة إلى الساعات الأخيرة من القيام، ولما سألوه عن سبب إسلامه قال: رأيت المسلمين يصلون فأحسست أن هذه هي الطريقة التي لا يعبد الله إلا بها. فبدأ يصلي، وما دعاه أحد، فلما بدأ يركع ويسجد ويفعل مثلما يفعل المسلمون شعر بالراحة وشعر بسمو روحه وبمعانٍ عظيمة جداً، فأداه ذلك إلى الإسلام، وهو لا يتقن من اللغة العربية أي شيء على الإطلاق! كما أنه دعى غيره للإسلام، وكان مما فعل أنه زار بعض أقاربه اليونانيين في الإسكندرية، فذهب إلى هناك ليدعو إحدى قريباته من النساء إلى الإسلام، فقلت له: ماذا قلت لها؟ قال: أنا ما قلت لها أي شيء، إنما فعلت ما حدث معي، قلت لها: لا تجادلي كثيراً، لكن جربي وصلي مثلما يصلي المسلمون، وانظري كيف ستشعرين؟ والعجب أيضاً أن شقيقته أسلمت بنفس الطريقة لما دعاها إلى الإسلام، فهذا مذهبه في الدعوة إلى الإسلام أن يقول: ادخل في الصلاة مثلنا، وانظر كيف ستشعر؟! والقصص في ذلك كثيرة جداً. ففي صلاة الجماعة والهيئة التي يصطف بها المسلمون تحطيم للفوارق الاجتماعية بين الناس التي لا يجعل لها الإسلام ميزاناً إلا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فتجد الوزير بجانب الملك وبجانب الخادم وبجانب العامل، كلهم الغني مع الفقير، والشاب مع الشيخ يصطفون في صفوف واحدة متساوين أمام الله سبحانه وتعالى. أيضاً لا فرق بين لون ولون، ولا بين جنس وجنس، ولا بين عنصر وعنصر، ولا بين مكان ومكان. فركعتا الفجر أو ركعات الظهر لا تنقص أو تزيد شيئاً عندما يؤثر المرء أداءها في جماعة على أدائها في عزلة، فهي أربع في المسجد وبنفس الهيئة وبنفس تفاصيل الصلاة التي في البيت، ولكن مع ذلك ضاعف الإسلام أجرها بضعاً وعشرين مرة أو يزيد عندما يقف الإنسان مع غيره بين يدي الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن هذا فيه إغراءً شديداً للانضواء داخل هذه الصفوف، ونبذ العزلة والانسلاخ من المجتمع المسلم، ودعوة إلى اختلاط المسلم بإخوانه والامتزاج بهم.

    معرفة أحوال الناس وقدرهم

    إن الإنسان إذا ألف أن يرى إخوانه دائماً في المسجد فإذا ما تخلف أحدهم اكتشف تخلفه، فربما مرض أو أصابته أي مصيبة وما شعر به أحد، فما هو المقياس الذي يعرفون حاله به؟ إنه صلاة الجماعة، فإذا تخلف فهناك شيء ما، فيبدءون يسألون عنه ويتتبعون أحواله، وإذا أراد الشيطان أن يغتاله وينفرد به ويقصيه عن إخوانه يحس إخوانه بذلك من البداية فيتداركون ذلك بزيارته ونصيحته وغير ذلك.

    وفي هذا التجمع يعرف الكبير في المجتمع الإسلامي فيقدر، والفقير فيعطى، والعالم فيسأل، والجاهل فيتعلم.

    وفي صلاة الجماعة يعرف من كان في صلاته أي نوع من التقصير أو الخلل، فيجد من ينصحه من إخوانه ويعلمه كيفية الصلاة الصحيحة، كذلك المتكاسل ينبه إلى نبذ هذا التكاسل.

    كما أن أحد مواضع إجابة الدعاء هي مواضع تجمع المسلمين، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإخراج العواتق وذوات الخدور في صلاة العيد، وقال عن الحُيِّض: (يعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين)؛ لأن هذه المواضع التي يجتمع فيها المسلمون من مواطن إجابة الدعاء.

    وكذلك تنزل البركة حيث يجتمع الموحدون والمصلون خاصة في مجال الذكر، وحلق العلم، وهذه العبادات المباركة تنزل فيها البركات والرحمات من عند الله سبحانه وتعالى، فتنشأ بهذه التجمعات الوحدة والمحبة والإخاء بين المسلمين، وتجعل منهم كتلة متراصة تنشِّئ فيهم المواساة والتراحم وائتلاف القلوب، وتربيهم على النظام والانضباط، والمحافظة على الأوقات.

    تحطيم الفوارق الاجتماعية

    صلاة الجماعة -أيضاً- من أهم وأعظم حكمها: اشتمالها على الوسائل التي تحطم الفوارق الاجتماعية، يقول فيلسوف فرنسي يدعى رينان : إنني كلما رأيت المسلمين وهم يصطفون صفوفاً في صلاة الجماعة تحسرت على أنني لست بمسلم. أو كلاماً هذا معناه، ونقول له: وما كان يمنعك وباب الإسلام مفتوح؟!

    وكثير من الكفار إنما يسلمون بسبب منظر المسلمين في صلاة الجماعة، ولذلك تلاحظ الإعلام الغربي إذا أراد أن يسخر من المسلمين أو أن يشنع عليهم تجد المصور يتحرى تجنب الصورة الحقيقية للصلاة، فهم يتعمدون تشويه صورة الصلاة عند المسلمين، كأن يظهروهم بصورة من يؤدي حركات لا معنى لها وبصورة منفرة جزئية في نظرهم. بينما أي إنسان عاقل إذا رأى هيئة صلاة المسلمين يعلم أن الله لا ينبغي أن يعبد إلا بهذه الطريقة؛ إذ كلها تعظيم وخشوع ومناجاة لله سبحانه وتعالى، بل أعظم أسباب إسلام العدد الغفير من الكفار أنهم رأوا المسلمين وهم يصلون في صلاة الجماعة، وقد نغفل نحن عن التأمل في هذه الحكم، أما هؤلاء فيتأملونها بدقة.

    ولقد كان يصلي معنا في شهر رمضان مضى شاب يوناني لا يعرف كلمة واحدة من اللغة العربية، وكان يصبر مع الإخوة إلى الساعات الأخيرة من القيام، ولما سألوه عن سبب إسلامه قال: رأيت المسلمين يصلون فأحسست أن هذه هي الطريقة التي لا يعبد الله إلا بها. فبدأ يصلي، وما دعاه أحد، فلما بدأ يركع ويسجد ويفعل مثلما يفعل المسلمون شعر بالراحة وشعر بسمو روحه وبمعانٍ عظيمة جداً، فأداه ذلك إلى الإسلام، وهو لا يتقن من اللغة العربية أي شيء على الإطلاق!

    كما أنه دعى غيره للإسلام، وكان مما فعل أنه زار بعض أقاربه اليونانيين في الإسكندرية، فذهب إلى هناك ليدعو إحدى قريباته من النساء إلى الإسلام، فقلت له: ماذا قلت لها؟ قال: أنا ما قلت لها أي شيء، إنما فعلت ما حدث معي، قلت لها: لا تجادلي كثيراً، لكن جربي وصلي مثلما يصلي المسلمون، وانظري كيف ستشعرين؟

    والعجب أيضاً أن شقيقته أسلمت بنفس الطريقة لما دعاها إلى الإسلام، فهذا مذهبه في الدعوة إلى الإسلام أن يقول: ادخل في الصلاة مثلنا، وانظر كيف ستشعر؟! والقصص في ذلك كثيرة جداً.

    ففي صلاة الجماعة والهيئة التي يصطف بها المسلمون تحطيم للفوارق الاجتماعية بين الناس التي لا يجعل لها الإسلام ميزاناً إلا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فتجد الوزير بجانب الملك وبجانب الخادم وبجانب العامل، كلهم الغني مع الفقير، والشاب مع الشيخ يصطفون في صفوف واحدة متساوين أمام الله سبحانه وتعالى.

    أيضاً لا فرق بين لون ولون، ولا بين جنس وجنس، ولا بين عنصر وعنصر، ولا بين مكان ومكان.

    فركعتا الفجر أو ركعات الظهر لا تنقص أو تزيد شيئاً عندما يؤثر المرء أداءها في جماعة على أدائها في عزلة، فهي أربع في المسجد وبنفس الهيئة وبنفس تفاصيل الصلاة التي في البيت، ولكن مع ذلك ضاعف الإسلام أجرها بضعاً وعشرين مرة أو يزيد عندما يقف الإنسان مع غيره بين يدي الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن هذا فيه إغراءً شديداً للانضواء داخل هذه الصفوف، ونبذ العزلة والانسلاخ من المجتمع المسلم، ودعوة إلى اختلاط المسلم بإخوانه والامتزاج بهم.

    1.   

    تاريخ مشروعية صلاة الجماعة

    إن الصلوات المكتوبة في جماعة شرعت في مكة بعد فرضية الصلاة، ولكنها لم تكن مؤكدة، فالاجتماع للصلاة المكتوبة كان في أول الأمر غير واجب، ثم بعد أن فرض الله جل ذكره الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج أرسل جبريل عليه السلام صبيحة تلك الليلة، ففرض الصلاة ثم في صبيحة تلك الليلة أرسل الله عز وجل جبريل ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم أوقاتها وكيفية أدائها؛ حيث أَمَّ جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت مرتين، مرة صلى فيها الظهر حين زالت الشمس، وروى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: قال نافع بن جبير وغيره: (لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به فيها لم يرعه إلا جبريل يتدلى حين زاغت الشمس) ولذلك سميت صلاة الظهر الصلاة الأولى (فأمر فصيح في الناس بـ: (الصلاة جامعة))، ولم يكن شرع الأذان بعد.

    صيح في الناس: (الصلاة جامعة) أي: هيا اجتمعوا. فاجتمعوا، فصلى جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وطول الركعتين الأوليين ثم قصر الباقيتين، ثم سلم جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم النبي صلى الله عليه وسلم على الناس.

    أي أن جبريل لما قال: (السلام عليكم)، كان يقصد بذلك السلام على الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (السلام عليكم) كان يسلم على الناس. ثم في العصر ففعلوا كما فعلوا في الظهر.

    ثم نزل أول الليل فصيح: (الصلاة جامعة) فصلى جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس، فقرأ في الأوليين وطول وجهر -أي: في العشاء- وقصر الباقيتين -يعني: صلاهما بالفاتحة فقط- ثم سلم جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم على الناس.

    قال السهيلي في (الروض الأنف): أهل الصحيح متفقون على أن هذه القصة -يعني قصة إمامة جبريل- كانت في الغد من ليلة الإسراء، وذلك بعد ما نبئ بخمسة أعوام، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم الجماعة مع بعض أصحابه في مكة في بعض الأحيان، والغالب أنه لم يكن يصلي بهم جماعة، وصلى بـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في دار الأرقم، ومع أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وذلك بعد إمامة جبريل له عليه الصلاة والسلام.

    ومع وقوع صلاة الجماعة بهذه الصورة لم تكن مشروعيتها متأكدة، إنما أوجبت بالمدينة وصارت فيها شعيرة بارزة من شعائر الإسلام، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها -أي: يترقبون مواقيت الصلاة ويصلون، ولم يكن هناك نداء للصلاة- فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود. فقال عمر : أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فناد بالصلاة).

    وروى أبو داود في سننه بسنده عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: (اهتم النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة كيف يجمع الناس لها؟)، أي: ما هي الطريقة التي يجمع بها الناس كي يحضروا صلاة الجماعة؟ (فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً. فلم يعجبه ذلك) لأن هذا سيبنى على حاسة البصر فقط، الذي يرى الراية سيعرف وقت الصلاة، فلابد من أن يكون الإنسان متوجهاً إلى المسجد حتى يرى الراية، أما الاعتماد على السمع فالإنسان حتى لو لم يكن ناظراً للمسجد فإنه سيسمع، والسمع مجاله أرحب وأوسع من البصر، فالمهم أنه لم يعجبه ذلك عليه الصلاة والسلام (فذكر له القمع) أي: بوق اليهود. فاليهود- ينادون لصلاتهم في بوق، (-وقال زياد : شبور اليهود فلم يعجبه ذلك، وقال: من أمر اليهود) حتى لا يتشبه باليهود (قال: فذكر له الناقوس - أي: الجرس - قال: هو من أمر النصارى. فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: يا رسول الله! إني لبين نائم ويقظان -كنت في حالة بين النائم واليقظان- إذ أتاني آت فأراني الأذان. قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال ! قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله) يعني: سيلقنك ألفاظ الأذان التي أريها في منامه، فافعل مثلما يقول لك.

    قال أبو بشر : (فأخبرني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضاً لجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً له)، وهذا الحديث قال الحافظ عن إسناده: صحيح الإسناد.

    وبهذا يتبين أن الصلاة لم يكن ينادى لها منذ فرضت في مكة حتى بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان المسلمون في تلك الفترة يتحينون أوقات الصلاة فيجتمعون ويصلون بدون أن يجمعهم جامع.

    ثم إن النداء للصلاة بألفاظ الأذان المشروعة إنما استقر الأمر عليه بعد الرؤيا التي رآها عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه، وشرع الأذان للصلوات الخمس بصوت إنسان داعية للصلاة لا راية ولا نار ولا ناقوس ولا بوق، وإنما هو منطق بشر يجلجل في الآفاق فيميز المسلمين بمظهر مستقل؛ لأن النداء للصلوات في الأديان الأخرى هو كما عند النصارى بالجرس الآلة جامدة، وعند اليهود بالبوق، وعند غيرهم بالراية، لكن الإسلام جعل نداء الصلاة صوتاً يصدر من بشر يجهر بتكبير الله سبحانه وتعالى وتوحيده حتى يتميز المسلمون في هديهم عن سائر الأديان في كل شأنهم.

    فعلى المسلم حين يسمع النداء للصلاة أن يلبيه مهما كان الوقت من ليل أو نهار، وعليه أن يجيب داعي الله مهما عرضت له الأعذار.

    1.   

    تعظيم شعائر الدين وتقديمها على ما عداها من أمور الدنيا

    في هذا الكلام أقوى وأوضح رد على هؤلاء الضالين الذين يعطلون شعائر الله سبحانه وتعالى، بل يمتحنون الناس ويبتلونهم في دينهم بسبب محافظتهم على شعائر صلاة الجماعة، فنجد أن بعض الكليات -والعياذ بالله- وجدت في الأسبوع كله وقتاً تعقد فيه امتحانات البكالوريوس إلا ساعة صلاة الجمعة، قلوب منكوتة، وفطر منسوخة، ضاق عليهم الوقت ولم يبق إلا وقت صلاة الجمعة، كما يحصل في كلية التجارة أو غيرها في مصر، ويقول الجاهل منهم: إن العمل عبادة فهل العمل عبادة والصلاة ليست عبادة؟! ففي غير مواعيد الصلاة عندك ساعات كثيرة في اليوم يمكن أن تنظم فيها أمورك، فلماذا تزاحم حقوق الله سبحانه وتعالى؟ والله تبارك وتعالى يقول: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا [النور:36-38].

    فالشاهد أن العمل عبادة باعتبار معين، أما الاعتبار المطلق فالعبادة هي الصلاة والصيام وذكر الله، وهكذا.

    انظر كيف أثنى الله عليهم، إن الذي يسميه أولئك عبادة لم يلههم عن تعمير مساجد الله، بل قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:18]، فجعل تعمير المساجد علامة الإيمان بالله واليوم الآخر، وغير ذلك من شعائر الإسلام.

    وانظر أيضاً إلى قوله تبارك وتعالى في سورة الجمعة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، فنحن أغنياء عن هذه العبادة، وما يصح البيع ساعة صلاة الجمعة، ويأثم الإنسان إذا اكتسب مالاً من بيع أو شراء ساعة صلاة الجمعة (وَذَرُوا الْبَيْعَ)، فهذا هو حكم الله سبحانه وتعالى، فأولئك يسمونها عبادة والله يقول: اتركوا هذه العبادة وانبذوها وهلموا إلى العبادة الحقيقية.

    ثم قال تبارك وتعالى بعد ذلك فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، فهذا جواب مجمل على هؤلاء الضالين.

    فهم يقولون: العمل عبادة. وهذه الكلمة كأنها آية منزلة في القرآن يتواصون بها ويلقونها في آذان بعضهم، ويرددونها بلا فهم وبلا وعي، فالعمل عندهم عبادة، وكأن الصلاة ليست عبادة! وأصبح العمل عبادة والصلاة ليست عبادة، فلماذا لا تنظمون الأمور بحكمة حتى لا تتعارض مع دين هذه الأمة، فهذه الأمة أغلبها -ولله الحمد- مسلمون، فلماذا لا نحترم دين هذه الأمة؟ لماذا لا نحترم عباداتها؟ لماذا لا توضع جداول للجامعات والمصانع والشركات والمستشفيات وكل شيء؟ لماذا لا ترتب طبقاً لمواعيد الصلاة حتى لا يفتن الناس في دينهم؟ فلا يصل الأمر إلى إهمال هذا الأمر عند التخطيط لهذه الأشياء، بل يصل إلى حد معاقبة من يتخلف عن الطوابير أحياناً أو عن شيء من هذه الأنشطة التي يسمونها عبادة، ويعاقب وقد يفصل ويمتحن ويوضع في هذه الفتنة الشديدة، وإلا فما الذي يعنيه دخول إنسان لامتحان ما في ساعة صلاة الجمعة، والعياذ بالله، قلوب سوداء رانت عليها الذنوب والمعاصي.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً طبع الله على قلبه) والعياذ بالله! ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً) رواه البخاري .

    1.   

    اهتمام السلف بصلاة الجماعة

    اهتم السلف أعظم الاهتمام بصلاة الجماعة، سواء في ذلك في الحضر أو السفر، في العسر أو اليسر، في المنشط أو المكره، مع أن الله سبحانه وتعالى عذر المرضى، كما جاء في الحديث: (خوف أو مرض) هذا هو عذر التخلف عن صلاة الجماعة، ومع أن الأبدان قد عذرت ولكن القلوب لم تطق أن تحرم نفسها من صلاة الجماعة.

    فنجد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: (ولقد رأيتنا يجاء بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) يعني أن الرجل المريض كان يحمل من بيته حملاً على رجلين، ويسند إلى أن يقام في الصف لشدة حرصه على صلاة الجماعة، مع أنه مريض ومعذور؛ لأن قلبه لم يطق ولا يتحمل أن يتخلف عن صلاة الجماعة.

    يقول ابن مسعود رضي الله عنه وهو يصف الرعيل الأول من الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض، وإن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة) أخرجه مسلم .

    ويقول الفقيه الكوفي إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كان الأسود بن يزيد إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه، علق النعلين بيديه وتتبع المساجد حتى يصيب جماعة.

    لأن السنة للإنسان أن يصلي في مسجد قومه ولا يتتبع المساجد البعيدة، لما فيه من سلبيات كثيرة، منها -مثلاً- أن الإمام قد يظن أنك تفسقه أو تكفره أو تبدعه، فكونك تتجاوز المسجد إلى مسجد آخر بدون عذر شرعي فهذا مما يذم.

    فـالأسود بن يزيد -وكان من الصالحين رحمه الله تعالى- كان إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه علق النعلين بيديه؛ لأنه إذا مشى حافي القدمين فهذا يكون أسرع له، ثم يظل يتتبع المساجد ويبحث عن مسجد لم تصل فيه الجماعة بعد حتى يدرك الجماعة.

    وقال بعض السلف: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة. يعني: حظي بنصيب وافر جداً من الثواب العظيم والجزيل.

    ويقول الحافظ الجهبذ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه الحافل (سير أعلام النبلاء) وهو يترجم للإمام الرباني أبي الحارث عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي المدني قال: قال مصعب : سمع عامر المؤذن وهو يجود بنفسه -وهو يحتضر- فقال: خذوا بيدي، أسندوني حتى أذهب إلى المسجد وأصلي في الجماعة. فقيل: إنك عليل -أي مريض-! قال: أسمع داعي الله فلا أجيبه! فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في المغرب، فركع ركعة ثم مات رحمه الله تعالى.

    يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: ولكن المحروم من حرم صلاة الجماعة؛ فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين صلاة لا يعدل عنها إلى صلاة ثوابها ثواب جزء من سبعة وعشرين جزءاً منها إلا مغبون.

    فلو أن أحداً يبيع سلعة يكسب فيها جنيهاً واحداً، ونفس السلعة يمكن أن يبيعها في مكان آخر ينتقل إليه بسبعة وعشرين فلا شك أن التاجر الذي يضحي بمثل هذا المكسب الوفير لأجل انتقال يسير جداً من محله إلى مكان قريب لا شك أنه مغبون، وإنسان خاسر بكل المقاييس، فما بالك بمن يفوت سبعة وعشرين ضعفاً من الصلاة ويصلي في بيته ويضحي بهذا الأجر العظيم.

    لذلك كان بعض السلف إذا تخلف عن الجماعة تكون بالنسبة له مصيبة كبيرة، ويأتي إخوانه من أهل المسجد يعزونه في هذه المصيبة، ويبدو أنه بعد ذلك حصل تراخٍ في هذا الأمر، حتى إن بعض السلف أنكر على أصحابه حينما قال: لو مات لي ولد فعزاني لعزاني عشرة آلاف إنسان، وفاتتني تكبيرة الإحرام فلم يعزني أحد. فهو يستدل بذلك على أنهم ليسوا فقهاء، وليسوا معظمين لأمر الله سبحانه وتعالى.

    يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: ولكن المحروم من حرم صلاة الجماعة؛ فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين صلاة لا يعدل عنها إلى صلاة ثوابها ثواب جزء من سبعة وعشرين جزءاً منها إلا مغبون، ولو رضي لنفسه في المعاملات الدنيوية بمثل هذا لكان مستحقاً لحجره عن التصرف في ماله.

    فلو أن تاجراً ضحى في تجارته بمثل هذا الربح لاعتبر سفيهاً؛ لأنه يضيع سبعةً وعشرين ضعفاً من سعر السلعة! فإن أعطي المال ليتاجر به لقال له المالك: أنت سفيه لا تصلح، كيف تفوت علي سبعة وعشرين ضعفاً من الربح؟! وربما يحجره عن التصرف في ماله.

    يقول: ولو رضي لنفسه في المعاملات الدنيوية بمثل هذا لكان مستحقاً لحجره عن التصرف في ماله لبلوغه من السفه إلى هذه الغاية، والتوفيق بيد الرب سبحانه وتعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، فهذه من السفاهة، فما بالك بمن يفوت سبعاً وعشرين درجة من درجات الآخرة؟!

    1.   

    فضل صلاة الجماعة

    مضاعفة أجرها وصلاة الملائكة عليه

    لا شك أن صلاة الجماعة في المساجد من أوكد العبادات، وإقامتها في بيوت الله سبحانه وتعالى من أجل الطاعات، والمحافظة عليها في الحضر أو السفر من أعظم القربات، ولذلك وردت الأحاديث النبوية الصحيحة تترى مبينة ما أعد لشاهدها من أجر عظيم، وثواب جسيم، ونعيم مقيم، جاءت هذه الأحاديث تشحذ همم السالكين، فتبعث في نفوسهم روح العبادة واليقين، من هذه الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة) وهذا من آداب الخروج للمسجد، وهذه أكمل الأحوال، لئلا يكون الدافع وراء خروجك إلى المسجد أي شيء آخر غير الصلاة، وليس معنى هذا أن الإنسان إذا خرج ليصلي وليؤدي بعض الأشياء أنه آثم، لكن نقول: أكمل الأحوال أن تجرد نيتك لمحض التعبد، لما في بعض الروايات: (ما تنهزه إلا الصلاة)، يعني: ما يريد أن يذهب للمسجد ليقابل أحداً أو يقضي بعض الحاجات في الطريق، ولا لأي غرض آخر، بل يخرج تعظيماً لأمر الله، وتلبية لداعي الصلاة.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه الذي يصلي فيه ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة، تقول الملائكة: اللهم! صل عليه -وفي بعض الروايات-: اللهم! اغفر له، اللهم! ارحمه ما لم يحدث فيه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)، ومن طريق أخرى بلفظ: (ما كان في المسجد ينتظر الصلاة ما لم يحدث). فقال رجل أعجمي: ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال: الصوت. يعني الضراط، وهذا الحديث متفق عليه.

    كثرة حسنات خطاه وبقاؤه في حكم المصلي حتى يرجع

    وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تطهر الرجل ثم أتى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتباه -أو قال: كاتبه-) يعني الملك الذي يكتب الحسنات، قال: (كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة -يعني القاعد في المسجد ينتظر الصلاة- كالقانت) والقنوت يطلق على عدة معانٍ، يطلق على السكوت، والدعاء، والطاعة والتواضع، وإدامة الحج والغزو، والقيام في الصلاة وهو المقصود هنا. (والقاعد يرعى الصلاة كالقانت) يعني الشخص الذي يصلي ويطيل الصلاة وقراءة القرآن في الصلاة، قال: (ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه)، وبالنسبة للحديث المتقدم الذي ذكرناه في مضاعفة أجر صلاة الجماعة فإن حكم صلاة الجماعة موضوع ومضاعفة الثواب موضوع آخر، فالأفضلية لا تنافي الفرضية، أي أن أفضلية صلاة الجماعة على صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة أو سبع وعشرين درجة لا تعارض بينها مع كونها فريضة، فليس معنى ذلك أنه يباح للإنسان أن يترك الجماعة بدون عذر، فلا منافاة بين الأفضلية والفرضية والوجوب.

    مغفرة الذنوب

    وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه)، والمقصود بإسباغ الوضوء ليس المبالغة في الوضوء، فبدلاً من أن يغسل إلى كعبيه يغسل إلى ركبتيه، أو أمر بأن يغسل إلى المرافق فيغسل إلى الكتف، فهذا ليس إسباغاً، الإسباغ المقصود به أن تصل بالمياه إلى الحدود الشرعية التي حدها النبي صلى الله عليه وسلم، أو تزيد قليلاً كأن تشرع في العضد مثلاً، أو فوق الكعب بقليل، لكن أن تبالغ فهذا مخالفة لهدي النبي عليه الصلاة والسلام، فإسباغ الوضوء هو مثل الثوب السابغ الذي يغطي الجسم تماماً، قال: (من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه)، رواه مسلم .

    تبشبش الله جل جلاله إلى المصلي في جماعة

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه فيسبغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته) يعني: لو أن إنساناً له حبيب أو قريب سافر عنه وغاب غياباً طويلاً ثم أتى إليه فجأة، أو وجد الأب ابنه أو أحب الناس إليه فجأة أمامه فكيف تكون فرحته؟ لا شك أنه يتبشبش له أهله، ويسرون به سروراً عظيماً، فالله سبحانه وتعالى يكون منه ذلك -كما يليق به جل جلاله- مع المؤمن الذي يأتي إلى المسجد.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه -أيضاً- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قال: إسباغ الوضوء على المكاره) يعني: على الرغم من المكاره. وهي ما يكرهه الإنسان ويشق عليه، مثل شدة البرد حين لا يوجد إلا ماء بارد، وفي شدة البرد قد يضطر إلى أن يتوضأ به، فرغم وجود هذا المكروه لكنه يسبغ الوضوء لوجه الله سبحانه وتعالى، هذا مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذالكم الرباط، فذالكم الرباط، فذالكم الرباط) رواه مسلم .

    إعداد الله تعالى النزل للذاهب إلى المسجد غدواً أو رواحاً

    وعنه أيضاً رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)، والنزل هو ما يعد للضيف من الإكرام والطعام وغيره.

    فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من غدا إلى المسجد) يعني: ذهب إلى المسجد في وقت الغدو الذي هو صلاة الفجر، (أو راح) في العشي (أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح).

    وحينما نذكر كلام الرسول عليه الصلاة والسلام في فضائل الأعمال لابد من أن نستحضر القلوب؛ لأننا نسمع قول رسول الله عليه الصلاة والسلام لا كلام شخص عادي، فهذا مبلغ عن الله، وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] فليس قوله مجازاً ولا ضرب أمثال، ولا تقريباً للأفهام، ولا مجرد ترغيب ولا ترهيب، كلا، بل هو حقيقة يخبرك عنها الصادق المصدوق، فلابد من أن تستحضر أن هذا واقع قطعاً؛ لأن الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، فكل ما ينطق به هو حقيقة لا بد أن تستحضرها، فتستحضر أنك إذا توضأت في البيت وأسبغت الوضوء ومشيت إلى المسجد لتصلي صلاة فريضة تستحضر تماماً وأنت في طريقك إلى المسجد أن الله يتبشبش لك ويسر بمجيئك في بيته كما يسر أهل الغائب بطلعته عليهم.

    وتستحضر أن مشيك هذه الخطا إلى المسجد وأنك إذا استوفيت هذه الأفعال المذكورة في الأحاديث فإن الله قد أعد لك نزلاً في الجنة كلما غدوت أو رحت إلى المسجد.

    البشارة بالنور التام يوم القيامة للمشائين في الظُلَم إلى المساجد

    وعن بريدة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) ولو أن رجلاً كريماً وعدك بهبة أو هدية، أو بشيء عظيم يعطيك إياه فقال لك أحد أصدقائك: هذا الشيء كثير، فهل يعقل أن يعطيك هذا؟! فإنك تقول له: هذا إنسان كريم لا يخلف وعده، ولا يرجع عن كلمته. فمن أصدق من الله حديثاً؟ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111]، فاستحضر دائماً أن كل هذه الوعود سيعطيك الله سبحانه وتعالى إياها إذا استوفيت هذه الشروط؛ لأن الله لا يخلف الميعاد. فالكريم يخلف وعيده لكن لا يخلف وعده، كما يقول الشاعر في حق ابن عم له: وإني إذا وعدته أو أوعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فالكريم يخلف الوعيد الذي هو العذاب، ومن كرمه أن يعفو عنك، لكن الوعد لا بد من أن ينجزه. وهنا انظر إلى هذه البشرى العظيمة واستحضرها كلما خرجت إلى المسجد في الظلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين) و(المشاء) صيغة مبالغة من الماشي، فالمراد هنا مدح من يكثر المشي إلى المساجد ويصير ذلك عادة له، ولا يصدق هذا الحديث ولا تتحقق هذه البشرى لمن اتفق له المشي مرة أو مرتين، وإنما من يدمن المشي إلى المساجد ويكثر الخطا إلى بيوت الله تبارك وتعالى، والظاهر أن هذا الحديث في فضيلة صلاتين: صلاة العشاء وصلاة الفجر؛ لأنهما الصلاتان اللتان تؤديان في ظلمة، يقول عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) والجزاء من جنس العمل، فكما مشوا في الظلام ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى مع احتمال وجود آفة في الطريق تؤذيهم لكن مع ذلك أصروا على الذهاب إلى المساجد بشرهم بأن يبدلهم الله سبحانه وتعالى هذه الظلمة نوراً كاملاً يوم القيامة.

    الحصول على أجر الحاج والكتابة في عليين

    وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى -يعني: خرج كي يصلي صلاة الضحى- لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين)، فإذا استطعت أن تحافظ على أن تصلي صلاة فريضة عقب صلاة فريضة بشرط أن لا ترتكب أي نوع من اللغو ما بين هذه الصلاة والتي تليها، إذا حافظت على هذا يكتب لك كتاب في عليين وهي الجنة، وغالباً هذا اللغو لا يحصل ولا يكون احتماله أكثر إلا عند كثرة المخالطة، أو المخالطة نفسها في بعض الأوقات تكون هي سبب وقوع اللغو، فإما أن تسمع كلمة لا داعي لها، أو تتكلم أنت بكلام أنت في غنىً عنه. فلذلك الإنسان إذا أراد أن يحقق مثل هذا الحديث فعليه أن يذهب إلى المسجد في صلاة المغرب ويمكث بنية انتظار صلاة العشاء؛ لأنه إذا مكث بنية انتظار صلاة العشاء سيكون مرابطاً ويؤجر كأنه لا يزال يصلي، ويجتنب محادثة الناس، ويقرأ القرآن، ويذكر الله سبحانه وتعالى إلى أن تأتي الصلاة التي تليها دون أن يرتكب لغواً بينهما، حينها ينال هذا الثواب العظيم. يقول عليه الصلاة والسلام: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة؛ فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى -والنوافل تسمى تسبيحاً- لا ينصبه إلا إياه؛ فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين).

    الضمان على الله بالرزق والكفاية ودخول الجنة

    وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة كلهم ضامن على الله إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة)، فالله سبحانه وتعالى يضمن لك ويؤمن لك هذا، فإن عشت ترزق وتكفى الهم، ويبارك لك في الرزق، وإن مت يضمن الله لك الجنة، قال: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله) فهذا فيه استحباب أن يسلم الإنسان على أهله إذا دخل بيته، (ومن خرج إلى المسجد -يعني: ليصلي- فهو ضامن على الله، ومن خرج في سبيل الله -يعني: في الجهاد- فهو ضامن على الله سبحانه وتعالى).

    الحصول على حق الزيارة والبراءة من النار والنفاق

    وعن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله، وحق على المزور أن يكرم الزائر).

    وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تبارك وتعالى ليعجب من الصلاة في الجمع) يعني: في الجماعة.

    وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق)، فمن أراد أن يكتب له براءة من النار وبراءة من النفاق فليجتهد في تحقيق هذا الحديث، لكن الحديث بشروط:

    أولاً: (من صلى)، فأول شيء أن تكون صلاة فريضة.

    ثانياً: (من صلى لله) وهذا شرط إخلاص النية، أي: لا يكون رياءً ولا سمعةً، وإنما لله.

    ثالثاً: (أربعين يوماً في جماعة) يعني: يصلي أربعين يوماً متصلة دون انقطاع في صلاة جماعة.

    رابعاً: (يدرك التكبيرة الأولى) فلابد من أن يكون حاضراً وقت تكبيرة الإحرام.

    وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح فقال: أشاهد فلان؟..) و(شاهد) بمعنى: حاضر (قالوا: لا. قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: إن هاتين الصلاتين -يعني: صلاة العشاء والصبح- أثقل الصلوات على المنافقين).

    يقول ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: إنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما، وقوة الصارف عن الحضور. يعني: الداعي إلى ترك الحضور قوي، والصارف عن الحضور أيضاً قوي، فهي فتنة من الجانبين.

    يقول: إنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما، وقوة الصارف عن الحضور، أما العشاء فلأنها وقت الإيواء إلى البيوت، والاجتماع مع الأهل، واجتماع ظلمة الليل، وطلب الراحة من متاعب السير بالنهار.

    وأما الصبح فلأنها وقت لذة النوم، فإن كانت في زمن البرد ففي وقت شدته لبعد العهد بالشمس لطول الليل، وإن كانت في زمن الحر فهو وقت البرد والراحة من أثر حر الشمس لبعد العهد بها، فلما قوي الصارف عن الفعل ثقلت على المنافقين، وأما المؤمن الكامل الإيمان فهو عالم بزيادة الأجر لزيادة المشقة، فتكون هذه الأمور داعية له إلى الفعل كما كانت صارفة للمنافقين، فهي تصرف المنافقين عن الحضور، وهي -أي: نفس الأسباب- تدفع المؤمن إلى الحضور لما يرجو من ثواب الله سبحانه وتعالى.

    ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما فيهما - يعني: من الأجر والثواب- لأتوهما ولو حبواً) يعني: لو يعلم المنافقون الثواب الذي يترتب على صلاة الفجر والعشاء لأتوا إلى المساجد ولو حبواً، أي: يخرج أحدهم من بيته إلى المسجد حبواً كما يحبو الطفل الرضيع على يديه وركبتيه، ولحرصوا على تحصيل هذا الثواب الكبير إذا كشف لهم عظم هذا الثواب.

    ولذلك المؤمن لا يأتي حبواً لكن يأتي اشتياقاً لهذا الأجر العظيم، فيكون هذا الأجر داعية له إلى تحصيله لما عنده من يقين من حصول هذا الأجر، ويستحضر أنه سينال وعد الله سبحانه وتعالى.

    وانظر إلى ذي القرنين، قال تعالى عنه: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ * إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى [الكهف:86-88] فالمؤمن لا يطلب ثواباً في الدنيا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى [الكهف:88] يعني الجنة في الآخرة، فالمؤمن قدم ثواب الآخرة، وهذا هو المحرك والدافع لعمله وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:88] أما في الدنيا فسنقول له قولاً حسناً.

    فهكذا المؤمن يحركه ويدفعه دائماً الطمع فيما عند الله سبحانه وتعالى من الثواب في الآخرة.

    والصحابة لما بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام ما بايعوه على وظائف أو مناصب، أو دنيا، وإنما بايعوه على الجنة، وقالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل.

    فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح فقال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الركب؛ فإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه -يعني: لتسابقتم عليه- وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل)، فإذاً: هذه أحد مرجحات صلوات الجماعة إذا تعددت في الحي الذي أنت فيه.

    وهناك مرجحات عديدة، منها: أن يكون المسجد أقدم.

    ومنها: أن يكون المصلون أكثر عدداً، فكلما كثر العدد كلما زادت البركة ونزلت الرحمات، فلذلك هنا في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (وكلما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل)، فأحد المرجحات كثرة عدد المصلين في المسجد.

    الحصول على أجر قيام الليل بشهود صلاتي العشاء والفجر

    وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) يعني الصبح نصف والعشاء نصف، فإذا صلى العشاء جماعة والصبح في جماعة يجتمع النصفان فكأنه قام الليل كله.

    وفي لفظ: (من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة).

    وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ ثم أتى المسجد فصلى ركعتين قبل الفجر ثم جلس حتى يصلي الفجر كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار، وكتب في وفد الرحمن)، وهذا في صحيح الترغيب برقم أربعمائة وستة عشر.

    مصلي الفجر في ذمة الله

    وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله) يعني: في أمان الله وعهده. وفي بعض الأحاديث: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء)، فما معنى هذا؟

    معناه أن من صلى صلاة الصبح في جماعة في المسجد فهو في حماية الله وفي جوار الله وفي جناب الله، فإياك أن تؤذي رجلاً صلى الصبح في جماعة لأنه في حماية الله، فأنت إذا آذيته أو اعتديت عليه أو ظلمته فإن الله سينتقم له منك (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء)، وهذا فيه تعظيم حرمة المسلم الذي يصلي الفجر في جماعة فأي واحد يؤذي من يصلي الفجر في جماعة فسوف يطلبه الله لأنه نقض عهد الله، واعتدى على من هو في حماية الله وفي جوار الله سبحانه وتعالى.

    مباهاة الله تعالى ملائكته بالماكثين في المساجد بعد المغرب

    وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب -يعني: تأخر من تأخر- فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً قد حفزه النفس -يعني: أتعبه النفس من شدة جريه وسعيه- قد حسر -أي: كشف- عن ركبتيه، فقال: أبشروا أبشروا! هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى)، فهذا الحديث في فضل الرباط والمكث في المسجد بعد الانتهاء من صلاة انتظاراً للصلاة التي تليها، وهو من أعظم الأعمال الصالحة، وأغلب الناس في هذا الزمان في غفلة عن هذا الثواب العظيم.

    وانظر إلى انفعال الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه البشرى، وكيف أتى يبشر أمته على هذه الهيئة؟ وتخيل مشهده عليه الصلاة والسلام وهو يبشرهم؛ إذ إنه كان رءوفاً رحيماً بهم عليه الصلاة والسلام!

    فقوله: (قد حسر عن ركبتيه) أي: كشف ركبتيه من شدة احتياجه لأن يكشف عنهما حتى يستطيع الجري بسرعة أكثر، يبشر الذين تخلفوا بعد صلاة المغرب؛ لأن الناس انقسموا إلى فريقين: فريق انصرف بعد الصلاة وفريق ظل ماكثاً يذكر الله إلى أن تأتي صلاة العشاء.

    والآن لو نكلم الناس بهذه الأحاديث فإنهم يقولون: نحن في زمن السرعة، والعمل عبادة. وهم يقضون الساعات الطوال أمام التلفزيون والمسرحيات والأفلام، ويقرءون الجرائد التي تكاد أن لا يكون فيها حرف يُقرأ، ويقول لك أحدهم: إن العمل عبادة. فهو لا يعرف أن العمل عبادة إلا إذا أمرته بذكر الله.

    فيبشر الرسول الصحابة: (أبشروا أبشروا! هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى).

    وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح -يعني: لم يحضر صلاة الفجر- وأن عمر غدا إلى السوق ومسكن سليمان بين المسجد والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصبح؟! فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه. قال عمر رضي الله عنه: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة).

    البشارة بالنور التام يوم القيامة للماشي إلى المساجاد في الظُلَم

    وعن بريدة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة} ولو أن رجلاً كريماً وعدك بهبة أو هدية، أو بشيء عظيم يعطيك إياه فقال لك أحد أصدقائك: هذا الشيء كثير، فهل يعقل أن يعطيك هذا؟! فإنك تقول له: هذا إنسان كريم لا يخلف وعده، ولا يرجع عن كلمته. فمن أصدق من الله حديثاً؟ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111]، فاستحضر دائماً أن كل هذه الوعود سيعطيك الله سبحانه وتعالى إياها إذا استوفيت هذه الشروط؛ لأن الله لا يخلف الميعاد.

    فالكريم يخلف وعيده لكن لا يخلف وعده، كما يقول الشاعر في حق ابن عم له:

    وإني إذا وعدته أو أوعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

    فالكريم يخلف الوعيد الذي هو العذاب، ومن كرمه أن يعفو عنك، لكن الوعد لا بد من أن ينجزه.

    وهنا انظر إلى هذه البشرى العظيمة واستحضرها كلما خرجت إلى المسجد في الظلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {بشر المشائين} و(المشاء) صيغة مبالغة من الماشي، فالمراد هنا مدح من يكثر المشي إلى المساجد ويصير ذلك عادة له، ولا يصدق هذا الحديث ولا تتحقق هذه البشرى لمن اتفق له المشي مرة أو مرتين، وإنما من يدمن المشي إلى المساجد ويكثر الخطا إلى بيوت الله تبارك وتعالى، والظاهر أن هذا الحديث في فضيلة صلاتين: صلاة العشاء وصلاة الفجر؛ لأنهما الصلاتان اللتان تؤديان في ظلمة، يقول عليه الصلاة والسلام: {بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة} والجزاء من جنس العمل، فكما مشوا في الظلام ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى مع احتمال وجود آفة في الطريق تؤذيهم لكن مع ذلك أصروا على الذهاب إلى المساجد بشرهم بأن يبدلهم الله سبحانه وتعالى هذه الظلمة نوراً كاملاً يوم القيامة.

    الحصول على أجر الحاج المحرم وكتاب في عليين

    وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى -يعني: خرج كي يصلي صلاة الضحى- لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين}، فإذا استطعت أن تحافظ على أن تصلي صلاة فريضة عقب صلاة فريضة بشرط أن لا ترتكب أي نوع من اللغو ما بين هذه الصلاة والتي تليها، إذا حافظت على هذا يكتب لك كتاب في عليين وهي الجنة، وغالباً هذا اللغو لا يحصل ولا يكون احتماله أكثر إلا عند كثرة المخالطة، أو المخالطة نفسها في بعض الأوقات تكون هي سبب وقوع اللغو، فإما أن تسمع كلمة لا داعي لها، أو تتكلم أنت بكلام أنت في غنىً عنه.

    فلذلك الإنسان إذا أراد أن يحقق مثل هذا الحديث فعليه أن يذهب إلى المسجد في صلاة المغرب ويمكث بنية انتظار صلاة العشاء؛ لأنه إذا مكث بنية انتظار صلاة العشاء سيكون مرابطاً ويؤجر كأنه لا يزال يصلي، ويجتنب محادثة الناس، ويقرأ القرآن، ويذكر الله سبحانه وتعالى إلى أن تأتي الصلاة التي تليها دون أن يرتكب لغواً بينهما، حينها ينال هذا الثواب العظيم.

    يقول عليه الصلاة والسلام: {من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة؛ فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى -والنوافل تسمى تسبيحاً- لا ينصبه إلا إياه؛ فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين}.

    الضمان على الله بالرزق والكفاية في الحياة ودخول الجنة بالموت

    وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاثة كلهم ضامن على الله إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة}، فالله سبحانه وتعالى يضمن لك ويؤمن لك هذا، فإن عشت ترزق وتكفى الهم، ويبارك لك في الرزق، وإن مت يضمن الله لك الجنة، قال: {ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله} فهذا فيه استحباب أن يسلم الإنسان على أهله إذا دخل بيته، {ومن خرج إلى المسجد -يعني: ليصلي- فهو ضامن على الله، ومن خرج في سبيل الله -يعني: في الجهاد- فهو ضامن على الله سبحانه وتعالى}.

    1.   

    الأسئلة

    حكم حلق اللحية بسبب مرض ما

    السؤال: أعاني من (حب الشباب) وهو يظهر تحت لحيتي، ويسبب لي الكثير من الألم، وذلك لأن هذه الحبوب تمتلئ بالصديد الكثير، فأقوم بحلق اللحية كي أعالجها، فعندما أترك لحيتي مرة أخرى تعود الحبوب كما كانت من قبل، وتكرر ذلك الوضع أكثر من مرة بل كثيراً، فما حكم حلق اللحية بالنسبة لي؟

    الجواب: نقول: ما يدريك أن حلق اللحية هو الذي يسبب هذه التقيحات وهو الذي يلوث هذه الجروح؟

    لكن لو ابتلي الإنسان بمرض جلدي معين علاجه في حلق اللحية. فهذه من الرخص النادرة، ويجوز له أن يحلق لحيته للتداوي، ويحرم حلق اللحية إلا لتداو كما قال بعض العلماء، ففي حالة التداوي إذا كان لا سبيل للتداوي إلا الحلق كانت هذه حالة خاصة.

    والشيء يذكر بالشيء، ولا بأس أن يكون بين وقت وآخر شيء من العتاب لبعض منا، فلو أن أخاً ما ضعف إيمانه أو التزامه بالدين، أو تعرض لضغوط وحلق لحيته، فنجد الشكوى من سوء المعاملة له، ونجد نفوراً شديداً منه، ويصل الأمر إلى إعانة الشيطان عليه، وبالتالي يعتزل تماماً من مجتمع الإخوة حتى يتجنب هذه الأذية.

    فلنفرض أن الأخ عنده عذر، وقد حصل أن أحد إخواننا -عافاه الله سبحانه وتعالى- ابتلاه الله سبحانه وتعالى بمرض، فبدأ شعر لحيته يتساقط، فما بين قائل له: (نعيماً) وقائل له غير ذلك من السخرية والاستهزاء، والأخ حسن الخلق، فصبر وصبر حتى بلغ السيل الزبى، وكاد أن يهجر جميع المساجد حتى يتجنب هذه الأذية.

    فالإنسان يكون حسن الخلق، فـ(الكلمة الطيبة صدقة)، حتى مع الكافر، قال الله سبحانه وتعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، حتى مع فرعون الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] قال تعالى لموسى أشرف الأنبياء في زمنه عليه السلام: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، فأين الرفق؟ فينبغي مراعاة آداب الإسلام، فأخ لك له حرمة إذا وقع في حفرة هل توسع له الحفرة وتدفنه فيها أم تأخذ بيده وتجذبه إليك وتنقذه؟!

    والذي يحصل كأنه تواطؤ من كثير من الإخوة، فالسخرية، والاستهزاء، والاكفهرار في وجهه، والتنفير، وإعانة الشيطان عليه، بينما الرسول عليه الصلاة والسلام لما كان ذلك الرجل الذي يلقب حماراً -وكان يضحك النبي عليه الصلاة والسلام- كان يؤتى به قد شرب الخمر، وكان الشيطان يغلبه أحياناً بمعصية شرب الخمر -والعياذ بالله- فكان يقيم عليه الحد، ففي إحدى المرات قال أحد الصحابة بعدما جلد هذا الرجل رضي الله عنه قال: لعنه الله؛ ما أكثر ما يؤتى به! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله)، وقال: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) فلا تنضم بجانب الشيطان ضد أخيك.

    والذي يسخر من أخيه أو يؤذيه أو يقاطعه أو يكفهر في وجهه وهل قد جرب أن يأخذه على انفراد وينصحه برفق ولين ويذكره لعل عنده عذراً خفياً كما كان حال هذا الأخ؟

    فاحمد الله على أن عافاك من البلاء، وإذا كان الله ابتلاه وعافاك فلا تظهر هذه الأذية، فلا تأمن أن يعاقبك الله ويذيقك من نفس هذه الكأس، والجزاء من جنس العمل.

    فنرجو من الإخوة أن يراعوا هذه الآداب، وإذا ضعف الأخ فلابد من أن نأخذ بيديه وننصحه.

    فنرجوا التزام هذا الخلق مع الناس، وأنا ألاحظ أحياناً -ولله الحمد- أن بعض أناس يأتون لأول مرة أو غير ملتحين، فأول ما أرى أخاً غير ملتحٍ أقول: يا رب! استر. حتى لا ينفره أحد الإخوة ويشتد عليه وينفره.

    وبفضل الله نلاحظ كثيراً من المسلمين يسمع أحدهم كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام فنلاحظ مع الوقت كثيراً منهم بدون أن يحصل له أي ضغط أو إرهاب يلتزم بالهدي الظاهر كله، لكن خطوة خطوة؛ لأن الصراع على أشده، وأهل الفساد والإلحاد والزندقة يحاربون ويصدون الناس عن سبيل الله بكل الطرق، حتى إن فيلم (الإرهابي) يصدرونه لكل الدول العربية، ولا توجد دولة ترفضه غير الأردن، وأصدر وزير الثقافة الأردني بياناً يقول فيه: إن هذا الذي تسمونه إرهاباً هو دين الإسلام نفسه، فكيف تسبون الإسلام؟ والهيئات في الأردن كلها كتبت معترضة على مثل هذا، وأنه طعن في الإسلام نفسه وليس طعناً في الإرهاب، وأيضاً لبنان النصرانية ترفضه، وبقية الدول العربية تقبله، وحسبنا الله ونعم الوكيل!

    فنحن نتصارع مع أعداء الناس لإنقاذهم، فهم يشدون من ناحية ونحن نشد من الناحية الثانية.

    وأيضاً توجد بعض التصرفات التي كثرت الشكوى بشأنها في الحقيقة، فنحن إذا لم نتصارح بهذه الأشياء سنتمادى فيها، ونحن -المسلمين- أسرة واحدة، فالمفروض أن يكون أحدنا للآخر كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، أو كالمرآة ترى فيها عيبك، فهناك أشياء نسمعها ولا نكاد نصدقها، فآخر ما سمعت أن أختاً تزوجت من رجل قد طلق زوجته، فكتبت الأولى خطابات تشتمها وتسخر منها، وتقول: يا خاطفة الرجال. وألفاظاً بذيئة وكلاماً سيئاً جداً، ثم صورت نسخاً من الخطاب، ووضعته أمام كل أبواب الشقق في العمارة، وأخذ أحد النصارى الأوراق وذهب بها لزوج الأخت ليريه ما صنعت، ويقول له: هذه أخلاقكم أيها المسلمون؟! فهل هذا تصرف؟ وهل هذه أخلاق الإسلام؟

    نحن محتاجون إلى أن نراجع أنفسنا في أشياء كثيرة جداً، في التقصير في طلب العلم والعبادة، وغير ذلك من أشياء لا أكاد أصدقها فأخت تمضغ العلك -الذي هو اللبان- داخل الصلاة، فتنصحها أخت بأن هذا لا يجوز داخل الصلاة فتجيبها بجواب بارد!

    وأخت تمشي من آخر المسجد إلى أوله وهي في الصلاة، وتفتح الحقيبة وتدخل أشياء وتخرج أشياء، فهذه الأشياء ما عهدناها مع الملتزمين، فأي التزام هذا؟

    فنرجو التخلص من هذه الآفات والالتزام بآداب الإسلام وتحسين صورتنا؛ لأن هذا مما نعاقب عليه، والصد عن سبيل الله بسوء الخلق ذنب، وإذا تأملنا الآية في سورة النحل: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:94] فمعنى الآية: لا تستغلوا اسم الله سبحانه وتعالى وتحلفوا بالله وأنتم تنوون الخديعة.

    وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ [النحل:94] يعني: للإفساد. فماذا يحصل إذا الإنسان حلف وعاهد ثم غدر أو أخلف أو أساء الخلق؟ قال تعالى: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا [النحل:94]، تكون أنت مذنباً في نفسك، وبعدما كنت ثابتاً على الطريق زللت عنه، فهذا انحراف في نفسك أنت، فأنت تعاقب على هذا أولاً، ثم وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النحل:94]، إذا فعلتم هذه الأخلاق فإنكم تتسببون في تشويه صورة الإسلام، وبالتالي الكفار الذين عاهدتموهم ونقضتم العهود وخدعتموهم باليمين هؤلاء سيقولون: لو كان في دينهم خير لمنعهم من الإخلاف بالوعد.

    فمدرب نادي الاتحاد الألماني الذي يدعى سيو بكير كانت المشكلة الوحيدة عنده كلما نكلمه عن مبادئ الإسلام ومفاهيم الإسلام وندعوه إلى جمال الإسلام وروائع الإسلام أنه يقول: فأين هذا فيكم؟ أنتم فيكم الكذب والغش والخداع وكذا وكذا.

    وأكبر من هذا أنهم لما أرادوا أن يتعاقدوا معه أتوا به إلى مبنى الأستاد الرياضي، وقالوا له: هذا مبنى الفريق. فأعجب به جداً، ويبدوا كذلك أنهم أتوا له بفريق آخر يلعب أمامه، وأوهموه أن هذا هو الفريق، وعلى هذا الأساس وقع العقد معهم.

    فالشاهد أن مثل هذه التصرفات لها أبعاد خطيرة.

    وأنا أريد أن أقول: سلوكك هو عنوان لهذا الدين وعنوان الالتزام به، فأنت -شئت أم أبيت- ستحاسب على هذا التصرف وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النحل:94]، فلا تصد الناس عن سبيل الله، فإن بعض الأخوات لا يأتين المساجد خوفاً من تصرفات الأخوات، فنرجوا من الأخت التي تمارس هذه الأشياء أن تمسك عليها لسانها، ولا تأمر إلا بعلم ولا تنه إلا بعلم.

    ومن شواهد ذلك في القرآن قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34] فسلوكهم بأكل أموال الناس بالباطل يتسبب في صد الناس عن سبيل الله، فكل هذه شواهد على اعتبار حسن الخلق وأهميته، وأنك تراعي تصرفاتك وأنت تعطي صورة للدين وللالتزام، فحافظ على هذه الصورة، وحتى لا تبوء بإثمك وإثم هؤلاء الذين تصدهم عن سبيل الله تبارك وتعالى.

    حكم إقامة رحلات مستقلة للنساء

    السؤال: هل يجوز سفر مجموعة من النساء بغير محرم لكل واحدة منهن، مثل: الرحلات التي تتم في الجامعة، فهم يعملون رحلة للطلبة والطالبات، وهناك سيارة مستقلة للطلبة وأخرى للطالبات، والرحلة إلى القاهرة والفيوم، فهل يجوز ذهاب الطالبات؟

    الجواب: لا يجوز بلا شك، فكيف تسافر المرأة بدون محرم؟ والنبي عليه الصلاة والسلام حرم على المرأة المؤمنة أن تسافر بدون محرم أبداً حتى ولو كانت امرأة كبيرة في السن.

    وحاصل المسألة أن بعض العلماء اجتهد فأجاز سفر المرأة في حج الفريضة في صحبة آمنة، في حج الفريضة فقط، وليس في أي سفر، فالقاهرة أو الفيوم ومثل هذه البلاد مسافات سفر، فلا يجوز أبداً أن تسافر المرأة إليها بدون محرم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755973008