إسلام ويب

تفسير سورة الذاريات [1-23]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذاريات ذرواً)

    نشرع في تفسير السورة الحادية والخمسين من القرآن الكريم وهي سورة الذاريات، وسميت بالذاريات؛ لأن الذاريات مصدر الخيرات، وبذلك اقتضت العناية الإلهية. وهذه السورة مكية وآيها ستون آية. قال الله سبحانه وتعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1] يعني بذلك: الرياح التي تذرو البخارات ذرواً. ((ذرواً)) أي: نوعاً من الذرو يعقبها سحاب. وقيل: الولود من النساء فإنهن يذرين الأولاد. يعني: كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح. قوله: ((والذاريات)) اسم فاعل من ذرى معتل، بمعنى: فرق وبدد ما رفعه عن مكانه، ويقال أيضاً: أذرى، أما ذرأ المهموزة فبمعنى: أنشأ وأوجد. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: أكثر أهل العلم على أن المراد بقوله: )((والذاريات ذرواً)) أي: الرياح، وهو الحق إن شاء الله. إذاً: الراجح في تفسير الذاريات أنها الرياح، ويدل عليه أن الذرو صفة مشهورة من صفات الرياح، كما قال تعالى: فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45] أي: ترفعه وتفرقه، فهي تذرو التراب والمطر وغيرهما، ومنه قول ذي الرمة : ومنهل آجن قفر محاضره تذر الرياح على جماته البعرا يقول الشنقيطي : ولا يخفى سقوط قول من قال: إن الذاريات النساء، لكن الراجح أن الذاريات هي الرياح تذرو البخارات ذرواً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فالحاملات وقراً)

    قال تبارك وتعالى: فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا [الذاريات:2] أي: يقسم الله سبحانه وتعالى أيضاً بالسحب الحاملة للأمطار المنبتة للزروع والأشجار لإفادة الحبوب والثمار، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل : وأسلمت نفسي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا قوله: (له المزن) أي: السحاب. (تحمل عذباً زلالا) أي: السحب تحمل هذه الأمطار. أو ((الحاملات وقراً)) الرياح؛ لأن الرياح حاملات للسحاب، والوقر كالحمل وزناً ومعنى، وقرئ بفتح الواو (وَقراً) على أنه مصدر سمي به المحمول. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((فالحاملات وقراً)) أكثر أهل العلم على أن المراد بالحاملات وقراً السحاب، أي المزن تحمل وقراً ثقيلاً من الماء، ويدل لهذا القول تصريح الله عز وجل بوصف السحاب بالثقال يقول الله سبحانه وتعالى: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [الرعد:12] أي: الموقرة المثقلة بالماء الذي تحمله، فالثقال: جمع سحابة ثقيلة، وقال تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [الأعراف:57]. وقال بعضهم: إن المراد بالحاملات وقراً السفن تحمل الأثقال من الناس وأمتعتهم، ولو قال قائل: إن الحاملات وقراً الرياح أيضاً لكان وجهه ظاهراً؛ لأن الرياح تحمل هذه السحب الثقيلة، ودلالة بعض الآيات عليه واضحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى صرح بأن الرياح تحمل السحاب الثقال بالماء، وإذا كانت الرياح هي التي تحمل السحاب إلى حيث شاء الله، فنسبة حمل ذلك الوقر إليها أظهر من نسبته إلى السحاب التي هي محمولة للرياح، وذلك بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا [الأعراف:57] يعني: الرياح أقلت سحاباً ثقالاً. فالإقلال هو الحمل وهو مسند إلى الريح، ودلالة هذا على أن الحاملات وقراً هي الرياح ظاهرة كما ترى، ويصح شمول الآية لجميع ما ذكرنا، أي: أن تشمل الآية السحاب نفسه، وتشمل الرياح التي تحمل هذا السحاب، على أساس أن هذا لفظ مشترك، ولا بأس من حمل المشترك على جميع معانيه. أما قول بعضهم: بأن الذاريات ذرواً هي النساء؛ لأنهن يذرين الأولاد، وأن الحاملات وقراً أي: حوامل الأجنة من الإناث فهذا قول ظاهر السقوط.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فالجاريات يسراً)

    قال تعالى: فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا [الذاريات:3] أي: السفن الجارية في البحر جرياً سهلاً، الرياح الجارية في مهابها. يقول الشنقيطي : أكثر أهل العلم على أن المراد بالجاريات يسراً السفن تجري في البحر جرياً ذا يسر وسهولة، والأظهر أن هذا المصدر المنجر حال كما قدمنا نشره مراراً، أي: ((فالجاريات يسراً)) يعني: في حال كونها ميسراً ومسخراً لها البحر، ويدل لهذا القول كثرة إطلاق وصف الجري في القرآن على السفن، كقول الله سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ [الشورى:32] أي: السفن الجواري اللائي يجرين في البحر، وقال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11] أي: السفينة الجارية وهي سفينة نوح، وقال تعالى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [الحج:65]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ [الجاثية:12] وقيل: ((الجاريات)) الرياح أيضاً، وقيل غير ذلك. وقال بعض المفسرين: إن المقصود بقوله: ((فالجاريات يسرا)) أي: الكواكب التي تجري في منازلها، وكما قلنا: ((يسراً)) إعرابها صفة مصدر محذوف، أي: فالجاريات جرت جرياً ذا يسر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فالمقسمات أمراً)

    قال تعالى: فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [الذاريات:4] أي: الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة، أو هي الرياح يقسمن الأمطار بتصريف السحاب. فيمكن أن تكون الأربعة الأشياء المقسم بها هي الرياح، أو أنها أربعة أشياء متباينة تماماً كما بينا، فنلاحظ أن أقوال المفسرين بأنها الرياح قاسم مشترك بين أقوال فريق من العلماء. يقول الشنقيطي في قوله تعالى: فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا : هي الملائكة يرسلها الله في شئون وأمور مختلفة، ولذا عبر عنها بالمقسمات، ويدل لهذا قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [النازعات:5] في سورة النازعات، ((فالمدبرات أمراً)) فمنهم من يرسل لتسخير المطر والريح، ومنهم من يرسل لكتابة الأعمال، ومنهم من يرسل لقبض الأرواح، ومنهم من يرسل لإهلاك الأمم كما وقع لقوم صالح. فقوله عز وجل: ((أمراً)) هذا مفعول به للوصف الذي هو المقسمات، و((أمراً)) هنا مفرد أريد به الجمع، ((فالمقسمات أمراً)) أي: فالمقسمات أموراً، كما قال الله تبارك وتعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج:5]، فهي مفرد لكن المقصود بها الجمع. أما المقسم عليه بهذه الأقسام فهو قوله تعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:5-6]، والذي أوجب هذا القسم شدة إنكار الكفار للبعث والجزاء.

    1.   

    تفسير القاسمي والرازي للآيات الأربع الأول من سورة الذاريات

    يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ذكرنا أن هذه الأمور الأربعة يجوز أن تكون أموراً متباينة، كما قلنا مثلاً في الذاريات: هي الرياح، وفي الحاملات: هي السحب، وفي الجاريات: هي السفن أو الكواكب، وفي المقسمات: هي الملائكة، ويجوز أن تكون أمراً له أربعة اعتبارات وهو الرياح، والمأثور عن علي رضي الله عنه: (أن الذاريات هي الرياح، والحاملات هي السحاب، والجاريات هي السفن، والمقسمات هي الملائكة) واختار بعضهم في الجاريات أنها الكواكب؛ ليكون ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، بحيث تكون الرياح، ثم فوقها السحاب، ثم فوق السحاب الكواكب أو النجوم، ثم فوق كل ذلك الملائكة. واستظهر الرازي أن الأقرب أن تكون الصفات الأربع للرياح، واللفظ متسع لكل هذه المعاني. فإن قيل: إن الصفات الأربع صفات للرياح فإن فائدة الفاء لبيان ترتيب الأمور في الوجود، وإن قيل: إنها أمور أربعة متباينة فالفاء للترتيب الذكري أو حسب الرتبة كما بينا.

    بيان الحكمة من إخراج الآيات المقسم عليها مخرج الأيمان

    إن الآيات التي أقسم الله تعالى في هذه السورة بها كلها أخرجها في صورة الأيمان، لكن هي في حقيقتها دلائل جديدة على التوحيد، وعلى قدرة الله سبحانه وتعالى التي خلقها، فالقادر على خلق هذه الأشياء قادر على إعادة البشر من جديد. كما يقول القائل لمن أنعم عليه: وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك.. وحق إطعامك إياي.. وحق إمدادك إياي بالمال.. وحق كذا وكذا، فيظل يعدد النعم التي صورتها صورة أيمان، لكن في الحقيقة هو يعدد هذه النعم؛ لأنها سبب مفيد لدوام الشكر. قوله: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ هذا هو المقسم عليه، فإن قيل: إن كانت هي دليلاً بعد دليل على التوحيد، فما الحكمة أن الله سبحانه وتعالى أخرجها في صورة الأيمان، في حين كونها بحد ذاتها أدلة على المقسم عليه، يقول: لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف كأن يقول: والله ثم والله ثم والله لاشك أن هذا يلفت نظر المستمع لخطورة الكلام الذي سوف يقال، والحقائق التي سوف تذكر، فبالتالي يصغي إليه أكثر من غيره، فبدأ بالحلف وأدرج الدليل في صورة اليمين حتى يقبل القوم على سماعه، فأخرج لهم البرهان المبين والتبيان المتين في صورة اليمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لصادق)

    قال تعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات:5] هذا جواب القسم، و(ما) موصولة أو مصدرية. والموعود ((إنما توعدون)) هو قيام الساعة وبعث الموتى من قبورهم، ((لصادق)) أي: لصدق، فوضع الاسم مكان المصدر، أو هو من باب قوله تعالى: عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:21] أي: عيشة مرضية. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ : (ما) موصولة. ((إنما توعدون)) أي: إن الذي توعدون لصادق، لكن إذا قلنا: إن (ما) موصولة فلابد من عائد، والعائد هنا محذوف، فنقول: إنما توعدونه لصادق. إذاً: صلة الموصول العائد هذه الهاء المحذوفة. ((إنما توعدون لصادق)) صادق بمعنى المصدر لصدق، أي: إن الذي توعدونه من الجزاء والحساب لصدق لا كذب فيه. وقال بعض العلماء: ((إنما توعدون)) (ما) مصدرية، يعني: إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق، وقال بعضهم: إن صيغة اسم الفاعل في ((لصادق)) لم تأت بمعنى المصدر، وإنما بمعنى اسم المفعول. ((إنما توعدون لصادق)) يعني: لمصدوق أو لمصدق، كما قال تعالى: فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:21] اسم فاعل لكن المقصود به اسم المفعول، يعني: عيشة مرضية. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من صدق ما يوعدونه جاء في آيات كثيرة، كقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، وقوله تعالى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [الأنعام:134]، وقوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:2] والآيات في ذلك كثيرة معلومة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن الدين لواقع)

    قال تعالى: وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:6] أي: وإن الجزاء يوم القيامة واقع لا محالة، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [النور:25]، أي: جزاءهم بالعدل والإنصاف، وكقوله تعالى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:40-41]. وقد نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن كونه خلق الخلق لا لبعث وجزاء، وبين أن ذلك ظن الكفار، وهددهم على ذلك الظن السيئ بالويل من النار، قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]. ومعنى قوله: ((باطلاً)) أي: عبثاً لا لبعث ولا لجزاء. وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، الله سبحانه وتعالى منزه عن العبث ولا يمكن أن يكون خلقكم سدى بلا حساب ولا جزاء، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك)

    قال تبارك وتعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [الذاريات:7]. يقول القاسمي وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ : أي: ذات الطرق المختلفة التي هي دوائر سير الكواكب، فالطرق المختلفة هي مدارات الكواكب التي تسير فيها بنظام. قوله: ((الحبك)) أصل معناها ما يرى كالطريق في الرمل والماء إذا ضربته الريح، إذا كان هناك ماء ساكن ثم هبت عليه الريح فإنك ترى تموجات صغيرة تتكسر على سطح الماء، هذه الأشياء التي ترسمها الرياح على سطح الماء تسمى الحبك، كذلك الرمال إذا هبت عليها الريح ورسمت فيها التكسرات فهذه أيضاً تسمى الحبك. وكذلك حبك الشعر أثناء تثنيه وتكسره، والحبك: جمع حباك، كمثال ومثل وكتاب وكتب، أو حبيكة كطريقة وطرق، ويقال: ما أملح حباك، وحباك الحمام: وهو سواد ما فوق جناحيه، وعن الحسن في معنى: ((والسماء ذات الحبك)) قال: حبكت السماء بالنجوم؛ وذلك لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى تحبيكه، فالتحبيك بمعنى التزيين. فشبهت النجوم بطرائق الوشي. وقال بعض علماء الفلك: الحبك جمع حبيكة بمعنى: محبوكة، أي: مربوطة، ((والسماء ذات الحبك)) أي: ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية، فإن كل حبيكة هي مجموعة من الكواكب المتجاذبة، فالآية الشريفة نص على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يزعم الإفرنج أنهم مكتشفوها، وعليه فهي إحدى معجزات القرآن العلمية، فهي إخبار عن تعدد المجموعات الشمسية، أو تعدد المجرات، وهي بالملايين كما هو معروف، والله تعالى أعلم. يقول الشنقيطي في قوله تعالى: ((والسماء ذات الحبك)): فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك، وعليه فمعنى ((ذات الحبك)) أي: ذات الطرائق، كما يطفو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح فهذا هو الحبك، قالوا: ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك، ومن هذا المعنى قول زهير وهو يصف غديراً: مكلل بأصول النجم تنسجه ريح خريق لضاحي مائه حبك فقوله: (مكلل بأصول النجم) المقصود بالنجم هنا النبات الذي ليس له ساق، ينبت حول الماء كالإكليل، قال عز وجل: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6] والشجر هو ما له سوق. (تنسجه) أي: تأتي ريح شديدة فتنسج هذه الطرق. (لضاحي مائه) أي: ما ضحى للشمس من الماء وبرز. (حبك) أي: هذه الطرائق التي تأتي على الماء فتحدث فيه هذه الطرائق والتكسرات في الماء. وقال بعض أهل العلم: ((ذات الحبك)) أي: ذات الخلق الحسن المحكم، وهذا الوجه يدل عليه قول الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:3-4]. إذاً: الحبك على هذا القول مصدر؛ لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه تقول فيه العرب: حبكه يحبكه حبكاً، حبكاً بالفتح على القياس، (والحبك) بضمتين بمعناه. وقال بعض العلماء: ((والسماء ذات الحبك)) أي: ذات الزينة، فهذه الآية تكون كقوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك:5] وقال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا [ق:6]، وقال بعضهم: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [الذاريات:7] أي: ذات الشدة، يدل لهذا قول الله سبحانه وتعالى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [النبأ:12]، والعرب تسمي شدة الخلق حبكاً، ومنه: قيل للفرس الشديد الخلق: محبوك، ومنه: قول امرؤ القيس : قد غدا يحملني في أنفه لاحق الإطلين محبوك ممر قوله: (محبوك ممر) يعني: فرس شديد، والآية تشمل الجميع، وكل الأقوال في هذه الآية التي ذكرناها حق، سواء قلنا: إن ((ذات الحبك)) يعني: ذات الطرائق، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الخلق الحسن المحكم، يقول: هذه قصة محبوكة حسنة محكمة، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الزينة، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الشدة، فهذه الأقوال لا تتعارض وكلها حق. والمقسم عليه في هذه الآية هو قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:8-9].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف)

    قال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات:8]. قوله: (إنكم) الخطاب هنا للكفار، أي: إنكم أيها الكفار في شأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي شأن القرآن لفي قول مختلف؛ لأن بعضهم يقول: هو سحر، وبعضهم يقول: كهانة، وبعضهم يقول: أساطير الأولين. أما قول من قال في قوله: (( لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ )) أي: أن بعضهم مصدق وبعضهم مكذب خلاف التحقيق، ولا يصح تفسير هذه الآية بهذا المعنى؛ لأن الاختلاف هنا اختلاف بين المكذبين دون المصدقين، ولذلك صدرنا التفسير بقولنا: إنكم أيها الكفار لفي قول مختلف. فهذه الآية في حق الكفار؛ لأنهم كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في آية آخرى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] وقوله: ((فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)) أي: مختلط. وقال بعضهم: مختلف، والمعنى واحد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يؤفك عنه من أفك)

    قال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]. أي: يصرف من صرف عن الحق الصريح الصرف التام، إذ لا صرف أشد منه. وقد ذكر القاضي في مناسبة المقسم به للمقسم عليه قال: هو تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بالطرائق للسماوات في تباعدها واختلاف غاياتها، فكل كوكب يمشي في اتجاه، كما يقول الشاعر: سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب فكذلك طرائق السماوات مختلفة ومتباينة، فناسب قوله تعالى: ((والسماء ذات الحبك)) أي: ذات الطرائق. ((إنكم لفي قول مختلف)) فهذا نوع من التجانس أو التناسب بين المقسم به والمقسم عليه؛ لأن في ذلك تشبيه أقوالهم باختلافها وتنافي أغراضها بالطرائق في السماوات في تباعدها واختلاف غاياتها. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ : وأظهر الأقوال فيه عندي ولا ينبغي العدول عنه في نظري: أن لفظ (عن) في الآية سببية، يعني: يؤفك بسببه من أفك، وهناك شاهد من القرآن، يقول عز وجل: وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [هود:53] أي: بسبب قولك. قوله: ((يؤفك عنه)) الهاء تعود إلى القول المختلف، أي: يصرف عن الإيمان بالله ورسوله بسبب ذلك القول المختلف. ((من أفك)) أي: من سبقت له الشقاوة في الأزل فحرم الهدى وأفك عنه؛ لأن هذا القول المختلف يكذب بعضه بعضاً ويناقضه، والتناقض في القول واختلافه من أوضح الأدلة على بطلان هذه الأقوال، كما يقول الشاعر: حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور وبعضهم قال قولاً غريباً في قوله تعالى: ((يؤفك عنه)) حيث قال: يصرف عن هذا القول المختلف الباطل، ((من أفك)) أي: من صرف عن الباطل إلى الحق، وهذا قول لا يخفى بعده وسقوطه؛ لأن هؤلاء يظنون أن الأفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل وعن الباطل إلى الحق. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ويبعد هذا؛ لأن القرآن لم يرد فيه -الأفك- مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه. إذاً: استعمال لفظة (أفك) في القرآن الكريم لم تكن إلا في الصرف عن الخير إلى الشر، ولم تستعمل في القرآن في الصرف عن الشر إلى الخير، وبالتالي هذا قول بعيد جداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قتل الخراصون)

    قال تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات:10]، في هذا إشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أنهم لم يؤفكوا لاتباعهم الدلائل، بل لأخذهم بالخرص والتخمين، ولا يمكن أن يصرف إنسان عاقل عن الحق إلى الباطل؛ لأن الباطل ليس له أدلة يستند إليها، ولأن كل ما يتعلق بالتوحيد والإيمانيات وهذه الأمور الكلية المهمة الخطيرة قامت عليها أدلة هي أوضح من الشمس، فبالتالي لا يمكن أن ينصرف عنها من يكون عنده برهان ودليل، ولذلك الله سبحانه وتعالى لما أوجب على كل مكلف البحث عن الدين الحق أوجب عليه أمرين: الأول: أن يجتهد ويبذل غاية وسعه في البحث عن دين الحق. الثاني: أن يجتهد في الوصول إلى دين الحق، مثل: القضايا الفقهية فإنه يجوز للعالم أن يجتهد كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، أما في قضايا الإيمان بالله سبحانه وتعالى والتوحيد، وأدلة صدق النبوة وصدق الرسالة وصدق القرآن الكريم فلا؛ لأن الأدلة واضحة تماماً لا يصد عنها إلا من أفك وإلا من سبقت له الشقاوة، لكن في الحقيقة لا يمكن أن يكون لمبطل دليل كما قلنا في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون:117]، فقوله: ((إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ)) هل لهذا مفهوم؟ بمعنى: أنه لو أتى واحد يعبد غير الله ويزعم أن معه برهاناً على عبادة غير الله، هل هذا يقع؟ لا يمكن أبداً أن مشركاً يكون عنده أدلة أو برهان أو دليل، ولذلك نجد دائماً الباطل في مواجهة الحق لا يمكن أن يسلك المسلك الشريف العلمي النزيه أبداً، فأصحابه يخافون جداً من النقاش الحر، والأدلة العلمية عندهم إنما هي المكر أو المجادلة أو التشنيع على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ووصفهم بأنهم إرهابيون وأصوليون ومتطرفون، إلى آخر هذه الشتائم وهذا التشنيع الذي يراد به الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، لكن هل يقوون على مواجهة الحق للباطل وكل يدلي بدلوه؟ لا يمكن أن يثبت أبداً أي باطل في مواجهة دين الإسلام، فالواجب على كل عاقل أن يجتهد في البحث عن دين الحق، ثم يجتهد حتى يصل إلى الحق، فلا يقبل مثلاً من إنسان على الإطلاق أن يقول: بحثت وتحريت فوجدت البوذية هي دين الحق، ويقول: هذا هو اجتهادي واعذروني في اجتهادي، ويبنى على ذلك أيضاً فكرة المساواة بين الأديان وأخوة الأديان إلى آخر هذا الضلال المبين، أو واحد يقول: أنا اجتهدت في البحث وتحريت ثم توصلت إلى أن النصرانية هي دين الحق، هذا مستحيل أن يقع؛ لأن على الحق أدلة لا يمكن أن تلتبس على ذي بصر ولا ذي عينين، إلا أنه يمكن أن يصرف بقدرة الله عن الحق، بحيث يرى الحق لكن لا يرزق اتباعه، كحال علماء اليهود الذين عرفوا الحق وعرفوا أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكنهم استكبروا واستنكفوا عن اتباعه، وحسدوا العرب أن يخرج منهم النبي الموعود صلى الله عليه وسلم، فليس نكوصهم لأنه ليس هناك أدلة؛ ولكن لما في نفوسهم من جحود واستكبار وعلو في الأرض، ولذلك تجد عامة من ينتكس والعياذ بالله إلى التنصر أو إلى غير ذلك من أنواع الردة، فليس معنى ذلك: أنه لم يرتد عن الإسلام إلا بعد أن ظهر له دليل وبرهان، لكن الله سبحانه وتعالى كتب على هذا الشقاء منذ الأزل؛ أولاً: هذا لا يمكن أن يكون مسلماً حقيقياً إلا أن يشاء الله. ثانياً: غالباً تكون المغريات بشهوات أو بأموال أو بكذا أو كذا من هذه الأشياء، كما يحصل الآن في الفردوس الثاني الذي يوشك أن نفقده وهو أندونيسيا، فأندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم كله، ولذلك تتكالب عليها قوى الكفر والإلحاد لتفتيتها بواسطة الذين يخرجون الآن عليها ويريدون الاستقلال، وهم المرتدون الذين أفكوا عن الحق بارتدادهم إلى النصرانية لغرض أو لآخر، وقد اشتدت الحملة منذ سنوات طويلة جداً في أندونيسيا من أجل صرف الناس عن الدين وصرفهم عن الإسلام وتنصيرهم، وقد حكيت لكم من قبل قصة تنم عن مدى تغلغل النشاط التنصيري واستغلال ثالوث الفقر والجهل والمرض، وكيف تخرج الحملات التبشيرية للناس في أندونيسيا، حتى إن أحدهم قام بإغراء هؤلاء الفقراء بالأرز والطعام والأموال، ومن شدة الفقر في أندونيسيا استجابوا لهذا المنصر في الظاهر، وأظهروا التنصر، فهذا القسيس تدرج معهم حتى عمدهم أي: غطسهم في التعميد المعروف، وفرح جداً بما وصل إليه من إنجازات فقال لهم: إن الكنيسة تريد أن تكافئكم على أنكم الآن دخلتم في دين المسيح فتنصرتم، فكل واحد منكم يطلب طلباً وسوف نحققه له؛ مكافأة لكم على استجابتكم، فصاح الجميع بصوت واحد: الحج إلى مكة. إذاً: غاية ما يفعله المنصرون وما يستطيعون القيام به أن يستعبدوا الناس بهذه المساعدات المسماة بالإنسانية، كالتمريض، وفتح المدارس الخاصة التي يضعون فيها الراهبات وهكذا، فهم يتخذون وسائل ملتوية، أما أن يقف الباطل في مواجهة الحق ويأتي بأدلة فلا، إنما يعرف الباطل الظلم والخسة والنذالة، ولا يمكن أبداً أن يهزم الإسلام على الإطلاق في أي مناظرة شريفة، يمكن أن ينهزم المسلمون في بعض الأحوال نتيجة ضعف القوى المادية، لكن أن يقف الباطل أمام الإسلام ويثبت في مناظرة علمية هذا مستحيل، والتأريخ ينبئنا بمصداق ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين هم في غمرة ساهون.. هذا الذي كنتم به تستعجلون)

    قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات:11-14]. قوله: الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ أي: في جهل يغمرهم عن وجوب اتباع الدلائل القاطعة وترك الشبهات الواهية. أو: غافلون عما نزل إليهم بالانهماك في اللذات البدنية واستئثار الحظوظ العاجلة. قوله تعالى: يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي: متى يوم الجزاء، ويوم يدين الله العباد بأعمالهم؟! هذا السؤال منهم كان على سبيل الاستنكار أو الاستحقار أو الاستبعاد، فجاءهم الرد: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي: يحرقون، والفتنة هنا بمعنى الإحراق، وهي إحدى إطلاقات الفتنة في القرآن الكريم، يقال: هذا دينار فتين، أي: محروق، وأصل الفتن: إذابة الجوهر الخام كالذهب ليخرج منه ما يخالطه من شوائب كثيرة، قال عز وجل: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17] أي: أن الشوائب تذهب ويبقى المعدن الخالص. كما قال بعض السلف في حق الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر رحمه الله تعالى، فأصل (الفتن) إذابة الجوهر ليظهر غشه، ثم استعمل في التعذيب والإحراق ونحوه. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ يعني: يقدر هنا مقولاً لهم أي: أثناء تعذيبهم، يقال لهم في هذه الحالة: ((ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ)) أي: ذوقوا عذابكم الذي استعجلتموه قبل وقته، كما قال: ((هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)) أي: هذا ما استعجلتم حصوله في الدنيا، لأنكم كنتم تتحدون الرسول أن يأتيكم بهذا العذاب إن كان من الصادقين، فهذا الذي كنتم به تستعجلون، قال سبحانه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت:53-54].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون)

    قال تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات:15] لا يخفى على من عنده علم بأصول الفقه أن هذه الآية الكريمة فيها الدلالة المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإيماء والتنبيه، فقوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يفهم منها بدلالة الإيماء والتنبيه أن سبب دخولهم الجنات وتنعمهم بالجنات أنهم كانوا من المتقين. إذاً: التقوى وسيلة للحصول على هذا النعيم، كما قال الله سبحانه وتعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، وقال تعالى: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ [النحل:31]. قوله: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ)) أي: الذين اتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه في الدنيا، وبتجنب القول بالخرص والتخمين في الأمور الاعتقادية ((فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين)

    قال تعالى: آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:16] قال ابن جرير : أي عاملين ما أمرهم به ربهم مؤدين فرائضه. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: والذي فسر به ابن جرير فيه نظر؛ لأن قوله تبارك وتعالى: (( آخِذِينَ )) حال من قوله: (( فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ))، فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون ((آخذين ما آتاهم ربهم)) أي: من النعيم والسرور والغبطة، فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ما آتاهم ربهم من النعيم والسرور والغبطة، ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله: (( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ )) أي: في الدنيا. ((مُحْسِنِينَ )) أي: قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم، وظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم كما بينه بقوله عز وجل: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون)

    قال تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17] أي: كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً لتتقوى نفوسهم على عبادته تعالى بنشاط. وروى ابن جرير عن أنس رضي الله عنه في هذه الآية: (أنهم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء). وقال: محمد بن علي : كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة، أي: حتى يصلوا صلاة العشاء. وعن مطرف قال: قلَّ ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عز وجل إما من أولها أو من أوسطها. وعن الحسن قال: كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله. إذاً: قيام الليل فيه نوع من المجاهدة؛ لأن الإنسان في حالة اليقظة بالنهار حتى من الناحية (الفسيولوجية) يفرز هرمونات النشاط، وضوء النهار يمر من عين الإنسان، فيؤثر على غدة معينة فتزيد الإفراز من هرمونات النشاط، أما في حالة الليل فإنه يقل، وبالتالي إذا أراد الإنسان السهر يحتاج إلى مجاهدة ومكابدة ومقاومة للرغبة في النوم. وقال الضحاك : إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا ثم ابتدأ فقال: (( مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ )) يعني: المحسنين كانوا قليلاً، فيسكت ثم يبتدئ فيقول: مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ على أساس أن (ما) نافية، بمعنى: لا يهجعون. يقول ابن كثير : وهذا القول فيه بعد وتعسف. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم وترك الاستراحة؛ وذلك لأنه ذكر القليل ((مِنَ اللَّيْلِ))، والليل هو وقت النوم، والهجوع هو الخفيف من النوم. حتى أنه لم يقل: ما ينامون، لكن قال: ((ما يهجعون)) فاختار أخف درجة من النوم التي هي الهجوع. و(ما) زائدة تدل على القلة، وبالجملة ففي الآية استحباب قيام الليل وذم نومه كله، والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون)

    قال تعالى: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18]. قال القاضي : أي أنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. ومعناه: أنهم مع قلة هجوعهم، وكثرة تهجدهم، كانوا إذا دخل عليهم وقت السحر أخذوا في الاستغفار، كأنهم قضوا ما مضى من الليل في الجرائم والكبائر، وفي الحقيقة هم مجتهدون في العبادة. يقول الرازي : في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه فيستغفرون من التقصير، وهذه سيرة الكريم، فهو يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به. فكان حال السلف أنهم كانوا مع إحسانهم خائفين، أما نحن فمع إساءتنا آمنون كأن معنا صكوك غفران من الله سبحانه وتعالى فيها الضمان بدخول الجنة. ثم يقول: وفيه وجه آخر ألطف منه، وهو أنه تعالى لما بين أنهم يهجعون قليلاً، والهجوع مقتضى الطبع، قال: ((يَسْتَغْفِرُونَ)) أي: يستغفرون من ذلك القدر القليل من النوم. وفيه لطيفة أخرى يبينها في جواب سؤال: وهو أنه سبحانه مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر، يعني: لم يقل الله سبحانه وتعالى: كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون، وإنما قال: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ فما الحكمة من ذلك مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد لا الهجوع؟ نقول: إشارة إلى أن نومهم عبادة؛ لأنهم كانوا ينامون أخف درجات النوم الذي هو الهجوع من أجل أن ينشطوا للقيام. ويتقووا بذلك على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالنوم الذي هو مباح في أصله صار عبادة في حقهم مع أنهم نائمون، وهذا المعنى لن نستفيده إذا كانت الآية مثلاً: كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون. قوله: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ الاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر، كقولهم: ربنا اغفر لنا، وطلب المغفرة بالفعل في بالأسحار وهو الصلاة، والأول أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر؛ لأن الصلاة تسمى تسبيحاً، فكذلك أيضاً قد تسمى ركوعاً، فيطلق الجزء مراداً به الكل، فكذلك الاستغفار؛ لأنه جزء من الصلاة فأطلق على الصلاة كلها، فقوله: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ معناه: يصلون صلاة تتضمن الاستغفار، وهذا مما يؤيد القول الثاني، ومما يؤيده أيضاً: الإشارة إلى الزكاة في الآية التي بعدها مباشرة، وهي قوله تعالى: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:18-19]، والزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات، فكذلك يفهم أن هناك قرناً بين إيتاء للزكاة وإقامة الصلاة. وسر التعبير عن الصلاة بالاستغفار الإشارة إلى أن ركنها المهم في التهجد هو الاستغفار كما في حديث التنزل الإلهي: (من يستغفرني فأغفر له؟)، وفي قصة يوسف عليه السلام قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف:97-98] قال بعض المفسرين: إنه عنى بذلك أنه سوف يؤخر لهم الدعاء إلى السحر، حيث يستجاب الدعاء. وقد ذكر في أذكار الصلاة الاستغفار في مواضع منها كالركوع: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)، والسجود كذلك وبين السجدتين (رب اغفر لي، رب اغفر لي)، وآخر الصلاة كما أخرجه الشيخان وأهل السنن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الركوع والسجود والتهجد لذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)

    قال تعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] أي: أن المحروم هو الفقير المتعفف، لكن من شدة تعففه يحسبه الجاهل غنياً كما قال الله سبحانه وتعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273] فيحرم الصدقة. قال قتادة : هذان فقيرا أهل الإسلام: سائل يسأل بكفه، وفقير متعفف، ولكليهما عليك حق يا ابن آدم. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه). وروى الإمام أحمد عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للسائل حق وإن جاء على فرس) ورواه أبو داود ، ثم أسنده من وجه آخر عن علي رضي الله عنه. ويدخل في المحروم كل من لا مال له، ومن هلك ماله بآفة، ومن حرم الرزق واحتاج، إلا أن أهم أفراده المتعفف، ولذا عوَّل عليه الأكثر، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ : سوى الزكاة، يصلون بها رحماً، أو يقرون بها ضيفاً، أو يحملون بها كلاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين)

    ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص والتخمين في باب الاعتقادات، بل لابد من الدلائل الواضحات الكثيرة فقال: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات:20] أي: وفي الأرض عبر وعظات لأهل اليقين الذين يقودهم النظر إلى ما تطمئن به النفس وينثلج له الصدر، فيرون فيها مما ذرأ من صنوف النباتات والحيوانات والوهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار، ويرون آيات عظاماً وشواهد ناطقة بقدرة الصانع ووحدانيته جل جلاله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)

    قال تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]. في الحقيقة الآيات الأولى من سورة الذاريات إلى قوله تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23] تشتمل على آيات الله سبحانه وتعالى في الخلق وفي الوجود وفي أنفسنا، ويكفي أن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى شرح هذه الآيات القلائل في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) في أكثر من مائة صفحة، شرحها مع كثير من التأمل قدر ما توافر له آنذاك من العلوم البشرية ما يعين الإنسان على التأمل في خلق الله سبحانه وتعالى، والتوصل فعلاً إلى توحيد الله بالأدلة والبراهين المبثوثة في كل ما حولنا، ولذلك نحن نقول: إن التفكر ليس أمراً مستحباً فحسب، ولكنه فريضة على كل مسلم، قال سبحانه: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق:5] هذا فعل أمر، والأمر ظاهره الوجوب، فيجب أن يتأمل الإنسان في مثل هذه الآيات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190-191]). فالتفكر وظيفة في غاية الأهمية بالنسبة للمؤمن لكي يزداد إيماناً ويقيناً. ولو وقفنا فقط -وبالذات في ضوء المكتشفات الحديثة والعلوم الحديثة كعلم الطب وعلم التشريح وغيرهما- مع قوله تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ لطال بنا الكلام جداً، لكن ننصح الإخوة بمطالعة كلام الإمام ابن القيم في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) على هذه الجملة من الآيات طلباً للاختصار. قوله: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ أي: في حال اهتدائها وتنقلها من حال إلى حال، واختلاف ألسنتها وألوانها، وما جبلت عليه من القوى والإرادات، وما بينها من التفاوت في العقول والأفهام، وما في تراكيب أعضائها من الحكم في وضع كل عضو منها في المحل المفتقر إليه، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب ولا لسان بليغ. يعني: خلق الله سبحانه وتعالى إيانا في أحسن تقويم، وجعل كل عضو في أفضل مكان له، فلم يجعل الأذنين في مؤخرة الرأس مثلاً أو في الرجلين، ولم يجعل الفم أعلى الجبهة، أو الأنف في الخلف، بل تجد كل شيء وضع في موضعه، فالقواطع في مقدمة الفم، والأنياب تمزق الطعام على الجانبين، ثم الأضراس للطحن، فلو أن الأضراس هي التي كانت في مقدمة الفم لاختل هذا النظام، ومع ذلك يأتي السفهاء والملاحدة ويقولون: إن الأمر صدفة، قاتلهم الله أنى يؤفكون. إذاً: الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتفكر والتدبر في المخلوقات، لو أنك درست علم التشريح أو علم وظائف الأعضاء، أو علم الأمراض أو غير ذلك من فروع العلوم كلها، مثل: علوم النباتات، أو علوم الهندسة النووية، أو العلوم الجينية، أو الهندسة الوراثية، إذا درست هذه بنية التأمل والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى كما أمرنا هنا وفي كثير جداً من الآيات فإنك تكون في عبادة. هذا العلم ما خلقه الله إلا ليدلنا عليه سبحانه وتعالى وعلى توحيده، وهذه العلوم لا تجافي علم الدين، بل الآيات كما قلنا مراراً نوعان: آيات تنزيلية، وآيات تكوينية، فالآيات التنزيلية هي آيات القرآن الكريم وآيات الوحي، وأما الآيات التكوينية فهي صفحة هذه المخلوقات التي تكشف عن صانعها وخالقها وهو الله سبحانه وتعالى، كما قال الشاعر: فيا لك من آيات حق لو اهتدى بهن مريد الحق كن هواديا ولكن على تلك القلوب أكنة فليست وإن أصغت تجيب المناديا والكلام في هذا يطول. وأنشد الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه (التفكر والاعتبار) لشيخه أبي جعفر القرشي قوله: وإذا نظرت تريد معتبراً فانظر إليك ففيك معتبر أنت الذي تمسي وتصبح في الـ دنيا وكل أموره عبر أنت المصرف كان في صغر ثم استقل بشخصك الكبر أنت الذي تنعاه خلقته ينعاه منه الشعر والبشر أنت الذي تعطى وتسلب لا ينجيه من أن يسلب الحذر أنت الذي لا شيء منه له وأحق منه بما له القدر

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون ... إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون)

    قال تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22-23] قوله: ((وفي السماء رزقكم وما توعدون) أي: في السماء المزن وهو السحاب، وعلى هذا فالمراد بالرزق هنا المطر؛ لأن المطر هو سبب الأقوات. قوله: ((وَمَا تُوعَدُونَ)) أي: من العذاب السماوي؛ لأن مؤاخذات المكذبين الأولين كانت من جهتها، والخطاب لمشركي مكة. ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) أي: الذي خلقهما للاستدلال بهما على حقيقة ما أخبر ((إِنَّهُ لَحَقٌّ)). ((مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)) أي: مثل نطقكم، والضمير في قوله: (إِنَّهُ) عائد لما ذكر من أمر الآيات والرزق. أو عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، أو عائد على ما توعدون وهو أقرب مذكور، ويؤيد الأخير ذكر مصائر ووعيد المكذبين من قوم لوط وفرعون وعاد وثمود وقوم نوح وغيرهم، وبدأ منها بنبأ قوم لوط؛ لأن قراهم واقعة في ممر كفار قريش إلى فلسطين للاتجار، ومن ثم قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24] إلى آخر الآيات.

    1.   

    أقوال العلماء في كون الرزق من السماء وحقيقته

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ، فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بذلك: أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر، والذي أنزل من السماء؛ لأنه يكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر، كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [غافر:13] أي: ينزل لكم من السماء الماء الذي يكون بسببه نماء الرزق. وقال تعالى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ [الجاثية:5] أي: من مطر. وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق. وقال بعض أهل العلم: معنى قوله تعالى: ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ)) أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة، والله جل وعلا يدبر أمر الأرض من السماء، فهو سبحانه يدبر أمركم ويكتب أرزاقكم وأجلكم في السماء، كما قال تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]. والمراد بقوله: ((وما توعدون)) كما قال بعض أهل العلم: الجنة؛ لأن الجنة فوق السماوات، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح؛ لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك، فسقف المسجد، وسقف البيت يسمى سماء، وشاهد ذلك من القرآن قوله تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15] أي: من كان يظن أن الله سبحانه وتعالى لا ينصر نبيه محمداً عليه السلام ويجعل له العاقبة، فليربط الحبل إلى سقف الحجرة، ثم يفصل نفسه عن الأرض بالوقوف على الكرسي والحبل في عنقه، وبالتالي يشنق نفسه بهذه الطريقة. فالشاهد هنا: أن (( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ )) يعني: أن كل ما علاك يطلق عليه سماء؛ ولذلك قال الشاعر: وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور، قال فيه: (بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال له صلى الله عليه وسلم: إلى أين المظهر يا أبا ليلى ؟ قال: إلى الجنة، قال: أجل إن شاء الله). وقال بعض أهل العلم: ((وَمَا تُوعَدُونَ)) أي: ما توعدون من الخير والشر كله مقدر في السماء، وهذا المعنى فيما يوعدون به أنسب للمعنى الثاني في الرزق، وهو أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة والله عز وجل يدبر أمر الأرض من السماء. وقد وردت قصص تدل على أنه هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع، ومن ذلك ما ذكره غير واحد عن سفيان الثوري أنه قال: قرأ واصل الأحدب هذه الآية: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ، فقال: أنا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فدخل خربة فمكث ثلاثاً لا يصيب شيئاً فلما كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب، وكان له أخ أحسن منه رأياً، فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت. وعن الأصمعي قال أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. قال: اتل علي. قال: فقرأت عليه من أول سورة الذاريات حتى بلغت قوله تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فقال الأعرابي: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد فصرت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رفيع، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي وقال: اتل علي سورة الذاريات، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ، فصاح وقال: يا سبحان الله! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين، قال ذلك ثلاث مرات، وخرجت معها نفسه. فهذه النقول وهذه القصص تدل على أنهم فهموا من قوله تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ أن الأرزاق يكتبها الله سبحانه وتعالى ويقدرها، وكذلك ما توعدون من خير أو شر إنما هو أمر مقدر في السماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756212264