إسلام ويب

وقفة مع الجن [3]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عالم الجان عالم يكتنفه الغموض من كل جوانبه، وقد ساهم اهتمام الدعاة بقضايا الجن في توسيع إطار الظاهرة المرضية التي نتجت عن الغلو من قبل عامة الناس في هذه القضايا، وكان للمعالجين أيضاً الحظ الأوفر في تفشي الأوهام، وتضخم مسائل الجان، حتى أصيب البعض بأوهام مرضية لا أساس لها، كما أنها كانت سبباً في إعراض الناس عن التداوي بالطب الحسي، ومن ثَم كونت هذه الظاهرة بيئة خصبة لانتشار الخرافات والمخالفات الشرعية.

    1.   

    عالم الجن بين الإفراط والتفريط

    إفراط المعالجين في استخدام الوهم

    سمعت من سائق يعيش في الساحل الشمالي أن امرأته اشتكت من مرض ما بعدما تزوجا بشهر تقريباً، فذهب بها إلى الطبيبة، فصرفت لها دواءً، وقبل أن تستكمل العلاج الذي وصفته لها الطبيبة إذا بشخص يتطوع ويقول: دعك من الطب، فهناك إخوة معالجون يعالجونها فلعل بها مساً من الجن، هكذا بمنتهى البساطة مع أنه مرض عضوي عادي جداً، فاذهب إلى الجماعة المعالجين للجن، فذهب إلى أحدهم وقرأ عليها ولم ينطق على لسانها جني، فقال: يظهر أن الجني أخرس، أو لعل الجني موجود، لكنه يتعمد ألا ينطق تماماً كما فعل آخرون في جريمة قتل مماثلة، أو لعله لا يوجد جني أصلاً ما دام أن المسألة مبنية على (لعل، وعسى) ولا نملك دليلاً نجزم به فما هو المسوغ للتمادي في الظنون.. نرجع إلى ما فعله هذا المعالج، ويكرره غيره من المعالجين الذين يزعمون أنهم تخصصوا وتفوقوا وتدربوا وتمرسوا في هذا المجال، ومع ذلك فهم يرتكبون مثل هذه الأخطاء التي ينبني عليها الإقدام بجهل على انتهاك حرمات الناس. فقال له: أحضر لي عوداً متيناً كي أضرب هذا الجني الأخرس الذي يرفض أن يتكلم، فيقول: فذهبت إلى شجرة الزيتون -ويبدو أن الذين يعيشون في الصحراء، يعلمون أن عود شجرة الزيتون عود قوي ومؤلم- وانتقيت عوداً طويلاً يلسع لسعاً مريراً، فأخذ يضرب المرأة على ظهرها ضرباً مبرحاً دون جدوى، ولم ينطق الجني الأخرس. المهم أنه حينما عاد إلى البيت وجد ظهر المرأة أخضر تماماً من كثرة الضرب، فقال لها: هذا يدل على أن الضرب وقع عليك أنت لا على الجني؟ قالت: نعم، قال: ما منعك من أن تتكلمي؟ قالت: أنا كنت منتظرة أن الجني يتكلم، أوهموها أن فيها جنياً، وسيطر عليهم هذا الوهم وكأن الوهم صار حقيقة لا تقبل الجدال، حتى إنه يستحل الضرب وهذا العدوان. وهذه الحالة ينبغي أن يقتص فيها من أمثال هؤلاء ويضرب بجهله وعدوانه، وإلا صار الأمر فوضى بهذه الطريقة. كما نجد آخرين متخصصين في كسر الإصبع الكبير، عالم من الجهل والجهلة، ومن المعتدين على حرمات المسلمين بهذه البدعة التي ابتدعوها، حتى أن المرأة اقتنعت أن فيها جنياً، فهي تعي وتتحمل الضرب ولا تريد أن تتكلم منتظرةً أن ينطق الجني الذي يلبسها. أنا أعتقد أنني لو فتحت حواراً مفتوحاً وكل واحد يحكي ما لديه من القصص، بل من المآسي؛ أظن أن عندكم رصيداً كبيراً من هذه المآسي، لكننا نكتفي فقط بضرب الأمثلة التي تغنينا عن التفاصيل.

    خطر الانجرار وراء غيبيات عالم الجن

    عالم الجن له حقيقة، ونحن لا ننكر مس الجني، وهي حقيقة شوهتها هذه الشعوذة، وهذا الدجل، وهذا الانحراف، والحالات التي فيها مس جني حقيقي هي حالات قليلة جداً جداً بالنسبة لما يحكى من الحالات الوهمية، ومن أسباب شيوع هذا الوهم فيما مضى. ولما الإنسان لديه ولع به كان ذلك من أسباب انتشار هذه الظاهرة، فحينما يسمع بهذا الموضوع شخص يراه موضوعاً شيقاً، وجذاباً ومغرياً، فتدفعه الغريزة والفطرة وحب الاستطلاع والفضول والولع إلى استكشاف ما غيب عنه؛ لأن الإنسان عنده تعطش دائماً لأن يعلم شيئاً عن العوالم الغيبية وعما يحدث في المستقبل، وعما غاب من المخلوقات أو حقائق هذا الوجود، فالإسلام أشبع هذه الفطرة بأن وسع رقعة العقيدة، ومد مساحتها بإخبارنا عن كثير من الأمور الغيبية؛ لتشبع هذا الميل في الإنسان. وقد يكون هذا السبب -وهو حب الاستطلاع والفضول- دافعاً لاستطلاع هذا العالم الغامض بالنسبة إلينا مما قد يؤدي إلى شيوع هذه الظاهرة المرضية التي بصددها. وعلاجاً لهذه الظاهرة لا بد من كبح جماح هذا التطلع، وأن يحد بحدود الشرع، فأنت إذا أردت أن تشبع هذا الفضول والاستطلاع إلى هذه العوالم الغيبية فلا توجد نافذة يمكن أن نطلع من خلالها على الغيوب إلا نافذة الوحي فقط، ولا يمكن أبداً أن نطلع على الغيوب، ونقطع بصدق هذه المعلومات إلا من خلال نافذة الوحي المعصوم، أما ما عدا ذلك فلا أمل قطعاً في التطلع إلى الأخبار الغيبية إلا عن طريق الوحي الشريف.

    عالم الجن والشياطين في القرآن الكريم

    القرآن الكريم تعرض لموضوع الجن ممثلاً بالشيطان بصفة أساسية، وفي كيد بني آدم، وفي شياطين الإنس والجن، وفصل تفصيلاً مهماً جداً، هذا هو الذي ينبغي أن ننشغل به، عداوة الشيطان لبني آدم، وأن الشيطان يقف وراء كل شرك وكل معصية، وأن جنوده يجتهدون في إضلال الناس، وفي الإفساد بينهم إلى غير ذلك، فنحن مطالبون بمحاربة كيد الشيطان بالاستقامة على طاعة الله: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ [الأعراف:27]، وهكذا نحن إذا فصلنا الكلام في هذه القضية هذا موضوع أساسي، لكن ليس هو موضوعنا الآن، عداوة الشيطان وكيف نواجه هذا العدو، كيف نكون على حذر، وكيف لا نقع في المعاصي، هكذا القرآن فصل الحذر من تلبيس الشيطان، وإضلاله إيانا سواء في العقيدة أو في العبادات أو في الأخلاق، أو في غير ذلك من المسالك، هذا هو الموضوع الذي فصل القرآن فيه تفصيلاً عجيباً جداً، وكذلك السنة.

    أما موضوع الجن وحقائق عالم الجن، فكما أشرنا من قبل عرض القرآن لها بالتفصيل في سورة الجن، ثم في سورة الأحقاف بصورة عابرة، وما عهدنا أبداً لا من الصحابة ولا من السلف الانغماس في موضوع الجن بهذه الطريقة المرضية، وبهذه الطريقة الوبائية التي انتشرت وصرفت الناس عن الواقع الذي يعيشونه باعتبارهم من بني آدم إلى واقع من الخيال، وشيء غائب عنا، وأغلب المعلومات التي نتداولها ليس لها مصدر معصوم -الوحي كما ذكرنا- إلا ما هو أخبار الجن، أو من السحرة، أو ممن يزعمون أنهم قد تمرسوا وتدربوا في هذا المجال، لكن أين الخبر المعصوم الذي يجب ألا نتعداه؟ وتساهلنا كثيراً في أن نشرب كماً هائلاً من المعلومات دون أن نتمحص ونتحرى المنهج السلفي الذين نزعم أننا ننتمي إليه.

    فمثلاً: إذا قلنا لأخ: نريد دليلاً معصوماً على أن الجني يحرق بالقرآن؟ قد يدهش لأن الخبر حقيقة مسلمة، لكن من أين لك هذا؟ من أين أتيتم أن القرآن الكريم يحرق الجن؟ أين الدليل؟ لن يجدوا دليلاً، إنما يتمسكون بعمومات من القرآن الكريم بعيدة تماماً عن تأييد ما ذهبوا إليه، نحن نريد احترام المنهج العلمي في مثل هذه القضية، أين الدليل على هذه الأشياء؟ أين الدليل على هذا الضرب المبرح بهذه الطريقة؟ هل الشريعة التي حرمت العدوان وحرمت الصول على بدن وروح المؤمن تبيح في نفس الوقت هذا العبث، وهذا الانتهاك لحرمات المسلمين بالصورة التي نراها والتي قد تصل إلى القتل في كثير من الحالات؟ أين العقول؟ أين منهج السلف الذي نزعم أننا ننتسب إليه؟

    فإذاً: موضوع ولع الإنسان بمعرفة الغيوب كان المدخل الذي من خلاله راج هذا الموضوع؛ لأننا نسينا أننا لا نتلقى الأخبار إلا من الوحي المعصوم، أخبار الغيب، وفتحنا نافذة جديدة غير نافذة الوحي، أخبار تأتينا عن مجهول، عن عالم المجهول، هذا إن كان جنياً بالفعل، لا نعرف من هو ولا كيف هو، ونعيش في عالم من الوهم، ونصدق هذه الأشياء، وأن الجني يسلم، ثم بعد ذلك يُعرض عليه الإسلام، ويقال له: ما اسمك؟ يجيب أن اسمه جرجر، ثم يُسأل: من الذي بعثك؟ فيجيب شنودة الذي بعثني.. ونفتح خيالاً في خيال.

    شناعة ادعاء تأييد قرين النبي صلى الله عليه وسلم

    هناك شخص يدعى محمد إسماعيل من الزقازيق، يدعي أن معه قرين النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يصحح له الأحاديث ويضعفها، وأنه يعطيه الفتاوى من أجل توحيد الصف المسلم وتوحيد المسلمين. وهذا غريب وعجيب، هل نشطب على كل جهود المحدثين الذين بذلوا الأرواح والأنفس والأموال، وسهر الليالي والرحلة في طلب العلم؟! كل هذا يلغى لأن قرين الرسول عليه الصلاة والسلام المزعوم يخبرنا مباشرة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، إذاً: ما كان أسهل الأمر، لماذا أتعب المحدثون أنفسهم بالجرح والتعديل والضوابط والاصطلاح والرحلة والسهر؟ لقد كان من السهولة بمكان أن نستقي من هذا المعين الحي المباشر بواسطة أعلى إسناد في العالم، فهو واحد فقط يتلقى من النبي عليه الصلاة والسلام! هذا عبث، هل رأينا أحداً من علماء المسلمين فعل هذا أو قال بهذا، أو اعتبر هذا مصدراً من مصادر العلم؟ إذا كان من يعرف بالغفلة، وعدم التركيز في مجالس التحديث لا يؤخذ خبره، ويقدح في ضبطه، فكيف نتلقى من كائن مجهول؟! نحن لسنا متأكدين أنه جني أصلاً، وربما كان هو نفس الشخص الذي يتكلم، وإذا كان جنياً من أين لنا أنه مسلم، أثبت أنه مسلم؟ أين الشهود؟ أين الذين عاشروه كي يضبطوا لنا إن كان مسلماً، ثم حتى لو كان مسلماً كيف هو؟ كيف عدالته؟ كيف ضبطه؟ كيف حفظه؟ كيف.. كيف.. كيف... إلخ؟ فكيف نستطيع أن نتخلى عن هذا المنهج العريق الأصيل الذي تحسد عليه أمة المسلمين كما قال اليهودي مارجليوث : (ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم. علم لم تعرف الدنيا له نظيراً، ثم نأتي بهذه الخزعبلات ونقول: إن معنا قرين الرسول عليه الصلاة والسلام، الحقيقة أن هذا تنازل وانحطاط عن المنهج السلفي بطريقة ما، من كان يتصور أننا نصل إلى هذا المستوى؟ ما الفرق بيننا وبين الصوفية؟ نحن نقارن بين المنهج السلفي والمنهج الصوفي في مناهج التلقي، ونقول: نحن السلفيون منهجنا القرآن والسنة وفق فهم السلف الصالح، ثم نقول: ننتقد الصوفية لما عندهم من مصادر أخرى، كالكشف والإلهام والذوق والوجد والمنامات، ونقول: نحن نختلف معهم اختلافاً أساسياً في مصدر التلقي، أليس هذا انحرافاً في مصدر التلقي حينما نزعم أننا نتلقى من العالم الجني الغيبي من خلال نافذة غير نافذة الوحي المعصوم ؟!

    دور الدعاة والمعالجين بالقرآن في نشر الظاهرة المرضية

    ثمة عوامل أخرى مسئولة عن إشاعة هذه الظاهرة، في مقدمتها أولئك الطائفة من الدعاة الذين نشروا هذه الظاهرة في بداية الأمر، وسجلوا فيها الأشرطة، وخطب الجمعة، دون اعتبار وحذر من طبيعة الجماهير القابلة للغلو في هذا الجانب، بالذات جماهير العوام، وللأسف أيضاً أن نقول: طلبة العلم المزعومين الذين خاضوا في هذا الأمر ليل نهار، وصار شغلهم الشاغل، وانصرفوا حتى عن واجبات الدعوة والتعلم إلى موضوع الجن فكان ينبغي على هؤلاء الدعاة أن يراعوا طبيعة العوام -وطلبة العلم الذين هم في الحقيقة عوام وليسوا طلبة علم- أن عندهم قابلية للغلو في هذا الأمر، فإما أن توضع ضوابط لهذا الأمر، أو لا يطرق أصلاً، وكان ينبغي أن يحصل إشراف جماعي من العلماء على هذه الأشياء. كما أن المعالجين أنفسهم كانوا عاملاً أساسياً في نشر هذه الظاهرة، وكذلك المؤلفون الذين ألفوا عشرات الكتب، بل لو أحصاها أحد لسوف تزيد عن المائة كلها تتحدث عن الجن، سوق رائجة لكل من هب ودب ليكتب عن الجن: مغامراته مع الجن، حوار مع الجني المسلم ... إلخ، نظرت في بطاقته الشخصية فوجدت أن اسمه كبجور، عرفت من أين أن اسمه: كبجور، على أي أساس صدقت؟ هنالك كتاب كامل على هذا الحوار، ما الدليل على صدقه؟ الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: (صدقك وهو كذوب) كان يعني ما يقول، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام مؤيد بالوحي، وقد حكم لنا أنه صدق في هذا، لكن قال: (وهو كذوب) إشارة إلى أن الجني الشيطاني طبيعته الكذب، وذكرها بصيغة المبالغة، فما بالنا نأخذ بكلمة صدقك ونغفل الطبيعة الأصلية، مع أن الصدق بالنسبة إليه استثناء، أما الأصل الذي ينبغي أن نحسبه في كل ما يأتينا به من أخبار فهو: أنه كذوب. إن أشرطة الكاست لجلسات هؤلاء المعالجين ساهمت بدور كبير في إشغال الرأي العام بهذه القضية، بجانب جلسات الشباب فيما بينهم، جلسات السمر والحكايات والمغامرات للجن، ثم أيضاً حضور جلسات العلاج بدافع الفضول، ثم دخلت في هذه الأزقة بعض الصحف الحزبية التي تريد أن تروج ركودها، وتعالج هذا الركود بأن تلفت أنظار الناس بأي شيء، وتطور الأمر حتى صار حزب الأحرار يعلق إعلانات في كل مكان بطريقة عجيبة جداً، ويتسترون وراء القرآن، ويستغلون القرآن مصدة ومجنة لإرهاب الناس، وإياك أن تتكلم؛ لأنك إذا انتقدت المبالغة في هذا فمعنى ذلك أنك تقول: إن القرآن ليس بشفاء، لا، بل القرآن أعظم شفاء لجميع الأدواء بدنية وروحية ونفسية وكل شيء، لكن ليس بهذه الطريقة التي يمارسونها ويفعلونها، ويتسترون وراء كلمة القرآن الكريم ليستروا ويخفوا عدوانهم، وانتهاك حرمات الناس، ويعزفون على الأوتار الحساسة عند الناس.

    حقيقة المس

    توجد حالات مس والمس حقيقة لا ننكرها: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ [البقرة:275]، أما الطب الغربي فهو طب إلحادي من ناحية الإيمان، ولا يؤمن بالله، ولا يؤمن بالقرآن، الطب الغربي لا يعترف مثلاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فنحن لا نستغرب إذا أنكر، مع أن الطب الغربي في الحقيقة لو احترم الحقيقة العلمية لحكم على نفسه كما يسمي في الاصطلاح الطبي: (إديوفاتك) يعني: غير معلومة السبب، أغلب حالات الجن غير معلومة السبب، فيقفوا عند حدهم، ويعترفوا قائلين: هذا شيء نحن نجهله، فالجان هنا حالة نسبية، لكن ليس من حقه أن ينكر، هذا هو المنهج العلمي، فهذا ليس مجاله، هو مجاله التعامل التجريبي مع الحالات المباشرة، أما أن يغتر الإنسان بما وصل إليه من العلم حتى يصل إلى حد التمادي وينكر حقائق غيبية، فهذا ليس مجاله، وليس تخصصه.

    التوهم من طرق الإصابة بالمس

    أكثر المرضى يقعون فريسة الإيحاء الذاتي، وهي حالة مثل حالة الهستيريا تماماً، يسيطر فيها على المريض ويوهمه بأن عنده مثلاً الذبحة الصدرية، أو شلل، وهو في الحقيقة ليس مشلولاً، والبعض من كثرة ما سمع الأشرطة، والمحاضرات، وحفظ الحوار والسيناريو بكل دقة، فمجرد ما يقرأ القرآن ينفعل بنفس الكلام الذي سيطر عليه تماماً. وأقوى دليل على ما نقوله من أن أغلب الحالات حالات وهمية: أنك لو سلكت معه وسيلة الإيحاء والتأكيد بثقة أن هذا مجرد وهم تجد نتيجة إيجابية في كثير جداً من الحالات.. إذا سلكت هذا العلاج الطبيعي، واستخدمت الأسباب العادية في صرفه عن هذا الوهم، وإقناعه بأن الموضوع لا يعدو أن يكون وهماً سيطر عليه ليس أكثر، وأنه سليم تماماً ومعافى، وأن عنده أعراض واقعية، ونحن لا نقول: إنه يكذب، فقد يحس بخفقان في القلب أو عرق أو اضطراب أو غير ذلك من أعراض القلق المعروفة، لكن هذا له تفسير آخر معقول جداً، فالأعراض موجودة، لكن سببها ليس الجن، أو مرضاً عضوياً، سببها هو مرض نفسي؛ لأن مركز الخوف في المخ بجوار المركز العصبي الذاتي، فإذا اشتعل هذا أثر على الجهاز العصبي الذاتي الذي بجواره، فتحدث هذه الأعراض؛ لأن المركزين متقاربان، لكن هذه الأعراض سببها الشخص نفسه، وليست سبباً عضوياً، وهذه الأشياء معروفة؛ فإتقان التشخيص ينعكس على العلاج الصحيح؛ لأن أغلب الناس إذا دخلوا في هذا الخط يدخلون معافين من الجن، وإذا بهم في النهاية يخرجون وقد لبسهم مائة جني بسبب المعالجين وجهلهم وانحرافهم في التشخيص، كما قال الله: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]، فيتمادى الجن، وبالفعل يتسلطون عليهم.

    عودة الأفاضل إلى الطريق المستقيم

    هذه ظاهرة تستحق التسجيل، ولها دلالتها، وهي: أن أغلب من فيهم الخير لا يستمرون في هذا الخط، فبعد وقت معين يبدءون في التراجع؛ لأن فيهم خيراً، وهناك أشخاص كان يشار إليهم بالبنان في علاج هذه الحالات، ثم إذا بالواحد يندم على ما فعل وعلى خوضه في هذا المجال، ويقطع صلته به تماماً، ويشتكي من العناء الشديد، وهناك آثار لهذه الظاهرة على المعالج نفسه، وهي أن الجن يضحكون على بعض الشباب، فقد كان أحدهم يعالج حالة من الحالات يقول له: سوف يحضر فلان يقرأ عليك، فيصرخ الجني قائلاً: لا.. لا.. إلا فلان أنا لا أقدر عليه، سوف يحرقني بالقرآن. يريد الجني أن يفتنه، ويزيد انشغاله بهذه القضية، ويتوهم في نفسه أنه قاهر الجان.. ولا حل ولا قوة إلا بالله.

    بُعد السلف عن الاحتراف بالقرآن

    لما كان هذا المجال غامضاً فإن السلف ما اشتغلوا به بهذه الطريقة، وما فتحوا العيادات التخصصية لعلاج الجن، ولا مراكز علاج بالقرآن، ولا جلس أحدهم في مكان ما ينتظر الناس يتقاطرون ببابه، ويكتب أحدهم إعلانات وكروتاً تعجب من بياناتها.. الوظيفة: معالج بالقرآن الكريم، والكشف: عشرة جنية ويدفع مقدماً، والحجز مقدماً، وكأنها عيادات، من فعل هذا من السلف يا من تنتسبون إلى السلف؟! كان سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه مجاب الدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا له أن يستجيب الله دعوته، وكذلك أويس القرني وما فتح أحد منهم مركزاً لعلاج الناس، ولا تفكر محتجاً بقوله: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، صحيح أن الرقية مشروعة، لكن هذا الغلو هو الذي يجب أن يوقف عند حده؛ لأننا كثيراً ما نبدأ من حيث انتهى الشرع، ونتمادى في الإفراط أو في التفريط، فالسلف كان فيهم من هو مجاب الدعوة، لكن ما فتح أحدهم مركزاً للعلاج، ولا قال: تعالوا إليّ، وأنا أدعو لكم، وأفعل بكم كذا وكذا. إن هذا الموضوع يكتنفه الغموض والضباب، وعدم وضوح الرؤية من بدايته إلى نهايته، الواضح فقط هو ما تقيد بالقرآن والسنة من الرقية الشرعية المنضبطة والملتزمة بضوابط الشرع، كإنسان قابل رجلاً صالحاً فلا بأس أن يطلب منه أن يرقيه، هذه الأشياء هي التي قام عليها الدليل، أما كل ما عدا هذه الأشياء التي يخوضون فيها فلا يسندها دليل، وقد لا نجد دليلاً قاطعاً نستطيع أن نجزم به أن هذه حالة مس جني. نعم. هناك حالات قليلة فعلاً يتضح فيها بجلاء أنه مس، مثلاً: شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا معروف عنه تماماً، ثم إذا به يتكلم لغة إنجليزية في غاية القوة بصوت رجل أو امرأة أو غير ذلك مما يخالف جنسه، فهذه أدلة واضحة حسية نسمعها في الأذن، وكلام حسي يدل على أن هناك جناً بالفعل. لكن هذه حالات قليلة، أما إذا كان الواحد يتكلم بصوت طفلة أو امرأة، فلربما أن المريض نفسه يقلد هذه الأصوات، فقد سمع أخباراً طويلة عن هذا، وحافظ كل الكلام.. اسمك ماذا؟ اسمي كذا، تسلم أم لا؟ تخرج أم لا؟ أنا أحبها ولا أريد أن أفارقها.. وتنتهي الحالة في الآخر إلى ما يشبه الأوهام فقط، وهذه الأشياء تعرفونها. ذكرنا أيضاً بدع المعالجين وأحوالهم، وكيف أنهم توسعوا في موضوع الرقى والنشرة حتى دخلوا منطقة السحر المحرمة، والأخذ بأساليب السحرة كما سنفصل إن شاء الله.

    1.   

    اتخاذ العلاج بالقرآن حرفة ومهنة خلاف هدي السلف

    ظاهرة احتراف العلاج بالقرآن الكريم ظاهرة جديدة، وانتشرت بطريقة ليست من سلوك السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم في شيء، وقد فتحوا باباً عظيماً جداً من أبواب الفتنة، وهو فتنة النساء، وكيف أن الشيطان يستجلب بعض هؤلاء الناس؛ لأن الناس العوام جهلة، ممكن امرأة تأتي بمفردها، ثم يخلو بها، وبحجة العلاج ترتكب أشياء عجيبة جداً سبحان الله! يعني: جرائم توجب الحد، بسبب هذا الإجرام، وهذه الكبائر، بحجة العلاج بالقرآن الكريم، حتى يصل بعضهم إلى يدهن الجسد بدون حائل عن طريق هذا الزيت الذي قرأ عليه، فهل يطمع الشيطان في أكثر من هذا اللعب بعقول الناس، وتوريطهم في هذه الكبائر؟!

    ذكرنا أيضاً أن بعض المرضى كما قلنا مصاب -حقيقة- بالمس، وهذه نادرة وقليلة جداً، وبعضهم يكون نتيجة الوهم الهستيري المسيطر عليه، فيتقن تمثيل الدور الذي قرأ فيه كثيراً، وسمع فيه أشرطة، وتكلم فيه كثيراً، وبعضهم يكذب متعمداً الكذب؛ لمصلحة شخصية، كما في قصة الشاب الذي شك أحد الإخوة الحضور في أنه متلبس بالجن، وكله نفس الكلام، أنت من؟ أنا سلمان بن أبي سليمان، أنت نصراني؟ طيب.. تخرج وتسلم، سوف أسلم أشهد الشهادتين، كل تلك القصة الطويلة العريضة، ثم في الآخر أحد الحضور قال له: أنت كذاب، أنت ما بك مس جن، قال: نعم، الحقيقة ليس بي مس جن، مع أن الكذب راجع على الذي يعالجه، وراج على الحضور جميعاً، لكن هذا الأخ كان عنده بصيرة، فقال له: فعلاً أنا أمثل؛ لأن بيني وبين أبي بعض المشاكل، فأريد أنه يخفف عني الوطأة قليلاً، فادعيت أنني ملبوس.

    كذلك قصة مرأة كانت تشتكي من زوجها البخيل، قعد أحد المعالجين يعالجها بنفس المراحل، وفي النهاية بعدما لم ير أي تحسن في الحالة، قال لها: ما هي حكاية الأمر؛ إذ ليس فيه استجابة من عندك للعلاج، فقالت: أنا في الحقيقة أفعل هذا وأمثل أنني ملبوسة نتيجة أن زوجي رجل بخيل جداً، شديد البخل حتى أنه يقيس الزيت بالمسطرة. #

    5) الطريقة المثلى في التعامل مع غيبيات عالم الجن :-

    علاقة أهل الإيمان بالشياطين علاقة القهر والإذلال كما روي في الحديث -وإن كان فيه ضعف- رواه الإمام أحمد في مسنده: (إن المؤمن ليمضي شيطانه كما يمضي أحدكم بعيره في السفر)، يعني: كما تأخذ بناصية البعير وتقهره وتذله، فكذلك المؤمن هكذا يفعل بشيطانه يقهره ويذله، لا أن يخاف منه، (ليمضي) وبعضهم قال: يمضي يعني: يجعله هزيلاً، المؤمن كثير الذكر لله مما يجعل الشيطان هزيلاً ضعيفاً لا يجد فرصة لأن يتغذى ويسمن. أليس إبليس -الشيطان الأحقر- هو الذي فر يوم بدر صارخاً فقال: (إني بريء منكم إني أرى مالا ترون، إني أخاف الله)، ساعة الجد يخذلهم، فما بالك بجنوده، هم أضعف وأذل وأحقر، فالمخرج والبديل هو أن نحقق قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6] فنقول للناس: اتخذوه عدواً، لا يصلح معه هدنة، ولا الإحسان إليه، ولا المصانعة ولا المداراة، ما يصلح مع إبليس إلا طريق واحد فقط هو: اتخاذه عدواً، ومعنى اتخاذه عدواً ألا نطيعه في معصية الله سبحانه وتعالى، فمن هذا المدخل نقول للناس: التلفاز كله فساد، وإذا أردت أن تطيع الله ينبغي أن تحمي نفسك من فساده، تضييع الصلاة كفر ونفاق وكذا وكذا، لماذا نحن نربط التزامه بالعلاج، بمعنى: أن بعض الناس لم يلق فائدة فيرجع إلى الصور التلفاز، فنحن لا نطيع الله سبحانه وتعالى ونلتزم بالدين على أساس العلاج، فإذا قضيت الحاجة تركنا ذلك لا، المفروض أن تكون دعوة الداعية والمعالج إلى العبودية لله سبحانه وتعالى، وليس إلى تحصيل هذه المصلحة، فنتذكر قوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42]، وقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [الأنعام:17] الكل يبحث على السحرة للعلاج من مس الجن، والفرج لا يأتي إلا من الله سبحانه وتعالى، أين: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وأين قوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17] استعن بالله سبحانه وتعالى بالدعاء وبالذكر وبالاجتهاد في الطاعة يكشف ما بك من شر، وقال تعالى حاكياً عن حبيب النجار : إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ [يس:23]، وقوله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وقوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30] وغير ذلك من النصوص.

    1.   

    الطريقة المثلى للتعامل مع غيبيات عالم الجن

    علاقة أهل الإيمان بالشياطين علاقة القهر والإذلال كما روي في الحديث -وإن كان فيه ضعف- عند الإمام أحمد في مسنده: (إن المؤمن لينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر)، يعني: كما تأخذ بناصية البعير وتقهره وتذله، فكذلك المؤمن يفعل بشيطانه يقهره ويذله، لا أن يخاف منه، وبعضهم قال: ينضي: يجعله هزيلاً. المؤمن كثير الذكر لله مما يجعل الشيطان هزيلاً ضعيفاً لا يجد فرصة لأن يتغذى ويسمن. أليس إبليس -الشيطان الأحقر- هو الذي فر يوم بدر صارخاً فقال: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ [الأنفال:48]، ساعة الجد يخذلهم، فما بالك بجنوده، هم أضعف وأذل وأحقر، فالمخرج والبديل هو أن نحقق قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6] فنقول للناس: اتخذوه عدواً، إذ لا تصلح معه هدنة، ولا الإحسان إليه، ولا المصانعة ولا المداراة، لا يصلح مع إبليس إلا طريق واحد فقط هو: اتخاذه عدواً، ومعنى اتخاذه عدواً: ألا نطيعه في معصية الله سبحانه وتعالى. فمن هذا المدخل نقول للناس: التلفاز كله فساد، وإذا أردت أن تطيع الله ينبغي أن تحمي نفسك من فساده، تضييع الصلاة كفر ونفاق وكذا وكذا، لماذا نحن نربط التزامه بالعلاج؟ بمعنى: أن بعض الناس إذا لم يلق فائدة ربما رجع إلى التلفاز، فنحن لا نطيع الله سبحانه وتعالى ونلتزم بالدين إلا على أساس العلاج، فإذا قضيت الحاجة تركنا ذلك لا، المفروض أن تكون دعوة الداعية والمعالج إلى العبودية لله سبحانه وتعالى، وليس إلى تحصيل هذه المصلحة، فنتذكر قوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42]، وقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [الأنعام:17] الكل يبحث على السحرة للعلاج من مس الجن، والفرج لا يأتي إلا من الله سبحانه وتعالى، أين: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وأين قوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17] استعن بالله سبحانه وتعالى بالدعاء وبالذكر وبالاجتهاد في الطاعة يكشف ما بك من شر، وقال تعالى حاكياً عن حبيب النجار : إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ [يس:23]، وقوله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وقوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30] وغير ذلك من النصوص. أيضاً من التنبيهات المهمة: أنه ينبغي أن نتعامل مع هذه الحالات بصفتنا بشراً، ونتعامل مع الواقع الذي نحن فيه، فإذا أصبت بمرض فاذهب إلى الطبيب المختص، فبسبب تدهور فكرك تسلط عليك الجن، ولهذا كثيراً ما يهرع الناس ابتداء إلى المعنيين بعلاج المس دون أدنى تمييز أو تفرقة بين الساحر والمشعوذ، وبين من يعالجون بالقرآن الكريم، وترك الأسباب المعتادة مثل: الذهاب إلى الأطباء المتخصصين في الأمراض العضوية والنفسية. كذلك نجد انعكاسات سيئة لهذه الظاهرة وردود أفعال مشينة بصورة غير عادية كالإعلان الذي ينشره أصحاب حزب الأحرار عن علاج فشل الخطبة المتكرر، فلو أن واحدة خطبت وفشلت الخطبة، أول شيء تهرع إليه هو التفكير في سحر ما تقليداً للنساء، وهذا كله من أساليب العجائز من النساء الجاهلات، ثم صارت هذه الأساليب معترفاً بها حتى بين الرجال، وصار من المألوف أن المرأة إذا خطبت أكثر من مرة ولم توفق أن يعتقد أن فيها سحراً، وأن خطيبها الأول هو الفاعل، وكلام كثير بهذه الصورة المعروفة، بينما نحن نتعامل مع الواقع ومع الحقيقة ونبحث عن الأسباب، ولعل هذا الخاطب من النوع المتلاعب وغير الجاد، وربما الزواج لم يتم لأنه عاجز عن تقديم مستلزماته، أو أن الفتاة نفسها لا ترغب في الزواج، فالأولى أن يبحث عن السبب الحقيقي الذي أدى إلى ذلك نتجنبه، أما أن ندخل في مجال غامض ومبهم ولا حدود له ونقول: سحر أو ليس بسحر، ونفتح باب شر نحن في غنى عنه؟ لا. ومن باب ما نظن أنه مصلحة نقع في الشرك عن طريق الذهاب للسحرة والمشعوذين، فينبغي على الإنسان أن يتعامل مع الأسباب المعتادة؛ فإن اعتراك مرض تذهب إلى الطبيب. وأصبح من المعتاد جداً أن يسمع الواحد منا جنايات بمبررات غير سائغة، وأذكر أن أحد الإخوة سألني مرة فقال لي: الأخت كانت نفسيتها تعبانة قليلاً، فضربتها على رجلها ليخرج الجني، وكسرت لها أصبعها، ويتكلم وكأنه شيء معتاد، وكأنه لم يعمل جريمة، ويحكي ويسترسل في الحديث كأن الأمر ضيافة لها وكرامة. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)، أنت مسئول عن هذه الجناية، ولولا غياب الشريعة الإسلامية، والتغاضي عن مثل هذه الأخطاء لعوقب هؤلاء العابثين بصحة الناس وبجوارحهم عقوبة شديدة، ولا شك أن الإسلام بريء من كل هذه الفوضى.

    1.   

    بين الطب والعلاج بالقرآن

    خلاصة الكلام يذكره أحد الأخصائيين النفسيين من ذوي الاستقامة، يقول: إن حالات تلبس الجن ثابتة في الكتاب والسنة، ولكنها ليست بهذه الكثرة، والممارس لمهنة الطب النفسي يلاحظ أن معظم الحالات التي تتردد للعلاج لها مسار مرضي محدد، وتسلسل منطقي واضح، واستجابة معقولة للأدوية المتاحة رغم حصولها، فقط يكتفي بالعلاج إذ إن العلامات واضحة كلها تماماً وتبين ما إذا كانت أعراض مرض نفسي أو مرض عضوي، والطب النفسي الآن ليس كما كان من قبل، الطب النفسي الآن عبارة عن (1 + 1 =2)، فيوجد وضوح كامل في قواعد التشخيص وعلاماته بعد التقدم الهائل في هذا المجال، فلا يصح أن نسيء الظن في هذا المجال الذي عظمه الشرع، وحثنا على السعي إلى أهل الخبرة والثقة من الأطباء. ثم يقول: وإذا كانت هناك نسبة من الأمراض النفسية ما زالت أسبابها الحقيقية غامضة، فهذا يدعونا إلى البحث والدراسة والوصول إلى أسبابها، وليس أضر علينا من تفسير كل الأمراض على تلبس الجن أو السحر أو الحسد؛ لأن ذلك يوقف حركة الاجتهاد والبحث البشري، ولو كان الحال هكذا لما اكتشف علاج مرض واحد. ويقول أيضاً: من الصعوبة على أي شخص أن يجزم بأن حالة معينة هي من تلبس الجن، ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عالج كل الحالات على أنها تلبس جن أو سحر أو حسد، ولكنه عالج بكل الوسائل: عالج بعض الحالات بالعسل، وعالج بالكي، وعالج بالحمية، وعالج بالحناء، وعالج بالعصابة للرأس.. إلخ، وأمر صحابته بالذهاب إلى الطبيب مع أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب، ولكنه يعلمنا الأخذ بالأسباب. إذاً: التعميم والتعتيم الذي يمارسه بعض المعالجين الآن ما هو إلا جهل بالدين أو بالطب أو كلاهما معاً. ثالثاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)، وما يفعله الكثيرون من المعالجين البدائيين اليوم لا يخرج عن كونه عرافة أو كهانة؛ لأنهم يجزمون بتلبس الجن، والجن غيب عنا، والجزم بالغيب عرافة، وإذا كان بعضهم على علم فالغالبية على درجة شديدة من الجهل، وإذا كان بعضهم تقياً فالغالبية على غير الجادة، وليس هناك رقابة على ممارساتهم لذلك، فالمريض المسكين حين يذهب إلى أحدهم فهو يرمي نفسه في المجهول. رابعاً: أن الاستعاذة من الجن ومن السحر ومن الحسد أمر يسير علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة المعوذتين، وآية الكرسي، وباقي الآيات في الصباح والمساء، وبتقوية العلاقة بين الإنسان وربه دون الحاجة إلى وسيط، وهذه الأدعية يقرؤها الشخص المريض على نفسه أياً كان نوع مرضه، أو يقرؤها عليه أحد أقاربه أو أصدقائه، ولا يكون هناك شخص بذاته يتولى هذه المهمة ويتخذها وظيفة وإلا أصبحت كهانة صريحة. خامساً: ليس هناك ما يمنع من الجمع، بل إنه من الضروري الجمع بين أخذ الدواء الذي يفرضه الطبيب المتخصص، وبين الدعاء وقراءة القرآن والرقية الشرعية، لا مانع على الإطلاق بجانب الأسباب العادية أن تتعاطى العلاج بالقرآن الكريم وبذكر الله سبحانه وتعالى، وبالرقية الشرعية التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل هذا من أمر الله وقدره وعلينا أن نحارب القدر بالقدر، سواء قدر التداوي بالأدوية، أو التداوي بالقرآن الكريم الذي قال تعالى فيه: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]. أما الأخذ بشيء مع إهمال باقي الأشياء فهو من قبيل النقص، فالإنسان جسد ونفس، ولا يمكن الفصل بينهما، وللجسد ما يفيده وللنفس ما يلائمها. يقول أيضاً الدكتور عبد الستار أبو غدة في بحث له قيم جداً حول هذا الموضوع، نلتقط منه بعض العبارات بسرعة، يقول: الأصل في المرض -أي: مرض كان- أن يبحث عن دوائه في الأسباب الكونية الظاهرة المقدور على فهمها وتفسيرها، ولذا لا يصار للبحث عن علاج آخر إلا عند العين، وسنرى أن الحالات المنقولة في السنة كلها فيها الإشارة إلى أن ما بهؤلاء المرضى قد أعيا الأطباء علاجهم، على أنه لا ينافي هذا أن يحصل الاقتران بين العلاج المادي والروحي الذي لا يتنافى اجتماعه مع الأخذ بالأسباب الظاهرة ، ذلك أن الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى وسؤاله شفاء مريض مصاب بمرض غير معروف، والرقية له لا يقتصر على حالة العجز عن تحقيق الشفاء، وهذا الفصل أيضاً غير مرغوب في الإسلام، أما أن نعتمد فقط على الأدوية، ونهمل جانب الرقية والعلاج بالدعاء وبالذكر، واضح أن الإنسان بدن ونفس وروح، البدن يعالجه الطب، والروح يعالجها القرآن، وليس فيه داعي أبداً للفصل بين هذين الركنين، فالالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، وسؤاله شفاء مريض مصاب بمرض غير معروف لا يقتصر على حالة العجز عن تحقيق شفائه، بل إن ذلك الالتجاء يرافق عملية العلاج للمرض، سواء حصل الأمل بشفائه أو العجز عنه، إنما لا يسوغ الاقتصار على العلاج الروحي ويترك الأخذ بالأسباب الأخرى التي وضعها الله سبحانه وتعالى في صورة قوانين طبيعية، وجاءت الشريعة بالتأكيد على أن الأخذ بها لا ينافي التوكل على الله، بل إن عدم الأخذ بها عجز وتواكل منهي عنهما شرعاً، ومستنكران عقلاً وطبعاً. يقول أيضاً: إن الإقدام على وسائل العلاج الروحي الزائدة على الدعاء والتعوذ والرقية من غلظة وشدة وانتهار وتهديد من المعالج موجهة في الظاهر للمريض يحل ذلك لا يحل إلا بعد أن يثبت أنه لا علاج له في الطب، أي: حتى يستيقن أن سبب هذا المرض غير عضوي، وأن يكون المعالج موقناً أيضاً بسلامة تصرفه، وأن تكون عاقبة ذلك مصادقة لما رآه، وإلا لم يكن بمنجاة من القصاص والتعزير، ثم ذكر أموراً من المعوذات المعروفة، والاستعاذة من نزغات الشياطين، وقراءة المعوذتين، وقراءة آية الكرسي، وسورة البقرة، والآيتين من سورة البقرة.. إلى غير ذلك من الأذكار المعروفة في هذا المجال. ثم وجهت إلى الدكتور : عبد الستار أبو غدة في نهاية هذا البحث بعض الأسئلة -لأنه كان يحاضر بعض الأطباء- فسئل من أحدهم: نحن نعتقد بالجن باعتبارنا مسلمين -والتعبير هذا أدق فقول: (باعتبارنا أو بصفتنا) أولى، ولا داعي إلى كلمة (كمسلمين) التي تقتضي التشبيه- إلا أنه ما الدليل المستخرج من الشريعة على أن الجن قد يسببون الأمراض، وخاصة الأمراض العقلية النفسية؟ وما هو الدليل على أن الشفاء يتم باستخراج أو طرد الجن؟ الجواب: وردت بعض الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الجن قد يتسلطون على ضعاف الناس، ويسببون لهم أحوالاً مرضية لا يجدي فيها العلاج الطبي، وورد أن بعض هذه الحالات عولجت بتقوية نفس المصاب، وذلك بالتعوذ بالأدعية، وزجر الجني المتسلط عليه، ولا يقوى على ذلك إلا من كان قوي الإيمان والعزيمة، حتى يكون سلطانه على الأنفس الشريرة أقوى من سلطانها، فإذا تخلص المصاب مما كان يعانيه، دل ذلك على جدوى العلاج، هذا وإن درجة هذه الأحاديث تصلح للأخذ بها عملاً، ولم تصل إلى درجة أن يبنى عليها اعتقاد، يبدو أنه يقصد عدم التواتر وهذه قضية أخرى. السؤال: كيف نتعرف على أن الجني مسيطر على شخص ما؟ الجواب: إذا أصيب الإنسان بمرض، أو خلل في جسمه أو عقله، فإن السبيل الذي دعت إليه الشريعة هو الرجوع إلى المختصين من الأطباء، فإذا لم يُجدِ العلاج الطبي فإن من المحتمل أن يكون سبب الإصابة أو المرض غير عضوي، فيضم إليه العلاج الروحي مثل: الأدعية والأذكار وتقوية نفس المصاب، والتغلب على تسلط النفس الشريرة المؤثرة عليه. السؤال: ما حكم تعلم كيفية التخلص من الجن؟ الجواب: ليس هناك أمور خاصة تحتاج إلى تعلم أو تعليم، بل كل ما يحتاج إليه العلاج هو الدعاء بالأدعية المأثورة، وترداد الأذكار الواردة، مضافاً إلى ذلك صلاح المعالج وتقواه وقوة نفسه. يقول أيضاً: إن الجوانب الروحية والدينية في علاج الأمراض عامة والنفسية منها بخاصة هي العنصر الدائم في العلاج مهما تبدلت الوسائل الأخرى الخاضعة لمعطيات التجارب والكشوف. أيضاً في كلامه عن العلاجات الروحية الغيبية يقول: ومن الواضح أن العمل بالشيء أو تركه للآخر غير التصديق والجحود، ويقول: حين نقرر العلاج الروحي وتوقع بعض الصور الغيبية لا نلتزم ولا نقبل من صوره إلا ما ثبتت شرعيته بالنصوص الصحيحة، بعيداً عن الخرافات والأوهام، وذلك منهج واضح؛ لأن الإسلام قد وضع الأسس الكفيلة لإبعاد صور الدجل والاستغلال التي يخترعها كثيرون ممن يستغلون حال ضعف المريض واستسلامه لكل من يلوح له بالعلاج، وإن تسليط الأضواء على المنهج الصحيح كفيل بإزهاق الباطل حتى يذهب الزبد جفاء، وبإحقاق الحق حتى يبقى، وهو ما كان قائماً على أدعية وتعويذات مشروعة وهادفة، ولابد أن يؤدي إلى تراكم الشوائب التي علقت بهذا العلاج بسبب الغموض الذي يستغله بعض المشعوذين. إن ما جاء في الطب النبوي من علاجات روحية في المرض والوجع واللدغة والإصابة بالعين مما صح في الأحاديث كله قائم على دعاء الله مباشرة دون وسيط، بأن يلزم الإنسان سواء السبيل للوصول إلى العلاج الناجح، (فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله سبحانه وتعالى)، وهذا الدعاء يصدر من المريض أو ممن يتوسم فيه استجابة دعائه بعيداً عن حمل التمائم والحجب. ثم يقول أيضاًً: وهناك شعار يمكن رفعه في الدعوة إلى رحابة الصدر بهذا العلاج، وهو مستمد من قول النبي صلى الله عليه وسلم تعقيباً على استعراضه بعض الرقى المتداولة، وإقرار ما كان منها خالياً من الشوائب المخلة بالعقيدة أو السلوك الإسلامي، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، وإن تسليط الأضواء على هذا النوع من العلاج إباحة للنفع، كما أن من ينكر عن جهل مضمونه ومستنداته يوصد باباً للنفع، ويصد عن سبيله. وهنا يرد على الأطباء الذين ينكرون العلاج بالقرآن والذكر وبالعلاج الروحي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، ما دام فيه انضباط بالضوابط الشرعية المعروفة، وسد هذا الباب وإغلاقه على الناس يعد م

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755814040