وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري -وهذا حديثه- حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر ، قال: كان أول من قال في القدر في البصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحِميري حاجَّين أو معتمرَين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قِبَلنا ناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم -وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قَدَر وأن الأمر أُنُف- قال: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم بُرَآء مني، ثم يقول عبد الله بن عمر : لو أن لأحدهم مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه ما قَبِل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب .. ..
ومعبد الجهني كان يقول: لا قَدَرَ، والأمرَ أُنُف.
الأمرُ أُنُف معناه: مستأنف، يعني: أن الله تبارك وتعالى لا يعلم بالشيء حتى يقع -تعالى الله عما يقول معبد ومتابعوه علواً كبيراً- فنفى علم الله السابق لأفعال المكلفين أو لأفعال العباد.
يقول: لا قدر، والأمر مستأنف بالنسبة لله.
هذا كافرٌ أم لا؟
هذا كافر، لا شك في ذلك؛ لذلك تبرأ منه عبد الله بن عمر ؛ لأن البراءة من المسلم لا تجوز، وهذه المقالة كفر، وقائلها كافر؛ لذلك تبرأ منه عبد الله بن عمر .
فواعجباً لهؤلاء الجهلة، الذين يصرخون صباح مساء: قَرِّبوا بينكم وبين الشيعة.
نقول: لا تقارب بيننا وبينهم!
لماذا؟
لأننا مختلفون معهم في الأصول، فلو كنا مختلفين في الفروع لكان الأمر قريباً.
فمثلاً: أنا حنبلي المذهب، وأنت شافعي المذهب، أو أنا مالكي، وأنت حنفي، ونحن مختلفون في مسائل الأحكام الشرعية العملية التكليفية، فالمذاهب مختلفة في بعض هذه المسائل، ومتفقة في بعضها، ومع ذلك لا يجوز لأحدٍ أن يتبرأ من الآخر في مثل هذه المسائل؛ لأنه يسع الخلاف فيها.
لأجل هذا أنكر العلماء العاملون الفاهمون بعض التطرف الذي حصل من بعض العلماء، مثل ما يقول أحد علماء الشافعية -وهذا موجود في كتاب كفاية الأخيار في الفقه الشافعي-: أنه لا تجوز الصلاة خلف حنفي.
لماذا؟
قال لك: لأن الحنفي يرى أن مس الذكر لا ينقض الوضوء، والشافعي يرى أنه ينقض الوضوء، فإذا توضأ حنفي ومس فرجه فيكون وضوءه قد انتقض، فإذا صلى إماماً بالناس فكأنما صلى بغير طهارة، فلا تجوز الصلاة خلف هذا الحنفي.
فالواجب أن يُنْكَر على قائل هذه المقالة أياً كان منصبه، وأياً كان مقدار علمه.
لماذا؟
لأن المسألة من مسائل الاجتهاد، وقول الأحناف فيها له وجه.
والذي توصل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه جمع ما بين القولين: الشافعية والمالكية والحنابلة، يقولون: من مس فرجه؛ رجلاً كان أو امرأة فوضوءه منتقض، ويلزمه إعادة الوضوء؛ لأن الحديث صريح، واللفظ صريح: (من مس ذكره فليتوضأ).
والأحناف يعتبرون بحديث طلق بن علي : (ما هو إلا بضعة منك)، فسواءً مسست أنفك أو مسست أذنك أو مسست رأسك أو مسست ذكرك، فكله شيء واحد، فشيخ الإسلام ابن تيمية جمع بين حديث طلق بن علي وحديث بسرة بنت صفوان ، وكان نتيجة هذا الجمع أن الأمر في حديث بسرة ليس للوجوب، إنما جعله للاستحباب .فيكون: (مَن مس ذكره فليتوضأ -استحباباً-؛ إذ ما هو إلا بضعةٌ منك) .فيكون بهذا قد جمع بين القولين.
وحتى لو قلنا: إنه لم يجمع بين القولين، فالأحناف لهم وجه في الدليل.
إذاً: لا يقال: إن هذا طهارته انتقضت، وأن هذا يصلي بلا وضوء... إلى آخر هذه الإلزامات التي لا وجه قوي لها.
ومثل هذا القول ذكَّرنا بجرح بعض علماء الحديث لبعض رواة الحديث قديماً قبل أن يستقر علم الجرح والتعديل، حيث مَرَّ أحد أئمة الجرح -ولعله حماد بن زيد - على رجل يبول قائماً، فقال: لا أروي عنه أبداً.
- فقيل له: إن بول الرجل قائماً جائز لحديث حذيفة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى سباطة قومٍ فبال قائماً).
سباطة قومٍ: مقلب الزبالة، والعلة المذكورة في بوله صلى الله عليه وسلم قائماً ضعيفة لجُرْحٍ برُكْبَتُه كما نُقل، فكان لا يستطيع أن يقعد، فبال قائماً لهذا، وهذا التعليل ضعيف الإسناد ولا يصح.
إنما (بال قائماً) هكذا بالإطلاق.
إذاً: هذا فيه دلالة على جواز البول قائماً؛ لكن يُخشى على الذي يبول قائماً أنه يستقبل الريح، فالريح ترجع رذاذ البول على ثوبه، إلى آخره؛ لكنه إذا جاء على مكان رطب كرمل أو تراب أو نحو ذلك وبال قائماً وأَمِن من رجوع رذاذ البول إليه فهذا لا بأس به.
فلما رأى الرجلَ يبول قائماً، قال: لا أروي عنه.
- فلما سئل عن ذلك قال: إنه يبول قائماً، فيرتد الرذاذ إليه، فيصلي وعلى ثوبه نجاسة فصلاته باطلة.
فالعلماء ردوا مثل هذا الجرح، وقالوا: هذا جرحٌ بالتأويل، أي: أنه يفترض أن الرجل حين يبول قائماً فإن الرذاذ سيرجع عليه، ويفترض أنه سيصلي بنفس الثياب وهو عالمٌ بالمسألة، فهذا جرحٌ بالتأويل وهو مردود، ولذلك لم يعتبروه، وروَوا عن هذا الراوي ولم يعتبروا بمسألة الجرح بالتأويل.
فلذلك رد العلماء مسألة الجرح بالتأويل؛ لأن فتح باب التأويل مشكلة.
فالأحكام الشرعية العملية التي يسوغ فيها الخلاف لا نبني على الاختلاف فيها، ما نبينه على الاختلاف في المسائل الأصولية.
إذاً، فثلثا المصحف المزعوم على ماذا يحوي؟!
قالوا: يحوي على مناقب علي بن أبي طالب والعترة، وإمامة علي ، وخلافة علي بن أبي طالب ، والبغاة الذين خرجوا عليه... كل هذا، وأن هؤلاء الصحابة كلهم كتموا هذا من أجل أن يسلِّموا الخلافة لـأبي بكر الصديق .
ومن أصولهم أيضاً: أن الصحابة جميعاً ماتوا على النفاق، ما عدا ستة منهم، وأظهرُ الملعونين عندهم: أبو بكر وعمر وعائشة وحفصة .
وفي كتابه أيضاً في كتاب الطهارة: في أحكام السلام: أنه لو سلم شيعي على سني فإنه يلزمه أن يغسل يده بالتراب، ويصرح في أكثر من موضع أن السني أنجس من الكلب.
وكتبه مطبوعة والذي يمتري في هذا نأتيه بهذه النصوص من الكتب.
وهذا الخميني الذي يعتبره أصحابه القائد المظفر صاحب الثورة المجيدة.
فلا عجب أن كفَّره الشيخ الألباني ، والشيخ عبد العزيز بن باز ، وجماعة من علماء المملكة، وصدر في تكفيره كتيب بعنوان: ( لماذا كفر علماء المسلمين الخميني ؟ ).
فهؤلاء الشيعة مختلفون معنا في الأصول.
فالذي يقول: نقرب المذهب بيننا وبين الشيعة فهذا رجل جاهل ليس عنده فَهم.
إنما يحصل تقارب بيننا وبين من اختلف معنا اختلافاً سائغاً يجوز الاختلاف فيه؛ لكن أن نختلف في الأصول ثم ندعو إلى التقارب، فهذا ما لا يجوز.
نحن بُرَآءُ منهم، وهم برآء منا، مع العلم أنهم يتبرءون منا جهاراً، وأهل السنة في إيران يعامَلون معاملة الأقليات المسلمة في بلاد الكفر، فأهل السنة في إيران مضطهدون غاية الاضطهاد، لو أنهم موجودون بين ظهراني اليهود والنصارى للَقَوا من الأمن ومن الحرية أكثر مما يجدونه في إيران.
فالأصل أن لا يحصل تقاربٌ بيننا وبينهم على الإطلاق، لكن قاتل الله السياسة، ولعن الله مادة (ساس) و(يسوس) وما انشق منها.
لأن من لوازم هذه (السياسية)، أننا لو اصطلحنا مع إيران غداً، ستُفتح مراكز ثقافية، ويدرَّس المذهب الشيعي رسمياً، ويحصل تبادل للبعثات الثقافية والعلمية بيننا وبينهم، والتشيع مثل الجرب، فمن يبتلى به فإنه يظل يحك طول عمره، ولذلك فكل مَن ابتلي ببدعة في بداية طلبه للعلم، فإنها تلازمه إلى أن يموت ولو بجزءٍ يسير.
انظر إلى أي واحد ممن كان في جماعة التكفير، أو في أي جماعة من الجماعات الدعوية المنحرفة، إذا وصل إلى الحق في نهاية المطاف يظل عنده رواسب وظلال تلقى عليه، وهذا بخلاف من بدأ عمره وحياته على دعوة الحق، فالفرق كبير جداً وشاسع.
حتى يطلع الجيل الجديد فيرى كل ثوابتنا مهزوزة.
وحتى (لا إله إلا الله) ستهز، لا تظن أنها لن تُهَز أبداً! لحديث حذيفة : (يأتي على الناس زمان لا يعرفون صلاة ولا زكاة ولا يعرفون قليلاً ولا كثيراً من الدين، لكن يقولون: لا إله إلا الله -أولادهم يسألونهم: ما معنى لا إله إلا الله؟ فيقولون: والله -يا بني- لا أعرف، أنا جئتُ فوجدتُ أبي يقول: لا إله إلا الله، فأنا أقول هكذا- يدْرُسُ الإسلامُ كما يدْرُسُ وَشْيُ الثوب، والوشي هو الرسم والزينة التي تعمل على الثوب، فالإسلام يذوب مثل ذوبان هذه الرسوم التي تكون على الثياب- حتى لا يدرون ما صلاة، ولا زكاة، ولا حج، ولا يعرفون شيئاً) فيقولون لأولادهم: ورثنا هذه الكلمة عن آبائنا وهم لا يفهمون شيئاً عنها.
فيأتي على الناس زمانٌ لا يعرفون كلمة التوحيد.
فهؤلاء العلمانيون أتوا إلى كل شيء ثابت فهزوه.
كمسألة الختان بالنسبة للإناث مثلاً: جاء ناس بعد أربعة عشر قرناً من الزمان وقد تقرر عند جميع المسلمين أن الختان إما واجب أو مستحب، فهو على أي حالٍ مشروع ومتقرر عندنا خلال أربعة عشر قرناً، وفجأة ظهر أن الختان ليس من الدين في شيء! وأن هذه عادة جاهلية!
فإذا ما كبر الولد الصغير -وطبعاً الولد جاهل، لا يعرف شيئاً عن دينه- يقول: أربعة عشر قرناً وهم يضحكون علينا، وقد أدخلوا في الدين ما ليس منه؟! ما المانع أن يكونوا قد ضحكوا علينا في حكم آخر وحكم ثان وثالث ورابع؟!
إنهم يقولون: إن الختان غير مشروع، وصدر قرار رسمي وصُدِّق عليه: أن الختان جريمة، ومَن ارتكبه يعاقب بالسجن وغرامة ثلاثمائة جنيه، ومع ذلك لا زال يدرَّس في مناهج الأزهر!
ماذا يعني هذا الكلام؟!
أيعني أن الأمر مجرد لعبة؟! ثم يأتون إلى مناهج السنوات الأولى مثلما عملوا في كتب الدين الخاصة بالسنة الرابعة: في زمن الود والإخاء، الولد في المدرسة دعا زميله وأباه وأمه إلى بيته، وتظهر والدته في الصورة محتشمة، وكذلك والدة زميله، ثم قعدوا على المنضدة وأكلوا جميعاً، فقال أولئك العلمانيون: ما دمنا نحارب الحجاب، ونصدر قرارات بمنع الحجاب، إذاً: لماذا نضع صورة امرأة لابسة مثل هذا اللباس؟ كأنني وكأننا رسمياً نقول: إن تغطية الشعر من الدين، مع أن المفروض أن ندعو إلى خلاف ذلك، فلما جاءت كتب الدين بعد هذا في السنة التي تليها مباشرة ظهرت الأم متبرجة، والتي تزورها أيضاً متبرجة، والكل يأكل أيضاً على المنضدة، فتفطنوا لذلك من أجل ألا يبقى أي شيء للفضيلة على الإطلاق.
فما عليكم إلا أن تنتظروا وتصبروا على أنفسكم إلى أن تزيلوا الختان من مناهج الأزهر، وتضعوا المناهج الجديدة التي هي ليست من الدين، وتستخدموا الذين سيحاسبهم الله حساباً عسيراً في هذا الأمر ليكتبوا لكم فتوى شرعية: أن الختان ليس من الدين، فيكبر الولد وهو يدرس في الأزهر أن الختان ليس من الدين، وهذا سيحدث نوعاً من الصراع النفسي، فكتب الأزهر الرسمية تقول: إن الختان ليس من الدين؛ بينما كتب الفقه تثبت أنه من الدين.
وأكثر من ذلك؛ بل والشيء الذي يغيظ ويفجر المرارة: أن المذهب الشافعي عندنا هو المذهب السائد، والمذهب الشافعي هو المذهب الأول في الأزهر، والحكم الشرعي في المذهب الشافعي: أن الختان واجب، انظر العجيب في المسألة! يعني هو المذهب الأول الذي يدرس، والفتوى في المذهب الشافعي كما ذكر النووي في المجموع شرح المهذب: أن ختان النساء واجب، فلما يكبر الناشئ ويجد الثوابت تهتز، ولا شيء ثابت على الإطلاق، فما الذي يمكنه أن يعمله، فتهتز حينئذٍ العلاقة بين النشء وبين دينهم، ويسيئون الظن بالعلماء، ويظنون أنهم لعبوا في الدين وأدخلوا فيه ما ليس منه وأخرجوا منه ما هو فيه، فيحصل هذا.
فلما يأتي أصحاب هذه الفتاوى ويقولون: إن المذهب الشيعي مذهب معتبر، فإن العلمانيين سيطبلون ويزمرون ويقولون: يا إخواننا! إذا كنتم أنتم رسمياً تقولون في أبحاثكم العلمية: إن المذهب الشيعي مذهب معتبر، وأنه يجوز اتباع المذهب الشيعي في بعض المسائل فتعالوا للناقش هذه المسألة:
الشباب غير مستطيع للزواج، وكذلك البنات، والمهور غالية، فلماذا لا نزوجهم بنكاح المتعة؟! أي شاب معه خمسة عشر جنيهاً فليتزوج ليوم أو يومين، والذي معه مائة جنيه يتزوج لمدة أسبوع أو أكثر، وهذا يجعله يجدد دائماً، فمتعته تكون مستمرة، وهذا الشيء جيدٌ وليس سيئاً، لماذا تريدون أن تحرموا الناس؟ لماذا أنتم مغتاظون من الناس؟ لماذا تربطون الرجل بامرأة واحدة طوال العمر؟! دعوه يجدد، فالمذهب الشيعي نحن نراه أنه مناسب للظروف الاقتصادية، وأنتم تقولون في أبحاثكم الرسمية أنه مذهب معتبر.
فيأتون لنا بهذا الكلام!
فالتقية: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، يكون الشخص منهم يكرهك ثم يقول لك: أنا أحبك جداً، ويكون مراده أن يضع لك السم ثم يقول لك: هاهو العسل، ويبادر في خدمتك!
وهذا هو أيضاً حال النصارى عندما يكونون أقلية في بلد ما فتجد الواحد منهم عندما يعيش في ريف أو قرية، فإنك تجده أحسن شخص، فهو الذي يقرض الناس، وهو الذي يعامل الناس معاملة حسنة، وهو الذي يضحك في وجوه الناس، وهو الذي يقول لهم كثيراً ودائماً (صلوا على النبي) ودائماً يتعامل معهم بذوق وأخلاق، ونحن ليس عندنا ولاء ولا براء، فيقول القائل من أبناء المسلمين إن فلاناً النصراني أحسن بكثير من المسلمين!
فهؤلاء أشر من النصارى.
وهناك رجل ألَّف كتاباً -وأنا أدعوكم إلى شرائه وقراءته وقد أعجبني، وهو كتاب مفيد جداً- كشف لنا فيه جوانب خفية عن مذهب الرافضة اسمه: (بذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود)، جاء بأول تشابه ما بين الرافضة وما بين اليهود، وهو اتصافهم بالكذب، والكتاب مطبوع في السعودية.
فهؤلاء عندهم مذهب التقية، فالرافضي سيدخل فيك مثل السرطان، لا تشعر به على الإطلاق، فيشعرك أنه على مذهبك السني، وثَمَّ رجل أحمق أخرج كتاباً اسمه: (رحلتي من السنة إلى الشيعة)! انظر إلى قلة الحياء!!! سبحان الله! نحن في زمان العجائب! ونَشْرَ كتابه، وهذا يعد أمراً طبيعياً، بداعي أن حرية الرأي وحرية الكفر -وليس الفكر- مكفولة للجميع! وأي شخص يريد أن يخرج أي شي يخرجه، فليس عندنا هيئة لكبار العلماء، ولا عندنا مراقبة للذين يكتبون، ولا عندنا أية مراجعة ولا أي شيء من هذا، مع أن كل هذه الأمور يمكن أن تطبق بجرة قلم، مثلما أغلقوا كل المساجد الغير التابعة للأوقاف، وكما أغلقوا الجمعيات الخيرية في صلاة الجمعة، بجرة قلم، فباستطاعتهم أيضاً بجرة قلم أن يقروا هيئة لكبار العلماء، وأن ينشئوا هيئة رقابة، وأن يحاربوا الخمر، وأن يطبقوا الحدود، كل هذا بجرة قلم، فيستطيعون بجرة قلم أن يعيدوا حكم الله إلى النفاذ، وأن يُعَبِّدوا الناس للهعزَّ وجلَّ، كل هذا بجرة قلم؛ لكن نحن ليس عندنا هذا النوع، إنما الموجود عندنا أن كل إنسان يستطيع أن يكفر بالله العظيم، وينشر كفره.
أحد الإخوة المصلين أعطاني منذ جمعتين تقريباً كتاباً اسمه: (الألوهية والجنس) بينما نحن كنا مستفظعين لطعن بعض الكتاب على الصحابة فأصدروا (علماء الإسلام والجنس)، و(الصحابة والجنس)، فاستفظعناها، وظللت ليالي عَدَداً لا أستطيع أن أنام -إلا غفوات- من الكمد، وذلك أول ما رأيت (علماء الإسلام والجنس)، كيف صدر هذا العنوان؟ لكن كلما مضى الزمان .. .- أو كما يقول أنس -: (ما من يومٍ يأتي إلا والذي بعده شرٌ منه إلى يوم القيامة) سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكتاب المسمى بـ(الألوهية والجنس) تمت مصادرته؛ لكنه خرج وبِيْعَ، مثل كتاب (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ مُصادَر وبِيْعَ على الأرصفة رغم أنف الأزهر، هذا الكتاب ممنوعٌ تداوُله وقد طبع في سنة 1958م، ومع ذلك بيع رغم أنوفهم؛ لأننا ليس عندنا هيئة لكبار العلماء، وحتى لو كان عندنا هيئة لكبار العلماء فإنها لن تحل ولن تربط، وإنما سيوكل إليها فتاوى في الصلاة والزواج، والمواريث، ونحوها؛ لكن أن توقف شخصاً علمانياً يكتب فلا.
ثم قال: (حدثني أبي...)
وكلما قرأت في الأسانيد (حدثني أبي) شعرتُ بمرارة، وشعرت بغصةٍ في حلقي وقلتُ: أين هؤلاء الآباء؟! رحم الله هؤلاء الآباء، كم واحداً في هذا المسجد يستطيع أن يقول: سألتُ أبي رحمه الله عن كذا فقال: كذا، فيما يتعلق بالشرع وبدين الله عز وجل؟! كم واحداً يستطيع أن يقول: سألتُ أبي رحمه الله عن المسألة الفلانية فأجابني بكذا؟!
ضاع هذا النمط، والسبب أن الأجيال الماضية كلها عاشت في فترةٍ حالكة السواد بالنسبة لدين الله عز وجل، فترة كلها مؤامرات، فسخروا من هذه الأسانيد، وسموها (العنعنات) حتى مر على الناس زمان إذا وجدوا الإسناد فإنهم يتجاوزونه سريعاً ليصلوا إلى المتن، ما عندهم صبر على الإطلاق أن يقرءوا سنداً أو يقفوا على سند، ولذلك دخل علينا أعداؤنا وطعنوا في السنة بسبب جهلنا بهذا السند؛ لذلك رأيت أن أفشي هذا العلم وهذا الفضل في مثل هذا الجمع؛ أقرأ الإسناد، وأقف عليه، وأقف على بعض رجاله، وأظهر الصناعة الحديثية كلها أو بعضها حتى تعلموا هذا الجهد الهائل الذي بذله علماؤنا.
أنت الآن مستريح، معك صحيح مسلم، إلا أنك لا تعلم مدى الجهد الذي بذله مسلم رحمه الله حتى يجمع وينتقي، ولا تعلم التحري الذي بذله ليخرج لنا هذا الصحيح، فضلاً عن بقية العلماء الذين جمعوا ونقَّحوا للأمة المسلمة، ومع ذلك يا ضيعة جهود المحدثين عند من جاءوا بعدهم!
فالعلماء الذين رووا لنا هذه الأسانيد يقولون: إن رواية الولد عن أبيه لها مزية، وعند الاختلاف يقدمون رواية الولد على غيره الولد فمثلاً سالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولى ابن عمر : أحياناً ترى الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر ، فـنافع الذي يروي عن ابن عمر هو مولاه، فكان ملازماً له مثلاً بنسبة (90 %)؛ لكن سالماً يلازم أباه بنسبة (99 %)، أو (98 %) أو (97 %) المهم أنه أكثر ملازمة له من نافع ، فإذا اختلف نافع وسالم في حديثٍ عن ابن عمر فإن العلماء كـأحمد بن حنبل وغيره يرجحون سالماً في أبيه، يقولون: الولد أدرى بأبيه من غيره، وأضبط لحديثه من غيره، ومع ذلك فلم يختلف نافع وسالم إلا في أربعة أحاديث فقط، كان الصواب فيها كلها في قول سالم .
فأنت لما تقرأ: (حدثني أبي) تدركك الحرارة، وطبعاً: (حدثتني أمي) هذه لها متاهات، أتعرف (حدثتني أمي) هذه كانت مع من؟ مع الحسن البصري هو الذي يقول: (حدثتني أمي)، من النادر في الأسانيد أن يقول قائل: (حدثتني أمي)، هو موجودٌ نَعم؛ لكنه نادر، وهو موجود فيما يسمى بأسانيد النساء، فمثلاً عمرة بنت عبد الرحمن الراوية عن عائشة رضي الله عنها، ومعاذة العدوية أيضاً وحفصة بنت سيرين أيضاً، فهناك نساء كثيرات، ومن أراد أن يستزيد من أخبار النساء وروايتهن في الكتب الستة فعليه أن يطالع الجزء الخاص بهن في كتاب تهذيب الكمال للحافظ أبي الحجاج المزي ، أو في مختصره الذي هو كتاب تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر ، أو في مختصره الذي هو كتاب تذهيب التهذيب، للحافظ أبي عبد الله الذهبي فقد ذكروا فيه جمعاً من النساء اللاتي لهن رواية في الكتب الستة.
وكانت النساء أيضاً مهتمات بالحديث، فنحن عندنا مثلاً: أمة الله الحنبلية ، لها مسند ونُشِر حديثاً، وكذلك بيبي بنت عبد الصمد الهرثمية لها جزء عن ابن أبي شريح عن شيوخه، وهذا أيضاً مروي في الأسانيد.
وأيضاً فأصح روايات صحيح البخاري رواية كريمة بنت أحمد المروزية كانت تروي صحيح البخاري، وكان إسنادها عالياً.
وكان أكابرُ العلماء يأتون إليها ليسمعوا منها.
فالحافظ ابن عساكر رحمه الله، صاحب التاريخ المشهور بتاريخ دمشق والذي طبع منه ستون مجلداً حتى الآن وربما يطبع في نحو مائة مجلد، وقد سكن دمشق، هذا الحافظ روى عن ثمانين امرأة ذكرهن من شيوخه.
والحافظ أبو عبد الله الذهبي تجاوزت شيخاته المائة، وكان منهن قرابة العشرين ممن تسمى (زينباً).
فلما تسمع هذا الكلام -وأنت رجلٌ محب لدين الله، وأنت رجلٌ حي الضمير- ترجع فتطلب العلم من جديد حتى تنقله إلى ابنك، فيكبر ابنك، ويقول: حدثني أبي، وسألت أبي، مثل أولاد أحمد بن حنبل رحمه الله، عبد الله وصالح ، ومثل عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، وفي السلف علماء كثيرون لهم أولاد، كانوا يأخذون عنهم العلم، وهم الذين أفشوا علمهم ونشروه.
فيقول عبد الله بن عمر لما سمع هذه المقالة: (حدثني أبي) ومن فطنة المحدث أن يستحضر الحديث أو الآية التي تدل على الواقعة، أول ما يسمع نازلة من النوازل فيقول هذا الكلام.
ونحن نذكر هذا الكلام هنا؛ لأن بعض الذين طعنوا على الأحاديث يقولون لك: وهل عمر بن الخطاب هو الذي سمع هذا الحديث لوحده، أين بقية الصحابة؟! لماذا لم يسمعوا كلهم الحديث؟! ويطعن على الحديث أن صحابياً واحداً هو الذي سمعه، فلابد أن يكون واحداً واثنين وثلاثة وأربعة.
لا، فهذا الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما كان يتكلم بالكلمة غالباً إذا وجد ما يقتضي ذلك، يُسأل سؤالاً فيجيب، أو يستأنف الكلام من نفسه، إذا رأى ما يوجب ذلك. على سبيل المثال:الحديث المشهور الذي تعرفونه جميعاً: (لما مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جدي أسكٍ ميتٍ فوقف مع الصحابة وقال لهم: أيكم يشتري هذا بدرهم؟ -هو الذي ابتدأ الكلام- فقالوا: يا رسول الله! والله لو كان حياً ما اشتريناه لأنه أسك مقطوع الأذنين، قال: أترون هذه هينةً على أهلها؟! والله! للدنيا أهون على الله من هذا على أهله).
فكان يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم الواحد والاثنان والثلاثة من الصحابة، ويغيب الجمع الأعظم؛ لأنهم يكونون في مشاغلهم، وما حديث ابن عباس في الصحيحين منك ببعيد، لما سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4]، قال عمر بن الخطاب : كنتُ أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا وجار لي من الأنصار، فإذا نزلتُ أتيته بالوحي، وبما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك اليوم، وإذا نزل هو فعل مثل ذلك.
فهذا يدلك على أن عمر بن الخطاب أراد أن لا يفوته شيء من العلم فعمل مناوبةً مع جارٍ له من الأنصار، كل الصحابة لم يعملوا هكذا، أبو بكر الصديق لا نعلم أنه فعل مثل هذا، وأيضاً كثير من الصحابة الذين هم في أماكن بعيدة ما أنابوا عنهم أحداً.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتكلم بالحديث فلا يحفظه إلا من كان حاضراً، وأغلب الصحابة كانوا غائبين، إنما كانوا يسمعون ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلغون ذلك العلم إلى غيرهم إذ لم يكن آنذاك كذب.
فالذي يقول: أنه لابد أن يروي الحديث الاثنان والثلاثة والأربعة والخمسة!
نقول له: لا.
كذلك إذا قال: وهل يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحِميري هما -فقط- اللذان رويا عن ابن عمر ؟ أين بقية الأصحاب؟
نقول: هذان هما اللذان سألا، فلأجل هذا السؤال روى عبد الله بن عمر هذه الحكاية.
فـيحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحِميري إنما خرجا من بلدهما ليسألا عبد الله بن عمر هذا السؤال.
فلما سمع ابن عمر هذا الكلام وتبرأ منهم قال: (حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه) ثم ساق الحديث.
الجواب: إن هذا الحديث: (لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث: زناً بعد إحصان، وكفرٍ بعد إيمان، والمفارق لدينه التارك للجماعة) فهذه هي الثلاث الكبار؛ مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يقول: (الكبائر سبع) فهل في هذا الحديث حصرٌ للكبائر؟
ليس فيه حصر للكبائر؛ لكن هذه الكبائر التي لها علاماتها البارزة، مع أن أي رجل حلال الدم يمكن أن تضع ذنبه تحت واحد من هؤلاء الثلاث، يعني: هذا الحديث، ليس فيه: أنه لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بهؤلاء الثلاث مع وجود أسباب أخرى!
يعني: مثلاً لما تقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، هل المسألة محصورة في هؤلاء السبعة؟!
وكما في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر : (من أنظر معسراً) وانظر إلى جمال الحديث وإلى اسم الراوي الذي رواه (من أنظر معسراً كان في ظل العرش يوم القيامة، أو أظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله) فهذا شخص ثامن.
فالأصل في الأحاديث أننا نجمع بعضها إلى بعض، ولا نضرب بعضها ببعض.
والله أعلم.
الجواب: أنا أذكر هذا السائل بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء).
و(طوبى) شجرة في الجنة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في وصفها: (يمشي الجواد المضمر المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها، قال
لا أحد يصبر على الإطلاق على الذي كان فيه الصحابة إلا إذا كان عنده مثل إيمانهم، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً) فوصف الغربة شَرَف، مثل ما حصل عندما ظهرت اللحية منذ حوالى عشرين سنة كان مظهر الملتحي يعد غريباً، فكان المستهزئون إذا أرادوا الاستهزاء به يقولون له: يا سُني!! بمعنى أنها سبة، فكان أحياناً بعض الملتحين يحسون بنوع من الإهانة، وربما جرى أحدهم وراء المستهزئ به وضربه ودخل في عراك معه؛ لأنه قال له: يا سني! مع أنه لم يسبه أصلاً، ولو كان العلم منتشراً آنذاك لعرف أنه بهذا كأنه يقول له: يا ابن الأصول.
تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارُها
وفي قصة عبد الله بن الزبير لما أراد الحجاج أن تعييره؛ كأن يقول: ابن ذات النطاقين ، بمعنى أنه يشتمه ويعيره بـذات النطاقين أمه أسماء بنت أبي بكر لما شقت نطاقها شطرين، وقد كانت حينها حاملاً! لله درك يا أسماء ، ومن لنا بمثلها من بين مليون شخص من أشباه الرجال الآن.
انظر إلى الجد والاجتهاد! امرأة حامل في الشهر الأخير تصعد الجبل تحمل الطعام على كتفها، تربطه بنصف نطاقها وتربط بطنها بالنصف الآخر، وتأخذ المتاع وتصعد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى أبيها!
وما حملها هذا إلا الفداء والتضحية والحب لهذا الدين؟!
فلابد لك من أن تعمل شيئاً لهذا الدين، فنحن عندما نفتخر بنسائنا من الصحابيات والتابعيات، ما ذاك إلا لأن الواحدة منهن تساوي أمة من أشباه الرجال، فما بالك بالرجال الذين فضلهم الله عز وجل على النساء.
فيأتي يُعَيِّرُها ويَعِيْبُها ويقول في عبد الله بن الزبير له عنها: ابن ذات النطاقين .
تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارُها
أي: دعها أنت -يا ابن الزبير - فلا تكن أنت المُعَيَّر، فهو شَرَفٌ، وأيُ شَرَفٍ!
فأنت حين تتصف بالغريب اسم الغريب، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لك: (بدأ الإسلام غريباً)، ومعروف أن البداية كانت مشرفة، ثُلة من المتقين شرفوا جبين الزمان من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، صدقوا الله عز وجل، لم تكن بينهم أحقاد، ولم تكن بينهم الخلافات التافهة الموجودة الآن بين أفضل الإخوة مع بعضهم بكل أسف، فتجد الرجل فاضلاً وعالماً وداعيةً، وبينه وبين غيره من الأحقاد ما يعجز عن وصفه اللسان.
فالصحابة جردوا العزم لله عز وجل، وكانت البداية لهذا الدين بتضحيتهم وإخلاصهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر