إسلام ويب

الأعداء الثلاثةللشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أيها السائر الغريب التائه في دروب الحياة..! هل لي بمحنك خطة تواجه بها ما ابتلاك الله به في هذه الحياة؟! إن هناك ثلاثة من الأعداء يتربصون بك. فهل حصنت جبهاتك النفسية والأسرية والاجتماعية ضد أولئك الأعداء؟! هل تعرف كيف تدافع عن نفسك إذا ما داهمك الشيطان؟ غزا دينك في عقر داره -القلب- مزيناً لك ما فيه هلاكك؟! هل تعرف ما تصنع ضد شياطين الإنس الذين يزينون لك الفواحش والمعاصي؟! ثم ألا تعلم أن نفسك هي ثالث أعدائك؟ وأنك إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل؟!

    1.   

    أهمية التخطيط للعمر

    إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    فهل يروم النصرَ رجلٌ يقاتل عدوَّه بلا خطة؟!

    إن الجيوش إذا دخلت في حرب تضع خطة للنصر وأخرى للهزيمة.

    إذا انتصر ماذا يفعل؟

    إذا استولى على أرض عدوه ماذا يفعل؟

    إذا أخذ نصفها ماذا يفعل؟

    كيف يحتفظ بالنصف الذي أحرز؟ وكيف يحرز النصف الذي أخفق في إحرازه أول مرة؟

    وكذلك: إذا انهزم وولى وأدبر أينهزم هكذا خَبْطَ عشواء، أم ينهزم بخطة حتى لا يُدَمَّر، حتى يقلل الخسائر؟

    أي جيش في الدنيا يدخل معركةً لابد أن يضع خطة يواجه بها كل احتمال.

    الأعداء الثلاثة الذين يتربصون بالإنسان

    أيها السائر الغريب التائه في دروب الحياة! هل لك خطة، تواجه بها أعداءك التقليد بين الثلاثة؟!!

    أولهم: شيطان الجن الذي قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، يأتيك من كل جهة ويحاصرك، ليس له هدف إلا أن يدخلك النار، يتربص بك الدوائر ليل نهار، ولا يفتُر عنك طرفة عين.

    العدو الثاني: عدو الإنس الذي يزين لك الباطل، ويُضْعِف قلبك ويسرق لبَّك.

    العدو الثالث: نفسك التي بين جنبيك تتقلب بها ليل نهار.

    هل لك خطة وأنت سائر على الطريق؟ ألك خطة تنجو من هؤلاء الثلاثة، وأنت وحدك لا تقوى على مواجهة واحد منها؟

    يُفْجِعُ المرءَ أن يكون جواب أغلب الكافة: أن لا خطة!

    ثم يروم بعد ذلك أن يصل إلى الله سالماً!

    كيف الوصول وقد يسترقونك وأنت في الطريق.

    الشيطان وعداوته للإنسان

    شيطان الجن الذي يزين لك كل قبيح، وهو الذي حادّ الملك، حادَّه ورفع عقيرته بخلافه، ولم يأبه به، فمن أنت؟ ما هي قيمتك، وأنت صيده الثمين؟

    شيطان الجن، الله عز وجل ملكك أكتافه ونصرك عليه.

    إذا قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولى.

    مهما كان مارداً عاتياً لا يقف ولا يثبُت.

    فأنت بربك، وقوتك به، وإلا غلبت، ولو اجتمعوا عليك غلبوك يقيناً، فأنت عُذْ بالله لتنجو، فهل عرفتَه؟!

    إن دروب الحياة مهلكات، يتربص بك هذا الذي أظهر لك عداوته قبل أن يكون لك سن تقطع أو يد تبطش، أرأيتَ نذالة في عدو مثلما رأيت في الشيطان!!

    قال صلى الله عليه وآل وسلم: (ما من مولود يولد إلا يستهل صارخاً) كل ولد أول ما ينزل من بطن أمه يصرخ، لماذا يصرخ؟

    مسه الشيطان، وكزه، طعن في خاصرته، وهو طفل ضعيف، ما له سنه تقطع، ولا يد تبطش، ولا يدري شيئاً.

    مهلاً! يا عدو الله: لماذا تظهر عداوتك له من أول لحظة؟!

    وكزه، فلما وكزه صرخ، لهذا يبكي الولد إذا وُلِد. (ما من مولود إلا يستهل صارخاً ذلك أن الشيطان مسه إلا مريم وابنها)، ذلك أن امرأة عمران قالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران:35]، خالصاً، محرراً من أية مصلحة، لا أريد الولد ليحمل اسمي، لا أريد الولد ليرث أملاكي، لا أريد الولد ليكون بصري إذا فقدتُ البصر، أو عكازي إذا فقدت قوتي، لا أريد الولد إلا لك، نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران:35] من أية مصلحة، هل فعل نساؤنا ذلك؟ هل خطر على بال الواحدة وهي تنظر إلى بطنها أن تقول ما قالت امرأة عمران، رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35].

    فلما أخلصت نيتها لله عز وجل امتن عليها بأربع نعم: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً [آل عمران:37].

    قطرةٌ من فيض جودك تملأ الأرض رِيَّا ونظرةٌ بعين رضاك تجعل الكافر ولياً

    فكيف وقد تقبلها بقبول حسن؟! فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً [آل عمران:37]، تعاهدها منذ الصغر، وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، موت الرجل من أعظم المصائب في حياة المرأة، وطلاق المرأة كسرها كما قال عليه الصلاة والسلام.

    لا يحس بما أقول إلا المرأة التي مات زوجها وهي فقيرة وتنفق على أيتام لها، أو المرأة التي طلقها زوجها وضيَّعها أهلها.

    معنى: كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]: صانها ورفع قدرها وجنبها عناء مصارعة الخلق في الحصول على الرزق.

    وهذه نعمة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى امرأة لا تشكر زوجها).

    لماذا؟

    لأنه يكفلها، ينتزع رزقها ورزق أولادها من مئات الأيدي والأفواه، ثم يأتي براتبه فيضعه بين يديها، فهي لا ترى غيره، وهو يرى ألوفاً، منهم اللئام، ومنهم الكرام، هذا الراتب مجهود فَعَلَه الرجل، لذلك إذا جَحَدَت خير زوجها مقتها الله ولم ينظر إليها.

    مريم مات أبوها الكفيل، فلم يُسْلِمْها ربها إلى الخلق، بل رزقها بغير حساب، وصان لها ماء وجهها.

    لقد أنعم الله على مريم بهذه النعم الأربع.. لماذا؟

    لأن أمها أحسنت بأن وهبتها لله رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35]، ولذلك مريم وابنها عليهما السلام ما مسهما الشيطان.

    إذاً: نأخذ من هذا الحديث أن الشيطان يعلمك بعداوته برغم أنك لا تعقل، يقول لك: تذكر عداوتي، أنا ما نسيتك، ولذلك قال الله عز وجل أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50]، أمعقول هذا الكلام؟! تتخذه ولياً وهو عدوك وتترك وليك الله الملك الحق فلا تواليه؟! وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55].

    فهذا عدو لدود.. ما هي خطتك في مواجهته؟!

    شياطين الإنس

    عدو الإنس قد يكون من أقرب الناس إليك إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التغابن:14]، قد يكون من أقرب الناس إليك من يصدك عن الله، تريد أن تلتزم يصدك، خائن يريد أن يأكل رزقك، يريد أن يعيش عيشة الأنعام فيصدك لتكون مثله.

    يقول لك: التزامك يضرني فلا تلتزم.

    فإن قلت له: هل ودخولي النار لا يضرك؟! تعرضني لعذاب الله ولا يضرك؟! إن كنت تحبني أجب عن هذا السؤال.

    - يقول: إن التزامك يؤثر على منصبي.

    وتقول له: وانحرافي أنا يعرضني لعذاب الملك، أهذا يرضيك؟!

    - يقول: نعم. بلسان الحال وإن لم ينطق بها.

    كذلك قضى الله عز وجل على هؤلاء، على هذا النمط: يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج:11]، أعز ما يملك، يقول: يا رب! أدخلهم النار ونجِّني، فإن لم يكفِ هؤلاء وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ [المعارج:12]، خذ امرأتي وأخي ونجَِّني، فإن لم يكف هؤلاء وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ [المعارج:13]، خذ الأسرة كلها ونجِّني، فإن لم يكفِ ذلك وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:14]... اعرف هذا..!

    وبعض هؤلاء الأعداء لهم لسان جميل، ومنطق عذب، وقد يصادف عِيًّا في المريد فيضل ويهلك.

    وأنا أعطيك مثلاً لتعتبر به، كعب بن مالك كان أحد الأمراء في الجاهلية، فلما أسلم وتخلف عن غزوة تبوك ورجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة، وجاء المنافقون يعتذرون إليه.. جاء كعب بن مالك من جملة من يعتذر، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما خَلَّفك؟ قال: يا رسول الله! لو كنت عند أحد من أهل الأرض لرأيتُ أنني أخرج من سخطه بعذر، لقد أوتيت جدلاً -أي: أنا رجل مجادل صاحب لسان لا أُغلب، لكن الشوكة التي في ظهري أنني أمامك، لو كنت عند غيرك لعرفت كيف أخرج، وكيف أعتذر، وكيف أبكيه على حالي بالمنطق المقنع واللسان العذب- لكنني لو حدثتك حديثاً ترضى به عني يوشك الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد به علي إني لأرجو فيه عقبى الله، والله! ما كان لي من عذر. -إلى آخر كلامه- ثم خرج من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته فقابله بعض أقربائه: ماذا قلت؟ قال: قلت: كذا وكذا وكذا. فقالوا له: والله! لقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله، ما نعلم أنك أذنبت إلا هذا الذنب- ألم تكن تقدر أن تقول له: اعتذر لي، هو ذنب واحد فقط، لو قال: اللهم اغفر لـكعب ذهب الذنب، أنت ما الذي ورَّطك هذه الورطة؟ وجعلك تعمل من نفسك صادقاً، فرحت تدين نفسك هنا بلسانك- قال: فلم يزالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي) هذا نموذج من رجل عنده جدل، فكيف بشخص ضعيف لا يستطيع أن يتكلم ولا يستطيع أن يدلي بحجة؟! ماذا سيفعل فيه مثل هذا الكلام؟

    عدو الإنس يزين لك وهو أخطر من عدو الجن من أوجه:

    أولها: أن عدو الجن إذا استعذت بالله فر، وعدو الإنس ماكث لا يفر.

    ثانيها: أن عدو الجن لا تراه؛ لكن عدو الإنس يراك وتراه، وفي المشافهة والمخاطبة إقناع، بعض الناس يقتنع لمجرد أن يرى وجه المتكلم، وانفعاله وأساريره، وهذا له دخل كبير في الإقناع، ولذلك ليس مَن رأى كَمَن سمع، إذا كنت تستمع لخطبة الجمعة فإنك تنفعل بها وتؤثر فيك؛ ولكن خذ الشريط واسمعه بعد شهر، ستجده لا يؤثر فيك مثلما يؤثر فيك، وأنت تسمع الكلام المباشر.

    فشيطان الإنس أخطر، ولذلك احذره ألف مرة.

    ثم احذر نفسك التي بين جنبيك، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53].

    1.   

    زاد على الطريق

    ما الذي يخفف عليك جفاف الدروب المهلكة؟

    محبة الله عز وجل، إن الحب يطيل النَّفَس فيعطي القلب قوة، ويعطي الجوارح قوة.

    فما هي حقيقة الحب الذي نقول: ينبغي أن نعلمه أولادنا ليصدق انتماؤهم إلى الله ورسوله؟

    وَقُود الانتماء: الحب، وجناحاه: الولاء والبراء.

    فما هو الحب؛ لأن الإيمان بالشيء فرع عن تصوره؟

    قال الناس: الحب إشارة إلى الصفاء والضياء.

    والعرب تقول إذا رأت أسناناً بيضاء متلألئة، تقول: حبب الأسنان.

    أو هو من الحباب وهو الشيء الذي يطفو على ماء المطر إذا نزل، فكأن الحب هو هيجان القلب وثورته إلى لقاء المحبوب.

    أو هو من اللزوم والثبات والاستقرار يقال: (أحبّ البعير) إذا برك ولم يقم؛ فكأن الحب هو لزوم قلب المحبوب، فلا يروم عنه تحولاً.

    أو كأنه من الحَب الذي هو أصل الشيء، كما أن الحَب هو أصل الزرع.

    فالحب هو إيثار المحبوب على المصحوب.

    وهو رعاية الحبيب في المشهد والمغيب.

    وهو إيثار الخدمة مع وافر الحرمة.

    الحب أن لا يكون لك إرادة مع من تحب، تنفعل له ولو كان بضد رغبتك.

    يخط الشوقُ شخصَك في ضميري على بُعد التزاوُر خَطَّ زوري

    ويُوهم منك طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري

    فلا تبعُد فإنك نورُ عيني إذا ما غبت لم تظفر بنورِ

    إذا ما كنتَ مسروراً بهجري فإني من سرورك في سرور

    مسرورٌ أنك هجرتني! فأنا راضٍ وأنا مسرور، برغم أن الهجر للحبيب قوي وشديد؛ لكني مغلوب على ما تحب، فلا أرى إلا ما تحب، حتى لو كان بضد رغبتي.

    هو هذا معنى أن لا يكون لك إرادة، ولذلك ترى المحبين مهانين ليس لهم كرامة، ولو قال المحب: كرامتي، فليس بمحب، لكنهم مُهْدَرُو الكرامة، يُهان المحبُّ ويَذِل وهو راضٍ مستكين.

    وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخَّرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ

    وأهنتني فأهنت نفسي جاهـداً ما مَن يهون عليك ممن يُكْرَمُ

    شاكلتَ أعدائي فصرتُ أحبهم إذا كان حظي منك حظي منهمُ

    أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوَّمُ

    أهنتني فأهنت نفسي جاهداً؛ لأن إهانتي ترضيك، ماذا يفعل بي عدوي أكثر من أن يهينني، فلما أهنتني وأهانني عدوي صرت مثل عدوي، فأحببت عدوي لأن فيه صفة منك، كما أن حظي منهم الإهانة، وحظي منك الإهانة أحببتهم لذلك.

    الحب: أن لا يكون لك إرادة مع من تحب.

    كان مالك بن نويرة رجلاً مسلماً، فلما تنبأت سجاح الكاذبة التي ادعت النبوة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وفي أول خلافة الصديق ، تابعها مالك بن نويرة ، فلما أرسل أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد ليؤدب المرتدين، وبلغه أن مالك بن نويرة تابع سجاح الكاذبة ، وقال بعض المسلمين لم نسمع منهم أذاناً ولا إقامة، ورأى أنه كفر، أمر به فقُتِل وتزوج امرأته.

    أخوه متمم بن نويرة كان شديد الحب له، ما رأيت رجلاً تفجع في رثائه على أحد مثلما تفجع متمم على أخيه، فلما قتله خالد بن الوليد رثاه متمم بن نويرة بأبيات، فكان دائماً يبكي لا يُرى إلا باكياً، فمن شعره:

    فقال: أتبكي كل قـبر رأيتَـه لقبر ثَوَى بين اللوى فالدكادك

    فقلتُ له: إن الأسى يبعث الأسى فـدعني فهذا كله قبر مالك

    لا يرى قبراً على وجه الأرض إلا هو قبر محبوبه الذي دفنه فيه.

    دعني لا أرى قبراً على وجه الأرض إلا قبر من مات من أحبتي.

    فقلت له إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك

    هذه طبيعة الحب وطبيعة المحب.

    فهل لما أرسل الله عز وجل نبيه بالهدى ودين الحق تأدبتَ بتأديب الله عز وجل إيانا وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]؟

    هذا هو معنى أن لا يكون لك إرادة مع محبوبك.

    إذا أمرك بضد هواك تسارع أكثر مما لو كان وفق هواك.

    هذا عنوان الحب؛ ولذلك جعل الله عز وجل الفعل علامة قائمة على ثبوت الحب فقال تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

    تُحب! لابد أن تقيم دليل المحبة وهو الاتباع، وهو أن لا تخالف أمره في دقيق ولا جليل، ذلك عنوان الحب.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    1.   

    المحبة في القرآن الكريم

    الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    قد أكثر الله عز وجل في كتابه من ذكر المحبة:

    فقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4].

    إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].

    إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42].

    إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً [الصف:4].

    وفي المقابل نفى الحب:

    فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].

    وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].

    فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32].

    وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، ولا المشركين.

    لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].

    فلما وقفت على الصيغة: (لا يحب)، ففتشت في القرآن عن لفظة (يكره) مسندة إلى الله.

    ما وجدتُ إلا مكاناً واحداً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، وتعلق هذا الكره بالفعل.

    فلماذا (لا يحب) بدل (يكره)؟

    قضيت ليلتي متفكراً، ما اكتحلتُ بنوم حتى أذن الفجر، وظللت بعد الفجر ساعتين لا أنام، أريد أن أصل إلى هذا المعنى، وفتشتُ في كتب أهل العلم في المظان، فما وجدت، فانقدح في ذهني معنى إن كان صواباً فمن الله عز وجل وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، وأستغفر الله مما يسبق إلى الخاطر، ووالله! لقد كان أحب إلي أن أقرأه لعالِم فأنسبه إليه ليزداد شرفاً.

    (لا يحب) أفضل مِن (يكره) مِن وجه واضح: أن ذكر الحب حتى في طريق نفيه يهيج على الحب، يبعث عليه ويذكر به، والله عز وجل لا يرضى لعباده الكفر، مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ [النساء:147].

    قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل كتب في كتابه الذي هو عنده أن رحمته تغلب غضبه).

    إذاً: هو يذكرهم بنعمه، فلما يذكر (لا يحب) فهذا يهيج على الحب بخلاف ما إذا قيل: يكره التي ليس فيها تهييج ولا تذكير بالحب؛ لذلك كان عدم الحب أفضل في الذكرى والتذكير لصالح العبد من الكره، مع أن الذي لا يحبه الله عز وجل يكرهه، لذلك قال (لا يحب).

    1.   

    اسم الله (الودود)

    باب الأسماء والصفات ربما وقفنا عنده طويلاً لنعلم الناس كيف يحبون الله، لنعلم الناس صدق الانتماء إليه.

    أرأيت إلى هذه الصفة ما أجملها! وأرقها! وأحنها! الودود، لم تتكرر في القرآن إلا في موضعين اثنين، وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90] وفي الآية الأخرى في سورة البروج: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14]، الصفات حين تقترن ببعضها تؤدي معنى عظيماً.

    رحيم من الرحمة؛ لكن صفة الرحمة اقترنت بصفة العزة في مواضع من القرآن، وتستغرب؛ فإن العزة معناها القهر والانتقام والبطش، فكيف اقترنت بالرحمة؟

    تأمل في سورة الشعراء بعد ذكر قصة كل نبي، ويذكر الله عز وجل لنا كيف أهْلَكَ المكذبين، يُتْبِع كلَ قصة بقوله تبارك وتعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9]، عزيز لأنه أهلك المجرمين، رحيم لأنه الطائفة المستضعفة، فصفة الرحمة من الممكن أن تقترن بالعزة، وصفة العزة دائماً صفة استعلاء، الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ [الحشر:23]، عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4]، الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [هود:66]، عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:42]، صفة العزة صفة هيمنة وجبروت واستعلاء؛ لكن من الممكن أن تقترن بالرحمة.

    الغفور من الممكن أن تقترن بالعزة الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2].

    لكن الود لم يقترن إلا بالرحمة والمغفرة، فإذا ذكر الود فاعلم أن كله رحمة أوله وآخره.

    فانظر: ودود (فعول)، كثير الود، والود من المستغني جميل، إذا تودد الضعيف يقال عنه: يتزلف، منافق، له مصلحة، إذا تودد المحتاج لم يكن لِوُدِّه ذلك المعنى الذي يكون للمستغني، ولذلك قال العلماء: الزهد من الأمير حَسَن، رجل فقير وزاهد، أنت تقول: وهل هو لاقٍ شيئاً؟! فبالطبع لابد أن يزهد، ليس عنده شيء؛ لكن إذا رأيت أمير المؤمنين يزهد عَظُم في نظرك الزهد ورأيتَ له طعماً.

    والقادر إذا عفا وغفر كان لغفرانه طعم.

    فالله عز وجل المستغني العزيز له الأسماء الحسنى والصفات العلا يتودد إليك، وهو لا يحتاجك، فما أجمل هذه الصفة في موضعها! لا سيما إذا سُبِقت بالرحمة وسُبِقت بالمغفرة.

    أتفر منه؟!

    يهون عليك ويقوى قلبك على مشهد العصيان له؟!

    والله! ما هذا بالنَّصَف، ما هذا بالإنصاف، وهو المتفضل عليك، نعمه عليك من شَعَر رأسك إلى أخمص قدمك.

    1.   

    التوكل على الله وحسن الظن به

    إن الذين تنفك عزائمهم في المحن لا ينظرون إلى الله حال الابتلاء؛ لكن ينظرون إلى كيد العدو، لذلك تنفسخ العزائم؛ إذا قيل لأحدهم: احلق لحيتك وإلا اخرج، سأل نفسه سؤالاً: أنا لو خرجت فمن أين آكل؟ أين أبيت؟ هذه هي الجهة التي نظر إليها! هل لما ولى وجهه قال: الله يؤويني ويسترني، ولا يضيعني وقد أطعته، وقد حفظني وأنا عاصٍ له.

    فلا تظْنُن بربك ظن سَوء فإن الله أولى بالجميل

    لكن الجهة التي ينبغي أن يَنْظُر إليها ليس فيها أحد؛ لذلك انفسخ عزمه.

    التوكل على الله عز وجل أصله اعتماد القلب على الله.

    أيها المبتلى! أنت عبده، وأنت من خلقه، وإنما أنزل إليك الكتب وأرسل الرسل ليحمِيَك من عدوك، فاطمئن، لن يُسْلِمَك، وسيذكرك وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

    الله حسبك وكافيك، وانظر ما أجمل هذه الصفة! صفة الحَسْب، حَسْب، كل حَسْب ورد في القرآن مَعْزُوٌّ إلى الله عز وجل فهو خالص له:

    الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، لم يشركوا مع الله أحداً في الحَسْب.

    يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64].

    وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال:62].

    ثم انظر إلى هذا الموضع الجميل الجليل الدقيق: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [التوبة:59]، فلما ذَكَر الإيتاءَ ذَكَرَه لله ورسوله، ولما ذكر الحَسْبَ أفْرَدَ نفسَه به، وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا الله [التوبة:59] لم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، بل أفردوا الله بالحَسْب، إذ لا يقدر على رفع الضر إلا الله، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:17-18].

    فالحَسْب اعتماد القلب على الله، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، هذا هو الحَسْب، فإذا اعتمدت في وقت المحن بقلبك على الله عز وجل لا يُسْلِمُك إلى عدوك.

    إن العرب في الجاهلية وهم جهلاء كفروا بالله ورسوله، كان الرجل الضعيف إذا استجار بواحد قوي، وقال الرجل: هو جار لي، لا يقدر أحد على إيذائه لِمَنَعَتِه وقوته، فإذا دخلت في جوار الله عز وجل تظن أن الله يُسْلِمُك؟! تظن ذلك؟!

    لله در أبي بكر -رضي الله عن أبي بكر - لما خرج -كما في صحيح البخاري- مهاجراً وولى وجهَه شطر البحر قابله ابن الدغنة فقال: إلى أين يا أبا بكر ؟

    فقال: أخرجني قومك، أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي.

    قال: يا أبا بكر مثلك لا يَخْرُج ولا يُخْرَج، ارجع وأنا جار لك -أنت في حمايتي- ثم ذهب ابن الدغنة إلى الكعبة ونادى في الناس: ألا إني أجرت أبا بكر ، فما تعرض أبو بكر بعدها لأذى.

    وكان أبو بكر يصلي وقد اتخذ مسجداً في داره، فكان يصلي داخل الدار، فمضى وقتٌ، فبدا له أن يبني بيتاً في فناء الدار -خارج الدار- وكان أبو بكر رجلاً أسيفاً كثير الأسف سريع الدمعة، إذا قرأ القرآن لا يملك عينيه، فكان إذا قرأ وبكى اجتمع النساء والولدان عليه يتفرجون -ما هذا الشيء العجيب؟ أول مرة يرون رجلاً يبكي، ويسمعون كلاماً يقطع نياط القلوب- فلما رأى المشركون هذا المنظر، قالوا لـابن الدغنة : ما على هذا اتفقنا، مر صاحبك يدخل الدار؛ لأننا نخشى على نسائنا وأبنائنا أن يفتنوا، وإلا فرد جوارك، لن نسكت، لا نرضى أن نخفر جوارك، فجاء ابن الدغنة إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقال: يا أبا بكر صل إن شئت في دارك ولا تستعلن وإلا رد علي جواري، فإني أكره أن يتحدث العرب أنني أخْفِرْتُ في جواري، قال أبو بكر : بل أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل.

    فلا تظنن بربك ظن سوء فـإن الله أولى بالجميل

    باب الأسماء والصفات باب خطير في زيادة الإيمان، وتأمل الأسماء المقرون بعضها إلى بعض، تزدد بها إيماناً.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين..

    اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

    اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

    اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

    رب آت نفوسَنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

    اللهم اغفر لنا هَزْلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755797854