أما بعد..
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمدٍ على آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
درسنا هذا بعنوان: (الطريق من هنا).
إن الهدى هو خير ما يحتاجه الرجال، وشر بضاعة المرء الضلال، فالعبد المفلح الذي وقع ميثاق العبودية في عالم الأرواح ينبغي عليه أن يراجع نفسه: هل هو سائرٌ إلى الله عز وجل بسلام أم أضلته شياطين الإنس والجن؟
ميثاق العبودية الذي وقعه كل واحد منا في عالم الأرواح مذكورٌ في قوله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]، فقال الله عز وجل أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] ومع أن هذا الميثاق لا يذكره أحد منا فكان من رحمة الله عز وجل: أن أرسل الرسل ليذكروا العباد بهذا الميثاق.
فهناك عقدٌ وقعته أنت وهو عقد العبودية، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما عليه اليوم أنا وأصحابي).
إذاً: يا طالب النجاة! عليك بمذهب القرن الأول، فنجاتك أن تتمذهب بمذهب القرن الأول: (كلها في النار إلا واحدة، من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي)، لأبين لك عظم المحنة التي تعيشها، وربما لا يشعر كثير منا بحجم المحنة.
أصور لك هذه الفرق بأبواب: أمامك ثلاثة وسبعون باباً كلها مفتحة، وبابٌ واحد فقط هو باب السلامة، وبقية الأبواب إلى النار، وليس ذلك فحسب بل على كل باب من يدعو إليه، وعلى بعض الأبواب من يأخذ لبك ويسرق قلبك بحكم بيانه وعرضه وسمته! فإذا لم تكن متحققاً بمذهب القرن الأول ربما انطلى عليك عرض أحد هؤلاء الدعاة، وهذا الباب أول خطوة تخطوها فيه تقودك إلى النار، فهي محنة من أعظم المحن، وإذا زل المرء في الخطوة الأولى كان لها ما بعدها.
إذاً: أخذ نوالٍ على الحق من أعظم المضرات؛ لذلك ينبغي على الدعاة إلى الله أن يتعففوا عما في أيدي الناس ويرفضوها رفضاً قاطعاً، وهناك من الناس من يعطي باسم الهدية، ويعطي الداعية لينظر أيأخذ هذه الهدية أم لا، ويقول له: الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهدية، وهذا بابٌ شائع ربما يلتبس على بعض الناس، أن يقبل الهدية ويكون هذا شركاً ومصيدة أراد بعض الناس امتحانه بها.
ومما يروى في زهد أهل البدع أن رأساً من رءوس الضلال اسمه: عمرو بن عبيد -كان رأساً في التجهم والاعتزال- كان زاهداً جداً، حتى إن الخليفة المنصور كان إذا رآه يقول:
كلكم طالب صيد
كلكم يمشي رويد
غير عمرو بن عبيد
سلب لب الخليفة بتركه للدنيا وزهده فيها، (كلكم طالب صيد) أي رجل يدخل على الخليفة فهو يريد المال. فـأبو دلامة الشاعر مثلاً كان يلازم الخليفة بصفةٍ دائمة، لأنه رجلٌ نفعي يريد المال.
فخرج مرة هو والخليفة المهدي ورئيس الوزراء علي بن سليمان للصيد كما ذكره الخطيب البغدادي في كتاب: تاريخ بغداد، فاصطاد المهدي ضبياً، وضرب علي بن سليمان بالسهم فاصطاد كلباً، فقال له الخليفة: قل لنا في هذا المعنى شيئاً، فأنشد على البديهة يقول:
قد رمى المهدي ضبياً شق بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهمـا كل امرئٍ يأكل زاده
فأعطاه الخليفة ثلاثين ألف درهماً، كل بيت بعشرة آلاف درهم، فلما رجعوا من الرحلة قال له: يا أبا دلامة ! قال: لبيك! قال: اهج أحدنا -وكانوا ثلاثة، الأمير ورئيس الوزراء وأبو دلامة نفسه- فوجد أن أخف الأضرار كلها أن يكون هو المهجو، فهو لا يستطيع أن يهجو الخلفية المهدي ، ولا رئيس الوزراء؛ فأنشد على البديهة يقول:
ألا أبلغ لديك أبا دلامة فلست من الكرام ولا كرامة
إذا لبس العمامة صار قرداً وخنزيراً إذا وضع العمامة
فأعطاه عشرين ألف درهماً، فخرج أبو دلامة من هذه الرحلة بخمسين ألف درهم.
لقد كان أصحاب الأمراء يرجون النوال؛ ولذلك شدد سفيان الثوري وقال: إذا رأيت العالم يذهب إلى الأمير فاعلم أنه لص. وقال: إذا دعاك الأمير لتقرأ عليه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فلا تذهب. وكان يقول: إنك لن تأخذ من دنياهم شيئاً إلا أخذوا من دينك ما هو أفضل، فيريد أن يعطيك مالاً ثم يرتكب مخالفة وأنت في مجلسه فتستحيي أن تقول له: هذا لا يجوز؟!!
ولذلك كان ابن أبي ذئب أقوم بالحق من مالك في حضرة السلطان، كما قال الإمام أحمد بن حنبل ، فهذه شهادة أحمد لما سئل عن مالك وابن أبي ذئب ، قال: ابن أبي ذئب قوامٌ بالحق قوال، دخل على أبي جعفر المنصور وقال له: إن الظلم فاش ببابك وأبو جعفر رجل ظالم، لا أحد يستطيع أن يراجعه، لكن ابن أبي ذئب كان قوالاً بالحق في حضرة السلطان، وهذه المسألة مختلف فيها بين علماء السلف، وضابط المسألة: مراعاة المصلحة، فمن علماء السلف من قال: لو كان لي دعوةٌ صالحة لادخرتها للسلطان؛ لأن صلاح الناس بصلاحه، ومنهم من كان يقول: لا تذهب إليه؛ حتى لا يفتن في دينه ويداهنه في أمور لا تجوز حياءً منه، وهذا هو مذهب زهاد أهل السنة، لكن أهل البدع يظهرون الزهد ليتمكنوا من قلوب الناس، كما كان حال عمرو بن عبيد فقد كان المنصور يقول: (كلكم طالب صيد) يعني: كل واحد يقترب مني يريد شيئاً، (كلكم يمشي رويد): ورويد معناها: يمشي على مهل، مثل الصياد، فأي إنسان يصطاد لا تجده يمشي بسرعة وإنما يتلفت وينظر، يبحث عن فريسة. (غير عمرو بن عبيد ) فهذا الرجل سلب لب المنصور بتجافيه عن دار الغرور.
وفي كتاب الصلاة لـمحمد بن نصر المروزي من طريق آخر، قال: فقابلت عبد الله بن عمر وكان إذا لقيني سلمت عليه صافحني وسألني عن أهلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس.. وذكر نحو الكلام الذي في الرواية الأولى، قال: فلما سمع ابن عمر ذلك؛ أرخى يده من يدي، ثم قال لي: (إذا لقيت أولئك فقل لهم: عبد الله بن عمر بريء منكم وأنتم برآء منه، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً -وفي رواية- مثل أحد ذهباً ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر).
فليتعلم الذين يسعون إلى التقارب مع الشيعة من عبد الله بن عمر ، وليعلموا أن خلاف الأصول لا يندمل أبداً ولا يحتمل، فقد أخالفك في مسألة فرعية، لكن إن خالفتك في مسألة أصلية فمن المستحيل أن نلتقي، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج، فالقائلون من الشيعة الإثني عشرية: أن القرآن الموجود هو ثلث القرآن والثلثان مع محمد بن الحسن العسكري في السرداب، والذين يصرحون أن الصحابة ماتوا جميعاً على النفاق ما عدا سبعة، والذين يلعنون أبا بكر ، وعمر ، وعائشة ، وحفصة في صلاتهم، ثم يأتي رجل ويقول: نريد أن نتقارب مع الشيعة! فعلى الرجل أن يتعلم من فعل عبد الله بن عمر وقوله، فهؤلاء يقرءون القرآن ويتقفرون -وفي رواية: يتقعرون-.
وتقعر في العلم. أي: وصل إلى قعر العلم، وهم يقومون الليل ويصلون ويفعلون ويفعلون... فلم يغتر بهذا عبد الله بن عمر بل تبرأ منهم، والبراءة من المسلم لا تجوز، فلا يحل لك أن تتبرأ من مسلم، ولكنه تبرأ منهم، فكأنما حكم عليهم بالخروج من الملة، وإن لم يحكم عليهم بالخروج من الملة فقد ارتكبوا شيئاً عظيماً جسيماً، والزجر بالهجر مشروع كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فلم يغتر عبد الله بن عمر بالسمت ولم يقل: هؤلاء فيهم خير ونترفق بهم وغير ذلك من هذا الكلام، وإنما قال: (والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً أو مثل أحد ذهباً ما قبل الله عز وجل منه حتى يؤمن بالقدر) وفي هذا الكلام دلالة على أنه يذهب إلى كفرهم، وقد اتفق العلماء جميعاً على تكفير من يقول بهذا، والحمد لله فقد انقرض القائلون بأن علم الله لم يتقدم أفعال المكلفين.
فاعلم أن على كل باب من الثلاثة والسبعين باباً رجل عنده حسن عرض ينادي عليك، تعال فاسمع مني!! فإذا لم تتبع مذهب القرن الأول فلا آمن عليك أن تلج باباً من هذه الأبواب، على حد قول القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
فرجل خالٍ من مذهب القرن الأول لا يُؤمَن عليه إذا سمع شبهة وعُرضت عليه بشكل جميلٍ أن يعتقد أن هذا هو الحق؛ لذلك كانت دراسة مذهب القرن الأول من آكد الضرورات التي ينبغي على كل مسلمٍ يبحث عن النجاة أن يتحقق بها.
ونمثل لمذهب القرن الأول مع القرون التي جاءت بعد ذلك بمثلث ثم ضع نقطة في أعلى المثلث، واسحب ضلعاً إلى أسفله ثم اسحب الضلع الآخر، فالنقطة في أعلى المثلث هي القرن الأول، وليس في النقطة أبعاد، ولا يختلف منطلق هذه النقطة عن غيرها، وليس هناك طول وعرض، ولو سلمنا بوجود الطول والعرض فلا يكاد يذكر، فالضلع الأول هو الإسلام، والضلع الثاني: هم المسلمون، وكلما نزلت وبعدت عن النقطة الأم التي هي رأس المثلث كلما زادت المسافة بين الضلعين؛ فكل قرن يمر تجد الخلاف فيه أعظم من القرن الذي سبقه، وإذا نزلت بصفة مستمرة فلا يزال البعد يزيد ما بين المثال الذي هو الإسلام -قرآناً وسنة- وما بين المسلمين.
فإذا أردت أن تقلل المسافة بين المثال وبين الواقع فاصعد إلى الأعلى، فنزولك إذاً إلى تحت مشكلة من أعظم المشاكل، وصعودك إلى الأعلى هو الأمان، ولله در علماء الحديث الذين يقولون: (النزول شؤم)، فعليك بمذهب القرن الأول وهم الصحابة.
فمثلاً: عمرو بن عبيد قال له رجل: ما تقول في حديث التحفتين في الصلاة، قال: عمن؟ قال له: عن جابر بن سمرة ، قال: ما تفعل بـجابر بن سمرة ؟! قبّح الله جابر بن سمرة !! نقول: بل قبح الله عمرو ورضي عن جابر بن سمرة .
فأهل البدع يحقرون الصحابة ولا يعتبرونهم مثالاً، وإنما يقولون: هم رجال ونحن رجال، ولذلك كان أول شيء وقعت فيه جماعة التكفير هو قولهم في الصحابة: هم رجالٌ ونحن رجال.
ذات مرة في سنة (81) في سجن (أبي زعبل) كان قادة السجن يضعون أصحاب كل مذهب أو معتقد في زنزانة، مثلاً: السلفيون مع بعض في مكان واحد، والتبليغ كذلك، والتكفير كذلك، فجاءت أوامر بتصوير كل المساجين من الأمام والخلف والجنب.. فصدر من الفرماوي -وهو رئيس فرقة الفرماوية وكان سِنُّه تقريباً يوم رأيته يدل على أنه قد تجاوز التسعين- قوله: التصوير حرام. وكان يوجد في زنزانته قرابة أربعة وعشرين من أتباعه، فتجمعوا جميعاً في زنزانة واحدة وأصروا على عدم التصوير، فضربوهم بالقنابل المسيلة للدموع فأبوا، وعجز الحراس عن فتح الزنزانة، وعندما ضربوهم بالغاز المسيل للدموع سدوا الباب بالبطانيات، وكان الفرماوي رجلاً كبيراً مصاب بضعف في الجهاز التنفسي، فرفعوه إلى نافذة الزنزانة حتى يشم الهواء. ومن أجل أن يجبروهم على تسليم أنفسهم وتصويرهم منعوا عنهم الطعام، وكان الفرماوية في الدور الثاني، وتوجد زنزانة فوقهم في الدور الثالث، فاجتمع من فيها فقالوا: لا يمكن أن نتركهم... هكذا بلا طعام، وأتوا بفكرة أن يدخلوا لهم الطعام من النافذة الخارجية للزنزانة، فأتوا بخبز وحلاوة وربطوها في بطانية وأنزلوها من الخارج، فبينما كان الرجل -الفرماوي - يشم الهواء وجد الخبز والحلاوة نازلاً من السماء، وبما أن جماعته لا يعرفون من أين الخبز والحلاوة قالوا مباشرة: هذه كرامة، وليس بعدها كرامة، وازدادت قناعة الناس بالرجل وآمنوا به أكثر، وأصروا على عدم التصوير، وقضوا على ذلك ثلاثة أو أربعة أيام يأكلون ويشربون ولا توجد مشاكل.
فلما نقلوا هذه الجماعة من سجن (أبي زعبل) قال حراس السجن: ما دام أن كل جماعة ستتكاتف مع بعضها فلا بد أن نمزقهم ونفرقهم، فوضعوا في كل زنزانة اثنين من جماعة التكفير مع اثنين من السرق، مع اثنين من السلفيين، وأربعة من الإخوان وهكذا، فلا يمكن أن يتحدوا وكان هذا هو التقسيم الجديد الذي قسم به السجن فيما بعد.
فكنا نقوم بالرياضة في الصبح. جماعة الفرماوية من مذهبهم أن الأخذ بالأسباب كفر، فلو مرض شخص فذهب إلى الطبيب فهو كافر -هذا هو مذهبهم- فكان واحد من الاثنين من جماعة الفرماوية اسمه: حمزة، فقلت له: يا حمزة ماذا تعمل؟ فقال لي: أعمل خياطاً، فقلت له: (بلدي أو إفرنجي؟) وكنت أستدرجه لأقول له إن هذا أخذ بالأسباب وإلا فلماذا تعمل، فقال: أنا خياط (بلدي)، وهذا الثوب الذي ألبسه أنا الذي فصلته، فقلت له: يا حمزة! ألا ترى أن هذا من الأخذ بالأسباب؟! فقال لي: ألا ترى ما ألبس؟ أنا ألبس ثوباً أخضر، قلت: وما معنى هذا؟ فقال: نحن على ثوبين، الذي يلبس الثوب الأبيض هو الواصل ولا يعمل أبداً، والذي يلبس الثوب الأخضر هو (المرمطون) الذي يصرف على صاحب الثوب الأبيض!!
وقال أحد جماعة التكفير: نحن نرى أننا على الحق، وقد أمرنا الله عز وجل أن نبلغ عباده دين الله، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فسبحان الله شيء عجيب حقاً!
فمنطلقهم أنهم مكلفون بدعوة الناس إلى دين الله عز وجل، ونحن في نظرهم كفار، وسيبدءون بدعوتنا.
وكانت تحصل بيننا مناقشات كثيرة، حتى وصلنا إلى الصحابة، وما هو قدر الصحابة عندهم؟ وهل عمل الصحابي أو قوله حجة أم لا؟ ومتى يصير حجة ومتى لا يصير؟ وقول الصحابي في القرآن من باب المرفوع أم من باب الرأي؟ وبدأنا نتطرق إلى هذه المواضيع، فكان جوابهم: إن الصحابة مطالبون بالقرآن والسنة مثلنا فلا ميزة لهم علينا في ذلك، فهم مطالبون ونحن مطالبون، وليس فضلاً لهم أنهم سبقونا، كما أن الرجل الكبير لا يسبق الرجل الصغير، فكونك قبلي هذا ليس فضلاً لك، فهم وجدوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن لو كنا موجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكنا مثلهم سواء بسواء، إذاً فما الذي فضلهم؟! فهم رجال ونحن رجال، وهذه المناقشة الحارة كانت على إثر تحقيق قول ابن عباس : (كفر دون كفر)، فقالوا: لا نسلم.
فقلت له: ابن عباس توفر له فيها ما لم يتوفر لك، فقال: وما هو؟ فقلت: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فدعك من قضية: (هم رجال ونحن رجال) فهذا رجل معه دعوة، وأنت رجل معك دعوى، فقال: وما أدراك أن الله استجاب دعاء نبيه؟!
فأنكرنا عليه ذلك حتى أن أصحابه من أهل التكفير أنكروا عليه أيضاً، وهذا المجادل هو الآن من الداعين إلى مذهب السلف، بعد أن خرج من التكفير بحادثة مؤلمة، فهناك بعض الناس لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
فحينما نقلوهم إلى سجن (القناطر) وناقشوهم في كراسة شكري والتي تعتبر القرآن الثاني لجماعة التكفير، فقال الذي يناقشهم: كان المفروض على شكري أن يكتب هذه العبارة بالطريقة الفلانية لأنهم ينتقدونها علينا، فهذه العبارة أرى أنها تعدل لمصلحة الدعوة، فانبرى أحدهم وقال: أتعدل على شكري ؟ فقال له: شكري ليس بمعصوم، فقال له: ليس بمعصوم ولكنك لا تعدل عليه، فحصلت مشادة وأمسك به أربعة عشر شخصاً وقتلوه ضرباً!!
وقبل ذلك بزمن خرج شخص وفضح دعاة التكفير وقال: إنهم يخطفون البنات! وذكر كيف يتزوجون! ونذر وانتدب نفسه لفضح هذه الجماعة بعدما يخرج من السجن، فوفى بنذره وانتقل إلى رحمة الله عز وجل، والمقصود أنه انتقل إلى رحمة الله بتعديل منهجه.
إن أول درجة في سلم الفوضى التي يعيش فيها أهل البدع والضلال هي احتقار الصحابة، ويقنعون الجماهير بأن الصحابة مجرد رجال، يقولون لك: هم رجال ونحن رجال، ويستخدمون المقولة -التي قالها بعض أهل الحق- في الباطل، ووضعوها في غير موضعها فكانت قبيحة، وهذه هي طبيعة الكلام الحق لو وضعته في غير موضعه لصار قبيحاً، فمثلاً قولهم: (لا أحد معصوم إلا الرسل)، هذه مقولة صحيحة، فلو أن رجلاً سرق وجاء أمام القاضي، فقال له القاضي: أسرقت؟ فقال له: يا سيادة القاضي وهل هناك أحدٌ معصوم؟!!
إنه لص، أي: هذه غلطة ومن الذي لا يغلط؟! وانظر إلى العبارة، فنحن قلنا الآن إنها عبارة جميلة ومتفق عليها لكن لما وضعت في غير موضعها صارت اتهاماً له، فنقول له: أسرقت؟ فيقول: وهل هناك أحد معصوم؟! وهذا معناه أنه سرق، فكذلك كل كلامٍ حسنٍ يوضع في غير موضعه يكون قبيحاً، كما قال المتنبي :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى
يعني: من رميته بوردة لا ترمه بالسيف، الكلام اللين في موضعه جميل، والكلام الغليظ في موضعه جميل، والكلام اللين في موضعه حكمة، والكلام الغليظ في موضعه حكمة، فهم أتوا على الكلمة التي تقول: (إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال يعرفون بالحق)، وهذا كلامٌ جميل، ولكن (الرجال هم وثائق الحق)، فلو جاز أن تطعن على الواسطة جاز لك أن تطعن على الحق الذي يحملوه ويبلغوه، فهم الأدلاء على الحق، فلا بد من الاعتدال في فهم هذه الكلمة، فليس معنى أن الحق لا يعرف بالرجال أن ترمي الرجال. فمن الذي يبلغ الحق؟! فلو جاز لك أن تطعن عليهم لكان ذلك طعناً على الحق الذي يحملوه ويبلغوه، فالرجال هم وسائط الحق، والطعن عليهم يستلزم الطعن في الحق نفسه.
كما ظهرت الدعوى القبيحة التي تقدح في أبي هريرة والتي يتكلمون فيها على الصحابة الأكابر، يقولون: إن أبا هريرة إذا أعطيته (سنتدوتش) يعطيك حديثاً مكذوباً على النبي صلى الله عليه وسلم، فـأحمد منصور هذا الرجل الساقط الذي يتكلم على أبي هريرة كما لو كان لصاً أو قاطع طريق، وهذا الكلام منشور على صفحات المجلات أمثال مجلة (روزاليوسف).
وقد كتب هذا الساقط مقالة عن أبي هريرة وعن الصحابة، وأن الصحابة كانوا رمماً!! إلا واحد أو اثنين أو ثلاثة، ويقول عن أبي هريرة أنه اعترف بلسانه وقال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني) وقال: هو الذي يعترف، كان يمشي وكل همه أن يأكل، مع أن هذه الكلمة جاءت في حديث طويل وكان أبو هريرة يدافع عن نفسه، فـعائشة رضي الله عنها اعترضت عليه في حديث نقله فنسي كلمةً أو دخل في نصف الكلام، وأن للكلام تتمة، فهو يدافع عن الحديث الذي سمعه، فقال: (يا أم! إنه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشط والمرآة، أما أنا فكنت رجلاً ملصقاً أمشي معه على ملء بطني). أي: لا أتركه أبداً.
فأي طعن على أبي هريرة بهذا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: يفتح لكم فيقال: (أفيكم من رأى النبي صلى الله عليه وسلم.. أفيكم من رأى من رأى رسول الله؟ أفيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله؟ فيفتح لهم) ونظر النبي صلى الله عليه وسلم نظرة في النجوم، فقال: (النجوم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأصحابي أمنةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)، إذاً: الصحابة بوابة الأمان لهذه الأمة، وهؤلاء المبتدعة أتوا على هذا الباب وأرادوا كسره، فاتخذوا لذلك عدداً من الأساليب سواءً كانت صريحة أو غير صريحة، فالمسلسلات التي تتحدث عن الصحابة من هذا القبيل، وقد كان هناك مسلسل اسمه (على هامش السير) ويأتي لك ببداية ظهور الإسلام ويصور لك الصحابة، ويأتي لك بفتوى أنه لا يجوز إظهار العشرة المبشرين بالجنة ولكن يجوز أن يصور ما دون ذلك، وأين الدليل على ذلك؟
فهل يجوز تصوير عكاشة بن محصن مع أنه من الذين يدخلون الجنة بغير حساب وغيره؟! فهل يجوز تصوير هؤلاء الأفذاذ؟ إن جاز تصوير هؤلاء فهل يجوز أن يمثلهم رجل فاجر داعر، بالبارحة كان ينام في حضن امرأة والآن يمثل دور أبي ذر؟
أرأيت إلى هؤلاء الأغمار كيف يمزقون نسيج الأحرار؟! وأثناء العرض تعرض أشياء تزري بهذا الدين الفريد الذي لم تشهد البشرية من لدن آدم عليه السلام إلى الآن جيلاً مثل هذا الجيل، فيبدأ بتشويه هذا الدين لكن بطريقة أخرى، طريقة التصوير.
مثلاً: يأتون بـأبي جهل وله لحية طويلة سابغة وله عمامة، ويدخل الشيطان -عندما قال: نأخذ من كل قبيلة رجلاً ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ويتفرق دمه بين القبائل- فعندما يدخل إبليس ترى عليه لحية رائعة، مع أنه لا أحد يستطيع أن يأتي بنص أن إبليس يُرى، فربنا سبحانه وتعالى يقول: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] فعندما ترى هؤلاء الكفرة بهذه اللحى السابغة، يتولد عندك انطباع سيء عن اللحية، وينتهي المنظر، ثم يأتون لك بمنظر آخر فيه رجل نحيف جداً وهو يصرخ وعلى بطنه حجرة كبيرة جداً، ويدعون أنه بلال ! وترى أن لحيته خفيفة جداً كأنها شريط، يعني: إبليس دخل بلحية كبيرة وبلال ليس له لحية إلا صغيرة كالشريط!
ويأتي لك بمنظر آخر وأن المؤمنين يحبون بعضهم، فـأبو الدرداء ذاهب إلى أبي ذر في البيت فتخرج زوجة أبي ذر ، فيقول لها: أين أبو ذر؟
ويصورون زوجة أبي ذر أن معها ظفيرتين وظفائرها تخرج من تحت الحجاب ومعها في وسطها حزام، ويأتي أبو الدرداء يسأل عن أخيه في الله أبي ذر ، فيقول: هل أبو ذر موجود ؟
فتقول له: لا. تفضل!!! كيف يتفضل؟!! فالجماهير التي لا تعرف الإسلام يقولون لك: انظر!! هذا أبو الدرداء أراه بعيني، وأرى زوجة أبي ذر تقول له: تفضل!!! فهل أنت أورع من زوجة أبي ذر أم أورع من أبي الدرداء ؟!
وانظر عندما ينطلي على الجماهير مثل هذا، فيقع في قلوب الناس أن اللحية الكثة إنما هي لحية الشياطين والكفرة، وأن الرجل المهذب يخفف لحيته ويجعلها لطيفة، فأول ما يقابلك وأنت صاحب لحية عظيمة يقول: هؤلاء هم الشياطين!!
وأنا والله قد رأيت بعيني منظراً في تلك الأيام التي كانت تعرض فيها هذه الأفلام، ففي قريتي وكنت ذاهباً لأقضي غرضاً ما، وكنت راكباً الدراجة وكان الهواء يومها شديداً وكان شعري طويلاً وكنت أمشي بسرعة شديدة، فكان هناك أولاد صغار فلما رأوني قالوا: الشيطان يا ولد! اهرب يا ولد! فمن قال للولد الذي هو ابن خمس سنوات أن الشيطان بلحية؟! لأنه هنا انطبع في ذهن الولد الصغير من المسلسلات أن الشيطان بلحية كثة طويلة كبيرة، والصحابة الأكابر كل منهم (خير الدقون إشارة تكون)! تحلة القسم، شيء بسيط، فتنقلب لك الموازين.
أليس هذا تشويه للصحابة؟! تشويه باسم عرض حياة الصحابة، وهذا لا يجوز.
فهناك رجل يهدم هدماً صريحاً بمعول صريح، يقول: أبو هريرة كذاب!! وآخر يشوه أبا هريرة عن طريق التمثيليات ويقول: أنا أعرض حياة أبي هريرة ، وأعرض حياة عمر بن عبد العزيز ، وأعرض حياة الشافعي .. فالممثل يتكلم في الزهد والورع ويبكي من خشية الله وفي آخر السهرة يعرضون لهذا الممثل فيلم دعارة وعهر، ويحصل ربط بين الجماهير! فنفس الممثل الذي كان يمثل دور الشافعي هو هذا الداعر الفاجر، فتبهت شخصية الشافعي ، فلا تكون تلك الشخصية الكبيرة، وكل هذا يقع في العقل الباطن كما يقولون، ويحرك الإنسان فيما بعد.
فأول بوابات الضلال عدم تعظيم الصحابة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف طائفة الحق وفي وصف الباب الوحيد المؤدي إلى الجنة: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي)، إذاً: هناك ضرورة للبحث عن منهج الصحابة وعن حياتهم، كيف كانوا يأكلون ويشربون، فمن أراد البحر استقل السواقي، وإذا أردت أن تغرف ماء نقياً فعليك بلجة البحر، وكلما وصلت إلى لجة البحر كلما كان الماء أنقى، فإذا أردت المثال فعليك بالصحابة الكبار.
ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين فجاء رجل وقال: (يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل!!) أو قال في اللفظ الآخر: (هذه قسمةٌ ما أريد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، هكذا هو الضبط الأشهر، فالفتح للمخاطب: (لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، والضبط الثاني: (لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل)، فعلى الضبط الثاني المعنى واضح، أي: أنا إن لم أعدل خسرت، بسبب عدم العدل، لكن على الضبط الأول يكون المعنى: لقد خبت أنت أيها القائل وخسرت، فما ذنب القائل؟
إذا جاز للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يعدل فما هي جناية الرجل الذي لم يكن له في الأمر شيء؟
قال العلماء: المعنى: لقد خبتَ وخسرتَ بسوء ظنك في نبيك؛ أي: متى ظننت أن نبيك لا يعدل وهو مرسلٌ من قبل الله عز وجل فهذا الظن هو الذي أرداك.
فأراد خالد أن يقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية).
فهذا الكلام موجه لـأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي عبيدة بن الجراح ، والعبادلة الأربعة: ابن عباس ، وابن عمر ، وابن عمرو ، وابن مسعود ، فهو موجه إلى هؤلاء الفطاحل، فمثلاً: خذ واحداً منهم وليكن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو أحد العبَّاد وليس أفضلهم، فهو ليس أفضل من أبي بكر ولا عمر بن الخطاب ولا أفضل من بقية الأربعة ولا بقية العشرة، بل العشرة أفضل، فـعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان عابداً إلى درجة أنه جاء في مسند الإمام أحمد من حديث مجاهد عنه في قصته الطويلة وهي أن أباه زوجه امرأة ذات حسبٍ من قريش، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص رجلاً يقوم الليل، ويقرأ القرآن كله كل ليلة، كما في صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو قال: (جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة).
ولما دخل بها أحب عمرو بن العاص أن يطمئن على العروسين، فهو يقول في مسند أحمد: (زوجني أبي امرأة ذات حسب من قريش فلما أدخلوها عليّ -وانظر إلى التعبير!! فالعادة أن يقول الرجل: فلما دخلت بها، فكلمة (أدخلوها علي) توحي لك بأنهم أدخلوها غصباً- قمت أصلي) فظلَّ يصلي طوال الليل، وعمرو بن العاص يعرف أن ابنه من الممكن أن يعمل هذا، ففي الصباح ذهب إلى زوجة ابنه يسأل عن الأخبار؟ فالمرأة مؤدبة بالطبع وصاحبة دين وخلق فقالت كلاماً جميلاً: (عبد الله نعم العبد لربه، لكنه لم يفتش لنا كنفاً، ولم يعرف لنا فراشاً، قال: فأقبل علي أبي فشتمني وعضني بلسانه، وقال لي: أنكحتك امرأة ذات حسبٍ من قريش فأعضلتها، وشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم).
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستجوبه، وقال يا عبد الله : هل تقرأ القرآن كل ليلة؟ هل تصوم كل يوم؟ وبدأ يخفف عنه: اقرأ القرآن في أربعين، اقرأ القرآن في شهر.. حتى وصل إلى ثلاث، وقال: (لا تقرأ القرآن في أقل من ثلاث فإنه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه)، وكذلك الصيام حتى وصل إلى صيام داود، فكان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
فـعبد الله بن عمرو أحد العباد لكنه ليس أشهر عباد الصحابة، فهناك من هو أفضل منه.
والحجاج بن يوسف الثقفي لما وقعت الحرب بينه وبين عبد الله بن الزبير كان الحجاج يخطب على المنبر ويقول: عبد الله يعني ابن الزبير .... شر أمة محمد! فماذا كان يعمل عبد الله بن الزبير الذي كان يقول عنه الحجاج إنه شر هذه الأمة ؟
كان صواماً قواماً، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلما ظفر به الحجاج قتله وصلبه، وكان لا يستطيع أي مار أن يقف ثانية أمام الجسد المصلوب إلا عبد الله بن عمر بن الخطاب وقال: السلام عليك يا أبا بكر أشهد أنك كنت صواماً قواماً، والله لأمة أنت شرها خير أمة، وهذا رد على الحجاج، فإذا كان شرها صواماً قواماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر فكيف بأفاضلها؟
لما كانت الحرب سجالاً بين علماء الرأي في العراق وعلماء الحديث في المدينة أيام أبي حنيفة ومالك كان أحد قضاة الرأي يتكلم على المحدثين ويقول: مساكين أهل الحديث لا يعرفون شيئاً في الفقه! فقال أحد المحدثين: وكانت بي علة فحبوت إليه وقلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات: فأي شيءٍ قال علي ؟ وأي شيء قال ابن مسعود ؟ وأي شيءٍ قال زيد بن ثابت ؟ فسكت ولم يعرف شيئاً، ثم قال له: أنا أخف أصحاب الحديث سألتك عن مسألة لم تحسنها، فكيف ترميني بما لا تحسنه؟ فلا تقف أمام فحولهم.
فانظر كيف كانت عبادة عبد الله بن عمرو بن العاص ، فعندما يرى عبد الله بن عمرو بن العاص واحداً من أتباع ذي الخويصرة التميمي يقول في نفسه: وهل أنا أصلي؟!! هل أنا أصوم؟!! أي صلاة وصيام هذا؟! إذاً إلى أين سيصل؟ فعندما يحتقر عبد الله بن عمرو صلاته إلى صلاة هذا الخارجي، فماذا يفعل هذا الخارجي؟
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام لعباد الصحابة: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم) فتخيل أنت عبادة هؤلاء الخوارج! هذا معناه أن عبادتهم فوق الوصف.
إذاً: ليس من صفات أهل البدع أن يكون فاسقاً منحلاً، فهؤلاء عباد من الطراز الأول.
سيقول شخص: أنت هكذا أشكلت علينا بهذا جداً، لأني أرى من أهل السنة من هم عباد فأخشى أن يكون هذا مثلهم، فتكون مشكلة.
إذاً: ما هو الفارق بين أهل البدعة وأهل السنة، وهم يشتركون في العبادة والجد فيها، وفي قراءة القرآن وفي طلب العلم حتى القعر؟
فنقول: إن الفرق هو سلامة المنهج والوقوف على السنة.
قيل للشافعي رحمه الله: (إن الليث بن سعد يقول: لو رأيت الرجل يمشي على الماء وهو يخالف السنة فاعلم أنه ضال. قال الشافعي : قصّر الليث رحمه الله، بل لو رأيتهم يطيرون في الهواء وهم مخالفون للسنة فاعلم أنهم ضلاَّل)، وهل هناك رجلٌ يعظم السنة ولا يعظم حملتها؟! لا بد أن يعظم الذي نقل إليه الدليل إذ لو زاد الطعن في الصحابة لزاد الطعن في المنقول إلينا من خلالهم.
فـابن عباس ليس معه حديث، وإنما هو جدل عقلي -اجتهاد- أبو هريرة معه حديث يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) فلم يأت ابن عباس بحديث فيه نسخ الوضوء مما مست النار، لكنه جادل أبا هريرة حسب اجتهاده، فقبض أبو هريرة رضي الله عنه على حصا ثم قال لـابن عباس : (أشهد عدد هذا الحصا أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: توضئوا مما مست النار، يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال).
فما علمنا في خبر من الأخبار أن أبا هريرة اجتنب أو هجر ابن عباس أو أن ابن عباس اجتنب أبا هريرة ؛ بل كانوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخواناً)، وكما قال الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، يختلفون مع بعضهم، لكنهم كانوا يعلمون الخلاف السائغ المقبول من الخلاف المردود غير المعتبر.
فعندما ترى إلى هذه الصور المشرقة في حياة الصحابة، وتقلد هؤلاء الأكابر الفضلاء، يزول كثير من العنف والجفاء الذي نراه في علاقات الناس مع بعضهم البعض.
فهل هذا المثل موجود في غير الصحابة -إلا من رحم الله وقليل ما هم-؟ لا يمكن له أن يفض البيعة بخمسمائة درهم! فأي وقت هذا، هناك رجل يفض عقده مع الله وهو عقد العبودية مثل منعم كارلس كان مسلماً فكفر لكي يصبح رئيس جمهورية، لأن من شروط رئيس الجمهورية أن يكون نصرانياً، فكفر ونقض العقد والبيعة؛ حتى يصبح رئيساً.
كان الصحابة رجالاً، ولو كان الأمر بيدي لقطعتُ لسان من يقول: الصحابة رجال ونحن رجال، وهو يعني: التسوية، ولا تساوي، فهذا جيل لن يتكرر أبداً، قال له: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم)، فمن الغبن أن أفض هذه البيعة بخمسمائة درهم، فحين تنظر إلى هذه النماذج ترى نماذج عالية يتأسى بها فعلاً، فالجيل الأول كله مكاسب، وإذا اخترت في الأجيال التي تأتي بعد ذلك اختر من كان على منهج هؤلاء، فيلزمك حينئذٍ أن تبحث عن العلماء الربانيين في القرون التي جاءت بعد عصر الصحابة، وستجد عدداً وفيراً.
وبلغ محمد بن ميمون أن جاراً له أراد بيع داره، وكان الرجل سيبيع الدار بأربعة آلاف درهم، وقيمة الدار ألفا درهم فقط، فقال له: ألفان ثمن الدار، وألفان جوار أبي حمزة ، فبلغ ذلك أبا حمزة ، فأرسل إليه أربعة آلاف وقال: لا تبع الدار وابق في دارك!، هذه هي مكارم الأخلاق، عندما تنظر إلى هذه النماذج المشرقة فسوف ترتفع عن سير هؤلاء الذين تعاشرهم من أهل هذا الزمان، فهؤلاء نعمة وشرف، فكيف لو عكفت على مطالعة سير هؤلاء، ولا ترى الدنيا إلا من خلالهم؟ فهناك من هو أجل بألف درجة من أمثال هؤلاء، فقد كان السلف رءوساً في العلم والعمل.
لو أتاك طبيب وقال لك: عندك تصلب في الشرايين ولا بد أن تأتيني كل شهر، وتسافر إلى (لندن، وباريس، وفيننا) لسافرت!! من أجل أن تعيش بعض السنين، وكم أكلت الأرض من عافية الناس؟ ومع ذلك تجد بعض الناس يعمل لنفسه استشارياً لأمراض القلب وضغط الدم، وإذا حصل له أي تغير أو ألم بسيط سارع في الاتصال بمستشاره لإخباره بما حصل، ويقول: حصل لي كذا وكذا.. فكل رجل فينا يحتاج إلى استشاري أمراض القلب وضغط الهم! وليس ضغط الدم!! وعندما تشعر بقسوة تذهب إلى هذا الاستشاري كما ذهب ميمون إلى الحسن رحمة الله عليهم.
ثم قال ميمون : يا أبا سعيد ! أصوم له -أي لهذه القسوة في القلب-؟ فقال الحسن : بسم الله الرحمن الرحيم أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207]، فأغشي على ميمون ، أي: أغمي عليه، وجعل الحسن البصري يتفقد رِجله كما تتفقد رِجل الشاة المذبوحة يظن أنه قد مات، ثم تركه ودخل الدار، فأفاق ميمون ، فقالت لهم الجارية: اخرجوا فقد أزعجتم الشيخ!! ويفهم من ذلك أن الآية زلزلت الحسن أيضاً فدخل يبكي هو الآخر؛ لأن الآية أثرت فيه: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:207].
فخرج ميمون وابنه عمرو ، وفي عودتهم قال عمرو لأبيه: يا أبت! هذا الحسن ؟! قال: نعم. قال: ظننته أكبر من ذلك! يعني: ما الذي قاله؟ قرأ آيتين أو ثلاثاً من سورة الشعراء، أنا أحفظها، فضرب صدر ولده وقال: يا بني! لقد قرأ آية لو تدبرتها بقلبك لتصدع قلبك، ولكنه لؤم فيه، وهذه الآية لا تغادر سمعك إلا وتجرح قلبك.
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
فلو كان في كل بيت حزن وعويل فإنك لا تحزن كثيراً على ميتك! بخلاف ما لو كنت أنت الوحيد المصاب، فعندما ترى المصيبة عند الكل تخف عليك المصيبة، هذا هو معنى: (خلق التسلي والتأسي).
فربنا تبارك وتعالى في هذه الآية يخبرنا أن الأمر في الآخرة بخلاف الدنيا، ولكن إياك أن تقول: إذا دخلت النار فسنكون كلنا مع بعض وسوف نتحدث ونخوض في الكلام، لا: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]، يعني: اشتراككم في العذاب لا ينفعكم، ولا يخفف عليكم المصيبة، فكل واحد سيُحاسب بمفرده، وكل إنسان يشعر بعذابه وحده.
فخلق التسلي والتأسي موجود في الدنيا، والإنسان مستعد فطرياً وخلقةً له، وهذا أيضاً ظاهر في قول عائشة في حديث الإفك لمَّا قالت بعدما بلغها الكلام: (فظللت ثلاثة أيام بلياليهن أبكي حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فدخلت تبكي معي) فعندما تبكي معها يخف عليها الأمر، فالمريض يعذب عندما يمرض ولا يعوده أحد، لكن لو كان هناك مريض مصاب بأشد الأمراض وكان هناك من يدخل ويخرج عليه باستمرار فيمر عليه اليوم بسرعة ولا يشعر بالألم. ولذلك الليل أكثر ألماً من النهار بالنسبة للمريض، بالرغم من أن الألم واحد، لكنه في النهار مشغول، ويجد من يدخل ويتحدث معه.
عندما تقرأ في سير الماضين والعلماء تهذب خلقك، فمثلاً: ما المانع من فضح نفسك على الملأ، ولا يعني هذا أن تذكر ذنوبك وتجاهر بها، لكن اذكر أنك رجل خطاء، كما كان يقول محمد بن واسع رحمه الله وهو أحد رياحين التابعين، وأحد الرواة عن أنس ، كان يقول: (لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني) كان من العباد.
وكذلك الأعمش عندما روى حديث ابن مسعود : (أن رجلاً بات فلم يصلِّ حتى أصبح، فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، وبعد أن روى الأعمش الحديث قال: (أتعرفون لماذا عمشت؟ من كثرة بول الشيطان عليَّ) وعيسى بن يونس راوي الحديث عن الأعمش يعلق على كلام الأعمش فيقول: (وكان الأعمش صاحب ليل وتهجد).
وهذا نوع من كسر حظ النفس، أن يغمط الإنسان حظ نفسه إجمالاً.
عبد الله بن وهب الإمام المصري العلم الكبير كان يقول كما ذكر الذهبي في ترجمته في السير: (نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فكنت أغتاب وأصوم، فأجهدني الصوم، فنذرت أني كلما اغتبت إنساناً أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة)، فلا ضير أن يعترف على نفسه هذا الاعتراف، وهذا نوع من تهذيب النفس وغمطها، ولا تزال تنبل إذا تأسيت بهؤلاء، وفعل التابعين ليس بحجة، وإنما ذلك في قول أو فعل الصحابي، ومع ذلك المسألة أبعد من هذا التقعيد الأصولي: حجة أو ليس بحجة، فنحن في باب الأدب نختلف عنه في باب العلم.
والإمام أحمد رحمه الله أصابته علة، فدخل أحد أصحابه عليه فوجده يئن ويقول: آه آه! فقال صاحبه: حدثني فلان عن فلان أن مجاهداً كان يكره الأنين، فكف الإمام عن الأنين، هذا هو باب الأدب، فلا يأتي شخص أقول له: لا تئن، فيقول: وما الدليل؟ فأقول له: ما روي عن مجاهد فيقول: ليس هذا بحجة!! فباب الأدب مختلف عن التقعيد العلمي، فـمجاهد حجة عند الإمام أحمد في الأدب، بل هو شيخه، لأنك كلما علوت زاد النُبل والفضل، فكان شيوخه حجة عنده في الأدب، فقد يخالفه في الفتوى ولكن لا يخالفه في الأدب، بل ظل الإمام أحمد يدعو للشافعي أربعين سنة في صلاته، فسمع ابنه عبد الله أباه يدعو للشافعي ويذكره كثيراً، فقال: يا أبت! سمعتك تدعو كثيراً للشافعي ، فمن هو الشافعي ؟ رغم أنه يعرف الشافعي ، ولكنه يسأل عن الخفي في سيرة هذا الرجل التي جعلت الإمام أحمد يُكبِره كل هذا الإكبار، فقال: (يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، والعافية للناس، فهل بعدهما للناس من عِوض؟!) هذه هي نظرته لشيخه.
فباب الأدب مختلف عن باب العلم، فقد أخالف شيخي في العلم، كأن يقع في وهم وأسدده، لكن في الأدب هو شيخي وأنا تحته، من الممكن في العلم أن أكون فوقه، لكن في الأدب لا، فهو شيخك وتعلمت الفضائل منه، فعليك أن تحفظ هذا الجميل ما حييت، هذا هو النبل، فالتلاميذ النجباء رزق، وإذا أحب الله شيخاً سخر له تلاميذ نجباء، وإلا هل مالك أفضل من الليث بن سعد في الفقه؟ وأنا لا أقول شهادة من عندي لأن المسألة أخطر من أن يدخل الإنسان بين هذين الكبشين النطاحين الكبيرين، وإنما أقول شهادة الإمام الشافعي ، قال: (الليث أفقه من مالك ) لكن أصحابه لم يقوموا بمذهبه.
إذاً: رزق الله مالكاً بأصحاب ولم يرزق الليث ، فالذين نشروا اسم مالك في الآفاق وصيروه في مشارق الأرض ومغاربها هم أصحابه، كذلك أصحاب أحمد والشافعي وأبو حنيفة .
فالمسألة ليست مسألة علم فقط، وإلا فعندنا من الأئمة من كان لهم مذاهب فقهية وكانوا يجرون في مضمار هؤلاء الأربعة المشاهير، كان بعضهم أجل من بعض الأئمة الأربعة، مثل سفيان الثوري ، كان إماماً جليلاً ضخماً، وإسحاق بن راهويه وهو من أقران أحمد ، والأوزاعي وهو من أقران مالك ، وكان يقول مالك : (ما زال أهل الشام بخير ما بقي فيهم الأوزاعي )، ولما قابل سفيان الثوري الأوزاعي في السوق أخذ سفيان الثوري بلجام بغلة الأوزاعي وهو يفل الأوزاعي من الزحام ويقول: أوسعوا لبغلة الشيخ، فهل يفعل ذلك أحد من الأقران؟ وكان سفيان الثوري أكبر سناً من الأوزاعي .
فعندما تقرأ سير هؤلاء وتعيش معهم فتجدهم على منوال القرن الأول، ورجال القرن الأول هم الأساس، ثم في كل قرن تنتقي منه من كان على نفس نهج القرن الأول، وما بدأ المسلمون يتفرقون إلا بعد ظهور البدع في أواخر عهد الصحابة، مثل بدعة القدر، أو قبل ذلك بدعة الخوارج، وكبدعة الشيعة، فكلما ظهرت البدع كلما أخذت تفرق جمع المسلمين، ويصبح العدد الذي كان تبعاً لمنهج واحد تبعاً لعدة مناهج.
فهؤلاء كانوا مثل: (الكاميرات المسجلة) فيخرج من بيته مثلاً وهو يقول: لأرمقن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم اليوم، وهو يصلي معه كل يوم، لكن في هذه المرة خرج ليعرف كيف يصلي! فينظر إلى رجله، وينظر كيف يشير مثلاً أو يحرك إصبعه، وكيف يرفع يديه في تكبيرة الإحرام؛ فينظر إلى الإصبع هل هو بمقابل الأذن وينقل نقلاً دقيقاً، ثم إذا جاء مقتضى لهذا الكلام يصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كما رأى.
يقول أحد الصحابة وهو جابر بن سمرة : خرجت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة، وكان البدر مكتملاً، فوالله إن وجه النبي صلى الله عليه وسلم كان في عيني أجمل من البدر. وقال: في عيني، وهذه طبيعة المحب، يرى من يحب في غاية البهاء والجمال، حتى وإن كان في عين الآخرين ليس كذلك، لكنه هنا ينقل إليك هذا الشعور.
ثم يأتي أناس من جماعة التكفير ويقولون لك: لو كنا في تلك الأيام لكنا مكانهم، فهذه الدعوى رد عليها حذيفة ، ورد عليها المقداد بن الأسود ، فقد جاء في الأدب المفرد للإمام البخاري في مطلع الكتاب في باب: الولد قرة العين. أن رجلاً جاء إلى المقداد بن الأسود وقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب المقداد غضباً شديداً، قال: فتعجبت -لم يقل الرجل شيئاً يغضب عليه المقداد ، لم يقل سوى: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فقلت للمقداد : ما قال الرجل شيئاً يغضبك! فقال: (وما يدريه أنه لو كان لكان كأقوام أدركوه فأكبهم الله على وجوههم في النار)، فهل أنت ضامن إن كنت موجوداً أن تكون أبا لهب أو غيره، فقد رآه رجال بأعينهم وكفروا به، فالذي يقول: لو كنا موجودين لكنا أمثال هؤلاء، هذا بطر وقلة علم وأدب، وهذا هو الذي يفتات على الله عز وجل.
فما أدراك؟ فربما كان هذا المتكلم من أكفر الكافرين؟ فما أدراه أنه لو كان موجوداً لكان من أولياء الله؟!!
وحصل هذا مع حذيفة بن اليمان حيث كان جالساً مع بعض التابعين فقال له رجل: والله لو أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحملناه على الرءوس ما تركناه يمشي على الأرض. فما معنى هذا الكلام؟ يعني: كأن الصحابة فرَّطوا وتركوه يمشي على الأرض، هذا هو مفهوم كلام الرجل، فـحذيفة رد عليه، لأن هذا غمط للصحابة، فقال له: يا ابن أخي! أكنت تفعل ذلك؟ ثم حكى له حكاية واحدة فقط، قال: لو رأيتنا في يوم الأحزاب وكل رجل منا حفر لنفسه حفرة في الأرض -من البرد- فالصحابة كان عندهم جَلَد.
بينما ذات مرة أحدهم حج يوم حادثة النفق وتلك الزحمة التي حصلت هناك وقتل فيها أناس كثيرون، وكان يومها الحر شديد، فهذا أول ما لقيني قال لي: هل الحج مرة واحدة أم أكثر؟ وكان يكلمني بحماس، فقلت له: مرة واحدة، فقال: أشهدك أن هذه المرة هي الأولى والأخيرة!! فقلت له: لماذا تقطع على نفسك؟ قال: إن دماغي كاد يغلي من الحر! فما رأيك في الصحابة الذين كانوا يعيشون في هذا الجو، وكان عندهم جلد، فلو أرسلت لعنانك التفكير وتخيلت أي ظروف تخطر على بالك، فالصحابة كانوا يعيشون في هذه الظروف أو أشد، ونصروا الله ورسوله في هذه الظروف، فلو حصلت غزوة تبوك فلا أدري ماذا كان سيفعل هذا الرجل؟! سيرجع على عقبه أم لا؛ لأنها كانت في حر شديد وفي مشقة طويلة.
فالصحابة رضوان الله عليهم كان عندهم جلد، فمن شدة البرد وقلة الغطاء يريد الواحد منهم أن يدفئ نفسه فيحفر حفرة ويدفن نفسه بداخلها، ويظهر منه نصفه الذي فوق، وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث عيناً على قريش، فقال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون معي في الجنة) فهذا حافز يجعل الصحابة يقفزون من الحفر، لأنه يقول: (معي في الجنة)، ولكن لم يقم أحد!! وقد قالها ثلاثاً، وكان حذيفة قد أحس فدخل في الحفرة قليلاً خوفاً من أن يقع عليه الأمر لصعوبته.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (قم يا
فدخل حذيفة خيمة أبي سفيان وأراد أبو سفيان أن يؤمن نفسه، فقال: أخشى أن يكون بينكم من غيركم فليعرف كل منكم صاحبه، فقال حذيفة للذي بجانبه: من أنت؟ وانظر هنا إلى الذكاء، فلم ينتظر حتى يقول له الذي بجانبه: من أنت؟ ولكن حذيفة بادره بالسؤال: من أنت؟ فأخبره باسمه والآخر، وتخلص من هذا الموقف، وسجل لنا شيئاً عجيباً جداً، فالله عز وجل أرسل على الأحزاب في هذه الغزوة ريحاً شديدة، قال: فكانت حجارة الجبل يضرب بعضها بعضاً من الريح، قال: والله ما تجاوز الريح معسكرهم، أي: حين خرج من المعسكر كانت الأمور هادئة جداً، والريح داخل المعسكر فقط، فكان حذيفة بن اليمان يحكي هذا الموقف للذي يقول: (لو كنا موجودين لما تركناه يمشي على الأرض)، فهل تستطيع أن تقوم بموقف مثل هذا؟ وهذا موقف من مئات المواقف التي مررنا بها، فأعطاه مثلاً على أنه لا يستطيع.
وكان ابن عمر يقول وثبت هذا عن حذيفة أيضاً: (لمقام أحدهم في الصف أفضل من عمل أحدكم ستين سنة)، فلا بد من تعظيم الصحابة بالنظر في أخلاقهم وسيرهم، وفي العمل الذي نقلوه إلينا، لنصل إلى الباب الوحيد في وسط ثلاث وسبعين باباً، إذ لو زلت قدم أحدنا في غير هذا الباب الوحيد لشقي.
أليس جديراً بنا أن نعطي هذا الباب عناية أكثر، وأن نعطيه أولوية عن رجاله ومذهبه، لأن حياتك في الدار الآخرة كلها موقوفة على أول خطوة تخطوها، فهذه خطوة لها ما بعدها، وكما يقال: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، لكن تصحيح الخطوة الأولى أهم من كل الخطوات الأخرى، لأنها تبع لهذه الخطوة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، وأن يجعل ما سمعناه وقلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر