إسلام ويب

الإحسان وأثره في التمكينللشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله عز وجل أمر بالإحسان في كل الأمور، حتى حين يذبح المرء ذبيحته، وأولى الناس بالإحسان هم الدعاة؛ لأن الدعوة إلى الله تعالى شرف للقائم بها، فلابد للداعية من اتخاذ الأسلوب المناسب الذي يمكن له في قلوب الناس، وبالتالي يتمكن من نشر دعوته بين الناس وإيصال الحق إليهم، ولنا في أنبياء الله أسوة حسنة، فقد كانوا يتدرجون في دعوتهم ويتخذون الطرق المناسبة لذلك.

    1.   

    التمكين في القلوب بالمحبة قبل التمكين في الأرض

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

    القرآن الكريم معين لا ينضب؛ لكنه يحتاج إلى إعمال النظر، إذ إن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن القرآن حمالٌ وجوه)، وقد اخترت أن لا يكون الموضوع مباشر مع العنوان، ولكن جعلت هذا الموضوع تأملات في سورة يوسف عليه السلام، وهذا التأمل خاص بموضوع في غاية الأهمية والحيوية، ألا وهو موضوع الإحسان ومكانه من التمكين للمسلمين في الأرض.

    سُئل ابن مسعود رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري- عن أجمع آية للخير والشر في القرآن؟ فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90]، فهذه أجمع آية للخير والشر في القرآن الكريم.

    تمكين الله لنبيه يوسف في القلوب

    وسورة يوسف عليه السلام هي سورة الإحسان، ونحن سننظر كيف مكن ليوسف عليه السلام، يخطئ من يتصور أن التمكين أن تحوز الأرض من تحتك، ونحن نقول: إن التمكين في الأرض يسبقه تمكين آخر في غاية الأهمية هذا التمكين هو الذي أحرزه يوسف عليه السلام.

    وانظر معي في قول الله عز وجل: وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ [يوسف:21] أين هو التمكين؟

    قد استخرجوه من غيابة الجب، وبيع بثمن بخس دراهم معدودة، أعني أنه لا يظهر لنا أثر التمكين، ومع ذلك بمجرد أن بيع بهذه الدريهمات، ودخل قصر العزيز، قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ [يوسف:21].

    أما التمكين فلأنه دخل قلب العزيز، هذا هو التمكين: عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [يوسف:21]، هذا هو التمكين المهم الذي لا يتم التمكين للمسلم في الأرض إلا به.

    إذا دخل المرء قلب إنسان استعبده، وصار ولده وماله، وصار هو نفسه مِلكاً لهذا الإنسان، وذلك لأن المرء كلف بمن يحب، ألم تر في سيرة المحبين إلى هذا المعنى الظاهر، وهو أن المرء إذا أحب كلف، وإذا كلف ذل، والمحبة والذل قرينان، كلما كنت في قاع الذل صرت على قمة الحب، فالمسألة لا تنفك، كلما زاد حبك زاد ذُلّك.

    والشاعر المشهور في دواوين العاشقين وهو قيس ، يقول في الأبيات التي طارت كل مطار لما فقد المرأة -ونسأل الله عز وجل أن يعافينا وإياكم من داء العشق؛ لأنه داء قتال- قال:

    أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

    وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

    أحب الرجل حتى وصل إلى درجة الكلف، الرسول عليه الصلاة والسلام أحبه قومه قبل أن يأتي بدعوته، لذلك نحن نقول للدعاة إلى الله عز وجل، الذين أغفلوا هذا الجانب: لماذا تأخر التمكين حتى الآن؟ إذا أردت أن تمكن فأحسن، فإنك بالإحسان تسترق قلوب العباد.

    وها هو يوسف عليه السلام يضرب به المثل، الله عز وجل جعل له مكاناً في قلب العزيز فأحبه، فهذا بداية التمكين أن تدخل قلوب الخلق، ونحن نعلم أن بعض الناس كفروا بسبب محبتهم للذين يدعونهم، أي: أنه لا يفكر، فقد وصلت به الثقة العمياء إلى أن يضع حياته بين يدي هذا الإنسان فأضله، فكما قلت: الحب داعية الاتباع، كما قال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

    دخل يوسف عليه السلام قصر العزيز وبدأت المحن تتوالى عليه، وكانت محنة في غاية القوة تلك التي تعرض لها، ولكنه صبر عليها صبر النبلاء، لأن الصبر عن معصية الله عز وجل هو أرفع أنواع الصبر فيما يتعلق بالمكلف.

    ولك أن تتأمل: داعي المعصية موجود، فيوسف عليه السلام كان غريباً، والغريب يفعل في دار الغربة ما يأنف أن يفعله الحاضر بين أهله وخلانه، هذا أول داع لأن يفعل المعصية، لأنه غير معروف.

    ثم هو شاب أعزب فتي لم يتزوج ولم يتسر، وهذا أيضاً باعث على أن يقع في المعصية.

    ثم هو مملوك، والمملوك لا إرادة له، وهو حريص على إرضاء مالكه، فهذا أيضاً داعي الوقوع في المعصية.

    ثم المرأة جميلة، وهي الداعية إلى نفسها، وقد غلقت الأبواب، ومع ذلك يقول: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23] وتكرر لفظ الإحسان والمحسنين ومشتقات الإحسان في سورة يوسف كثيراً، بحيث إنك تستطيع أن تسميها (سورة الإحسان) لأنه يطهر فيها الإحسان جلياً.

    أول موقف وقف فيه يوسف عليه السلام هو هذه المحنة القوية، ومع ذلك تجاوزها بهذا النبل، فأعلى الله عز وجل كعبه.

    ماذا حدث بعد ذلك؟

    الموقف الثاني ليوسف عليه السلام في التمكين

    المرأة اتهمته، ودخل السجن مع ظهور براءته، فهو ظلم أولاً من المرأة، ثم ظلم بالقرار الجائر أن يدخل السجن بعد ظهور الآيات ببراءته، فدخل السجن، ودخل معه فتيان، وبدأ الموقف الثاني الذي يدلك على محبة يوسف عليه السلام لدعوته. وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36].

    والإحسان ينطبع على الوجه، لا تتصور أن صاحب الغل ينجو، بل يظهر غله على وجهه، وصاحب الإحسان ينطق الإحسان على وجهه، ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام : (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).

    أحياناً قد تنظر إلى الرجل الذي تراه لأول مرة فتشعر أنك تحبه، وتريد أن تقترب منه، وأنت مستريح له، ورجل آخر أيضاً لا تعرفه، وما دار بينك وبينه حوار، ولا أساء إليك، ومع ذلك تبغضه، وتشعر بهذا البغض في قلبك، وتود أنه لو لم يتكلم، ولم يكن بينكما حوار، إذاً: ما هو الضابط بين هذا وذاك؟

    إنها أسارير الوجه التي تعبر عما يكنه القلب، لذلك قال الرجلان ليوسف عليه السلام: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36] نطق الإحسان على وجهه عليه السلام.

    لم يبدأ يوسف عليه السلام البداية التي قد يجهلها من يدعو إلى الله عز وجل، بأن يلبي لهم حاجاتهم؛ لأن المرء إذا حصل حاجته ذهب، ولذلك لما تنازع العلماء في أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ رجح كثير من المحققين أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأن الغنى داعية الطغيان وداعية الاستغناء، كما قال عز وجل: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، ما طغى إلا بعد أن استغني.

    انظر إلى حياتنا ترى هذا الشيء موجوداً، فإذا ما الابن ينفق عليه أبوه أو أخوه الكبير فهو لا يكاد يخالفه، وينفذ أحياناً بعض ما يكره إذا أمره أبوه أو أخوه، فإذا استقل براتبه بدأ يستقل بقراره، وبدأ يكون له رأي، وبدأ يعارض.

    ولذلك نهى الإسلام المرأة عن العمل، وقال علماء المسلمين: إن الأصل في المرأة أنها لا تعمل، لأن الله عز وجل جعل قوامة الرجل على المرأة بشيئين: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]؛ فإذا عملت المرأة وصار لها راتب، كأنما انتزعت نصف القوامة من الرجل؛ لأنها تنفق على نفسها.

    وكثيراً من النساء اللواتي يعشن في ذل الرجل العنيف الذي يضرب والذي يسب، لماذا يعشن؟ ولماذا يقبلن الذل؟ لأنهن يخفن على أنفسهن من التشريد، كثير من النساء يقبلن الذل لأجل لقمة العيش، أول ما يكون للمرأة راتب وتستقل براتبها، فكأنها انتزعت نصف القوامة من الرجل؛ لأن الله عز وجل يقول: وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، إذاً: بداية استغناء المرأة عن الرجل كان سببه الحصول على الراتب، إذاً: طبيعة الاستغناء أنه يوصل إلى الطغيان.

    فهذا الغني الصحيح الذي يجد الأموال الطائلة أمامه، فلا يتعرض لضائقة مالية ولا يتعرض لأزمات، فلذلك يخف ذكر الله من لسانه، قلما يقول: يا رب، قلما ينام وهو يؤمل في الله خيراً؛ لأن دفتر الشيكات موجود، والأموال موجودة في البنوك، وهذه المسألة لا يكاد أحد منا يحتاج إلى كبير بحث فيها.

    فالشكر مع هذا الغنى الذي هو داعية الطغيان نادر جداً، أما الصبر فكثيراً ما يلازم الفقر؛ لأن الإنسان إذا افتقر فإنه يوازن بين أن يسخط وبين أن يصبر، فيجد أن الصبر أجود وأفضل، وقد يصبر صبر المضطر؛ لذلك تجد الصبر كثيراً ما يلازم الفقر، ولا تجد الغنى يلازم الشكر إلا نادراً.

    لذلك ذهب كثير من العلماء على أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لعدم وجود باعث الشكر عند الغني.

    فيوسف عليه السلام يعرف هذه الحقيقة من نفوس بني آدم، لذلك لم يبدأ بتعبير الرؤيا لهم، وقال: لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [يوسف:37]، وياء الإضافة في (ربي) تكررت كثيراً في سورة يوسف، وهي تشعر بالاعتزاز وصحة الانتماء إلى الله عز وجل، قال: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]، ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [يوسف:37]، إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50]، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:101].

    ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [يوسف:37]، فبدأ يعرفهم بإلهه الذي يعبده وبدأ يعرفهم بأنه ينتمي إلى آباء كرام ورثوا النبوة: ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:37-40].

    1.   

    دروس للدعاة في كيفية الدعوة بالإحسان والتأليف

    انظر إلى الترقي في المناظرة، هذا الدرس يحتاج إليه الدعاة إلى الله عز وجل أكثر من غيرهم، انظر إلى يوسف عليه السلام كيف ترقى لم يبدأ مهاجماً؛ لأنه سيقوض دعوته، إنما جعل الهجوم آخر مرحلة، فبدأ يعرف بنفسه، ويعرف بحقيقة الذي يعبده، وأنه ينتمي إلى آباء كرام ورثوا النبوة، ثم طرح سؤالاً لا يخطئ الإجابة فيه من له عقل مستقيم.

    فيوسف ترقى بهم شيئاً فشيئاً، كأنما قال لهم: إن الذي يكلمكم ليس بجاهل، إنه ورث النبوة، وهو سليل بيت العلم، يُعرِّف بقدره، وشتان بين الافتخار بمثل هؤلاء الآباء، وبين الافتخار بالآباء الذين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الافتخار بهم.

    فبعدما عرف بنفسه سأل السؤال المنطقي الطبيعي الذي لا يخطئ في الإجابة عليه إنسان له عقل سوي: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف:39] وتأمل في الخطاب: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف:39] فأنزلهما منزلة الصاحب؛ لأن هذا فيه أنس؛ لأنك إذا خاطبت رجلاً وبينك وبينه حواجز فلا يكاد يعي كلامك.

    استئناس عمر في دخوله على النبي حين هجر أزواجه

    وفي حديث ابن عباس في الصحيحين: (لما طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، وكان الصحابة يبكون بجانب المنبر على اهتمامه عليه الصلاة والسلام بهذا الأمر وتكدر خاطره، ذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى باب المشربة، وكان هناك غلام النبي صلى الله عليه وسلم -واسمه رباح - فقال عمر : فجئت الغلام فقلت: استأذن لـعمر ، فدخل ثم خرج فقال: ذكرتك له فصمت، قال: فجلست بجانب المنبر، ثم غلبني ما أجد، فقمت، فقلت للغلام: استأذن لـعمر ، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، قال: فذهبت إلى جانب المنبر فجلست، ثم غلبني ما أجد، فقمت، فقلت للغلام: استأذن لـعمر ! فدخل ثم خرج، فقال: ذكرتك له فصمت، قال عمر: فهممت وانصرفت، فبينما أنا عند الباب إذ الغلام يناديني، فقال: قد أذن لك، قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم -وكان الرسول عليه الصلاة والسلام غضبان من نسائه، وأقسم أن لا يدخل عليهن شهراً، فـعمر عرف الموقف- قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الحصير في جنبه، فأردت أن أستأنس قبل أن أجلس -هذا هو الشاهد، ومثل عمر لا يحتاج إلى إحداث أنس بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هناك حاجز وهو أن خاطر الرسول عليه الصلاة والسلام متكدر، وهو يريد أن يستأنس قبل أن يتكلم- قال: فأردت أن أستأنس، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معاشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار، فإذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، قال: فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتني وأنا أقول لـحفصة : لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ -يعني عائشة - أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأوضأ منكِ -أي: أجمل- قال: فتبسم أخرى، قال: فجلست).

    تدرج يوسف عليه السلام في الدعوة وحكمته فيها

    وهذا من ذكاء الداعية وفطنته إذا دخل على أناس لا يعرفهم، يهش ويبش لهم، ويمد جسور الود، هكذا كان صنيع الأنبياء، ولكل غريب دهشة، فيكون بينك وبينه حاجز لا يكاد يوصل كلامك، لذلك ناداهما يوسف عليه السلام: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف:39] فأنزلهما منزلة الصاحب: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39] سؤال منطقي جداً، يبدأ يزلزل عقائد هؤلاء بمثل هذا السؤال البدهي، الذي لا يحتاج إلى كبير علم؛ لأننا نعرف هذا من أنفسنا.

    لو أن هناك خادماً وله أكثر من سيد، فهو أشقى الناس، هذا يأمره وهذا ينهاه، وإذا تخاصم السادة شقي أكثر؛ لأنه كلما أرضى أحداً غضب عليه غيره، ولكنه إذا كان له سيد واحد استراح.

    ثم بدأ يتدرج في الهجوم: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ [يوسف:40]، وأكثر أهل الأرض أدعياء حتى في الآلهة التي يسمونها، أي: كثيراً ما يذكرون الشيء بلا مضمون، كم من الذين سموا بأمين الصندوق فظهر أنه خائن!

    والشاعر الأندلسي كان له حق أن يتوجع من كثرة ألقاب ملوك الأندلس، الذين ضيعوا الأندلس، تجد الواحد منهم يشرب خمراً ولقبه محيي الدين، ورجل آخر يتعامل مع الأعداء ويلقب بعضد الدين، وآخر سيف الملة، فقال الشاعر الأندلسي يتوجع من هذه الظاهرة:

    مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها ومعتضد

    أسماء مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

    اسم لكن لا مضمون تحته.

    ماذا يعبدون من دون الله؟ يعبدون حجارة، يعبدون موتى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14] إذاً: هذه مجرد أسماء، سمه القوي! القادر! العزيز! لكنه مهزوم، ما هو بقوي ولا قادر ولا عزيز، فهي مجرد أسماء وشعارات جوفاء لا مضمون تحتها.

    ماذا تعبدون يا أصحاب السجن؟ مجرد أسماء: سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:40].

    تجربة دعوية فيها عبرة

    سوف أسوق لكم تجربتي، ولا أسوقها لأنني في موضع الحجة، بل أسوقها لأنني عاينتها، كيف أن الإحسان إلى الخلق يمرر دعوتك بأسرع من حجتك، كم من أناس بلغاء وقف الحاجز في النفس مانعاً دون وصول الدعوة إلى قلوب الخلق.

    أول ما بدأنا نتعلم العلم الشرعي وذلك في أوائل السبعينات، كانت هناك عاطفة، ولم نكن نعلم أن هذه العاطفة ينبغي أن يواكبها علم، ولم نكن نعلم أيضاً أن النصوص الشرعية تتفاوت في القوة، فبعض النصوص تكون واجبة، وبعض النصوص تكون مستحبة، وبعض النصوص تكون مباحة.

    فكنا إذا علمنا شيئاً عن النبي عليه الصلاة والسلام في اعتقادنا أنه يجب فعله، ولو طارت فيه رقاب، لم نكن نعرف أن المستحب يترك، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في القاعدة الذهبية التي ذكرها في مجموع الفتاوى: (إن من المستحب ترك المستحب لتأليف القلوب).

    فكنا نقرأ في كتاب شيخنا أبي عبد الرحمن ناصر الدين الألباني -حفظه الله وأطال في عمره ومتع به- تحريك الإصبع في الصلاة، وتحريك الإصبع كما علمني شيخنا بأن تجعل يدك على صورة واحد وخمسين، ثم تضعها على ركبتك، ثم ترسل إصبعك هذه إلى القبلة، ولا تحركها هكذا ..... بل حركها هكذا ..... ولا تصرف هذه الإصبع عن القبلة.

    نحن قرأنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك إصبعه فكنا نحركها هكذا ..... وكل واحد يحركها على اجتهاده، فأنا كنت أحركها هكذا ..... فوقت الصلاة أنت تفعل هكذا ... والرجل الذي بجانبك لم يعتد على هذا، بل اعتاد على التحريك في النفي والإثبات.

    فبدأنا نحرك الأصبع بهذه الصورة ونحن نصلي، فقال لي الرجل الذي صلى بجانبي: (هُوَّ انته طول الصلاة .......) وأشار بأصبعه.

    فقلت له: أنت تستهزئ بالسنة، وهذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام، استغفر الله، وكنت أكلمه بعصبية، كيف تستهزئ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وضعته في خندق المستهزئين.

    وكنا أيضاً نجلس جلسة الاستراحة، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاة لا يقوم حتى يستوي قاعداً، أي: بعد الركعة الأولى وبعد السجدة الثانية قبل أن يقوم من الركعة الثانية يجلس ثم يقوم، ثم في الركعة الثالثة التي هي الوتر -والوتر في الصلاة هي الركعة الأولى والركعة الثالثة- قبل أن يقوم من الركعة الرابعة يستوي جالساً، ثم يقوم.

    وبعد السجدة الثانية سأقوم إلى الركعة الثانية بهدوء، وأعرف أنني سأجلس، وصاحبي بجانبي كان ساهياً فقام للركعة الثانية فرآني قاعداً فقعد ظناً منه أنه سها؛ لكنه سرعان ما رآني قمت فقام، كل هذا بحركة عصبية لم يرتب لها، لكن أنا أعرف أنني سأقعد ثم أقوم بهدوء، لكن كبر عنده هذا الأمر.

    فهذه الأشياء كلها تدينه في صلاته أنه ساه، وغير منتبه لصلاته، فبعد الصلاة تقوم معركة بيننا، يقول: هذا دين جديد، وأنتم غيرتم الدين، ويحصل نوع من النفور الشديد، ونحن في غاية الإصرار على هذا الفعل، ولا ندري أن جلسة الاستراحة مستحبة، وتحريك الإصبع مستحب.

    وتنفير قلوب هؤلاء لا يجوز، ومحرم أن ننفر قلوب هؤلاء، وظللنا خمس سنوات نحاول عبثاً أن نقنع الناس بسنة واحدة، وهي صلاة سنة المغرب القبلية، والناس في اعتقادهم أن المغرب غريب، فتؤذن للصلاة وتقيم بنفس واحد، ونحن نريد أن ننشر هذه السنة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (صلوا قبل المغرب! صلوا قبل المغرب! صلوا قبل المغرب! ثم قال: لمن شاء) فقوله: (لمن شاء) كانت كفيلة أن تردعنا عن الإصرار على صلاة ركعتين قبل المغرب، لكننا كنا نعتقد أننا نعامل أناساً جهلة، ولابد من تعليم الجهلة ولو بالسلاسل.

    فكنت أنا الإمام وكان المؤذن من أصحابنا، فاتفقنا وقلت له: بعد أن تقول: (لا إله إلا الله) سيقولون لك: أقم الصلاة، ونحن لا نريد ضجة، فأنا سوف أكون متوجهاً إلى القبلة، فأول ما تنتهي من قول: (لا إله إلا الله)، فسأقول أنا: (الله أكبر) وأصلي، وأنت أيضاً بعد أن تنتهي من الأذان ارجع إلى الخلف وصل، حتى لا تتيح الفرصة لأي أحد فيقول لك: أقم الصلاة.

    وفعلاً نفذنا ما اتفقنا عليه، فكنا أول ما ينتهي صاحبي من الأذان أكبر، ثم يكبر ونصلي، فما الذي كان يحصل؟

    كانوا لا يصلون، إنما كانوا يشتموننا حتى نفرغ من الصلاة، وعجزنا أن نقنعهم بصلاة ركعتين سنة قبل المغرب، وظل الوضع هكذا لمدة خمس سنوات، فبدأت أحضر دروس الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله، وبدأنا لأول مرة نتعلم في أصول الفقه أن مراتب النصوص الشرعية مختلفة، فهناك ما هو واجب قوي، وفيه ما هو مستحب يمكن تركه، وفيه ما هو مباح على استواء طرفيه ونحو ذلك.

    وبدأ الإنسان يعرف شيئاً من العلم، فلما رجعت إلى البلدة مرة أخرى، لم تمض ستة أشهر إلا وقد أمضيت دعوتي في وسط هؤلاء الناس، وفي هذه المدة الوجيزة التي عجزت على مدار خمس سنوات أن أفعلها معهم.

    حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس

    لقد سلك الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المسلك، فأنت إذا قرأت أن بعض الصحابة أراد أن يقتل عبد الله بن أبي ابن سلول فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)،لم يقل: صاحبه مع أنه رجل واحد؛ لكن قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) هكذا بالجمع، لماذا؟

    لأن الناس لا يتحرون النقد، فعندما يصل الخبر إلى آخر رجل واحد في جزيرة العرب يكون الرسول عنده قد قتل مائتين، مع أنه قتل رجلاً واحداً، فإذا نقل الناس فإنهم لا يتحرون النقل.

    ولذلك صدق شعبة بن الحجاج لما قيل له: لم لا تحدثون القصاص؟ القصاص هم أصحاب الموالد الذين يخترعون قصصاً كاذبة ليأخذوا ما في جيوب العوام، فمثلاً: كان أحدهم يقول للناس: هل تعرفون لماذا الشفة العليا للجمل مشقوقة؟ قالوا: لا، فقال: سبب ذلك أنه كان هناك جمل حزين في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أصحابه يحملونه ما لا يطيق، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يشتكي أصحابه، فقال له: خذ، ووضع يده على شفته فانقطعت نصفين، فالعوام يعجبهم مثل هذا.

    فـشعبة بن الحجاج سئل: لماذا لا تحدثون أمثال هؤلاء؟ قال: لأنهم يأخذون الحديث منا شبراً فيجعلونه ذراعاً.

    أي: يعمل له سيناريو، فيكون الحدث الحقيقي قد ذهب؛ لأن العوام تستهويهم القصص والحكايات الغريبة الخيالية، فهذه طبيعة الناس.

    أحدهم يقول: قُتل عشرون وتصل إلى الثاني يضيف صفراً فتصبح مائتين، والثالث يضيف صفراً فتصبح ألفين، فالرجل الذي هو في آخر الجزيرة، والذي كان يفكر أن يرحل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقول: نحن أسلمنا، ونريد أن نرحل لننال شرف الصحبة ونتعلم العلم، فيقوم يسرج اللجام ويستعد بالبعير للسفر، فيأتيه أحد أصحابه ويقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ فيقول له: أنا ذاهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له صاحبه: لقد قتل يوم أمس أكثر من خمسمائة من أصحابه، فيقول: الحمد لله أنني لم أذهب.

    فالرسول عليه الصلاة والسلام يعرف أن الناس لا يتحرون النقل، فما هي المفسدة أن يبقى رجل واحد حي ونحن نعرفه، لذلك قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، وقال في هذا المنافق المعلوم النفاق: (صاحب).

    وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة أن عبد الله بن أبي ابن سلول خرج من أكمة، فقال: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة.

    وأبو كبشة هذا جد أم الرسول عليه الصلاة والسلام، هل منكم أحد يعرف أبا كبشة؟ لا يعرفه أحد، لكن كلنا نعرف عبد المطلب ، وكانت العرب إذا انتقصت إنساناً نسبته إلى جد غير مشهور، لذلك قال عبد الله بن أبي ابن سلول : لقد غبر علينا ابن أبي كبشة، لأن النسبة إلى الجد المشهور شرف.

    قال النبي عليه الصلاة والسلام في الرجز: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ولم يقل: أنا ابن عبد الله؛ لأن عبد المطلب كان أنبل وأشرف وأظهر عند العرب من عبد الله .

    وجاء في صحيح البخاري: (أن أعرابياً جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس بين أصحابه -لا يميز دونهم قبل أن يتخذ منبراً- فقال: أين ابن عبد المطلب؟ فقالوا: ها هو الرجل الأبيض، قال: أنت ابن عبد المطلب؟ قال: قد أجبتك) فنسبه إلى جده.

    وجرى انتقاص الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة بهذا اللقب، فروى البيهقي في دلائل النبوة أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قص على المشركين أنه أسري به إلى بيت المقدس، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى ابن أبي كبشة ماذا يقول!

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755983259