إسلام ويب

تفسير سورة البلدللشيخ : سيد حسين العفاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أقسم الله تعالى بالبلد الحرام؛ مكة المكرمة على أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يكابد أتعابها منذ خلق وإلى أن يموت. والله سبحانه وتعالى خلق للإنسان أدوات العلم والمعرفة، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، وبين له طريق الحق وطريق الباطل، وبين له أن من الأعمال التي تنجي صاحبها من النار إعتاق الرقاب، وإطعام الناس في شدة المجاعة والمخمصة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد...)

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

    ثم أما بعد:

    فكلام الملوك ملوك الكلام، وخير الكلام كلام الله تبارك وتعالى القرآن الكريم؛ مزامير الأنس، من حضرة القدس بألحان التوحيد، من رياض التمجيد، هذا طعم الخبر فكيف طعم النظر!

    اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].

    والأنس بالله هو الأنس بالقرآن الكريم، ومعنا اليوم سورة مكية وهي سورة البلد.

    يقول الله تبارك وتعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:1-4].

    والربط بين أواخر سورة الفجر وبين أوائل سورة البلد؛ أن الله تبارك وتعالى لما ذكر النفس المطمئنة في آخر سورة الفجر، وقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

    لما ذكر الله تبارك وتعالى المكان الطيب في الآخرة وهو الجنة، وذكر النفس المطمئنة، عقب الله تبارك وتعالى بالربط بين المكان الطيب في الآخرة وأطيب مكان في الدنيا وهي مكة، فأقسم الله تبارك وتعالى بها، ثم أقسم بأنفَس وأطهر نفس في تاريخ البشرية وخير من وطأ على الحصا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ .

    يقول الله تبارك وتعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1]، فهل معنى هذا أن الله لا يقسم بهذا البلد ولا يقسم بيوم القيامة؟ لا، بدليل أن الله تبارك وتعالى أقسم بمكة في سورة التين فقال: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]، فكيف يقسم في سورة ولا يقسم في سورة أخرى؟

    ولذلك قال علماء التفسير: إن (لا) هنا زائدة تفيد التوكيد، وقد أتت شواهد في اللغة العربية وفي القرآن على أن (لا) النافية تأتي بهذا، يقول الله تبارك وتعالى عن إبليس في سورة الأعراف: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف:12]، وفي نفس السورة يقول: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص:75] إذاً: لا هنا زائدة.

    أيضاً يقول الله تبارك وتعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الحديد:29] لئلا أصلها: لأن لا، فأدغمت النون في اللام فصارت لئلا، والمقصود: لكي يعلم أهل الكتاب، فلا هنا زائدة للتوكيد، كما يقول الشاعر:

    تذكرت ليلى فاعترتني صبابة فكاد صميم القلب لا يتقطع

    يعني: فكاد صميم القلب يتقطع.

    أسماء مكة

    قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]: أقسم الله تبارك وتعالى بالبلد الحرام مكة، ومن أسماء مكة: البلد الحرام، والبلد الأمين، وأم القرى، يعني: أصل القرى، فكل القرى لها تبع وهي الأصل، وتسمى بكة بالباء؛ لأنها تدك أعناق الجبابرة، وتسمى بثاق أيضاً:

    له دفع الحديد إلى بثاق.

    وتسمى معاداً قال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85]، وتسمى كوثى، والبلدة، والبنية.

    لو لم تكن خير البلاد على الثرى ما كان بيت الله فوق ترابها

    هي قلب هذي الأرض مقلة وجهها والصالحات عرفن من أهدابها

    فاكحل جفونك يا شريد بمائها أو شح ماء فاكتحل بترابها

    يعني: لو أن الرجل يكتحل بالتراب فتراب مكة أولى.

    ويقول الشاعر أحمد شوقي :

    على كل أفق بالحجاز ملائك تزف تحايا الله والبركات

    لدى الباب جبريل الأمين براحه رسائل رحمانية النفحات

    وزمزم تجري بين عينيك أعيناً من الكوثر المعسول منفجرات

    ويقول الشاعر أيضاً:

    هنا النبوة تحيا في أماكنها والطيب يبلى ونوء الدهر تندرس

    هنا الصحابة من حول النبي رنا أبو هريرة يوم الحل والأنس

    هنا السماوات تبدو قرب طالبها هنا رحاب فضاء حين يلتمس

    يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحظة الهجرة على مكة فيقول: (والله إنك لأطيب بلاد الله وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت، أو ما سكنت غيرك)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس)، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاها).

    وقد يقول قائل: إن الله تبارك وتعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ومع هذا قد يحدث قتل في مكة، فما معنى هذا التحريم؟

    والجواب: أن التحريم ينقسم إلى قسمين: تحريم شرعي، وتحريم كوني، فالتحريم الكوني كقول الله تبارك وتعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12]، وقوله: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [الأنبياء:95].

    والتحريم الشرعي: أن ينهى الله تبارك وتعالى عن شيء، ثم يفعله بعض عباده، مثلما يقول الله تبارك وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، فهذا قضاء شرعي، وإلا لو كان قضاء كونياً لعبد الناس كلهم الله عز وجل، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23] أي: قضى الله بالوالدين إحساناً، ولكن مع ذلك تجد أناساً يعقون آباءهم.

    فهناك تحريم كوني وتحريم شرعي، وقضاء كوني وقضاء شرعي، وإذن كوني وإذن شرعي، وإرسال كوني وإرسال شرعي، وإرادة كونية وإرادة شرعية.

    واسم الإشارة في قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد يأتي للتعظيم وللتنويه بشرف مكة.

    وقوله تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:2]، ولم يقل: لا أقسم بهذا البلد وأنت حل به، وإنما قال: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ، فكرر ذكر (بهذا البلد) مرة ثانية ولم يأت بها مضمرة، ليدل ذلك على فضل مكة.

    تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)

    اختلف علماء التفسير في معنى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:2] على ثلاثة أقوال:

    القول الأول: حلال لك ما تفعله في هذا البلد لحظة دخولك إياها، فاقتل من شئت، واعف عمن شئت، وعندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كان يقول: (من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بيته فهو آمن)، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل عشرة من مجرمي الحرب الذين ناصبوا الدعوة العداء وإن تعلقوا بأستار الكعبة، ومنهم: عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعكرمة بن أبي جهل وآخرون، ثم بعد ذلك عفا رسول الله عن سبعة، وقتل الصحابة الثلاثة، ومنهم رجل وجدوه قد تعلق بأستار الكعبة فقتلوه وهو متعلق بأستار الكعبة؛ تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لم يحل مكة لأحد من قبلي، ولا تحل لأحد من بعدي، وما أحلت لي إلا ساعة من نهار، ثم عادت حراماً بحرمة الله إلى يوم القيامة).

    وهذه خاصية أعطاها الله عز وجل للمصطفى صلى الله عليه وسلم ساعة دخول مكة فقط، وهذه من الخصائص المؤقتة لرسول الله.

    وهذه السورة مكية، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطهد معذب بمكة، فحينها يقول الله تبارك وتعالى له: ستفتح هذه البلدة التي ناصبتك العداء، وبأمر الله افعل فيها ما شئت، ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في يوم من الأيام ستفتح له مكة، وتنزل عليه هذه السورة برداً وسلاماً على قلبه.

    القول الثاني: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ أي: وكل شيء فيك حلال لأهل مكة، فهم لا يصطادون في مكة ولا يقتلون الدواب، ولا يقلعون الشجر ولا الحشيش الرطب في مكة، ويحرمون الصيد فيها، ومع ذلك يجتمعون ويتفقون على قتلك؟! كيف يصح هذا في الأذهان؟! لا يقتلون القاتل إذا دخل في رحاب مكة ثم يتفقون على قتلك أنت؟!

    وَأَنْتَ حِلٌّ أي: وأنت مهدر الدم حلال أن يقتلوك، فأي مقياس هذا وأي منطق؟ إنهم يعفون عن المجرم القاتل وألا يقتلوا صيداً وألا يقطعوا شجراً، ثم يستحلون منك ما لا يستحلون من القاتل؟!

    فهل يعقل أن يقتلوك؟ أو أن يشردوك أو يخرجوك من بلدتك؟

    ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء

    وسلوه وحن جذع إليه وقلوه ورده الغرباء

    ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء

    والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل البعثة)، فكان كلما مرّ على هذا الحجر قال له: السلام عليك يا رسول الله! فالحجارة تعرف الصالحين، وتسلم على الأنبياء والمرسلين، وتقسو القلوب فتطرد أنبياء الله تبارك وتعالى! قال تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل:56] وذنبهم إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56].

    وقال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].

    فإذا عرف الشباب طريق المساجد فهذا تطرف وإذا بعدوا عن المساجد وشربوا السجائر فهذا عين الصواب!

    القول الثالث: وَأَنْتَ حِلٌّ بهذا البلد أي: وأنت مقيم بهذا البلد، يقسم الله تبارك وتعالى بإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة شرف لها، فهي حرام وأمان، وإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أمان، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]، فهو مصدر الأمان لهم ومع هذا يهددون أمنك، ويودون قتلك!

    إذاً: يقسم الله تبارك وتعالى بإقامة رسول الله في مكة، فقد زادها شرفاً فوق شرفها.

    فالمولى تبارك وتعالى يقسم بإقامة الرسول في مكة، ويعلم أنه مضطهد ومعذب ومشرد بين قومه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى القبائل، فيمشي وراءه أبو لهب فيقول: لا تتبعوا هذا الصابئ، وكان يرشق بالحجارة إذا عرض نفسه على قومه، فكان يقول: (من يجيرني حتى أبلغ رسالات ربي أضمن له الجنة).

    فكان أبو جهل وأبو لهب والسفهاء وراءه، يعرض نفسه على القبائل وهو سيد الناس وقد لاقى ما لاقى حتى إنهم كانوا يضعون عليه سلا الجزور وهو ساجد -بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم، فعز على سيدنا أبي بكر ما يفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يدفعهم عنه، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ قالوا: من هذا؟ قالوا: أبو بكر المجنون، فالذي يدافع عنه مجنون، فتركوا رسول الله ثم أقبلوا على أبي بكر ، فجعل عقبة بن ربيعة يضربه بنعلين مخصوفتين، وأبو بكر سماه الله تبارك وتعالى في السماء صديقاً، قال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33]، وهو ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40]، فكان هذا المجرم يضربه بنعلين مخصوفتين حتى انحرف وجهه، ونزا على بطنه برجله، حتى أتت بنو تيم فأنقذته وهم لا يشكون في موته، وغشي عليه، وأول كلمة نطق بها بعد أن أفاق: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    وآخر شيء أنت في كل هجعة وأول شيء أنت عند قبولي

    فجعل قومه يلوكونه بألسنتهم، ثم قال: والله لا أذوق طعاماً حتى أنظر ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    تقول السيدة أسماء : فجعل أبو بكر لا يمس شيئاً من جدائل شعره إلا سقطت مع لحم الرأس، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، واعتمد على أخت عمر بن الخطاب حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الصديق رق له وبكى، فما ظنك بفعلهم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    وهذا شرف للدعاة أن المولى تبارك وتعالى يقسم بتعب رسول الله واضطهاده وكدحه في سبيل دينه في هذا البلد.

    تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد)

    وقوله تعالى: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [البلد:3] (ووالد) فيه ثلاثة أقوال:

    القول الأول: هو آدم أبو البشرية، كما أقسم الله بأم القرى مكة -أي: أصل القرى- يقسم بأصل البشرية آدم.

    القول الثاني: إبراهيم عليه السلام.

    القول الثالث: وهو قول سعيد بن جبير : هو الرجل الذي يولد له.

    قوله: (وما ولد) أيضاً فيها ثلاثة أقوال:

    القول الأول: الرجل العقيم الذي لا ينجب.

    القول الثاني: أن (ما) هنا مصدرية، أي: ووالد وولادته، فيقسم الله تبارك وتعالى بعملية خلق الإنسان، بإخراج الولد من صلب الذكر ورحم الأنثى، وبعملية خروج الجنين كما تخرج البذرة في الأرض السوداء، ثم تنفلق ويخرج منها نبات طيب أخضر، ثم بعد ذلك تخرج الثمار والزهور، فعملية خلق الإنسان أشد تعقيداً.

    والله تبارك وتعالى يوكل ملكاً بتصوير خلق الإنسان، فيجعل له العنينين والأذنين بأمر الله تبارك وتعالى، ويحدد له الرزق.. والعمر.. والشقاء أو السعادة، وكل هذا يتم وهو لا يعلم شيئاً.

    والله تعالى أنعم علينا بنعمة الإسلام إذ أخرجنا من بطون أمهاتنا مسلمين، فإن رجاء الجارودي ظل يبحث عن الإسلام في مدن فرنسا ستين سنة من عمره، ولو كانت العملية هكذا كان رجاء الجارودي من أوائل الناس الذين أسلموا، ولكن هذه نعمة من الله تبارك وتعالى علينا بها ما عقدنا عليها من خيل ولا ركاب، وإنما ساق إليك هذه النعمة وجعلك من أهل قبضة اليمين.

    ولو سجدنا لله على إبر محمي من الآن إلى يوم لقياه ما كافأناه بهذه النعمة.

    القول الثالث: أن (ما) هنا موصولة، والمعنى: ووالد والذي ولد، أو: ووالد ومن ولد، مثل قوله تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى [الليل:3] يعني: والذي خلق الذكر والأنثى، وقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ [النساء:3] أي: من طاب لكم من النساء، وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [آل عمران:36] يعني: والله أعلم بمن وضعت، ولكنها وإن كانت تستخدم لغير العاقل فإنها تستخدم هنا للعاقل، وحين تستخدم للعاقل تدل على صفة، أي: ووالد والعظيم الذي ولده، مثل قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5] أي: والسماء والخالق العظيم الذي بناها، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7] ونفس والخالق العظيم الذي سواها.

    والرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق له أولاد ذكور، فالله يقسم بآدم ويقسم بأفضل أبنائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقسم بإبراهيم ويقسم بأفضل أبنائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68].

    وهذا الكلام فيه تعريض لأهل مكة المشركين حين يقسم الله به وهم يريدون قتله، فيقسم به مرتين: بإقامته، ويقسم به في المرة الثانية: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ .

    وقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، الكبد: المشقة والتعب، ومنه يسمى الكبد كبداً لأنه يحوي دماً متخثراً ومتجمداً

    .

    فالمسلم في مشقة، ولا راحة له إلا بعد أن يجتاز جسر جهنم ويدخل الجنة، فلا مستراح للعابد إلا تحت شجرة طوبى في الجنة.

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6].

    فالإنسان يعيش في كبد من أول ما تقطع سرته، فلو أن رجلاً كبيراً جرح جرحاً بسيطاً فإنه يعاني معاناة شديدة، ولا يسكن الألم إلا بفلين أو بيلوفين أو مسكن كذا وكذا، فما ظنك بالطفل الصغير يفصل شيئاً من جسده وهو السرة؟!

    ثم بعد ذلك يلبس هذه الملابس واللفافات التي توضع على الطفل الصغير، ولو أن شخصاً لبس ثوباً ضيقاً فقد لا يتحمل، فما ظنك بالطفل الرضيع وهو يشد ويربط بتلك الملابس!!

    ثم يعالج بعد ذلك الرضاع الذي لو فاته لجاع، ثم يعالج بعد ذلك الفطام الذي هو أشد من الوسام، ثم يعالج بعد ذلك نبت أسنانه، ثم يعالج بعد ذلك الوقوف بخطى ثابتة، والمشي بخطى ثابتة، وهكذا، ثم بعد ذلك يعالج بناء الدور وتشييد القصور، ثم بعد ذلك يعالج مشاكل الزواج وأتعابه، ثم بعد ذلك يعالج أمر الزوجات والأولاد، بعد ذلك يعاني من المواصلات وهمّ المواصلات، ثم بعد ذلك يعاني من المرض والأوجاع، ثم بعد ذلك يعاني سكرات الموت، ثم بعد ذلك يعاني من رؤية ملك الموت، ورؤية الملكين وعذاب القبر، ثم بعد ذلك يعالج ويكابد الوقوف أمام الله تبارك وتعالى في ساحة العرض على الله تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك الجنة أو النار.

    فهذا يكدح بعضلاته، وذاك يكدح بروحه، وهذا يكدح من أجل بناء القصور، وهذا يكدح من أجل الكساء، وكل يكدح، وكل يحمل همه على ظهره ويمضي، ولكن هناك فرق بين من يكدح في سبيل نزوة وشهوة ومن يكدح لعقيدة ودعوة، وهناك فرق بين الرجل الذي يعيش لشهواته والرجل الذي يعيش لدينه، إن من يعيش لنفسه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، وأما الذي يعيش إرضاء لربه فما له وللمال وللدعة؟! وما له وللفراش الوثير؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتهى عهد النوم يا خديجة)، قم للأمر الكبير الذي ينتظرك، قم لأمر الدعوة لله تبارك وتعالى.

    لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني

    لإسلامي ولو حتى إلى النيران دسوني

    لإسلامي لإسلامي ولو في السلك باعوني

    وثارات لإسلامي تعايشني تغذيني

    تبث النور في روحي وتنبض في شراييني

    وإسلامي له عرقي له نبضي وسكوني

    أنا ماذا أقول أنا بلا ربي بلا ديني

    أنا ماذا أقول أنا أجيبوني.. أجيبوني

    هناك من يعاني كدح الدنيا ثم ينتهي به الأمر إلى كدح الآخرة وإلى النار، وهناك من يعاني كدح الدنيا من أجل دينه وينتهي به إلى ظل الله تبارك وتعالى، وإلى جوار الله تبارك وتعالى حيث الأمن، وحيث لا خوف ولا حزن.

    والذي يكدح في الدنيا فيتعب، ويكدح في الآخرة بمعالجة السلاسل والأغلال والنيران وسرابيل القطران، هذا جمع هماً إلى هم، فمثله كمن يغوص في الأوحال والطين مع أكل الديدان والحشرات.

    إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حياتك عن صبحها

    فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها

    ومن تعب في سبيل الدعوة فإنه يحس بأنس وراحة، وطمأنينة بال، ورضا عن نفسه قال أحدهم: والله! إنها لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً. ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب. يعني: لو أن حياة أهل الجنة مثل هذه الحياة فإن أهل الجنة في سعادة.

    ويقول القائل: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف.

    ويقول أحدهم: العيش الهني العيش مع الله تبارك وتعالى؛ أن يرضى الله تبارك وتعالى عنك.

    ومن اشتاق إلى الله اشتاقت إليه جميع الأشياء، ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد)

    قال الله تعالى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد:5].

    قد يطغى إنسان بقوته وينسى كم أهلك الله من قبله من القرون، قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد:13].

    قال أبو جعفر المنصور لأحد العلماء: لم خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به أعناق الجبابرة فعندما تأتي إليه الذبابة لا يستطيع أن يحضر لها جيشاً مسلحاً من أجل طردها وإبعادها.

    ولهذا لما قال النمرود بن كنعان : قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] أي: أقتل هذا وأعفو عن هذا، ابتلاه الله تبارك وتعالى ببعوضة دخلت في أحد منخريه إلى دماغه، فجعلت تطن، فكان صوت الطنين في دماغه كأنه صوت آلات مصانع حربية، فجعلوا يضربونه بالنعال على أم رأسه، فأذل الله هذا الرجل الذي قال: أنا أحيي وأميت.

    فالله يبتلي الإنسان بقوته، قال تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف:59]، والله تبارك وتعالى يقول: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45]، والله تبارك وتعالى يقول: وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الرعد:6]، والله تبارك وتعالى يقول: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت:40]، فليتق الله امرؤ في نفسه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً)

    القراءات في قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً)

    قال الله تعالى: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا [البلد:6] وفي قراءة: (يقول أهلكت مالاً لبَّداً) وهذه قراءة متواترة صحيحة.

    ومعنى قوله تعالى: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا يعني: مالاً كثيراً، فالشعر الملبد هو الشعر المتراكم بعضه على بعض.

    إذاً: لبداً مفردها: لبد، لكن لبَّداً مفردها: لابد، كما تقول: قام قائم، ركع راكع، سجد ساجد، شهد شاهد.

    ويقال: إن رجلاً أسلم ثم قال: والله منذ أن أسلمت أنفقت مالاً كثيراً في الكفارات، فربما تنتهي أموالي بسبب محمد!

    فالله تعالى ذم كلامه القبيح، فهذا المدح الكاذب نعرة من نعرات الجاهلية، وذلك مثل رجل يريد أن يفرح بولده، فينفق مائة ألف جنيه على راقصة ومغنية وطبل ومزمار، وكأنه يقول: أريد أن أشتري المعاصي بنقودي، فأصل التمادح الكاذب هذا موجود في الجاهلية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لم يره أحد)

    قال الله تعالى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [البلد:7].

    إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب

    ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب

    إذا ما مضى القوم الذي أنت فيهمُ وخلِّفت في قوم فأنت غريب

    فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب

    قيل للإمام أحمد بن حنبل : ما تقول في الشعر؟ قال: مثل ماذا؟ قالوا: مثل قول القائل:

    إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني

    وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني

    فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني

    فقام الإمام أحمد وأخذ نعله وسمع نحيبه من خلف الباب وهو يبكي ويقول:

    إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني

    وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني

    فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني

    ورجل راود امرأة على الزنا وقال لها: لا يرانا إلا الكواكب، فقالت له: فأين مكوكبها؟ أين الله!

    والراعي عندما قال له ابن عمر رضي الله عنه: أعطني شاة وقل لسيدك: سرقت الشاة مني، قال له: فأين الله؟

    فهذه هي الرقابة لله تعالى.

    ولو أن إنساناً خلا بمحارم الله فانتهكها فقد جعل الله أهون الناظرين إليه، فلذلك جاء في الأثر: استح من الله كما تستحي من الرجل الكبير من قومك.

    فكما لا تستطيع أن تفعل العيب أمام رجل كبير في مدينتك حياء منه، فكذلك استح من الله، والذي يستحي من الله يقربه الله تبارك وتعالى، والذي يرتكب المعصية أقل أمره أنه قليل الحياء؛ لأن فعله حين يرتكب المعصية دائر بين أمرين: فإن قال: إني أرتكب المعصية والله غير ناظر إلي وغير مطلع علي، وأرتكب هذا الفعل بمغيب عن علم الله فهذا كفر وخروج من الإسلام بالكلية، فهو كافر.

    وإن قال: إني أفعل هذا وأعلم أن الله ناظر إلي، فهذا يدل على قلة الحياء.

    فلا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها، فإذا حرك الريح باب دارك وأنت في منظر معيب، فإنك تخشى من نظر الناس، أفلا تخشى بعد ذلك نظر الله إليك وأنت مقيم على المعاصي؟!

    يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إن لم تستح فاصنع ما شئت).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين... )

    يقول الله تبارك وتعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10].

    سبحان من أنطق بلحم، وأسمع بشحم، ولا يقدر على ذلك إلا الله تبارك وتعالى.

    فقوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ فهذه النعمة لا تستطيع أن تكافئها بسجود دائم إلى يوم القيامة، ولا تدرك عظمتها إلا إذا سلبها الله تبارك وتعالى عنك.

    قال الجنيد لابن أخته وهو طفل ابن سبع سنوات: ما أقل الشكر يا غلام؟ قال: ألَّا تعص الله بنعمه.

    فالله تبارك وتعالى أعطاك نعمة العينين، فإذا أردت أن تعصيه ولا تغض البصر، فاعمل لك بصراً عند أحد النجارين واعص به ما شئت، ولكن لا تعص الله بنعمه، فإن هذا يدل على قلة الحياء، وهو أن تستخدم هذه النعمة في الشيء المقابل.

    وقوله تعالى: وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد:9]، فالعرب قبل نزول القرآن الكريم كانت تسمي الكلمة بنت شفه، يعني: أنها تخرج من بين الشفتين، ولكن الأسلوب القرآني: وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ أي: إياك من اللسان، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عليك بطول الصمت، وحسن الخلق، فوالذي نفسي بيده ما تجملت الخلائق بمثلهما).

    وابن دقيق العيد يقول: والله منذ أربعين سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى.

    فالعينان واللسان والشفتان تشهد على الإنسان يوم القيامة، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، ويقول الله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].

    وقوله تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] النجد: هو المكان المرتفع، ومنه سميت نجد نجداً؛ لأنها مرتفعة على تهامة، فسمى الله تبارك وتعالى طريق الحق بأنه نجد وعر، وسمى طريق الشر أيضاً بأنه وعر، يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3] أي: بينا له طريق الخير، وبينا له طريق الشر.

    إذاً: فمعنى هديناه النجدين: وضحنا له طريق الحق وطريق الضلالة، وطريق الحق وعر باعتبار البداية، ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره).

    وطريق الشر وعر باعتبار النهاية؛ لأنه يؤدي بك إلى النار، والإنسان في البداية يريد السرقة من أجل حصول المال ويريد الزنا وغير ذلك، فطريق الشر حلو باعتبار البداية، ولكنه وعر باعتبار النهاية، فتفنى اللذات ويبقى أثرها؟ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وحفت النار بالشهوات).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة)

    قال تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد:11].

    يعني: فهلا اقتحم العقبة، والاقتحام أن ترمي نفسك في الشيء بدون تفكير وبدون روية، والعرب تقول: قحم الفرس فارسه إذا ألقاه من عليه على وجهه، وتقول: أصابت القوم القحمة، يعني: الشدة والجوع.

    فمعناه: فهلا اقتحم العقبة، أي: فهلا سارع في فكاك نفسه.

    قوله: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ هناك محذوف، والتقدير: فلا اقتحم العقبة ولا آمن، والعقبة قالوا: إنها الصراط المار على جهنم، وقالوا أيضاً: إنها نار دون الجسر، وقالوا: إنها دركات النار -منازل أهل النار-، وقالوا: العقبة مجاهدة النفس حتى تزكو بأمر الله تبارك وتعالى.

    والإمام البخاري قال: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ يعني: فلن يقتحم العقبة، وهكذا فسرها مجاهد .

    1.   

    تفسير قوله: (وما أدراك ما العقبة)

    قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ [البلد:12].

    يقول سفيان بن عيينة : كل ما قاله الله تبارك وتعالى لنبيه: (وما أدراك) فقد أعلمه به، وكل ما قاله الله لنبيه: (وما يدريك) فلم يعلمه به، قال تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب:63]، فالله لم يعلمه بها، وأما العقبة فقد أعلمه بها مباشرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فك رقبة)

    قال تعالى: فَكُّ رَقَبَةٍ [البلد:13]، والفرق بين فك الرقبة وإعتاق الرقبة: أن فك الرقبة هو أن تشترك بمال مع غيرك لأجل أن تعتق عبداً، فتشتريه لأجل أن تعتقه ثم تعتقه لوجه الله تبارك وتعالى.

    أما عتق الرقبة: فهو أن تشتريه بمالك الخالص ولا يشاركك فيه أحد غيرك.

    و فَكُّ رَقَبَةٍ أن تصنع كما صنع أبو بكر الصديق، فقد كان يشتري العبيد ويعتقهم لوجه الله تبارك وتعالى.

    وأعظم ما ينجيك من النار عتق الرقاب، والمستشرقين قالوا: إن الإسلام يدعو إلى الرق، وهم في ذلك كذبة فجرة؛ لأن الإسلام ضيق من الرق ووسع في سبيل الحرية، بدليل أنه جعل كفارة الظهار وكفارة اليمين عتق الرقاب.

    وأيضاً: لو أن رجلاً عنده عبد، فقال له هزلاً: أعتقتك لوجه الله، فهذا الكلام ينزل بمنزلة الجد، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتق).

    وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لطم مملوكه -أو ضربه- بغير حق فكفارته -يعني: فكفارة هذا الذنب- عتق هذا المملوك).

    والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعتق رقبة مسلمة كانت فداءه من النار؛ عظمه بعظمه حتى فرجه بفرجه).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة)

    وقال تعالى: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد:14].

    قوله تعالى: في يومٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يعني: في يوم شديد الجوع، تقول: فلان ساغب، أي: جائع.

    وهذا بيت القصيد وهو إطعام الناس لأجل الله تعالى في يوم الفقر، وفي يوم شديد الجوع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الصدقات أن تدخل سروراً على مسلم، أو تفك عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة)

    قال الله تعالى: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [البلد:15] أي: يتيماً من أهلك، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:16] والمسكين هو الفقير.

    ذَا مَتْرَبَةٍ يعني: كأنه لصق بالتراب، فلا يوجد لديه شيء.

    فقوله تعالى: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [البلد:15] يدل على أن أول شيء هو صلة الأرحام، ثم صلة اليتامى الأقربين، ثم بعد ذلك صلة يتامى المسلمين.

    ومراد الله من عباده لين قلوبهم ورقتها، فإذا رق القلب أتى منه كل خير، وإذا قسا القلب أتى منه كل شر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدخل أقواماً الجنة أفئدتهم مثل أفئدة الطير).

    قال الإمام النووي : في رقتها وفي لينها وفي توكلها على الله تبارك وتعالى.

    ومن الأسباب لرقة القلب ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك وتدرك حاجتك -أي حاجة- فامسح رأس اليتيم، واطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك).

    وعندما يكون الإنسان صالحاً يتكفل الله بأولاده، قال تعالى: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، وقد يمر على أولادك ما يمر على يتامى المسلمين فاتق الله تبارك وتعالى، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم)، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (قد غفر الله لبغي -وفي رواية: لمومسة أي: زانية- من بني إسرائيل وجدت كلباً يكاد أن يأكل التراب من شدة العطش، فنزعت موقها -أي: خفها- ثم حملت به الماء حتى سقته، فغفر الله لها).

    والله تبارك وتعالى غفر لامرأة زانية؛ لأنها لما وجدت رضيعيها يبكيان أسندتهما إلى صدرها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله غفر لهذه برحمتها بولديها، وإن الله لا يقدس أمة لا ترحم ضعيفها).

    والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، ومن الذي لا يريد أن يكون قريباً من المصطفى صلى الله عليه وسلم؟!

    وسيدنا أنس كان يبكي ويقول: (يا رسول الله! إن كنت معنا فرحنا بك، وإن غبت عنا اشتقنا إليك، فتذكرت مقامك في الجنة مع النبيين فآلمني هذا الأمر وشق علي فبكيت، فلما نزل قول الله تبارك وتعالى: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] يقول سيدنا أنس: فوالله ما فرحنا بآية مثل فرحنا بهذه الآية).

    وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)، فإذا أردت أن تجاهد في سبيل الله فأد حق اليتامى والمساكين والأرامل.

    والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (كافل اليتيم له أو لغيره معي كهاتين في الجنة).

    فيتامى المسلمين كثيرون، ومن أكل طعاماً أو فاكهة وأطفال جاره يتضاغون من الجوع فليس على سنة المصطفى في ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من بات شبعان وجاره جائع).

    وسيدنا عمر سجن الحطيئة لأنه كان يشتم الناس، فبعث إليه بيتين من الشعر فبكى سيدنا عمر بسبب هذين البيتين، وعفا عنه، وهما:

    ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

    ألقيت كاسبهم في قاع مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر

    فسيدنا عمر بكى، وهذا من رقة قلبه، لأنه قال في الشعر:

    زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

    أي: لا يوجد شخص يسأل عليهم.

    ولو كل الناس ينفقون على اليتامى فإن الله تعالى يبارك في المال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قل مال من صدقة)، وقال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7].

    الفرق بين اليتيم والمسكين

    الفرق بين الفقير والمسكين: أن الفقير حاله أشد ضنكاً من المسكين، بدليل قول الله تبارك وتعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] فهم مساكين ومعهم سفينة، وسمي الفقير فقيراً من الفقرة، والفقرة هي الحفرة التي يحفرونها من أجل أن يضعوا فيها النخلة، وكأن الفقير قد نزل في هذه الحفرة.

    وقول آخر: أنه مأخوذ من فقرة الظهر، ومنه العمود الفقري، فعندما تأخذ فقرة من ظهر الإنسان فإنه لا يستطيع أن يتحرك، وهكذا الفقير لا يستطيع الحركة وكأنه قد أصيب بشلل.

    والفقير والمسكين لو أتيا في آية واحدة فالفقير له معنى والمسكين له معنى، ولو ذكر أحدهما دون الآخر فإنه يشمل معناه.

    إذاً: قوله: أَوْ مِسْكِينًا يشمل الفقير.

    والإسلام يستوصي بالفقراء وبالمساكين خيراً، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، وتعوذ بالله من الفقر والإسراف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا... )

    وقال تعالى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:17].

    يعني: لا ينفع إطعام المساكين في الآخرة بدون إيمان وإسلام، والكافر وإن كان منفقاً في سبيل الخير فإن الله تبارك وتعالى يوفي إليه أجره في دار الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لـعدي بن حاتم : (أسلمت على ما أسلفت من خير) أي: أسلمت على ما كان منك من خير.

    قوله تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [البلد:17] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء)، فالمؤمنون يوصي بعضهم البعض بالصبر، لا يوصي بعضهم البعض بالعجلة، يقول الله تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة:24]، والصبر يكون على طاعة الله، وعلى الأقدار المؤملة، وعن معاصي الله تبارك وتعالى.

    وقوله تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:17] المرحمة: هي رحمة العباد، وتكاد أن تكون رسالة الإسلام في الرحمة، يقول تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وما وإلّا من أساليب الحصر والقصر، يعني: رسالتك الرحمة ودينك الرحمة، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله إذا أحب شخصاً ألهمه الرفق، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره).

    ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إذا انقيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ).

    ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً: الموطئون أكنافاً اللينون).

    والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف).

    والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (في كل ذات كبد حرى أجر) يعني: لو أنك سقيت كلباً أو حيواناً وهو عطشان، فإن الله تبارك وتعالى يثيبه على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لا يرحم لا يرحم).

    وسيدنا جبريل يقول للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني يا محمد وأنا أدس في فيه -يعني: في في فرعون- من حمأ البحر -أي: من طين البحر-؛ حتى لا تدركه رحمة الله تبارك وتعالى)، لأن فرعون لم يرحم الأطفال فقد كان يذبحهم، فلم يرحمه جبريل، فجعل يدس الطين في فمه حتى يموت قبل أن تدركه رحمة الله تبارك وتعالى.

    ولما أخذ المؤمنون برأس الأمر وهو الصبر جعلهم الله رءوساً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أولئك أصحاب الميمنة)

    قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد:18].

    فهم الميامين على أنفسهم وعلى ذويهم وعلى غيرهم، أي: أنهم خيرة على أنفسهم، وعلى أهليهم، وعلى الناس الذين بجانبهم، وهم الذين نزعوا من شق آدم الأيمن، وهم الذين يكونون يوم القيامة عن يمين العرش، وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)

    قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [البلد:19] أصحاب المشأمة: هم المشائيم على أنفسهم وذويهم، يعني: النحس على أنفسهم وعلى ذويهم، وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم يوم القيامة، وهم الذين يكونون عن يسار العرش، وهم الذين نزعوا من شق آدم الأيسر.

    اللهم ارزقنا الرحمة، واملأ قلوبنا رقةً، رب اجعلنا لك بكائين، إليك أواهين مخبتين منيبين، وتقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، وبك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.

    اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا.

    إلهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل معه من حبك نصيباً.

    إلهي! ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، فكن دليلنا.

    إلهي! ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه، فكن أنيسنا.

    إلهي! أتينا أطباء عبادك ليداووا خطاينا، فكلهم عليك دلّنا.

    اللهم داو أمراض قلوبنا.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755954154