قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت:14-18].
يذكر الله سبحانه وتعالى هنا إشارات لقصص بعض الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى دين الله عز وجل، فاتبعه البعض، وكفر به الكثيرون، فقال الكفار المتعنتون لمن آمن من الضعفاء المستضعفين منهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ [العنكبوت:12] أي: كونوا معنا في هذا الذي نحن فيه، ولا تتبعوا محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وإذا كان عليكم ذنب فسوف نحمله عنكم يوم القيامة.
فبعد أن ذكر الله تعالى مقالتهم هذه أخبر سبحانه وتعالى عن كذبهم فقال: وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [العنكبوت:12] أي: لن يحملوا شيئاً من خطايا هؤلاء بحيث يخففون عنهم يوم القيامة، ولكن سيحملون أثقالهم مضاعفة: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13]أي: يكذبون.
فلم يزالوا على ذلك حتى أتاهم الشيطان وقال لهم: اصنعوا لهم التماثيل حتى تذكروهم بها، فصنعوا التماثيل على قبورهم، وكانوا يذهبون وينظرون إليهم ليتعظوا، وليتذكروا هؤلاء الصالحين فيتأسوا بهم في صلاحهم، فلما مات من عرف ذلك من الآباء إذا بأولادهم وأحفادهم من بعدهم يقولون: كان آباؤنا يذهبون ويتبركون بهؤلاء ويعبدونهم، فبدل من أن الآباء كانوا يتعظون بهم ويتذكرون أعمالهم الصالحة ليعبدوا الله كما كانوا يعبدونه، انقلب الأمر عند الأبناء والأحفاد فعبدوهم من دون الله، وتواصى بعضهم مع بعض بعبادة هذه الآلهة.
فكان ذلك أول شرك على الأرض، وأول ما حدث الكفر والشرك بالله كان بعبادة هذه التماثيل، فأرسل الله عز وجل نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى هؤلاء القوم يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59].
ودعاهم بالترغيب وبالترهيب، ثم أنكر عليهم مستغرباً متعجباً من صدودهم وإعراضهم: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13] أي: أين ذهبت عقولكم فتعبدون تماثيل لا تنفع ولا تضر، وتنسون ربكم سبحانه وتعالى ولا توقرونه؟!
مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [نوح:13-15]، إلى آخر ما ذكره نوح لقومه وهو يدعوهم إلى الله عز وجل، فرفضوا أن يطيعوه، وكان جوابهم: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح:23] أي: انتبهوا أن تتركوا الآلهة وتذهبوا إلى نوح.
فأوصى الآباء والأجداد الأبناء والأحفاد بذلك، وحذروهم من ترك الآلهة: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح:23-24] أي: أنهم ضلوا وأضلوا، وعبدوا غير الله سبحانه تبارك وتعالى.
وجاء كذلك تفصيل دعوة نوح لقومه في سورة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف دعاهم بالذي سبق من الآيات.
وفي سورة العنكبوت ذكر الله تعالى فيها إشارات الغرض منها: بيان أن قريشاً ليسوا أول من كذب، بل إن هناك أقواماً كذبوا من قبلهم، فأشار الله عز وجل إلى هؤلاء الأقوام المكذبين وأنه أهلكهم، ثم ذكر أقواماً آخرين كذبوا فأهلكهم الله، وهكذا. كأنه يفصل شيئاً ثم يرجع في النهاية يفند هذا الشيء بعد أن يجمله.
قال الله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40] فذكر في هذه الآية إشارات للأقوام المكذبين وجمعها على طريقة اللف والنشر، فذكر في النهاية كيفية إهلاكهم بقوله: منهم من أهلكناه بكذا ومنهم من أهلكناه بكذا، وفي هذا تخويف لقريش، وكأنه يقول لهم: احذروا أن يصيبكم مثلما أصاب هؤلاء الأقوام، فيرسل عليكم حاصباً، أو تأخذكم صيحة من السماء، أو يخسف بكم الأرض أو يغرقكم، أو يفعل بكم ما يشاء، والله على كل شيء قدير.
والذي اختصت به هذه السورة: أنه ذكر فيها المدة التي لبثها نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام في قومه، وهي مدة طويلة، جداً أشار إليها بقوله: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] أي: تسعمائة وخمسون عاماً، ولم يعبر بتسعمائة وخمسين، بدلاً من ألف؛ لأن الألف لها وقع في السمع، فسماعك للألف غير سماعك للتسعمائة، لذلك إذا كتب في الأوكازيون: تسعمائة وتسعة وتسعون، ولم يكتب ألف، فإن الإنسان يحس أنها قليلة، فإذا ذكر ألف دخل في العقل أن الألف كثير، والمقصود أن نوحاً لبث كثيراً في قومه، فقال الله عز وجل: إنه لبث في هؤلاء القوم الذين أهلكهم الله ألف سنة إلا خمسين عاماً.
ثم أغرقهم الله سبحانه وتعالى، ثم بعثه الله إلى قوم غيرهم بعد ذلك، وهم أبناؤه وأحفاده ومن كانوا معه، فجاوز الألف السنة على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكأن الفترة التي مكثها نوح عليه الصلاة والسلام في هؤلاء القوم المهلكين ألف سنة إلا خمسين عاماً.
قال الله تعالى: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27] أي: لا تذر أحداً يدور فوق الأرض من هؤلاء الكفار وأهلكهم جميعاً؛ لأنك إن تركتهم يضلوا عبادك، ولا يتركوا بعدهم إلا فاجراً كفاراً.
قال سبحانه هنا: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ [العنكبوت:14] وهذا ترتيب وتعقيب: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ [العنكبوت:14] فكانت فترة زمنية طويلة، ولكنها عند الله عز وجل لا تساوي شيئاً: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]؛ لأن اليوم من أيام القيامة بالألف السنة التي عاشها نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ [العنكبوت:14]، فَأَنجَيْنَاهُ [العنكبوت:15] وهذا يفيد الترتيب والتعقيب، كأنها أشياء متوالية بعضها وراء بعض.
فبين أن يدعوهم إلى الله، ثم يدعو عليهم، ثم يأخذهم الطوفان بالنسبة لنا مدة طويلة، ثم إنه ما دعا عليهم إلا بعد أن يئس منهم، ولم ييأس منهم إلا عندما أخبره الله سبحانه بقوله: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36]، فلم يدع عليهم طوال هذه المدة حتى أخبره الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [هود:36] أي: لا تحزن عليهم.
وممن أهلك الله في ذلك الطوفان: ابن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود:42] فرفض الابن الكافر أن يركب مع أبيه النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقال: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ [هود:43] أي: سأطلع فوق الجبل ولن يصل إلي الماء، فاغتر بذلك وصعد إلى الجبل، فصعد الماء وراءه حتى أغرقه الله فكان من المغرقين.
ومعنى قوله سبحانه: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ [العنكبوت:14] أي: أغرقهم الطوفان، وكأنه مارد جبار أمسكهم فلم يفلتهم، ولم يترك لهم مكاناً يلجئون فيه ويهربون إليه، فكأنه أمسك بهم وأغرقهم بقدرة الله عز وجل فيه، وهذا دليل على الإهلاك الشديد، وعدم الإفلات من عذاب الله سبحانه وتعالى إذا نزل؛ ولذلك يقول الله بعد ذلك: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [العنكبوت:22] فلو نزلتم داخل الأرض أو طلعتم إلى السماء فلن تهربوا منا.
قوله: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت:14]، أي: بسبب ظلمهم.
قال عز وجل: فَأَنجَيْنَاهُ [العنكبوت:15] أي: أنجينا نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذلك أن الله أمره أن يصنع السفينة، فظل يصنعها سنين، وخلال هذه السنين كان يمر به قومه ويستهزئون به، قال سبحانه: وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود:38] وذلك أنهم قالوا: كيف تصنع سفينة في الصحراء، وكيف تركبها، إذاً: أنت مجنون بفعلك هذا، فرد عليهم: قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38] انتظروا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [هود:39].
وجعل الله عز وجل له علامة من العلامات تأتي وقت عذابهم، وهي أن الفرن الذي يتقد ناراً سيخرج منه الماء.
فلما رأى نوح تلك العلامة ركب السفينة وركب معه المؤمنون من قومه: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]، ثم أغرق الله الجميع، قال تعالى: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت:15]، وأصحاب السفينة هم الذين أمره الله عز وجل بحملهم من الإنس والدواب: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40].
قال سبحانه: وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت:15] أي: جعلنا هذه القصة آية للعالمين، وجعلنا هذه السفينة آية عجباً؛ لأنه من العجب أن يصنع رجل واحد سفينة تحمل خلقاً عظيماً من الإنس ومن الدواب وممن شاء الله عز وجل له أن يحمله، فهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى.
ثم ذكر من بعد نوح إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر