إسلام ويب

الصبرللشيخ : سيد حسين العفاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من العبادات الجليلة التي ينبغي أن تلازم المؤمن في حياته ولا يمكنه الاستغناء عنها بحال عبادة الصبر، فهو الضياء في الظلمات والحوالك، والقائد إلى منابر الخير والفلاح، وركن الرفعة والسؤدد، ففضله عظيم، وخيره كبير، وجزاؤه أوفر جزاء، لا يعلمه إلا رب الأرض والسماء.

    1.   

    فضل الصبر

    الصبر عدة المؤمن

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة.. وكل بدعة ضلالة.. وكل ضلالة في النار.. وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].

    ثم أما بعد:

    فاعلم أخي أن الصبر جواد لا يكبو، وسيف لا ينبو، وجند لا يهزم، وجدار لا يهدم، فهو عدة المؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر).

    وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نعم عيش أدركناه بالصبر، ولو كان الصبر من الرجال لكان كريماً.

    وقال علي بن أبي طالب : الصبر مطية لا تكبو، والإيمان نصف صبر ونصف شكر، وهو واجب بإجماع علماء الأمة، قال الإمام أحمد بن حنبل : ذكر الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعاً, من هذه التسعين ما هو أمر به مطلقاً، قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153].

    وقال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

    وقال الله تبارك وتعالى لنبيه: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127]، فهذا أمر بالصبر مطلقاً.

    الأمر الثاني الذي جاء به في القرآن الكريم النهي عن ضده، قال الله تبارك وتعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]، والعجلة ضد الصبر.

    وقال الله تبارك وتعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، وقال الله تبارك وتعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، كل هذا نهي عن ضد الصبر من العجلة كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]، فإنه لما ترك قومه بعد أن دعاهم إلى الله عز وجل واستبطأ إجابة قلوبهم إلى الله عز وجل تركهم دونما إذن من الله عز وجل عاتبه الله عز وجل بحبسه في جوف الحوت، فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].

    وقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]، فاستجاب رسولنا صلى الله عليه وسلم لأمر ربه سبحانه، فقد روى الإمام البخاري عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لاقينا من المشركين شدة)- وكانت مولاة خباب بن الأرت تأتي له بالحديد المحمى فتلقيه على ظهره وهو على رمال الصحراء فوالله ما ينطفئ هذا الحديد المحمى إلا بما يسيل من دهن ظهره.

    قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة -قال في رواية- فاحمر وجهه وقال: إنه كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيشطر نصفين ثم يمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله عز وجل هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

    وقد لاقى الصحابة من الشدة ما لم يلاقه بشر ، فهذا عمار بن ياسر كان يعذب حتى ما يدري ما يقول، وكان مما يعذب به أن كانوا يضعونه في الزيت المغلي ، وهذا بلال داعي السماء كانوا يضعونه في حر الصحراء وهجير مكة وهو لا ينسى نشيده الخالد: أحد أحد، ومع هذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ولكنكم تستعجلون).

    يمر على عمار بن ياسر وهو يعذب فيقول له: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، لم يمنهم بأي شيء إلا الجنة، حتى يعطيهم فسحة وأملاً في التفكير، وأملاً في بعد المعركة بينهم وبين الباطل، وأنها معركة تحتقر حدود الأرض حتى تصل إلى القيامة، (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، والحديث حسنه العلماء بمجموع الطرق.

    وعن النهي عن ضد الصبر من العجلة يقول الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله وهو الخبير المحنك الذي ابتلي بما ابتلي به من سجن وبلاء، وهو يقدم النصيحة في المجلد الأول من الظلال عند قول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]: قال: القائد البصير المحنك لا ينخدع بحماس الجماهير من حوله، فإن بني إسرائيل طلبوا لقيا العدو وطلبوا جهاد أعدائهم، فلما كتبه الله تبارك وتعالى عليهم نكصوا على أعقابهم، وبدأو العد التنازلي والانسحاب، فالقائد البصير المحنك لا ينخدع بالحماس الثائر للجماهير من حوله؛ لأن هذه الجماهير التي لم ترب جيداً على الكتاب والسنة.

    ثم بعد ذلك أطلق البشارة للصابرين حين يقول الكريم الذي لا يحد كرمه والجواد على كل من جاد: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، فلم يقل وبشرهم بالجنة وإنما أطلق البشارة، وإطلاق البشارة مع كرم الله الذي لا يحد يدل على عظيم الأجر للصابرين كما قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص:54]، وكما قال الله عز وجل: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وبذلك علم أن أجر الصبر لا يعلم حده ولا ثوابه إلا الله عز وجل.

    الصبر واليقين طريق الإمامة في الدين

    الوجه الثاني في ذكر الصبر في القرآن الكريم: أن الله عز وجل ذكر أن الإمامة في الدين لا تنال ولا تدرك إلا بالصبر واليقين، قال الله تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

    فالإمامة في الدين والتبحر في دين الله عز وجل لا يأتي في يوم وليلة، فالرجل الذي لا يصبر على طلب العلم أكثر من سنتين أو ثلاث وهو يريد التبوء والتصدر ولما يرسخ بعد أنى له ذلك؟ أما وعى قول القائل: تفقهوا قبل أن تسودوا.

    كما أن الشهرة تمنع الرجل من طلب العلم كما يحلو له، وقال سفيان الثوري : ما صدق الله عبد أحب الشهرة، ولذا كان العلماء عبر التاريخ يفرون منها.

    فطالب العلم عندما يحرص على تبوء المنازل قبل أن يصل يقطعه ذلك عن طلب العلم والاستزادة منه، ولذلك قال ابن عباس: ذللت متعلماً وعززت عالماً، ومن خدم المحابر دانت له المنابر. فقوله: من خدم المحابر أي: من عكف على طلب العلم، ولذلك قيل للإمام أحمد بن حنبل : حتى متى أنت مع المحبرة؟ قال: مع المحبرة إلى المقبرة.

    قال ابن القيم : إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين، وقال سيدنا سفيان بن عيينة شيخ الإمام الشافعي : لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رءوسا.

    الحظوظ العظيمة من خصال الخير لا تنال إلا بالصبر

    الوجه الثالث: أن الحظوظ العظيمة من خصال الخير لا تنال إلا بالصبر، قال تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

    والجنة لا تنال إلا بالصبر قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24].

    ومحبة الله عز وجل واجبة للصابرين قال الله تبارك وتعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146].

    ومعية الله الخاصة -معية الحب والعناية- لا تكون إلا مع الصبر، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153].

    ولقد أخبر الله عز وجل بعد قسمه أن الصبر خير، قال سبحانه: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126]، أتى بالواو ولام التوكيد مرتين وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126].

    ثم يخبر الله عز وجل أن آياته في الكون في أربع مواضع في القرآن الكريم لا ينتفع بها إلا الصابرون، قال الله تبارك وتعالى في شأن قوم سبأ: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19].

    وقال الله تبارك وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى:32-33].

    وأرسل الله تبارك وتعالى موسى إلى قومه أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5]، فآيات الله عز وجل في الكون لا ينتفع بها إلا الصابرون.

    والصبر عدة كما قال الله عز وجل: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45].

    واقع مرير دواؤه الصبر

    الصبر على قلة الناصح وانتشار الباطل.. الصبر حين أن ترى الشر منتشراً والخير ثاوياً، لا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق.. الصبر على انتشار الباطل، من منا لا يرى دولة عربية أذلها تلميذ ميشيل عفلق وفعل بعلماء السنة ما فعل، وليس هذا وقت الشماتة بهذا الرجل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما اختلج عرق إلا بذنب وما يدفع الله أكثر)، أي: لا يصيبك ألم إلا بذنب.

    ولكن المصيبة تأتي على الصبيان والأطفال والنساء والشيوخ الذين لا حول لهم ولا قوة، وهو ببطشه وجبروته ناج في قصوره حتى نزار قباني وهو من هو يقول:

    يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا

    فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا

    فهذا حاكم طليطلة بعدما مات أمير الجماعة في الأندلس جلس على قبره وقال للقاضي المسلم وزوجته تسمع: أما ترى أني استوليت على ملك المسلمين وجلست على قبر ملكهم؟ فقال: هدئ من صوتك فوالله لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت فوقه ما سمع منك هذا الكلام. فقالت له زوجته: صدق والله.

    فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا

    يا ابن الوليد ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا

    سقوا فلسطين أحلاماً ملونة وأودعوها سخيف القول والخطبا

    وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا

    سقوا فلسطين أحلاماً ملونة وخلفوها وباسوا كف من ضربا

    فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا

    وها هي العراق التي أنجبت نور الدين محمود زنكي وصلاح الدين الأيوبي وهو من أكراد العراق، ودولة الرشيد ودولة المعتصم :

    رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم

    لامست أسماعنا لكنها لم تلامس نخوة المعتصم

    الكثير منا عندما يتحدث عن الرشيد يقول: إنه كان صاحب ألف ليلة وليلة: وينسون أن هذا الخليفة المفترى عليه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، ولما كتب إليه نقفور ملك الروم ما كتب، قال: غرك ضعف الملكة السابقة فإن وصلك كتابي هذا فابعث إلي ما أخذته من الملكة وابعث إلي الجزية، فأخذ هارون الرشيد الكتاب وكتب على ظهره: من هارون ملك العرب: إلى نقفور كلب الروم أما بعد: يا ابن الكافرة! فالجواب ما ترى لا ما تسمع.

    أسأل الله عز وجل أن ينجي العراق بأبطاله ومسلميه.. بشيوخه وشبابه ونسائه؛ علهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل (والله لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مسلم بغير حق)، فكيف وأكثر من ثلاثة أرباع مليون طفل ماتوا بسبب أنهم لا يجدون طعاماً يأكلونه ولا يجدون شراباً يسد ظمأهم، والعجيب أن أناساً يموتون من التخمة وأطفال يموتون جوعاً ولا يجدون حتى اللبن.

    فنسأل الله عز وجل ألا يعاملهم بعدله وإنما يعاملهم بفضله.

    الصبر سبيل النصر

    النصر رفيق الصبر وحليفه، فلا يأتي النصر إلا مع الصبر، والنصر حفظ وجنة من كيد الأعداء، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].

    وقد علق الله تبارك وتعالى الفلاح على الصبر فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

    وعلق الله عز وجل المغفرة والأجر العظيم على الصبر أيضاً فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

    وقال الله عز وجل: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا [الأعراف:137].

    والصبر من عزائم الأمور؛ قال الله تبارك وتعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43].

    وقال لقمان لابنه: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].

    كل هذا من النواحي التي ذكرها الله تبارك وتعالى عن الصبر، ذكر الإمام أحمد منها حوالي 90 موضعاً، وفصل الإمام ابن القيم في نحو 22 موضعاً كلها في الصبر في القرآن الكريم. وقد أخبر الله عز وجل أن أهل الصبر في نجاح دائم وغيرهم في خسران، قال الله تبارك وتعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

    وأخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الميمنة أنهم ماذا؟ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:17].

    وأثنى الله تبارك وتعالى على الصابرين كما قال تعالى: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17].

    1.   

    أنواع الصبر ودرجاته

    والصبر على ثلاثة أنواع: صبر على الأقدار، وصبر عن المعصية، وصبر على الطاعة.

    وقد قسمها البعض تقسيماً آخر فقال: صبر بالله وصبر لله وصبر مع الله.

    فالصبر بالله: أن تصبر وتعلم أن الله عز وجل هو الذي يصبرك، وأنه لولا تمكين الله عز وجل لك من الصبر ما صبرت، فأنت بالله، وهذه استعانة، قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127].

    فليس الأمر شجاعة نفس وإنما مرد الفضل كله إلى الله عز وجل، كما قال سيدنا إسماعيل عليه السلام لأبيه لما قال له: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، فاستثنى بالمشيئة والمعنى: إن شاء الله عز وجل لي الصبر صبرت، فالأمر كله يعود إلى الله عز وجل.

    وأعلى رتبة من الأول: صبر لله: وهو أن تصبر ويكون باعث الصبر في قلبك إرادة وجه الله عز وجل والدار الآخرة لا المحمدة عند الناس ولا إظهار قوة النفس.

    ثم بعد هذا صبر مع الله: وهو صبر الصديقين كما قال ابن القيم رحمه الله، وهذا شديد وهو أن تدور مع أوامر الله عز وجل ومع نواهي الله عز وجل، فحيث يأمرك الله عز وجل يجدك وحيث ينهاك يفتقدك.

    ولذا قال الجنيد رحمه الله: ترك الدنيا للآخرة سهل على المؤمن، وهجران الناس في جنب الله شديد، وهجران النفس إلى الله عز وجل صعب شديد، والصبر مع الله أشد.

    الصبر المذموم

    والصبر يحمد في كل المواطن إلا في لون واحد فقط وهو الصبر عن الله فهو صبر اللئام.

    أما كيف يصبر العبد عن الله فذلك أن يرى العبد أن ما بينه وبين الله عز وجل خراب ودمار ولا يصلح ما بينه وبين مولاه.

    والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد

    كيف تصبر عن الله عز وجل وملاك الخير كله منه، وأمرك كله بيده، ورجوعك كله إليه، وكل فضل أعطيته فهو منه، ولذا كان هذا صبر اللئام من الكفار والفجار وغيرهم، فمع أن الله يحلم عليهم إلا أنهم يسبونه ويشتمونه ويدعون له الولد.

    ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنياً على ربه عز وجل: (ما أحد أصبر على الأذى من الله عز وجل)، يعني: يصبر على أذاهم مع كمال القدرة ومع كمال العلم، فهو يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الولد تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ [مريم:90] من هول هذا الكلام، وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم:90-91].

    فالسموات والأرض تكاد أن تزول من هذا لولا إمساك الله عز وجل لها، فلا أحد أصبر من الله عز وجل، ملك الملوك.. ومع أن جوده عم المخلوقات إلا أن هؤلاء يسبونه وينسبون إليه ما لا يليق به من الصاحبة والشريك والولد فخيره إلى العباد نازل وشرهم إليه صاعد.

    ولذلك كان الصبور من أسماء الله عز وجل الحسنى، قالوا: وجانب الحلم عن الله عز وجل أوسع وأتم، كما قال الإمام ابن القيم: صبر لله وصبر بالله وصبر مع الله.

    تقسيم آخر للصبر

    أما أنواع الصبر فثلاثة وإن شئت قسمتها قسمين:

    صبر على ما لا كسب للعبد فيه (اضطراري) وصبر اختياري.

    فالصبر الاضطراري هو الصبر على أقدار الله عز وجل من أذى الموت والمرض والفقر والغنى وغيرها.

    أما الاختياري فإنه على نوعين: صبر عن المعصية وصبر على الطاعة، وأفضلهما الصبر على الطاعة، وأقل منه درجة الصبر عن المعصية، وأقل منها درجة الصبر على الأقدار المؤلمة، فالصبر على الأقدار المؤلمة أقل درجات الصبر ثواباً.

    والناظر إلى عظم هذا الثواب مع أنه أقل أنواع الصبر يعظم في صدره ثواب ما هو أعلى منه.

    فأعلى من الصبر على الأقدار المؤلمة الصبر عن المعصية، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هل يقارن صبر يوسف على إلقاء إخوته له في الجب بصبره عن مراودة امرأة العزيز ؟ لا شك أن صبره عن مراودة امرأة العزيز أشد؛ لأن الأول واقع سواء صبر أو لم يصبر فيكون صبره حينها صبراً اضطرارياً، أما صبره عن المعصية فهو صبر اختياري؛ فإنه صبر عند مراودة امرأة العزيز.

    ومثل ذلك يقال في صبر يعقوب على عماه وصبر إبراهيم على إلقائه في النار لا يقاس هذا بذاك، ومع ذلك فإن الصبر على الأقدار عظيم الأجر والثواب؛ فعن صبر من ابتلي بالعمى يقول صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: إذا أنا سلبت كريمتي عبدي -أي عينيه- فصبر على ذلك لم أرض له ثواباً دون الجنة)، فهذا جزاء صبر من رزقه الله الصبر على العمى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم).

    ولذلك كانت عند خالد بن الوليد رضي الله عنه امرأة فطلقها، ثم أثنى عليها فقال: لم تبتل وهي عندنا بشيء، أي: لم تصب بأي مرض. والإنسان لا يتمنى البلاء ولكن إن نزل به يصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليودن أهل العافية أن لو قرضت جلودهم بالمقاريض في دار الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء).

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل).

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصالحين يشدد عليهم).

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل، كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها، وأحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أفرح بالبلاء إن نزل به من فرح أحدكم بالعطاء).

    وعن الصبر على موت الولد يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: (قبضتم روح ولد عبدي المؤمن. يقولون: نعم، يقول: أخذتم ثمرة فؤاده؟ يقولون: نعم، يقول: فماذا قال عبدي؟ يقولون: يا رب حمدك واسترجع، قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد).

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرقوب من لا ولد لها)، والرقوب هي المرأة التي لا يعيش لها أولاد، والرقوب في الشرع هي التي لم تقدم أولاداً يموتون في حياتها؛ لأن الرجل إذا مات له ثلاثة من الأولاد أو اثنان من الأولاد كانا حجاباً له ولامرأته من النار.

    فينبغي على الإنسان أن يصبر انتظاراً لروح الفرج، فالأمراض كفارات تأخذ من ذنوب المرء، ولا يزال المرض بالمؤمن حتى يلقى الله تبارك وتعالى وليس عليه خطيئة، والذي يهون على الإنسان الصبر على قضاء الله عز وجل هو ذكر سوالف المنن التي امتن الله بها عليه، وتعداد أيادي المنن الحاضرة الموجودة بين يديه، إن من يأخذ منك شيئاً ليعطي لك الأجر كاملاً يوم القيامة لا شك أنه رحيم بك كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب).

    ومثل ذلك أن يكون لك ولد تحبه أصابه مرض ما فمنعك الدكتور أن تطعمه ثلاثة أيام وهو ابنك الوحيد، وأنت تملك كنوز الأرض وتتمنى أن تورثه مالك كله وتطعمه ما اشتهى من أطعمة الدنيا، ومع ذلك تلتزم بتعاليم الدكتور وتمنعه من الأكل لمدة ثلاثة أيام، فكذا يحمي الله عز وجل عبده المؤمن من الدنيا حتى لا تصيبه بأوضارها ونجاستها.

    ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).

    الصبر على الأقدار المؤلمة قال سيدنا ابن عباس لـعطاء : (ألا أريك امرأة من أهل الجنة، قال: نعم، قال: هذه المرأة السوداء أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي قال: إن شئت صبرت ودعوت الله لك بالجنة وإن شئت دعوت الله لك فعافاك، قالت: أصبر ولي الجنة، قالت: يا رسول الله ولكني أتكشف)، بلا إرادة منها تأتيها نوبة الصرع فتظهر محاسنها وتتبرج بغير حول منها ولا قوة، فصبرت على الألم ولم تصبر على التبرج، (قالت: إني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف فدعا لها)، فكانت عندما يأتيها الصرع لا ينكشف شيء من عورتها، فصبرت على شدة الألم وكان لها الجنة.

    1.   

    صور من صبر السلف

    يقول العلماء وهو مذهب الإمام مالك : يجوز ترك التداوي لمن صبر على ذلك، وليس كل أحد يستطيع أن يصبر على ذلك، ونرى الواحد منا إذا أصابه قليل من الصداع يتذمر ويملأ الدنيا صراخاً وأنيناً.

    ولذلك قالوا: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه. وهذا الإمام أحمد بن حنبل أنَّ في مرض موته، فقالوا له: إن طاوساً يقول: إن أنين المريض من الشكوى، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات؛ على أن هناك فرقاً بين أنين وآخر.

    وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

    فالأنين على نوعين: أنين شكوى وأنين فيه تفريج لألم الرجل، وذكر أنه دخلت على الإمام أحمد أخت بشر بن الحارث الحافي -أيام ما كانت النساء نساء والرجال رجال- وقالت له: يا إمام! أأنين المريض شكوى؟ قال: ما سئلت عن مثل هذه المسألة من قبل قط، أرجو ألا يكون كذلك. وهذه المسألة الوحيدة التي لم يستطع الإمام أحمد أن يجاوب فيها وما عرفها الإمام أحمد إلا في مرض الموت، ثم قال لابنه بعد أن خرجت المرأة: انظر أي البيوت تدخل هذه المرأة قال: دخلت بيت بشر بن حارث الحافي -وكان أسمها مخة بنت الحارث- فقال: من بيتهم خرج الورع.

    أما الشكوى إلى الله عز وجل فليست بشكوى؛ لأن نبي الله أيوب عليه السلام قال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، ومع هذا قال الله عز وجل عنه، إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44].

    وقال يعقوب عليه السلام أيضاً: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86]، فالشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر الجميل، والصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى معه، يقول الأحنف بن قيس سيد أهل المشرق: إني والله منذ أربعين سنة ما أبصر بعيني، وما تعلم بها زوجتي. أي: طيلة هذه الأربعين سنة عين من عينيه لا يرى بها وزوجته لا تعرف ذلك.

    وقال الإمام الحافظ إبراهيم الحربي : منذ عشر سنوات لا أبصر بإحدى عيني، ولا تعلم ذلك زوجتي، ومنذ ثلاثين سنة وأنا أفطر على رغيفين إن أتت بهما أمي أو أختي وإلا طويت جائعاً، ومنذ ثلاثين سنة وأنا أفطر على رغيف واحد إن أتت به زوجتي وأولادي وإلا صبرت، قال: والله ما كنا نعرف إلا الباذنجان المشوي، لم يكونوا يعرفون أساليب الترفه.

    ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).

    أتى رجل سيدنا عبد الله بن عمر قال: إني رجل من فقراء المسلمين، قال: ألك بيت؟ قال: نعم، ألك زوجة؟ قال: نعم، قال: ولي خادم، قال: اذهب فأنت من الملوك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من شدة الجوع وما يجد من الدقل ما يسد به جوفه، وكان يمر الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيت رسول الله نار، وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط، ولا رأى شاة صميطاً قط، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي. أما هذه الأمة فقد أصبحت أمة متخمة فأمانيها مترفة وتفكيرها مترف وحياتها كلها ترف، فلابد أن يعاقبها الله عز وجل حتى تعود إلى دينها، والعود إلى الله عز وجل أحمد.

    قال سعد بن أبي وقاص: كنت سابع سبعة عشنا أياماً مع رسول الله ليس لنا طعام إلا ورق الشجر، وكنا نضع كما تضع البعير ليس له خلط، وهنا نتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم، (والله ما الفقر أخشى عليكم)، وإنما يخشى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنى.

    ومما نشاهده اليوم أنه بمجرد ما تجد الأخ الملتزم المحافظ على الصلاة في المسجد حين يفتح الله عليه بعمل أو زواج تفوته صلاة الجماعة وقد لا يصلي في المساجد، فنسأل الله تبارك وتعالى لنا العون والثبات، ونعوذ بالله عز وجل من الحور بعد الكور.

    يذكر عن أبي قلابة الجرمي -تلميذ عبد الله بن عباس- أنه ابتلي في دينه فصبر، وابتلي في جسمه فصبر، فقد أُريد توليته القضاء فهرب من الشام حتى لا يولى القضاء، فهذا العبد الصابر كان انبه يرعاه بعد أن أصيب في يديه ورجليه وثقل سمعه وبصره فلم يبق منه إلا لسانه وقليل من السمع وقليل من البصر، وكان ابنه يوضئه ويقوم على خدمته.

    قال ابن حبان في الثقات : قال رجل: بينا أنا أمر في عريش مصر في الصحراء إذا بي أسمع صوت رجل يثني على الله عز وجل بمحامد ما سمعت مثلها من قبل في الثناء على الله عز وجل، فقلت: والله لأذهبن إلى تلك الخيمة، فإذا رجل قد ذهبت يداه ورجلاه وكف سمعه وبصره إلا القليل، قلت له: أي نعمة من نعم الله تحمده عليها؟ قال له: وما لي لا أدعو الله عز وجل، فوالله لو أمر الجبال فنسفتني أو أمر النيران فأحرقتني أو الأرض فابتلعتني ما كففت عن ذكره وشكره، قال: رجعت أتفكر على أي شيء وقد كف سمعه وبصره وكل شيء فيه قد ذهب، قال لي: إليك حاجة، قلت: مثلك تجاب حاجته على الفور، تكلم والله إن من أحب شيء إلي أن أسعى في حاجة مثلك، قال: أنت تعلم ما أنا فيه، وقد كان لي ابن يوضئني ويقيم على عنايتي وقد ذهب منذ أيام، فقلت: والله لأبحثن عنه، فمضيت غير بعيد فإذا بعظام هذا الشاب وقد افترسه السبع قلت: يا رب بأي وجه أعود إلى هذا الرجل، ثم تفكرت في نبي الله أيوب وما حل به فقلت: أدخل عليه من هذا المدخل، قلت: أنت أفضل أم نبي الله أيوب؟ وتعلم كيف ابتلاه الله عز وجل في جسده وكذا وكذا، قال: نعم، قلت: فكيف وجده الله عز وجل؟ قال: وجده صابراً، قلت: ولم يزل الله عز وجل يبتليه حتى أوحش منه أهله وأحبابه فكيف وجده الله عز وجل؟ قال: صابراً، قال: ماذا تريد؟ قلت: إن ابنك قد افترسه السبع، فرفع يده إلى السماء وقال: الحمد لله الذي لم يجعل ولداً من صلبي محله النار، ثم شهق الرجل فمات، لما مات من كان يعول هذا العبد الصالح قضى الله بموت هذا العبد الصالح.

    وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي

    قال: فانشغلت بأمره، كيف أواري هذا الرجل أو كيف أفعل وإنما أنا رجل واحد؟ وإذا بجماعة يأتون، فقالوا: اكشف لنا عن وجهه فلما كشفت عن وجهه قالوا: أبو قلابة الجرمي تلميذ عبد الله بن عباس ؟! قال: فجعلوا يقبلونه في رأسه وفي رجليه، ويقولون: بأبي وأمي عين طالما غضت عن محارم الله، وبأبي وأمي قدم طالما سعى في طاعة الله عز وجل قال: فتعاونا عليه حتى دفناه، قال: فلما دفنته وجدته في رؤيا وكأنه في واحة خضراء، قلت له: ألست بصاحبي؟ قال: نعم أنا هو، إن عند الله عز وجل درجات في الجنة لا يبلغها العبد إلا بالصبر.

    وهذا شقيق البلخي لما قابل إبراهيم بن أدهم قال له: ما تقول في الصبر والشكر؟ قال شقيق : إنا قوم نصبر عند البلاء، ونشكر في الرخاء، قال: هذا ما تفعله كلاب بلخ، قال: فما تقول أنت قال: إنا قوم نصبر عند الرخاء ونشكر في البلاء، أي: أنهم لا يتمنون البلاء ولكن حين يأتيهم الغنى يخافون أن يكون تحت هذا الغنى استدراج ومكر من الله عز وجل، ويؤيد هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولأحدهم كان أفرح بالبلاء إن نزل به من فرح أحدكم بالعطاء).

    أما الصحابي الجليل عمران بن حصين فقد بلغ من شدة المرض أن ثقبوا له ثقباً في السرير ينزل منه الغائط، وهو صاحب الكرامات التي أوردها علماء أهل السنة التي منها أنه كانت تسلم عليه الملائكة.

    وهذا الإمام العابد عروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة، وهو ابن السيدة أسماء ، ذهب إلى الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد فعانه، يعني: حسده ونظر إليه بنظرة عائنة.. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتستنزل الحالق)، أي أن هناك أناساً أعينهم توقع الجبل وتهده -قال: فعانه فتناعس فسقط في إسطبل للدواب فداسته الدواب حتى قتلته، ووقعت الأكلة -السوسة- في رجله فقال له الأطباء: لابد من قطعها، قالوا له: نعطي لك دواء يغيب عقلك، فأبى وقال: إن ربي اختبرني؛ ليرى مدى صبري، فلما علا المنشار على العرق ما زاد على أن قال: حسبي، ثم غشي عليه، فلما أفاق من غشيته استنار وجهه وقال: خذها يا بني فكفنها وطيبها وادفنها في مقابر المسلمين والله ما مشيت بها إلى فاحشة قط، ثم لما عاد إلى المدينة وأتى أهل المدينة ليعزونه قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، ورفع يده إلى السماء وقال: إلهي إن سلبت فلطالما أعطيت وإن أخذت فلطالما أبقيت.

    وهذه امرأة فتح الموصلي كانت من الصالحات، وقد أثنى عليها الإمام أحمد بن حنبل، ذكر عنها أنها لما قطع أصبعها ضحكت، فقال لها رجل: يقطع أصبعك فتضحكين، قالت: أحدثك على قدر عقلك: حلاوة أجرها أنستني مرارة قطعها.

    ولذلك كان فتح الموصلي إذا رجع إلى بيته ولم يجد في البيت طعاماً ولا شراباً ولا موقداً ووجد السقف قد وكس على أهله يرفع يده إلى السماء ويقول: إلهي سلبتني. أجعتني وأجعت أولادي.. وأعريتني وأعريت أولادي.. وقديماً كنت تفعل هذا بأنبيائك وأوليائك وعبادك الصالحين، فبأي خصلة من خصال الخير تقربت بها إليك يا مولاي فقبلتها مني حتى أداوم عليها.

    1.   

    أهل البدع يتبرمون من الأقدار

    أما أهل البدع فقد كانوا يتبرمون من الأقدار ونزولها، فهذا رجل من أهل البدع كان عالماً فأصيب في رجله فلما قطعت قال في لحظتها:

    يا قاسم الرزق لم ضاقت بي القسم ما أنت متهم قل لي من أتهم

    تعطي اليهود قناطير مقنطرة من اللجين ورجلي ما لها قدم

    أعطيتني وَرَقاً لم تعطني وَرِقاً قل لي بلا وَرِقٍ ما تنفع الحكم

    والمعنى: لا أريد علماً بل أعطني فقط نقوداً.

    فرد عليه رجل من أهل السنة:

    قل للبيب الذي ضاقت به الحكم لو كنت ذا حكم لم تعترض حكماً

    عدل القضاء أميناً ليس يتهم هلا نظرت بعين الفكر معتبراً

    في معدم ما له مال ولا حكم

    فانظر إلى لطف الله عز وجل، وسوالف المنن وتعداد أيادي النعم وملاحظة روح الفرج، فإنك تعيش على أمل ورجاء أن تشفى من هذا المرض.

    وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي

    ثم مطالعة حسن الثواب في الآخرة.

    ذكر أن رجلاً كان يشكو إلى الناس، فقال له رجل من الصالحين: لك يد؟ قال: نعم، قال: لو قطعت؟ قال: أدفع فيها خمسة آلاف دينار، ثم قال له: ولك عين تبصر بها؟ قال: نعم، قال: لو أخذ الله نورها؟ ثم قال له: يا هذا عندك آلاف مؤلفة من الدنانير وأنت تشكو الفقر بعد ذلك.

    فالصبر على الأقدار المؤلمة انتظاراً لما عند الله عز وجل من حسن الجزاء، ثم يأتي بعد هذا الصبر عن معصية الله عز وجل وله موطن آخر.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتقل فلا تبعدنا، وعلى بابك نقف فلا تطردنا. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا.

    اللهم أدبنا بأدب الصالحين من عبادك، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

    اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان.. بديع السموات والأرض.. يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! اللهم لا تفضح بلادك بذنوب عبادك، بك نستنصر فانصرنا وعليك نتوكل فلا تكلنا. اللهم إنا نسألك لذة العيش مع الموت وحسن النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك.

    اللهم ارحم عبادك وبلادك، اللهم ارزقنا الأمن والأمان في بلادنا وأوطاننا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755959358