الرياء داء عضال، خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وما ذاك إلا لشدة خفائه، ولعظيم خطره، فهو سبب لعدم قبول الأعمال، وقد أضحى مزلة لأقدام كثير من العلماء والعباد، وقد بين أهل العلم أقسامه، وفصلوا في ذلك، ومن رحمة الله بنا أن جعل لهذا الداء دواء، ولهذا المرض علاجاً، ذكره أيضاً أهل العلم.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا *
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فما زال حديثنا عن القلوب، وأقسامها، وعللها، وأدويتها، وقلنا: بأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله؛ لأن حركات الجوارح. وأعمال الجوارح تابعة لحركة القلب، وعمل القلب، وإرادة القلب، فإن كانت حركة القلب وإرادته لله جل وعلا وحده، كانت حركة الجوارح وأعمال الجوارح لله جل وعلا وحده، وإن كانت حركة القلب وإرادته وعمله -من عبودية ومحبة ورجاء وتوكل وخشية وإنابة وتفويض- لغير الله جل وعلا كانت أعمال الجوارح وحركات الجوارح أيضاً لغير الله جل وعلا، فانبعثت الجوارح بمعصية الله؛ لأن القلب هو الملك والجوارح هي جنوده ورعاياه، وإن صح وصلح المَلِكُ صح وصلح الجنود والرعايا، وإن فسد الملك فسد الجنود والرعايا، فهم يأتمرون بأمره ويعملون بتوجيهه.
ونحن اليوم على موعد مع عمل سيء تنبعث به الجوارح إذا خبث وفسد القلب ومرض.. عمل يحبط الأعمال.. عمل يسبب المقت والغضب من الكبير المتعال.. إنه داء عضال، ومزلة أقدام العباد والعلماء ،إلا ما رحم رب الأرض والسماء، إنه مرض خاف النبي صلى الله عليه وسلم منه على أمته أكثر من خوفه عليهم من فتنة المسيح الدجال، فقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام
أحمد في مسنده، والإمام
ابن ماجة في سننه، وحسن الحديث شيخنا
الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (
ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي. قالوا: وما الشرك الخفي يا رسول الله؟! قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل إليه).
وتأتي للصلاة على فتورٍ كأنك قد دعيت إلى البلاء
وإن أديتها جـاءت بنقص لما قد كان منك من شرك الرياء
وإن تخلو عن الإشراك فيهـا تدبـر للأمـور بالارتقــاء
ويا ليت التـدبر في مبـاح ولكـن في المشقـة والشقـاء
وإن كنت المصـلي بين خلق أطلت ركوعها بالانحناء
وتعجل خوف تأخير لشغـل كأن الشغـل أولى من لقاء
أيا عبد! وإن كنت المجالس يوماً قطعت الوقت من غير اكتفاء
أيا عبد! لا يساوي الله معك أنسـاً تنـاجيه بحب أو صفـاء
يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، هذا هو الشرك الخفي، ويوضح ذلك -أيضاً- حديث
محمود بن لبيد رضي الله عنه الذي رواه
أحمد في مسنده، والإمام
ابن حبان في صحيحه، والإمام
البغوي في شرح السنة، وهو حديث صحيح الإسناد على شرط الإمام
مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (
أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء).
إننا اليوم على موعد مع هذا المرض العضال، مع مزلة أقدام العباد والعلماء إلا من رحم الكبير المُتَعَال، إننا اليوم على موعد مع هذا المرض الذي يحبط العمل، وهو سبب من أسباب المقت والغضب من الله جل وعلا، وكم من إنسان قد زل في هذا الباب وهو لا يدري؟! وكم زلت في هذا الباب أقدام؟! وكم ضلت في هذا الباب أفهام؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ونظراً لطول الموضوع وخطورته -أيها الأحبة- فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع في أربعة عناصر:
أولاً: الرياء لغة وشرعاً.
ثانياً: الرياء محبط للأعمال والأدلة على ذلك.
ثالثاً: أقسام العمل مع الرياء.
رابعاً: ما هو السبيل إلى العلاج؟
فأعيروني القلوب والأسماع -أيها الأحبة- وأسأل الله جل وعلا بداية أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن، وأن يطهر قلوبنا وجوارحنا وأعمالنا من الرياء.. صغيره وكبيره.. غليظه ودقيقه، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
تعريف الرياء لغة وشرعاً
أما تعريف الرياء لغة: فهو مشتق من الرؤية، يقول
الفيروز أبادي : راءى مراءاة ورياء أي: يُريْ غيره خلاف ما هو عليه. وحقيقة الرياء شرعاً لا تختلف كثيراً عن معناه اللغوي.
فالرياء شرعاً: هو إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها، فيحمدُ الناس صاحبها، فهو حين يظهر العبادة لا يبتغي بها وجه الله، وإنما يبتغي بها الثناء والحمد من الناس، بل ربما إذا حان وقت الصلاة وهو في الخلوة لا يصلي، وإذا رأى أعين الناس تنظر إليه قام إلى الصلاة، بل ومن الناس من يغلظ الرياء منه والعياذ بالله، كأن يكون مع كبير من الكبراء، أو مع حاكم من الحكام، أو مع أمير من الأمراء، ودخل هذا الرجل المسجد -لتصور عدسات التلفاز صلاته- إذا به يدخل مع هذا المسئول الكبير بغير وضوء والعياذ بالله، لماذا؟ لأن الإعلام يريد أن يظهر جزئية معينة للسُّذَّجِ البُلَهَاءِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالرياء شرعاً: هو إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها؛ ليحمد الناس صاحبها على ذلك، ولينال جاهاً أو مكانة في قلوب الخلق، وأظن أن عقولكم ستذهب الآن بمنتهى السرعة إلى هؤلاء الذين يرشحون أنفسهم لمجالس النواب، أو لمجالس الشعب، أو لغيرها من هذه المجالس التي لا شرعية فيها، وفي أثناء جولاتهم الانتخابية يتصنعون بما ليس فيهم، ويظهرون من الطاعات والعبادات ما هم بعيدون عنه كل البعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأخيراً -أيها الأحباب- ما هو السبيل إلى علاج الرياء، وإلى قلع جذوره من القلب، ألخص لكم ذلك في نقاط عملية فأقول:
لابد لعلاج الرياء من علاج علمي، ومن علاج عملي:
العلاج العلمي للرياء
أما العلاج العلمي: فهو أن يعلم المرائي عاقبة الرياء في الدنيا والآخرة، أما عاقبة الرياء في الآخرة: فهو إحباط العمل ورده، وأن ليس له وزن عند الله جل وعلا.
وأما عاقبة الرياء في الدنيا: فإن يظهر الله جل وعلا للناس سريرته: (
فمن أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس) ، وقال أحد السلف: فليحذر أحدكم أن تمقته قلوب الناس وهو لا يدري، قيل: كيف ذلك؟ قال: إذا ما كان مع الناس أظهر الطاعة، وإذا ما خلا بينه وبين ربه بارز الله بالمعصية.
لابد أن يفضحه الله جل وعلا وأن يظهر سريرته، وإظهار ضد القصد أمر ثابت شرعاً وقدراً، والدليل على ذلك ما رواه
البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (
من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به).
نقل الحافظ
ابن حجر قول الإمام
الخطابي في معنى الحديث: أن من عمل عملاً ليس خالصاً لله جل وعلا لابد أن يظهر الله للناس سره ويجعله علانية، ونحن نرى الواقع يؤكد ذلك أيضاً، فكم من الناس نسمعهم بآذاننا يقولون: إن فلاناً هذا مراءٍ، وإن فلاناً هذا منافق، سبحان الله! لأن الله جل وعلا قد أظهر سره وجعله علانية، وجعل الله البغض له في قلوب الخلق وفي قلوب العباد.
واعلم -أيها الإنسان- بأن ذم الناس لك لا يبعدك من الله إن كنت قريباً منه، وحمد الناس لك لا يقربك من الله إن كنت بعيداً عنه، والناس لا يملكون لك ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا يدفعون عنك رزقاً، ولا يقربون لك أجلاً، فلمَ ترائي الناس وتخادع الله جل وعلا؟! أتخشى الناس والله أحق أن تخشاه؟! أتستحي من الناس ولا تستحي من الله؟!
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ [الشعراء:218]، و
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]؟!!
فمن علم أن الناس لا يملكون له ضرّاً ولا نفعاً، ابتغى بعمله وجه الله؛ لأنه ينبغي أن نعلم أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، فإذا علم المرائي الذي شتت قلبه وشتت عقله وشتت جهده لإرضاء الناس هنا وهناك، إذا علم أن إرضاء الناس غاية لا تدرك كف عن الرياء، وكف عن مراءاة المخلوقين، ولو أرضى أحد كل الناس لأرضى الناس سيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم، بل إن من عائلته وأسرته من عاداه، ومن سبه، ومن مشى خلفه ليقول للناس: هذا كاذب فلا تتبعوه! فإرضاء الناس غاية لا تدرك.
فاعلم -أيها الإنسان! وأيها المسلم! وأيتها المسلمة- بأن ذم الناس لا يبعدك عن الله إن كنت قريباً منه، وبأن حمد الناس لا يقربك من الله إن كنت بعيداً عنه جل وعلا، وذم الناس وحمد الناس وكلام الناس لا يدفع عنك رزقاً، ولا يقرب لك أجلاً، ولا يملك الناس لك ضرّاً ولا نفعاً؛ لأنهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً فضلاً عن غيرهم.
الأمر الثاني: اللجوء إلى الله جل وعلا في طلب الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن:
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50]، ولنا في خليل الله إبراهيم الأسوة والقدوة، وهو الذي كان يتضرع إلى الله جل وعلا أن يجنبه وبنيه الشرك الأكبر فيقول:
وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، فإذا كان الخليل يتضرع إلى الله جل جلاله أن يجنبه الله الشرك الأكبر، فينبغي أن نتضرع إلى الله جل جلاله أن يجنبنا الشرك الأكبر والأصغر.
العلاج العملي للرياء
أما العلاج العملي وهو في كلمة واحدة: لا علاج للرياء أفضل من الإخفاء.. إخفاء الطاعات.. إخفاء العبادات، حتى يتدرب القلب على مراقبة الله وحده لا مراقبة الناس، فلا علاج للرياء أنفع من الإخفاء، أن تخفي طاعتك عن أعين الناس، وأن تكون طاعتك لله جل وعلا، هذا إن كانت الطاعة مما لم يأت الشارع بوجوب الجهر به.
وقد فصل القول في ذلك أعظم تفصيل الإمام
العز بن عبد السلام في كتابه القيم (قواعد الأحكام): إذا كان العمل الذي شرعه الله جل وعلا مما يؤدى جهراً: كخطبة الجمعة.. كالأمر بالمعروف .. كالنهي عن المنكر .. كالصلاة .. كالأذان فهذا لا يمكن أن يؤدى سرّاً، ولا يمكن أن يخفى، وإنما لابد أن يؤدى جهراً مع مجاهدة النفس والقلب؛ ليكون العمل خالصاً لله جل وعلا.
أما النوافل .. أما الصدقات .. أما سائر الطاعات التي لم يأمر الشرع بالجهر بها فينبغي أن تدرب نفسك على الإتيان بها بينك وبين الله جل وعلا؛ ليتقوى القلب على الإخلاص، ولينشط القلب على مراقبة الله لا مراقبة الناس.
وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، والسر والعلن، اللهم طهر قلوبنا وجوارحنا وأعمالنا من الرياء، اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وجسداً على البلاء صابراً.
اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وارزقنا الصدق في أحوالنا يا رب العالمين! اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا همّاً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثَبَّتَّهُ، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين!
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم، والحمد لله رب العالمين.